مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

قِصَّةُ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ الهُذَلي مَعَ الإِسْلاَم

أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بالقرآن بَعْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

 

 إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي.

«مَنْ سرَّهُ أن يَقْرَأَ القرآن رَطْباً كما نَزَلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابنِ أُمِّ عَبْد» (محمد رسول الله).

     كان يومئذ غلاما يافعاً لم يُجاوز الحُلُم، وكان يَسْرَحُ في شِعَابِ([1]) مَكَّةَ بعيداً عن الناس، ومعه غَنَمٌ يَرْعَاهَا لِسَيِّدٍ مِنْ سَادَاتِ قُريْشٍ؛ هُوَ عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ([2])

     كان الناس يُنادونه: «ابن أُمِّ عَبْد» أَمَّا اسمه فَهُوَ عبد الله، وَأَمَّا اسم أبيه «فمسعودٌ».

     كان الغُلاَمُ يَسْمعُ بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم الذي ظهر في قَوْمِهِ فلا يَأْبَهُ([3]) لها لِصِغَرِ سِنِّهِ مِنْ جِهَة، وَلِبُعْدِهِ عن المجتمع المكيِّ من جِهَةٍ أُخْرَى، فقد دَأَبَ على أن يَخْرُجَ بِغَنَمِ عُقبةَ منذ البُكُور ثمَّ لا يعودُ بها إلاَّ إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ.

وفي ذات يَوْمٍ أبْصَرَ الغُلاَمُ المكِّيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كَهْليْن عَلَيْهِمَا الوَقَارُ يَتَّجِهَانِ نَحْوَهُ مِنْ بَعِيدٍ، وقد أخَذَ الجُهْدُ منهُما كُلَّ مَأْخَذٍ([4])، واشْتَدَّ عليهما الظَّمَأُ حتَّى جَفَّتْ مِنهما الشِّفاهُ والحُلوقُ.

فلمَّا وقفا عليه، سلَّما وقالا:

يا غُلام، احْلِبْ لنا مِنْ هذه الشِّيَاهِ ما نُطْفِئُ به ظَمَأَنا، ونبلُّ عُرُوقنا.

فقال الغلام: لا أفعل؛ فَالغَنَمُ ليست لي، وأنا عليها مُؤْتَمَن…

فَلَمْ يُنْكِرِ الرَّجُلاَنِ قَوْلَهُ، وبَدَا على وَجْهَيْهِمَا الرِّضَا عَنْهُ.

ثم قال له أَحَدُهُمَا:

دُلَّنِي عَلَى شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عليها فَحْلٌ([5])، فأشارَ الغُلاَمُ إلى شاةٍ صغيرةٍ قريبة منه، فتقدَّم منها الرَّجل وَاعْتَقَلَهَا، وجعل يَمْسَحُ ضَرْعَهَا([6]) بيده وَهُوَ يَذْكُرُ عليها اسْمَ اللهِ، فنظر إليه الغُلام في دَهْشَةٍ؛ وقال في نفسه:

ومتى كانت الشِّياهُ الصَّغِيرةُ التي لم تَنْزُ عليها الفُحولُ تُدِرُّ لَبَناً؟!.

لَكِنَّ ضَرْعَ الشَّاةِ ما لَبِثَ أَنِ انتفخَ، وطَفِقَ اللَّبَنُ يَنْبَثِقُ منهُ ثَراًّ([7]) غزيراً.

فأخذَ الرَّجل الآخر حَجَراً مُجوَّفاً من الأرض، وَمَلأهُ باللَّبَنِ، وشَرِبَ مِنْهُ هو وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ سَقَيَاني مَعَهُما، وأنا لا أكاد أُصَدِّقُ ما أرى…

فلمَّا ارْتَوَيْنَا، قال الرَّجُلُ المُبارَكُ لِضَرْعِ الشَّاة:

انْقَبِضْ… فما زال يَنْقَبِضُ حتَّى عاد إلى ما كان عليه.

عند ذلك قلتُ لِلرَّجُلِ المبارك:

عَلِّمْنِي مِنْ هذا القَوْلِ الذي قُلْتَهُ.

فقال لي: «إنَّكَ غُلامٌ مُعَلَّمٌ».

     كانت هذه بِدَايَةُ قِصَّةِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ مَعَ الإِسْلاَم…

إذْ لم يكن الرجل المبارك إلاَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكن صاحبه إلاَّ الصِّدِّيق، رضي الله عنه.

فقد نَفَرا([8]) في ذلك اليوم إلى شِعَاب مَكَّةَ، لِفَرْطِ ما أرْهَقَتْهُما([9]) قُريْشٌ، ولشدَّة ما أنْزَلَتْ بهما من بلاءٍ.

     وكما أحبَّ الغُلامُ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وتعلَّق بهما، فقدْ أُعْجِبَ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالغُلامِ وأكْبَرَا أمانتهُ وَحَزْمَهُ؛ وَتَوَسَّمَا([10]) فيه الخير.

     لم يمض غير قليلٍ حتى أسلم عبد الله بن مسعود وعَرَضَ نفسَهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَخْدِمَهُ؛ فوضَعَهُ الرَّسول صلوات الله عليه في خِدْمَتِهِ.

     ومنذ ذلك اليوم انْتَقَلَ الغلام المَحْظُوظُ عبد الله بن مسعودٍ من رعاية الغنمِ إلى خِدْمَةِ سيِّد الخلقِ والأممِ.

     لَزِمَ عبد الله بنُ مَسْعودٍ رسولَ الله صلوات الله وسلامه عليه مُلازَمةَ الظِّلِّ لِصاحبه، فكان يُرافقُهُ في حَلِّهِ وتَرْحَالِهِ، ويُصاحِبِهُ دَاخِلَ بيْتِهِ وخَارِجَهُ…([11])

العبر المستخلصة من هذه القصة:

1-   الجهر بالحق واجب، وفضيلة من الفضائل الكبرى.

2-   قُوَّةُ شخصية المسلم تتجلَّى أكثر عند حلول الشَّدائد والصِّعَاب.

3-   مِنْ أحْسَنِ القراءات القرآنية؛ قراءةُ ابن أُمِّ عَبْد، أي: عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.

4-   جوازُ مخاطبةِ الناس، والتحدُّث عنهم بالكُنَى دُونَ الاسْم.

5-   عبد الله بن مسعود مِمَّن رَفَعَهُم القرآن مكاناً عَلِيّاً، كان في الجاهلية مَسُوداً، فأصبح بالإسلام، وَالصُّحْبَةِ، والقرآن سَيِّداً.

6-   صِغَرُ السِّنِّ قد يحجب الحقائق عن صاحبها، ولاسيما إذا كان بعيداً عن مركز الخبر.

7-   «السَّلاَم» شِعَارُ الإسلام، وَرَمْزُ الطمأنينة والأمان.

8-    لا بأس بطلب الأمر المشروع عند الحاجة والضرورة.

9-   حِفْظُ العهد والأمانة، من أخلاق الجاهلية والإسلام.

10-  قَبُولُ الأَعْذَارِ من شِيَمِ الأخيار.

11-  المعجزة النبوية، وَفَضْلُ ذِكْرِ الله على الأشياء كُلِّهَا.

12-  مشروعية السؤال عن الأمر الذي لم يتَبَيَّن لنا وَجْهُ الحكمة فيه.

13-  الأَمْرُ الخارقُ لِلْعَادَةِ قَدْ لاَ تُصَدِّقُهُ العقول.

14-  الرَّغْبَةُ في طلب العلم، والشهادة لِلْمُتَعَلِّمِ بتحصيل العِلم.

15-  اضطهادُ الأخيار قد يكون على يَدِ السُّفَهَاءِ الأشرار!.

16-  مصاحبةُ الأخيارِ خَيْرُ وَسِيلَةٍ لاِرْتِفَاعِ الأَقْدَار.

17-  بِالحُبِّ والصِّدقِ والأمانةِ والإخلاصِ انتقل ابن مسعود رضي الله عنه من رعاية الغَنَمِ إلى خِدْمةِ سَيِّدِ الخَلْقِ صلى الله عليه وسلم، ولاَزَمَهُ مُلاَزَمَةَ الظِّلِّ لصاحبه.


([1]) -شِعَاب: جمع شِعْب؛ وهو الطريق في الجبل.  انظر: تاج العروس من جواهر القاموس؛ لمحمد مرتضى الزَّبيدي، مادة: (شعب)، وقيل: الشِّعْبُ؛ ما انفرج بين جبلين، والشِّعْبُ: مَسيلُ الماء في بَطْنٍ من الأرض. انظر: لسان العرب؛ لابن منظور، مادة: (شعب).

-([2])  هو عُقْبَةُ بْنُ أَبَان بْنِ ذَكْوَان بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْد شَمْس من كِبَارِ قُريشٍ في الجاهلية، كُنْيَتُهُ أبو الوليد، وَكُنْيَةُ أبيه أَبُو مُعَيْط وبها اشتهر، كان شديد الأذى للرَّسُول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، قُتِل بعد بَدْرٍ. انظر: السيرة النبوية؛ لابن هشام: 2/ 287، الأعلام؛ لخير الدين الزِّرِكلي: 4/ 240.

-([3])  لاَ يَأْبَهُ لها: لاَيَهْتَمُّ بها. انظر: تاج العروس، مادة: (أبه).

-([4])  أَخَذَ الجُهْدُ منهما كُلَّ مأْخَذٍ: أَصَابَهُمَا التَّعَبُ الشَّدِيد.

-([5])  الفَحْلُ: الذَّكَرُ من كُلِّ حيوان، جمعه: فُحُولٌ بالضَّمِّ، (وَأَفْحَلٌ) كَأَفْلُسٍ، (وَفِحَالٌ) بالكَسْر، (وَفِحَالَةٌ) مثل: الجِمَالَة. انظر: تاج العروس؛ للزَّبِيدِي، والمصباح المنير؛ للفيومي، مادة: (فحل)، والمراد به هنا: ذَكَرُ الغَنَم.

-([6])  ضرعها: ضَرْعُ الشَّاةِ والنَّاقَةِ: مَدَرُّ لَبَنِهَا، والجمع ضروع…وشاةٌ ضريع: حَسَنَةُ الضَّرْع. انظر: لسان العرب، وتاج العروس، مادة: (ضرع).

-([7])  ثرّاً: كثيراً وفيراً.

-([8])  نَفَرَا: خَرَجَا.

-([9])  أَرْهَقَتْهُمَا: آذَتْهُمَا وَأَتْعَبَتْهُمَا.

-([10])  تَوَسَّمَا فيه الخير: تَفَرَّسَا فيه الخَيْرَ وَتَرَقَّبَاهُ مِنْهُ.

-([11])  مِنْ كِتَاب: «صُوَر مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَة»؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا. ص: 97- 99.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق