من بَلاغة القرآن الكَريم الإجمالُ ثم التفصيلُ، إرسالُ الكليات ثمَّ إتْباعُها بالجزئياتِ المؤلِّفَة، ثم الربطُ بين تلك المُؤلِّفاتِ بروابطَ لغويّةٍ دقيقة تدلُّ على غايةِ البلاغَةِ ومُنْتَهاها في النظمِ والترتيبِ:من شواهدِ ذلكَ تَقريرُ حقيقةٍ: «والذي أَوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ » [فاطر: 31]
لاحظْ أنّ اسمَ الموصولِ مَعقدُ العنايَة والاهتمام، فسيُخبَرُ عَنه بخبرٍ -وهو "الحَقّ" - يُعدُّ البؤرَةَ في مَعْنى الكلام كلّه، وأُحيطَ الخبرُ "البُؤرَةُ" المُخبَرُ به عن المُبتدأ "مَعْقد العنايَة" بروابطَ مَتينةٍ مُحكَمَةِ الضّمّ، منها رابطُ ضَميرِ الفَصْل "هو"، الذي يُفيدُ تَأكيدَ القَصرِ والحَصْرِ في الخَبَرِ. وأداةُ التعريفِ في "الحَقّ" رابطٌ يُفيدُ عُمومَ الجنسِ، وضميرُ الفَصل وأداةُ التعريف، أي قصر جنس الحق على المُوحَى به، وهو قَصرُ مُبالَغَة يُفيدُ عَدَمَ الاعتداد بما عداه من الكتب في درجة الحَقّ.وارتَبَطَت الصّفَةُ "مُصَدِّقاً" بقرينَة مَعنويةٍ هي الحاليّةُ من الموصوف بها وهو "الكتاب"، وارتبطَت إعراباً بالعامِل فيها وهو الفعلُ "أوحينا" ليُفيد أنه مع ظهوره على الكُتُبِ السماويّة الصَّحيحَة السابقَة، فهُوَ مُصدِّق لها فيما اشتملت عليه من الحَقّ. واللامُ رابطٌ يَصلُ اسم الفاعل "مصدقاً" بالمَعمول "ما". أمّا المركَّبُ الظرفِيُّ "بَيْنَ يَديْه" فإنّه تَقْييدٌ ظرفيٌّ لحَدَث التَّصديقِ، بالمَكان المَجازيّ.
ثُمّ خُتمَت الآيَةُ بما دَعاهُ البلاغيونَ وعُلَماءُ عُلوم القرآن بالتَّذييل، في قَوله تعالى: "إنّ الله بعبادِه لَخَبيرٌ بَصيرٌ"؛ وهو تَذْييلٌ جامعٌ لما اشتمَلَت عليْه الآياتُ السّابقةُ، ورابطٌ لفظيٌّ يدلُّ على الخيطِ الجامعِ لما تَفرَّقَ قبلُ من مَعانٍ.
ثمّ يأتي مَساقٌ آخَر من الآياتِ يُفتتَحُ برابط عطفيّ جَديد "ثُمَّ" وهو رابطٌ يُفيدُ الترتيبَ والتعقيبَ والتَّراخيَ، وفيه دلالَةُ التَّرقّي، كما قالَ البلاغيّون، قال الشيخُ الطاهر بن عاشور: « وهذا ارْتقاءٌ في التّنويه بالقُرآن المُتَضمِّنِ التَّنويهَ بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، وعُروجٌ في مَسَرّته وتَبْشيره، فبَعْدَ أن ذكّر بفَضيلَة كِتابه - وهو أمرٌ قد تَقَرَّر لدَيه - زِيدَ تَبشيراً بدَوام كتابِه وإيتائه أمّةً هُمُ المُصْطَفَوْنَ مِن عبادِ الله تعالى، وتَبْشيره بأنّهم يَعْمَلون به ولا يَتركونَه كَما تَرَكَ أممٌ مِن قَبلِه كُتُبَهُم ورُسُلَهُم، لقوله: "فمنهُم ظالمٌ لنَفسِه" الآية، فهذِه البِشارةُ أهمُّ عندَ النّبيّ صَلى الله عليه وسلم مِن الإخبارِ بأنّ القرآنَ حقٌّ مُصدِّقٌ لِما بينَ يَديه؛ لأنّ هذِه البشارةَ لم تَكنْ مَعلومةً عندَه فَوَقْعُها أهمُّ».
وبعدَ رابطِ التَّرقّي يأتي محورٌ فعليٌّ جديدٌ هو "أورثْنا" يَعملُ فيما بعدَه، ومِن مَعْمولاته المَفْعولان المَنصوبانِ ["الكتاب" و "الذين"] ومُقتضى الظّاهر نَصْبُ المَفعول الآخذِ في المعنى وهو "الذين"؛ وإنما خولِفَ فقُدِّم المفعولُ الثاني لأمْنِ اللَّبس قصداً للعنايَةِ بالكتاب المُوَرَثِ. وأما التنويه بآخذي الكتابِ فتُفيدُه صلةُ الموصول "اصطفَيْنا". ثمّ تفرَّعَ المَنصوبُ الثاني نفسُه عن صلةٍ ورابطٍ لها، ثمّ يأتي تَفريعٌ لهذا المفعول الثاني وهو تَفْريعُ تَفصيل، ورابطُه الفاءُ.وعُرِّفَ الكتابُ بأل العَهديّة الذِّكْرِيّة.
ثمّ يأتي تَفصيلُ ذكرِ أحوالِ وارثي الكتابِ. وفيها بَيان أنّهُم مَراتبُ فيما بُشِّروا به، وجيءَ بالتفريع والتّفصيل "فَمنهُم ظالمٌ لنفْسِه"... لإفادَةِ أنّه تَفصيلٌ لمَراتبِ المُصْطَفَيْن لتَشملَ البشارةُ جميعَ أصنافهم؛ حتّى الظالمُ لنفسه لا يُحرَمُ منها؛ لأنّ مَناطَ الاصطفاء الإِيمانُ والإِسلامُ. «وقُدّمَ في التفصيل ذكْرُ الظّالمِ لنفْسِه لدَفع تَوَهُّمِ حِرمانِه من الجنّة وتَعجيلاً لمَسَرَّته» [التحرير والتنوير/فاطر].