وحدة الإحياءأعلامتراث

جدلية التراث والحداثة في فكر رضوان السيد

عرفت عملية تجديد الفكر الديني عدة محطات تاريخية خاصة منها تلك التي شهدتها البلاد الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر بعد صدمة الحداثة، لكنها لم تستمر، ليتوقف، بالتالي، هذا “الإصلاح” فاتحا الباب في وجه الانغلاق والرجوع إلى الوراء والخوف من العالم  مع أن هذا الأخير ليس “مخيفا لمن يقابله في الضوء”، كما يقول الأستاذ رضوان السيد…

يستخلص رضوان السيد حول قضايا “الإصلاح والتغيير” في الوطن العربي، بنظرة شمولية، وجود ست مشكلات حالت دون دخول العالم العربي حقيقة إلى العالم وهي: أولا: جمود النظام السياسي العربي وما يترتب عليه من مشكلات الدولة والنظام؛ ثانيا: المسألة الوطنية والقومية وأبرز مظاهرها العجز عن الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية؛ والمشكلة الثالثة: مسألة التنمية، وتتجلى خطورتها في العجز عن تحقيق النمو المستدام، وعن اجتراح سياسات للنهوض والتقدم؛ المشكلة الرابعة: هي مسألة الحرب الأمريكية على الوجود السياسي والثقافي العربي تحت اسم الحرب على الإرهاب؛ وخامسا: أزمة النظام العربي وأبرز مظاهر تأزمها تضاؤل تأثير المشتركات التكوينية (التاريخ والثقافة والجغرافية) في الجمع والتوحيد؛ المشكلة السادسة: المسألة الفكرية والثقافية وأبرز مظاهرها التراجع المعرفي، وتراجع الوعي بالعالم، وتضاؤل الإنتاج الثقافي النهضوي والمتقدم، وظهور الإسلام الأصولي العنيف، وسيطرة أفكار الهوية وثقافتها[1].

إننا نعيش زمن “الأصوليات” بعد تراجع زمن “الإيديولوجيات”، وظهور الأصولية بيننا أدى إلى انتشار البداوة والعنف، زاد من حدتهما التهميش وعنف السلطة وفساد النخب الذي استفحل وتعاظم بالاختلالات الاقتصادية والاجتماعية. يقول رضوان: “وتبلورت في العشرينات والثلاثينات تيارات واتجاهات للأصالة والهوية، ترمي إلى حفظ الموروث، ومقاومة الوافد الجديد في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. ظهرت الحركة السلفية، وجماعة أنصار السنة (…) وحركة الخلافة بالهند وإندونيسيا. وعندما قاربت الثلاثينات على الانتهاء كان المشهد الثقافي في العالم الإسلامي أو أقطاره الكبرى قد انقلبت رأسا على عقب، مغادرا ساحات للنضال والتجديد والإصلاح كانت قد شغلته طوال حوالي القرن من الزمان، ومنعكفا على الذات في استردادية وتدقيقات تتصل كلها بالهوية وتداعياتها برباط وثيق[2]“؛ إن المدخل الأول للدخول إلى العالم يتطلب نشر ثقافة الحوار والتسامح و”التعارف” بيننا،هذا المفهوم الأخير الذي يفضله الدكتور السيد بناء على تصور قرآني[3]، وقد خلصت الباحثة فاطمة حافظ إلى وجود نزعة “إنسانوية” عند رضوان السيد ضمن أفق يستلهم من المرجعية الإسلامية في بعدها القرآني بالأساس، ويستدعي كذلك التراث الفكري الغربي والإنساني في بعده الحداثي[4].

هكذا، إذن، تتعدد “أوراش العمل”، مما يتطلب مراجعة شاملة “لمنهجية تعاملنا مع التراث”، ويظهر حاجتنا إلى “مجتهدين” يمتلكون رؤية شاملة وثقافة واسعة مستوعبة للدين وللثقافة الإسلامية، ومستوعبة  أيضا لمناهج العصر ولحاجات المجتمع، وهذا التجديد، بمعناه الفلسفي، يعني الغوص أركيولوجيا وتحليليا في العلاقة الموجودة بين الدين والثقافة، وأعتقد أن هذا رهان كبير في أعمال رضوان السيد؛ والمطلوب هو الدخول في عملية النقد وإبراز “الاختلالات” التي تشوب هذه العلاقة بين الثقافة والدين، مستحضرين درس كاستون باشلار الذي كان يقول دائما “أيها الخطأ لست شرا”، كما أن تاريخ المعرفة حسبه ليس هو تاريخ الحقيقة ولكن هو تاريخ الأخطاء…
من جهة أخرى يجب التأكيد على أن للمصطلحات/المفاهيم المتداولة في مقاربة الإشكالية الدينية (التجديد، التحديث والنقد) تاريخا رصده رضوان السيد بدقة، ذلك أننا انتقلنا من مرحلة سميت بالنهضة وكان حينها المصطلح الأساسي هو الإحياء، وهو مقتبس من الغزالي، لكنه سيأخذ معنى آخر عند الدكتور رضوان، ثم مررنا إلى مرحلة “التجديد”؛ أي التجديد من داخل المنظومة المعرفية الإسلامية وبنفس القواعد التقليدية للفقهاء وعلماء المسلمين، ثم ظهر في مرحلة الستينات مصطلح “النقد الديني” وخصوصا من طرف التيار الماركسي من خلال الكتابة و”إعادة التأويل” للمنظومة الدينية عبر التاريخ الإسلامي.

 واليوم نجد محاولات فكرية من داخل العالم الإسلامي من أجل إعادة بناء المعرفة الدينية، تجمع ما بين معرفة العلوم الإنسانية الموجودة عبر العالم لكونيتها، والعودة إلى الأصول وليس الفروع (الربا، المرأة، حقوق الإنسان…)؛ أي استعمال أدوات معرفية جديدة كالتي ظهرت في القرنين19 و20  (الابستيمولوجيا، التفكيكية…)، من أجل إعادة بناء المعرفة الدينية بشكل جدي وهو ما يسمى اليوم بـ”علم الكلام الجديد” أو “فلسفة الدين الجديدة”، تكون في مستوى ما ينجز حول الديانات الأخرى (المسيحية، البروتستانتية)[5]، وهذه محاولة يتطلب تحقيقها شروطا معرفية علمية متقدمة…

ما هي الأدوات المعرفية التي يستعملها رضوان السيد لمقاربة إشكالية علاقة الدين بالمجتمع، والفكر بالواقع ضمن جدلية التراث والحداثة؟

 لقد انصرفت أعمال الدكتور رضوان السيد منذ عقود لتعميق المنهج ومعالجة الإشكاليات؛ والموضوعات التي يطرحها تختزن في داخل فقراتها موضوعات عديدة عُجنت ببعضها، ولا أدعي أنني سأقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها؛ لأنها تأسر “بشموليتها أكثر من تفاصيلها[6]“، بيد أنني أحاول هنا الإسهام في استخلاص النظام الثاوي فيها..

يقول سعيد بنسعيد العلوي: “تجتمع في قراءة رضوان السيد للفكر العربي الإسلامي السياسي، قديمه وحديثه، مكونات تكسب تلك القراءة متانة وعمقا وأخص تلك المكونات ثلاث: معرفة بالمتن الإسلامي الكلاسيكي نتيجة تكوين أكاديمي دقيق ثمرة درسه في الأزهر واتصاله بعلماء كبار في فترة مضيئة من تاريخ الجامعة الإسلامية العريقة، إطلاع على نصوص هامة من الفكر الغربي الحديث والمعاصر  الأنجلوساكسوني منه خاصة، نتيجة الدراسة في الجامعة الألمانية العريقة )توبنجن) من جهة أولى، ثم الاحتكاك بالجامعة الأمريكية محاضرًا ومدرساً من جهة ثانية. وأخيراً تمرس بمنهجية علمية تتوسل بميادين معرفية متنوعة ومتفاعلة.. لذلك كانت ملاحظات أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية (وهو اللقب الذي يحق له الاعتزاز بحمله) على المتن السياسي السني، في شقيه التشريعي والحِكَمي، ملاحظات ثاقبة مفيدة في الإطلاع على الفكر السياسي في الإسلام عامة؛  وللسبب نفسه كانت نظراته في الفكر العربي الإسلامي نظرات تحمل على طرح الأسئلة الدقيقة والصريحة، متى أضيف إليها، من القارئ، هم وانشغال بالواقع العربي الإسلامي المعاصر…[7].”

والتفاصيل عند رضوان السيد، هي بمثابة تأريخ للفكر العربي الإسلامي الحديث و المعاصر عبر تمفصلات الأحداث وتشابكها، وربطها بسياقاتها وميكانيزمات تطورها، وصولا إلى استنتاجات استشرافية بمنطق استخلاصي بما ينسجم، في نظري، مع مفهوم أنثربولوجي عميق هو مفهوم “الوصف الكثيف” Description dense لصاحبه الأنثربولوجي الأمريكي “كليفورد جيرتز”  Clifford Geertz؛ لذلك فإن رضوان السيد سينفتح على مجالات معرفية متعددة تشترك في قول أو بحث التكوين الرمزي للذاكرة الجماعية للجماعات التاريخية[8]، بيد أن الوجه الأول للتفكير العملي لرضوان السيد يعبر عن نفسه من خلال تعقب مختلف أصناف التمثلات التي ينتجها الإنسان في الفضاء العربي الإسلامي، وكذا بحث طريقة انبثاثها في الفعل والحياة الواقعيين…..

إن المعرفة العلمية وإن كان موضوعها الأساسي هو المعرفة العلمية، إلا أن تطبيق “المداخل الإبستيمولوجية” في مجال تاريخ الفكر الفلسفي بصفة عامة، وفي مجال التراث بصفة خاصة يتسم بفائدة كبرى؛ لأن في ذلك امتحانا لإجرائية تلك المفاهيم من جهة، وتوسيعا لمجال تطبيقها من جهة أخرى؛ ومحاولتي، الجنينية هذه  التي تقدم افتراضات أولية élaboration de premières hypothèses، هي عملية “تركيب” أولية لمحاولة فهم علاقة التراث بالحداثة في فكر الدكتور رضوان السيد  بمنطق جدلي. ومفهومنا للجدل هو التحليل والتفاعل بمنطق الصيرورة الدائمة  وليس التطور عبر النقائض المضادة. إننا نؤكد على استخدامنا للجدل بمعنى التفاعل الكلي للعناصر باتجاه تركيب وفق صيرورة لها غايات ومقاصد فلسفية وذات بعد عملي، هو هنا “رؤية العالم”…

لا أدعي تفكيك المشروع الفكري لرضوان السيد من أجل إعادة التركيب، فهذه مسألة تتجاوز حدود هذه الدراسة، بيد أنني، مع ذلك، أحاول البحث عن “النظام المفاهيمي” الثاوي خلف النسق المعرفي الذي نحثه الأستاذ رضوان السيد على مدى عقود من التنظير والتأليف والتحقيق.. وأستحضر هنا ثنائية “كادامير” الشهيرة: إما الالتزام بالموقف الميثودولوجي مع خسارة الكثافة الأنطولوجية للواقع المدروس، وإما أن نلتزم الحقيقة الأنطولوجية وحينئذ علينا أن نهجر القول بموضوعية العلوم الإنسانية[9].

تنصب محاولتي، إذن، في اتجاه إدراك البعد الجدلي الثاوي في علاقة “التراث/المرجعية” على المستوى المعرفي، و”الحداثة” كمنهج في التفكير يريد أن يواجه العالم دون التخلي عن الثوابت التي تشكل عصب الاجتماع الإسلامي، يقول رضوان السيد: “ليس من حقّ أحدٍ أن يطلب منا التخلّي عن ثوابتنا أو حتى القول بنسْبية الحقيقة، بل المطلوبُ منا تطبيق منهج “التعارُف” القرآني، الأقرب من التسامح إلى طبيعة الإسلام. والتعارُف هو المعرفةُ المتبادَلة، وهو الاعترافُ المتبادَل بالحقّ في الاختلاف: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم﴾ (هود: 118)؛ وهذا الحقّ لا يمكن أن ينبني إلاّ على المعرفة، والتعارُف، وأن نعيشَ عصرنا وعاَلَمنا؛ ولا خشية على الهوية والانتماء من الانفتاح؛ لأنّ الهوية المنفتحة والمتجددة هي الباقية. ولا واصلَ بين الثوابت والمتغيرات غير منهج التعارُف[10].”

ونحن ندرك أن مفكرا مثل الدكتور السيد يخضع اختياراته لمنطق داخلي صارم، وهكذا فإن وجها هاما من مشروعه الفكري لا ينكشف إلا على مستوى الدلالة التاريخية “لحفره الأركيولوجي” في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر؛ بما أن الفلسفي هو الوجه العميق والأساسي من التاريخي. إن الدكتور رضوان يدعو إلى”الحداثة” وأعتقد أنه يؤطرها ضمن تصور “جدلي” بالمعنى التكاملي للجدل على طريقة Paul Ricoeur، مع إبراز الوجه التاريخي-الاجتماعي للقضايا المطروحة، بل والبعد الأنطولوجي أيضا[11].

وأعتقد أن أعمال الدكتور رضوان السيد تكتسي أهمية كبيرة في الفضاء الثقافي العربي المعاصر لاعتبارات عديدة منها:

ـ دوره الكبير في تحقيق التراث العربي الإسلامي خصوصا ما تعلق منه بالفكر السياسي والأحكام السلطانية والاجتماع البشري و طبائع العمران..

ـ تناوله المعرفي “الإبستيمولوجي” لقضايا التراث والفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. وطريقته في العمل تتمثل في الإشارة إلى ظروف إنتاج الأفكار ضمن نسق ثقافي واجتماعي-تاريخي محدد؛ أي خلفيات إنتاج الأفكار والشروط التي تصوغها من حيث مفاهيمها وبنيانها الاستنباطي الخاص بها، وتمثلاتها على مستوى “العائد المعرفي”، كل ذلك بأفق تأويلي، وكأني بالدكتور رضوان السيد قد تحول إلى “مشّاءٍ يقتحم الليل وفي يده سراج يستنير به”..

 ذلك أن “النص” غامض، مبهم، ولكي لا يضل الباحث فإنه يستعين بمصباح منهجي، وهذا الحكم يصدق أيضا على النصوص “الواضحة”، لكن الدارس يعتقد أن هذا الوضوح مفتعل، يهدف إلى إخفاء أمور لا يراد الإفصاح عنها، وبذلك تمّحي الفوارق بين النصوص العكرة والنصوص الصافية، فتصير كلها غارقة في الظلام، ويكون على الدارس أن يشيع النور فيها[12]، وهذا رهان من رهانات رضوان السيد الكبرى..

 في دراسته لأسطورة “الأسد والغواص”، مثلا، يبدو رضوان السيد متمكنا من المادة التراثية التي تعامل معها بمنهج “الوصف الكثيف”، ففي  سياق حديثه عن مكانة المثقفين في إطار النظام السياسي السلجوقي بيّن كيف استطاعت السلطة بدهاء كبير كسب رضا علماء الحنفية والشافعية على حد سواء.. وهي مهمة لم تكن يسيرة في الفترة التي سبقت بقليل تأليف أسطورة “الأسد والغواص”، الفترة التي تلت وفاة الوزير نظام الملك، والملك ملكشاه أسابيع بعده؛ يقول رضوان السيد: “كان يراد للعلماء، إذن، أن يعقدوا صلحا مع السلطة يتحولون بموجبه إلى إيديولوجيين ومنظرين لها مقابل دعايتهم العلنية للسلطان بأكفهم الممدودة إلى السماء على حد تعبير نظام الملك..

 وهكذا تحول كبار علماء الشافعية إلى مدرسين في النظاميات المنشأة بمختلف المدن، بينما أقبل السلطان وأمراؤه وهم من الحنفية على إنشاء المدارس لأتباع مذهب أبي حنيفة، وبذلك كسبت الدولة رضا أتباع المذهبين الكبيرين بمشرق العالم الإسلامي.. وكان من أشهر مدرسي نظامية بغداد من الشافعية أبو إسحاق الشيرازي (توفي 476ﻫ)، وابن الصباغ (توفي 477ﻫ)، والغزالي (توفي 505ﻫ)، وأشهر مدرسي نظامية نيسابور إمام الحرمين الجويني (توفي 478ﻫ).. ويلاحظ H. Halm في هذا الصدد أن هذا اللقاء المعرفي السياسي بين السلطة والمثقفين تم في كل متغيرات اجتماعية أبرزت فئات من التجار الأغنياء، في مختلف المجتمعات المدنية الإسلامية على حساب فئات النبلاء ودهاقين الأرض القدامى في إيران، وكان احتضان المثقفين وإنشاء المدارس جزءًا من محاولتهم الحصول على اعتراف بهم وبمكانتهم الاجتماعية[13].”

لقد أدرجت هذا النص من مقدمة “الأسد والغواص” للاستدلال على أن “تاريخانية” رضوان السيد هي مدخل لفهم شروط إنتاج الأفكار ضمن حقبة تاريخية معينة بما يصفه “ميشيل فوكو” بأركيولوجية المفاهيم.. لكن “التاريخانية” بهذا المعني ليست اتجاها أو منهجا يهدف إلى إحداث قطيعة معرفية مع الموروث التاريخي عبر تنمية “الإحساس بالتطور والتغيير” بطريقة تحاول تبرير هذه القطيعة بالقفز على التاريخ..

 إن تاريخانية رضوان السيد المعنية بـ”أركيولوجيا المفاهيم” نجدها أساسا في تحليل “المصطلح السياسي”، كمفاهيم الدولة والجماعة والسلطة والأمة والشورى.. يقول رضوان السيد في كتابه “سياسات الإسلام المعاصر[14]“: “إن المدخل العملي لقراءة مسألة الدولة أو النظام السياسي الحديث عند العرب يقتضي قراءة أركيولوجيا المصطلح السياسي قراءة دقيقة  ومعاينة المسألة المؤسسية في السياق ذاته، وذلك لكشف طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى في المدى والمجال المحللين (..) فهاتان العمليتان: الكشف المصطلحي، والتوازي المؤسسي ضروريتان لفهم طبيعة فكرة الدولة العربية، والفكر السياسي العربي، والخطاب السياسي العربي ومواقع السلطة في المجتمع”..

ونتبين استفادة رضوان السيد من ميشيل فوكو في سؤال طرح عليه من طرف مجلة “رواق عربي[15]” حول ما إذا كان يعتبر نفسه تأصيليا في الدراسات القديمة والحديثة؟ أجاب بقوله: “وقعتُ في شيء من التأصيل في بدايات الاهتمام أواسط الثمانينات، ثم خرجتُ من ذلك  بقراءتي لفوكو، ولأنني ما استطعتُ الاقتناع  بأنّ الإسلاميين المُعاصرين ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه فكراً وسلوكاً لقراءتهم للقرآن أو لابن تيمية؛ فهم يستخدمون النص القديم القدسي وغير القُدسي بطرائق رمزية تسويغية، وليس  بطرائق تأسيسية أو توجيهية، وذكرتُ ذلك في عددٍ من البحوث”..

من جهة أخرى، يمكن تلمُّس النفس النقدي بشدة عند رضوان السيد من منطلق “جدلية التراث والحداثة”؛ إذ يقول، مثلا، في مقدمة ترجمة كتاب “مفهوم الحرية في الإسلام”، بالاشتراك مع معن زيادة، لفرانز روزنتال[16]“: لا يمكن فصل منهج المؤلف عن الإيديولوجيا التي تحكم فكره، وتحدد، إلى حد ما، النهج الذي ينتهجه؛ والمؤلف ليبرالي تقليدي، شديد الاعتزاز بالحضارة الغربية وخلفيتها اليونانية-الهيللنية. وهذا يفسر تلك اللمحات التي تبدو أحيانا شوفينية في ثنايا كتابه؛ فالحرية المدنية مفهوم غربي خالص، أصله يعود إلى اليونان، والفكر الشرقي لم يعرف “الحرية” بمعناها الأوسع معرفة واعية؛ وإذا كان قد عرفها شعب من الشعوب الشرقية؛ فالذين عرفوا هم العبرانيون والسريان لا العرب على كل حال! وواضح أن هذه “الأنسنة” المتطرفة في فكر المؤلف لا تترك المجال لتأملات أو تنظيرات عن صلة الفكر بالواقع، وعلاقات الشرق بالغرب في العصور الوسطى، وتطور هذه العلاقات وجودا وطبيعة.. ولا شك في أن إحساسا قويا بضرورة “العدالة” يسود دراسات روزنتال جميعا؛ لكن هذا الإحساس غير كاف بسبب الخلفية الإيديولوجية التي تحكمه، وتجعل لعدالته حدودا تقف عندها…”.

في سياق مكمل ومستجمع للعدة المعرفية والمنهجية عند رضوان السيد أرى من المفيد الإشارة إلى النفس الأنثربولوجي الذي يمتاز به الرجل خصوصا في تناوله النقدي للانتقال من الاستشراق إلى الأنثربولوجيا، وتأريخه الرصين لتطور القراءات الأنثربولوجية للإسلام خصوصا عبر ممثليها البارزين: إرنست غيلنير وكليفورد غيرتز[17]؛ وتجدر الإشارة هنا أن رضوان مهتم بالأساس بالماكرو-أنثربولوجيا التي ترصد أنماط الاجتماع الإسلامي في بعده الثقافي العام، وليس الحالات الخاصة المندرجة تحت مسمى الميكرو-أنثربولوجيا والتي تقتضي أبحاثا ميدانية.

 والجدير بالاهتمام أن رضوان السيد يخرج من رصده المعرفي هذا باستنتاجات منهجية غاية في الأهمية، يقول: “ثم إنّ المناهج الجديدة في قراءة النصّ، وفي فهم العلاقات بين المتقدم والمتأخّر من النصوص والمقولات تركت آثاراً عميقةً في الدراسات التاريخية، وفي الصور التاريخية، وفي مفاهيم الحقيقة والواقع، ولن تبقى الدراسات الإسلامية بمنأى عنها، في شتّى الظروف، والمناهج. وأرى أن الطريقة الأنجع للتصدي لكتابة تاريخنا العقدي، والثقافي (بالفهم والاستيعاب والتجاوز) تتمثل في المشاركة الفاعلة والقوية في الدراسات المعاصرة والمناهج المعاصرة دونما خوفٍ أو وَجَل؛ ويقتضينا ذلك المزيد من المعرفة بالعالم والعصر، ووقائع الحداثة وما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالواقع أنّ الدراسات الإسلامية والعربية ما كانت على ما يُرامُ في ظلّ التاريخانية الاستشراقية لنزعم الآن أنّ غروب الاستشراق، بالمعنى القديم، نكسةٌ لنا[18].

ووجب، أيضا، الإشارة إلى الحنكة السيميولوجية التي تتميز بها أعمال رضوان السيد؛ يتجلى ذلك في قدرته الفائقة على إخضاع عدد هائل من الوقائع المتنافرة في مظهرها لمبدأ تصنيفي، فبدل التحديدات المتنوعة للوقائع التاريخية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية نلمس في منهج رضوان السيد رغبة ملحة في الكشف عن خاصية جديدة للواقعة متمثلة في المعنى.. لقد سار على نهج دراسة “معاني الأشياء” مع ما يرافق ذلك من إخضاع النفس للخلخلة والتفكيك لكي تتسنى عملية توضيع الأشياء وبَنيَنة دلالاتها عبر تبني نظام منهجي للتشخيص، وهذا يقع في اعتقادي في صلب أعمال الدكتور رضوان السيد[19].

عبر هذه المداخل المعرفية، واكتشاف نمطية الوعي التاريخي، مع استيعاب للتراث الإسلامي والغربي على حد سواء، يعقد رضوان السيد “مقارنات” بين فكر الإصلاحية الإسلامية وفكرة الأصولية الإسلامية. وعبر هذه المداخل المعرفية لا يتسنى فقط تحليل الإشكاليات والبحث في “تاريخانية” الإنتاج التراثي والفكري الإصلاحي أو الأصولي، وإنما يقوم رضوان السيد بتحليل “النماذج المعرفية” الفاعلة في إطار التموضع التاريخي لهذا الإنتاج ودوافعه ومساراته، سواء كان هذا النموذج المعرفي هو السائد إيديولوجيا أو يتميز بخصائص محددة ضمن النسق العام..

ومثال ذلك تناوله النموذج المعرفي”Modèle cognitif  الذي يمثله محمد عبده: ففي مقال له بعنوان “مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي[20]” يقول رضوان السيد في سياق عقده مقارنات بين “نماذج معرفية” لبلورة الأُطروحة التي ذهب إليها حول الطبيعة العقائدية، لفكر الذاتية والهوية، وعلاقة وعي الهوية برؤية العالم. يتعلق الأمر بمواجهة قامت بين فرح أنطون ومحمد عبده في مطلع القرن العشرين، وكانت الإشكاليةُ في المواجهة هي مسألة التقدم، وما هي السبيل الفُضلى لتحقيقه؟

 فقد كان فرح أنطون يرى متأثراً في ذلك بالمسار الفرنسي، وبإرنست رينان على الخصوص، أنَّ السبيل الفضلى لتحقيق التقدم تتمثل في فصل “السلطة المدنية” عن “السلطة الدينية”، فيردُّ عليه محمد عبده بأنّ هذا الأمر غير ممكنٍ في كلِّ الأديان، وفي الإسلام على الخصوص. وإذا لم تكن “مرجعية فرح أنطون مسيحيةً؛ فإنّ مرجعيةَ محمد عبده لم تكن، في مسألة التقدم بالذات، إسلامية؛ جُلُّ ما كان عبده يقصده أنّ المسلمين يمكنهم أن يتقدموا بالمقاييس وبالأنماط الأوروبية. وما حُسِمَ النقاشُ لصالح واحدٍ من المجادلَين، ليس لأنَّ الحسمَ غير ممكنٍ في نقاشٍ من هذا النوع وحسْب؛ بل ولأنَّ الصُوَر التاريخية والنصوص والوقائع؛ تخضع كَلٌّ منها لقوانين ومناهج بحثٍ لا تتطابق. فالصورة التي كانت سائدةً عن العصور الوسطى الأوروبية، التي كانت الكنيسةُ مسيطرةً فيها، لا تقف في وجه الصورة المُشرقة للعصور الوسطى الإسلامية، لكنْ من ناحيةٍ ثانيةٍ فإنّ الحاضر الأوروبي المتقدم والفاصل للدين عن الدولة شاهدٌ لا يمكنُ دفعُهُ بالاستشهاد بنصوصٍ إسلاميةٍ في الحرية والتقدم[21]“.

غير أنني هنا أود أن أسائل الأستاذ رضوان السيد حول هذا “الحسم النظري” الذي تعامل به إزاء موقف محمد عبده من المدنية في علاقتها بالإسلام حينما قال: “وإذا لم تكن مرجعية فرح أنطون مسيحيةً؛ فإنّ مرجعيةَ محمد عبده لم تكن، في مسألة التقدم بالذات، إسلامية”؛ فإذا كان مفهوما، انطلاقا من موقف معلن، أن فرح أنطون ينطلق من هاجس مدني بالدرجة الأولى، فلا شيء يدل البتة على فصل في ذهن محمد عبده بين الديني والمدني في تصوره للمرجعية الإسلامية بما يمكن اعتباره طموحا فلسفيا جنينيا نحو ربط “المفاهيم القرآنية” بالتقدم على المستوى النظري بالأساس، وطموحا إلى تحويل “البواعث الدينية” إلى سلوك مدني مجسد في خبرات تسود “المجال العام”..

وإذ أتفق مع الدكتور رضوان السيد أن “الصُوَر التاريخية والنصوص والوقائع؛ تخضع كَلٌّ منها لقوانين ومناهج بحثٍ لا تتطابق”، فإن المنطق الأنثربولوجي يفرض التريث قبل الحسم في أمور شائكة من هذا القبيل.. نفس النَّفس “الأركيولوجي” نلمسه في قراءة الدكتور رضوان لكل من رفاعة الطهطاوي و خير الدين التونسي وعلي مبارك وآخرون، وتأكيده على “المفاهيم /المفاتيح” عند هذه “النماذج المعرفية” من قبيل مفهوم “المنافع العمومية” عند رفاعة الطهطاوي ومفهوم “التنظيمات” عند خير الدين التونسي، ومفهوم “العلم” عند علي مبارك صاحب “رحلة علم الدين”…

ثمة مسألة مفصلية في منهج الدكتور رضوان السيد، وهي أنه يوظف مفهوما أنثربولوجيا غاية في الأهمية هو “رؤية العالم” لـ Michael Kearny؛ لقد ذكر هذا الأنثروبولوجي المعروف أنه لم يعد من الممكن دراسةُ التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلاّ بالاستناد في ذلك، وبخاصةٍ في المسائل العلائقية، إلى بحوث وفرضيات “رؤية العالم” أو رؤاه[22] وكان هذا المصطلح: “رؤية العالم”  قد ظهر للمرة الأولى في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الألماني Wilhelm Dilthey (1833-1911)، الذي تفطن مبكرا إلى “كوننا لا نستطيع الإمساك بالحياة إلا من خلال وحدات المعنى التي ترتفع فوق السيلان الدائم للتاريخ”، ثم شاع “مفهوم رؤية العالم” في أوساط الأنثروبولوجيين والمؤرخين منذ القرن التاسع عشر، بحيث صار اليوم إحدى المقولات الكلية التي تدخل في مضمون الثقافة. وقد صنّف السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1920-1864) Max Weber  تلك المقولة في مستويين، درس استناداً إليهما عدة ثقافاتٍ تاريخية[23]، يتعلق المستوى الأول بما يطلق عليه دلتاي اسم “الصورة الكونية” التي تؤلّف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلّمات الافتراضيّة عن العالم الحقيقي والواقعي. والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجاباتٍ شافيةٍ أو مقبولة عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، أو ما يُعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي الذي تضعُ فيه الذاتُ الجمعيةُ نفسها ضمن تقسيمات العالَم الواقعية أو المركَّبة من النواحي الثقافية في الأصل؛ لكنْ أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية[24].

والحال أن رضوان السيد إنما يستند في الكثير من قراءته إلى التحوّلات الفكرية والمعرفية التي مرّ بها الفكر الإسلامي إلى مفهوم “رؤية العالم”، يضاف إلى ذلك أن مفهوم “رؤية العالم” غالباً ما يستند إلى السياق التصويري، الواعي والإرادي، الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها، ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل، وأيضاً من النواحي  الأخلاقية والاجتماعية والسياسية[25].

نجد في أعمال رضوان السيد اختبارا تطبيقيا لمفهوم “رؤية العالم” في تحول مفصلي يرصده من خلال “نموذج معرفي” في سياق تاريخي-اجتماعي محدد، وهو سقوط الخلافة الإسلامية، يتعلق الأمر بنموذج الشيخ رشيد رضا، الذي عكس تحولُ فكري “اعتراه” تحولا كبيرا في “رؤيته للعالم”، وتبعا لذلك رؤية تيار بأكمله سينتج عن هذه اللحظة التاريخية. يقول رضوان السيد: “هناك لحظتان ظهر في ظلهما الفكر الإصلاحي الإسلامي وازدهر، والتغير الذي طرأ على هاتين اللحظتين أو المتغيرين، حكم عملية ظهور الفكر الإسلامي المعاصر. أولى هاتين اللحظتين ما سماه خير الدين التونسي ورشيد رضا وسواهما: صدمة الغرب، وثانيتهما: تحالف الفكر الإصلاحي الإسلامي مع رواد مشروع الدولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي..

 وحوالي منتصف العشرينات من القرن العشرين بدا كأن تغيرا راديكاليا على وشك الحدوث يغير من طبيعة العاملين السالفي الذكر، أو على الأقل يغير من رؤية الإصلاحيين لهذين العاملين. بدأت أمائر هذا التغيير في حدث ثقافي ذي دلالة، ففي عام 1924 ألغى مصطفى كمال زعيم تركيا الخلافة (…) أما السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار فيمكن اتخاذه “نموذجا للتحول” في تلك المرحلة الحاسمة، التحول من الإصلاحية إلى السلفية… بيد أن أبرز وجوه التغيير لدى السيد رشيد ما كانت مواقفه السياسية، بل منهجه في التفكير الفقهي والديني، فقد تحول عن نهج المقاصد، مقاصد الشريعة، وهو نهج محمد عبده، إلى الدعوة “للاجتهاد”، بمعنى الخروج على نهج تقليد المذاهب الفقهية التقليدية لصالح العودة للقرآن والسنة، بل السنة بالتحديد[26]“.

هنا يرصد رضوان السيد إشكالية مفصلية في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، وهي مسألة “التأصيل” أو العودة المباشرة إلى “النصوص المؤسّسة” وإلى “السُّنة بالتحديد”، وهو ما يمكن أن نقرأ فيه إشارة ضمنية إلى إفقار الدراسات القرآنية لصالح الاهتمام المفرط بالسنة، ربما لسهولة هذا المسلك وارتباطه المباشر بالمظاهر السلوكية عكس “النظر في القرآن” الذي يحتاج إلى عدة معرفية كبيرة وطول نفس دون أن يكون ذلك مرتبطا مباشرة، على الأقل في ذهن دعاة التأصيل، بالسلوك الدال على “الهوية”…

إن نتيجة هذا النموذج “لرؤية العالم” هي انبثاق الإحيائية الإسلامية في نموذج “الإخوان المسلمون” وما نتج عن ذلك من رسم مسار جديد لعالم الأفكار في العالم الإسلامي والعربي منه على الخصوص؛ يقول رضوان السيد: “ظهرت حركة الإخوان المسلمين في ظروف التأزم الثقافي والسياسي للإصلاحية الإسلامية الناجمة عن اختلال العلاقة مع المصدر/النموذج، واختلال العلاقة مع الدولة الطالعة، لا ينبغي  هنا إغفال تتلمذ حسن البنا على رشيد رضا وتأثره بإحيائيته في مرحلته الثانية، لذا فإن حركة الإخوان المسلمين جاءت بمثابة ردة فعل على أزمة الوعي لدى النخبة الإسلامية تلك؛ فما كانت جماعة الإخوان منذ بدايتها حركة إصلاحية ولا تقليدية؛ بل كانت حركة إحيائية  Revitalist Movementعنيت بالمسائل الشعائرية والرمزية، وقضايا الهوية، والقضايا الأخلاقية..”.

نموذج تطبيقي آخر لمفهوم “رؤية العالم” ينفذ من خلاله رضوان السيد إلى تحليل بنية خطاب “إسلامية المعرفة” من خلال مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي يسعى، من خلال كتاباته، إلى “إعادة تكوين ثقافة الأمة على هدْيٍ من الموروث الإسلامي الأصيل، استناداً إلى فهمٍ صحيحٍ وعميقٍ ومستفيض لتجربة الأمة التاريخية في شتى النواحي من جهة، وفهمٍ نقديٍ كاشفٍ للسياقات الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت وتحيط بها في الأزمنة الحديثة. فالمطلوب إعادة بناء التصور، أو الرؤية، التي لا تكتفي بأن تحفظ على الأمة دينَها وثقافتَها الخاصّة؛ بل تطمح إضافةً لذلك أو تأسيساً عليه إلى الاندفاع في نهضةٍ جديدةٍ مغيِّرةٍ في حياة المسلمين، وبالتالي في مواقعهم في العالَم المعاصر[27].

وهنا سيقوم رضوان السيد “بمقابلة الأفكار” عاقدا مقارنات كعادته؛ إذ يقول: “على أنّ هذا المشهد، الذي يستلهم الفكر الإحيائي الإسلاميّ في التأصيل، لكنه يمضي قُدُماً خطواتٍ أبعد في البناء، أثار ويثير حفائظ الليبراليين. والنموذج المختار في هذا السياق هو الأستاذ عزيز العظمة الذي يرى أنّ رؤية “أسلمة المعرفة” تحتوي نوعين من الخطاب: خطاب سِجال، وخطاب إيجاب؛ الخطاب السجاليُّ ينقض المناهج العلمية العالمية باسم الخصوصية، وخطاب الإيجاب يفسر وقائع التاريخ والمجتمع في بوتقة تصورٍ إسلامي[28].

يستخلص رضوان السيد، دون أن يتفق مع عزيز العظمة، أن “البحث عن الخصوصيّةِ بالإحياء النصي أو التاريخي شكلٌ آخر من أشكال الوهم والاستلاب، لا يقتصر ضررُهُ على عدم إمكانه ولا معقوليته؛ بل إنه يسُدُّ على المسلمين منافذ الدخول إلى الحداثة والعالمية”، غير أن رضوان السيد لا يذهب بعيدا في تبيان حظ النص والتاريخ في “المحصلة العالمية والحداثية” التي يرجو أن يجد العالم الإسلامي إليها منفذا وسبيلا؟ ويحسبُ رضوان السيد أننا “معنيون هنا بالمستوى الثاني، حسب تقسيم ماكس فيبر، المتعلق بالتركيبات الحاضرة للعالم، والتي ألجأتنا للعودة إلى “الصورة الكونية” أو إلى المستوى الأول أو الأساسي..

 إذ استناداً إلى وعي الأفغاني وعبده ورضا  وخير الدين وشكيب أرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حدَّدوا إشكالية المسلمين بأنها التخلُّف في سائر المجالات، كما حدَّدوا الحلَّ وهو التقدم بالمفهوم الأوروبي آنذاك. وفي حين كان التقدم في وعي رفاعة رافع الطهطاوي (1883م) يتعلق بالصناعة والزراعة والتجارة، صار لدى مدرسة محمد عبده فكرياً وتربوياً[29]. واتخذ ذلك الوعي مساربَ أخرى أوصلت “رؤية العالَم ” لدى المفكرين الإسلاميين إلى حدود المستوى الأول، حدود الصورة الكونية: مغزى الوجود والكَون. فظهرت تصوراتُ الاستخلاف والتكليف والحاكمية، التي وضعت الوعي الإسلاميّ في سياق العقائدية، سياق الهوية والرسالة والخصوصية. ففي الوقت الذي كان فيه المفكرون الإسلاميون يرجعون إلى استكشافات النهضويين للتاريخ الإسلامي، كانوا في الوقت نفسه يبتعدون عن أفكارهم ومسلَّماتهم باعتبارها ذات مرجعيةٍ غربية. ومن هنا كان لجوؤهم بإلحاحٍ تأصيليٍ إلى النصّ نفسه باعتباره كامل الطهورية، لكن ما هي “المداخل الفلسفية” لهذا الرجوع إلى النص وكيف ينبغي أن يكون؟ هل يمكن أن ننتظر مساهمة فكرية للدكتور السيد في هذا الاتجاه قد نضجت وحانَ قِطافها؟ أود الإشارة هنا إلى أن غموضا ما، في طرح رضوان السيد، يكتنف العلاقة بين المستوى الأول والثاني من مستويي “رؤية العالم” والعلاقة الجدلية الممكنة بينهما..

يقيم رضوان السيد تمييزاً واضحا بين الفكر الإسلامي الحديث والفكر الإسلامي المعاصر. يقول: “درجت على تقسيم الفكر الإسلامي إلى حديث ومعاصر؛ الطابع العام في الأول أنه إصلاحي مَعْنىٌ بمسألة التقدم، والطابع العام في المعاصر أنه إحيائي معنى بمسألة الهوية[30].”

ولست متفقا مع رأي سعيد بنسعيد الذي يعتبر: أن “قراءة رضوان السيد للفكر العربي الإسلامي المعاصر، مع جديتها وتمكن القارئ فيها من أدوات للقراءة يصعب على غيره امتلاكه، ومع قدرتها على الانتقال اليسير من سجل التراث العربي الإسلامي إلى سجل التاريخ الفكري للغرب الأوروبي ومع توسلها بمنهجية علمية صارمة تظل، في نهاية المطاف، أمام عجز مصدره “قلق العبارة” في مفهومين يسلمان بالضرورة إلى مفهوم واحد يتعذر فيه التضاد وتعسر المغايرة والاختلاف: الإصلاحية والإحيائية[31]، ذلك أن المصطلحين في نظري يختصران، معرفيا ومنهجيا، مساحة كبيرة ومتشعبة من تمثلات المسلمين للدين المرجعي و”تنزيله” على مستوى الواقع، وحتى لو حصل بعض التقاطع التاريخي والفكري بين المفهومين، فإن استيعابهما بشكل شمولي يرسم، بنجاح كبير، الخريطة الفكرية للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ثم إنني أرى، ودون الإغراق في منطق تأويلي، أن التمييز وفق مسارَي: “الانخراط في العالم” و”الدفاع عن الهوية” ينطوي على كثير من الكثافة الأنطولوجية والمعرفية على حد سواء، ويرسم مسارات أرحب للفكر الإسلامي على مستوى العالم، وأعتقد أن هذه المسألة من النقاط القوية في مشروع رضوان السيد الفكري.

وبنفس تفاؤلي يقول رضوان السيد أن “الظاهر هو الإقبال الشديدُ على التغيير والتجدُّد والتجديد، وقد عاد الإسلاميون للحديث في “مقاصد الشريعة”، في حين كانوا قد غادروا هذا المبحثَ أو هذا المنحى منذ عشرينات القرن العشرين؛ ويعني ذلك طموحاً لإعادة النظر في مكوّنات المستوى الأول من مُستويي “رؤية العالم”، مستوى معنى الوجود والرسالة، أما العاملون في إطار “إسلامية المعرفة” فقد جاء منهم من وصل أخيراً إلى القول إنّ الموضوع هو موضوع “رؤية العالم” وليس موضوع الهوية[32]؛ هل يعني ذلك كلُّه تغييراً في رؤية العالَم لدى الإسلاميين؟ الإجابةُ على هذا السؤال الكبير تتطلَّبُ عدة أمور أهمها “أنّ الرؤية السائدة للعالم لدى الإسلاميين كانت تتمحورُ حول الهوية، وتتّسم: بالقطيعة والقطعية والطهورية، وهذا المطلبُ “الطهوري”؛ ما يزالُ ظاهراً، وإنْ لم يكن سائداً.

إنّ الأمر الذي لا يمكنُ تجاهُلُه أنّ وعيَ الهوية ما يزالُ قوياً. وهو وعيٌ يؤدي مباشرةً إلى مشاعر وإحساسات الطهورية والتمايز والانفصال تفرض عقائديةً معينةً في مجال الفكر ومجال الثقافة نتيجةً لذلك الوعي؛ فليس في الثقافات ولا بينها غزوٌ أو استتباع، كما أنّ التجدد لا يمكن أن يكون ذاتياً. فالذات المتجددة هي الذاتُ المنفتحة التي تُصْنَعُ وتتشكل باستمرار في حواريةٍ مع الآخَر، والوعْيُ لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حواريةٍ داخليةٍ بين نصوصه ومقدّساته ورموزه وتاريخه، بل يتّسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي المزوَّد بتلك العناصر؛ أي بالثقافة. وهكذا فإنّ الحلولَ لوعي الهوية المتأزم إنّما تُلتَمَسُ أيضاً في مجال الوعي بالواقع، وليس في مجال الثقافة التاريخية التي يجري اللجوءُ إليها كثيراً من أجل اجتراح الحلول[33]” هنا تبرز بوضوح هذه جدلية التراث والحداثة في فكر رضوان السيد، غير أنها تبدو أكثر على مستوى التفكيك دون أن تمضي أبعد على مستوى التركيب…

قد لا تكفي كل ظواهر التغيير التي تحدثنا عنها للوصول إلى أنّ تبدلاً في “رؤية العالَم”؛ أي في عالم الثقافة، قد حدث، لكنّ الحتميات قد سقطت، ونحن نخرج من الأزمة، ونتجه للبحث عن إمكانياتٍ أخرى للتحقق والتحقيق، وأهمُّ ما يدعو للتفاؤل في هذا الصدد نزعةُ المراجعة الغلاّبة، ومساعي تجديد مشروع الدولة والمشروع السياسي، في العالمين العربي والإسلامي. ونحن نخوض غمار مخاضٍ كبيرٍ جوهرُهُ ضرورة التلاؤم مع قيم العالَم ومنجزاته، وفي هذا الأمر لابدّ من توافر الوعي والإرادة، المؤسَّسين على المعرفة بتاريخنا وبالعالَم المعاصر، بما يعني وعيا ذاتيا ووعيا بالعالم في أفق الانخراط الفاعل فيه ضمن جدلية التراث والحداثة..

وخلاصة القول أن أعمال رضوان السيد تستند إلى إعادة القراءة لتاريخ الإسلام والتراث العربي اعتماداً على مناهج حديثة تمكّن من إلقاء ضوء جديد على التراث، وإبداع مواقف فكرية أكثر ارتباطاً والتزاماً بالبعد العلمي المعاصر، مع استلهام للمثل والقيم النهضوية الأوروبية وعصر الأنوار، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه “ممارسة علمية متعددة الاختصاصات” كان فيها رضوان السيد معتصما “بالمنهجيات الحديثة”، وناظرا من خلال الكيفية التي بها “تُسهم في استكناه خفايا النص بمنهج تأويلي، وفي كشف اللامفكّر فيه، وفي تجاوز القراءات الكلاسيكية…”، ليخلص في مشروعه أن اعتماد أطروحات حديثة ومعاصرة في قراءة التراث مسألة ضرورية من أجل الانخراط في العالم…

إننا إزاء مفكر متشبع بالثقافة الإسلامية وعارفا بخفاياها، لكن أيضا  مثقفا ثقافة عصرية وحداثية تراكمت بفعل الانفتاح والاسترجاع النقدي للدرس الإبيستيمولوجي وفلسفة التاريخ والأنثربولوجيا وفلسفة الدين واللاهوت، ويبدو أن المستوى الفلسفي من فكر رضوان يستلهم بشدة مفهوم رؤية العالم مع نفس أنثربولوجي بدا واضحا في كتابه “الصراع على الإسلام”، وصولا إلى مشروع تأويلي أظن أنه لازال يتبلور وينضج في أفق إفادة الفكر الإنساني بعلم رصين، والدكتور رضوان السيد جدير بذلك..

إن اتجاها منهجيا كالذي يسلكه الدكتور رضوان السيد يفتح طريقا “ابستيمولوجية” جديدة قائمة على المزاوجة بين رسم الحدود “بالمعنى الكانطي” والجدل “بالمعنى الباشلاري[34]“، وهي طريق تفضي إلى معالجة مغايرة لا لمشكلات المعرفة فحسب، وإنما لقضايا الواقع و”البحث عن المعنى” في التاريخ؛ وهكذا يتضح تداخل بين الفهم التاريخي والإبستيمولوجي والأنطولوجي. وفكر كفكر رضوان السيد يفقد جزءًا هاما من حمولته حين يقع صرفه في المستوى المعرفي البحث..

الهوامش

1. رضوان السيد، مقالة في الإصلاح السياسي العربي، دار النهار، 2004، ص70-71.

[2]. رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997. ص35..

[3]. فاطمة حافظ، النزعة الإنسانوية والديمقراطية في فكر رضوان السيد، مجلة رواق عربي، عدد 49-50.

[4]. المرجع نفسه.

[5]. أستحضر، هنا، موقف رضوان السيد الإيجابي من التجديد البروتستانتي..

[6]. استعرت هذا الموقف من رأي حسن بن حسن في بول ريكور ضمن كتاب: النظرية التأويلية عند ريكور، منشورات عيون، 1992.

[7]. سعيد بنسعيد العلوي، الإصلاحية والإحيائية: قراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مجلة. رواق عربي، عدد 49-50، 2008، ص113.

[8]. يعتبر كتاب “مفاهيم الجماعات في الإسلام” محاولة مؤسسة في هذا الاتجاه.

[9]. حسن بنحسن، النظرية التأويلية عند ريكور، منشورات عيون، 1992، ص8.

[10]. رضوان السيد، مجلة التسامح. عدد 12، خريف 2005.

[11]. انظر: حسن بنحسن، النظرية التأويلية عند ريكور، م، س.

[12]. عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل، دار توبقال للنشر، 1988، ص7.

[13]. رضوان السيد، مقدمة كتاب الأسد والغواص، ط2، 1992.

[14]. رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر، م، س، ص76.

[15]. مجلة رواق عربي، عدد 49-50، 2008، ص101-102.

[16]. فرانز روزنتال، مفهوم الحرية في الإسلام، ترجمة رضوان السيد ومعن زيادة، بيروت: المدار الإسلامي، 2007.

[17]. انظر: رضوان السيد، الصراع على الإسلام.. من الاستشراق إلى الأنثربولوجيا، مجلة التسامح، عدد 5، شتاء 2004.

[18]. المرجع نفسه، ص79.

[19]. استفدت هنا من كتاب رولان بارت، المغامرة السيميولوجية، ترجمة عبد الرحيم حزل، مراكش: دار تينمل للطباعة والنشر، 1993.

[20]. رضوان السيد، مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي، مجلة التسامح عدد 11، صيف 2005.

[21]. المرجع نفسه، ص12-13.

[22]. Michael Kearney; World, Chandler and Sharp, 1984.  In

ضمن رضوان السيد. مجلة التسامح، عدد 11، 2005 ص18-19.

[23]. Max Weber, Sociology of Religion (1964); Essays in Sociology (1980).

انظر، المرجع السابق.

[24]. رضوان السيد، مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي الحديث والمعاصر، م، س، ص19.

[25]. رضوان زيادة، رضوان السيد وسياسات “الصراع على الإسلام، مجلة رواق عربي، عدد 49-50، 2008، ص134.

[26]. سياسات الإسلام المعاصر، م، س، ص163-165.

[27]. المعهد العالي للفكر الإسلامي إسلامية المعرفة، المبادئ العامة، خطة العمل، الإنجازات، سلسلة إسلامية المعرفة (1)، ط2، 1986م، ص11-19، ص23 وما بعدها..

[28]. عزيز العظمة، أسلمة المعرفة، وجموح اللاعقلانية السياسية؛ في: قضايا فكرية، الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن، الكتاب الثالث والرابع عشر، أكتوبر 1993م، ص407-414.

[29]. رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، م، س، ص157-170 دراسة: الفكر الإسلامي الحديث: أصوله واتجاهاته ومآلاته، وقارن بدراسة رضوان السيد: مسألة الحضارة، والعلاقات بين الحضارات، في كتابات المثقفين العرب في الأزمنة الحديثة؛ في الصراع على الإسلام، 2004م، ص121-149.

[30]. رضوان السيد، الصراع على الإسلام – الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، بيروت: دار الكتاب العربي، ص215.

[31]. سعيد بنسعيد العلوي، الإصلاحية والإحيائية: قراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مجلة رواق عربي، عدد 49-50، ص117.

[32]. قارن مثلاً بكتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي، 1996م.

[33]. رضوان السيد، مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي، مجلة التسامح عدد 11،  صيف 2005.

  1. 34. حسن بنحسن، النظرية التأويلية عند ريكور، منشورات عيون، 1992، ص8.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق