تقرير عن مناقشة أطروحة الدكتوراه للطالب: محمد أمين السقال (الباحث بمركز أبي الحسن الأشعري)
شهدت رحاب كلية أصول الدين بتطوان، يوم الأربعاء الموافق لـ 24 ـ 07 ـ 2024 مناقشة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع:
«المواقف من مشروعية علم الكلام لدى مالكية الغرب الإسلامي ـ دراسة نقدية سوسيولوجية ـ تاريخية لجدلية النص و العقل والواقع في بناء الخطاب الديني العقدي»، أعدّها الطالب محمد أمين السقال (الباحث بمركز أبي الحسن الأشعري).
وقد تكونت لجنة المناقشة ـ التي امتدت من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة الثالثة بعد الزوال ـ من السادة الأساتذة:
ـ الدكتور عبد القادر بطار رئيسا.
ـ الدكتور محمد التمسماني مشرفا.
ـ الدكتور جمال علال البختي مشرفا.
ـ الدكتور مصطفى بوجمعة عضوا.
ـ الدكتور يوسف الزيدي عضوا.
ـ الدكتور مصطفى السعيدي عضوا.
وبعد تلاوة البيان التقريري للطالب ومناقشته والمداولة في شأن عمله تم منح الطالب شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.
وفيما يلي نعرض للمعاقد الكبرى للتقرير الذي أُعدَّ للمناقشة:
بعد التقدم بعبارات الشكر والتقدير لأعضاء اللجنة المناقشة، كل بحسب اسمه وصفته، بين الطالب الباحث أن أطروحته تعالج مشكلة علمية وتاريخية بل معضلة دينية هائلة، عظم فيها القول، وكثر الخلاف، وتباعدت الأنظار سَعة وضِيقا.
فعلم الكلام أنزلته طوائف العلماء منزلتين متناقضتين؛
ـ الأولى جعلته علما كليا على رأس جميع العلوم الشرعية حاكما لها ومهيمنا عليها، وبابا لاحبا بل أمرا واجبا لمعرفة الألوهية وإقامة العقائد الدينية ـ السنية. وفي هذه المنزلة؛ خَلع عليه العلماء والمتكلمون من الأوصاف ما يجعله طريقا مستويا إلى الشفوف العلمي والديني في الدنيا ونيل الدرجات العلى في الآخرة. بل وهنالك من العلماء من جعل مرتبة المتكلم قريبةً جدا من مرتبة الأنبياء.
ـ أما المنزلة الثانية فألقت بعلم الكلام وأهله في خانة العلوم البدعية والفرق الهالكة.
وما بين المنزلة الأولى والثانية تشكلت المذاهب، وأُلفت المؤلفات، ووُضعت الأوضاع، وسُبكت المصطلحات والمفاهيم، وشُحذت الأدلة والحجج، وأطلقت أحكام غليظة ودعاوَى جسيمة، أدت إلى التضريب بين المذاهب العقدية والفرق الكلامية، والتحريش بين العلماء، والتخبيب بين العامة والدهماء.
من هذه الخلفية التاريخية والمعرفية العميقة والمحيِّرة والتي عبر عنها الطالب الباحث بـ«التَّمْحين في الدين»، تَوجه الباحث إلى الغرب الإسلامي لدراسة مواقف المالكية من علم الكلام. وهي الدراسة التي قدم لُبابها من خلال محاورَ أربعة:
المحور الأول: موضوع البحث ومشكلته:
لقد استقر في الدرس العقدي المغربي تسليمُ علماء المالكية بمشروعية علم الكلام الأشعري تسليما مطلقا يقضي بسنيته، بل بمطابقته للعقيدة الدينية؛ فباتت «العقيدة الأشعرية» يُنظر إليها باعتبارها ثابتا عقديا ومُقوِّما أساسيا من مقومات الغرب الإسلامي الفكرية والدينية. وهو الثبات الذي عبر عنه الكثير من العلماء والمؤرخين المغاربة في وصفهم الأشعرية بـ«عقيدة أهل الحق»، ثم جمعَها ابن عاشر (ت.1040هـ) في ثلاثيته المشهورة:
في عقد الأشعري وفقه مالك | ** | وفي طريقة الجنيد السالك |
هذا البيت الذي يتردد صداه في جل المؤلفات والدراسات الناظرة في تاريخ العقائد في الغرب الإسلامي.
ولا شك أن هذه الإطلاقات يراد منها أن تعبر عن عمق تجذُّرِ «العقيدة الأشعرية» في النسيج الديني والفكري في المغرب بمعناه الواسع، وتحاول أن تكرّس لسمات ما أسماه الباحث بـ«الصفاء العقدي» و«الوحدة المذهبية» التي سادت اعتقادات المغاربة بعد «اعتناق» الأشعرية، لكنها، في نظره، تخفي الكثير من الحقائق العلمية والتاريخية التي يأبى منطق البحث العلمي إلا أن يتقفَّرها فَتْشا وتنقيرا، ويتعهّدها بالدراسة والنقد.
ولذلك نهض هذا البحث بمحاولة علمية جادة لإعادة كتابة مشكلة مشروعية علم الكلام في مجال جغرافي وتاريخي هيمن عليه المذهب المالكي منذ دخوله ولا يزال، وفي ظل هذه الهيمنة دخل علم الكلام الأشعري بِوزنه العلمي وثِقله العقدي؛ دخولا اختلفت مواقف الفقهاء والعلماء منه، وتعددت أنظار المؤرخين والدارسين في تحقيب فتراته وتوصيف كيفيات تلقي العلماء وتفاعلهم مع منظومة عقدية جديدة. وفي عمليات التأريخ والدراسة هاته أُرسلت الأحكام وأطلقت الادّعاءات والتحكمات، ورأى الباحث في جملة منها ما يتنكب عن آليات البحث العلمي والحقائق التاريخية، ومنها ما ينزع نزعة عقائدية أو مجالية لا تحتملها النصوص ولا تشهد لها الأدلة كفاية.
وعليه، انصرف البحث إلى مقاربة علاقة المذهبية المالكية بالمذهبية الكلامية الأشعرية، ليس من جهة علاقة الفقه بالكلام ـ يقول الطالب الباحث ـ، وإنما من خلال النظر في الموقف من علم الكلام الناتج عن التدافع والتلاقح عبر أطوارٍ وأدوارٍ علمية وتاريخية متواصلة ـ بين المنظومة المالكية والمنظومة الكلامية وفي مقدمتها علمُ الكلام الأشعري، وذلك بناء على دعوى التزمها الباحث وهي أن المذهب المالكي قد كان مذهبا في الاعتقاديات والفقهيات معا، بل كان يمثل المناخ العلمي والثقافي والروحي للمغاربة، إلى درجة يمكن الحديث فيها عن «الإسلام المالكي».
وقد أثمر هذا الاختبار نظرية / أو سردية جديدة تعالج موضوع الاختلاف في إطار الوحدة المذهبية وتفسر أسباب ظفر المذهبية الأشعرية، من داخل المذهب المالكي، بالسلطة العلمية في باب العقيدة، بل في نظرية المعرفة الدينية والعقلية.
فبعد توسيع عملية القراءة والحفر في مباني الإنتاج العقدي المغربي، توصل الباحث إلى تصنيف مجموعة من المواقف من مشروعية علم الكلام تصنيفا اجتهد في بناء تصور خاص به يكشف عن مسالك علماء المغرب في التصدي لـ«مشكلة» المشروعية؛ فميز بين جنسين رئيسين: أولهما جنسُ ما أسماه بـ«المواقف المانعة من علم الكلام»؛ وهي مختلفة ومتفاوتة من جهة مناهج المنع والرد، ولذلك قسمها إلى ثلاثة مواقفَ متباينة: موقف أثري، وموقف فلسفي، وموقف صوفي معاند.
والجنس الثاني أسماه بـ«المواقف الشَّارعة لعلم الكلام»؛ بمعنى مُشرِّعةٍ له، تقضي بمشروعيته الدينية، لكنها مشروعية مبنية على جملة من الاعتبارات تجعل هذه المواقف مشترِكةً في بعض المقومات مفترِقةً في أخرى، ولذلك قسمها هي أيضا إلى ثلاثة مواقفَ كبرى: موقف نقدي أشعري، وموقف تاريخي، وموقف صوفي مساند.
وفي كل موقف من هذه المواقف أنظار وخلاصات عرض لها ـ بحسب التقرير ـ في المحور الثالث.
المحور الثاني: مقاربة الموضوع بين الدعامات المنهجية والاختيارات العلمية:
استلزمت طبيعة الموضوع والمناهجُ المتوسلُ بها في الدراسة أن يُقدم لها الباحث بمباحث تبين عن خلفيات الباحث العلمية والمنهجية في الافتحاص والنقد، وذلك في مستويين اثنين: مستوى المقاربة المنهجية ومستوى المقاربة الموضوعية:
■ في المستوى الأول:
بين فيه المقصود بالدراسة النقدية لعلم الكلام وانتهى فيها إلى ضرورة النأي عن النزعة العقائدية الضيقة التي تسود الدراسات الكلامية، معرفا العقائدية كالآتي: إفراغُ مضامينِ الانتماء العقدي للباحث في الدراسات العلمية إفراغا يجعل من البحث بيانا عقديا ـ أو دراسة مدغومة بالانتماء العقدي المذهبي؛ وهو ما يؤدي إلى الانتصار لقناعات مذهبية أو وطنية سالفةٍ يعمل على توطيدها كحقيقة قطعية مطلقة. فيكون البحث برمته محاولة تبريرية محضة للموضوع المدروس وفق الاختيارات التي يستسلفها الباحث، وهذا تحصيل حاصل لا يثمر جديدا ولا ينقد قديما.
وقد استعان الباحث بنصوص في غاية الأهمية، حسب قوله، لإمام المذهب أبي الحسن الأشعري رأى أنها تضع قواعد المنهج النقدي في دراسة المذاهب والمسائل العقدية بما يحفظ ما يسمى ـ في الأدبيات الإبستمولوجية ـ بـ«المسافة النقدية» بين الناقد والمنقود، بل وتمثل هذه النصوص الأشعرية في تقديره إرهاصاتٍ من النظر الإبستمولوجي بمعناه المعاصر، ربما لم يُلتفت إليها.
ـ ثانيا: عرض الباحث تصوره لأهمية الدراسة السوسيولوجية ـ التاريخية لعلم الكلام مركزا فيها على قيمة ربط المعرفة بالمجتمع والوعاء التاريخي، وقدم لذلك بإرهاصات خلدونية مهدت لهذا العلم، ثم لخص أهم نظرياته وعناصر جهازه المفهومي وآلياته التحليلية كما هي عند كارل مانهايم وروبرت ميرتون وجورج كورفيتش. وبعد ذلك بين قيمة الدلالات الإجرائية لمفهوم البرادايم أو الإبدال العلمي ومفهوم الثورة العلمية لصاحبهما توماس كون، والتي يعتقد الباحث بأهميتها في مقاربة عملية تشكلات الخطاب الديني العقدي في الغرب الإسلامي عبر مراحل تميزت كل مرحلة منها بإطار مرجعي في الاختيارات العقدية والفكرية الكبرى تلائم طبيعة البنى أو الأطر الاجتماعية السائدة وتناسب التوجه الحضاري في زمانها.
ـ ثالثا: تتبع الباحث مآتيَ القول بدعوى أشعرية جميع المالكية أو ما سماه في الأطروحة بـ«أشعرَنة» المالكية؛ أي النزعة العقائدية التي تروم تجنيس جميع علماء المالكية بالمذهبية الأشعرية. وقد وجد أن ابن عساكر (ت.571هـ) والتاج السبكي (ت.771هـ) كان لهما يد طولى في الترويج لهذه الدعوى. ثم جاء بشواهدَ تبين عن مبلغ الاحتفاف بها وكثرة تَردادها في الكثير من المؤلفات والأوضاع العلمية المغربية والمشرقية، معتبرا أن هذه الدعوى قد صارت بمثابة «الاسطوغرافية المغربية التقليدية»؛ أي الرواية التاريخية عن الأشعرية بالمغرب. وطبعا تمثل المواقف المصنفة آنفا نقدا مباشرا لهذه الدعوى.
■ في المستوى الثاني: أي المقاربة الموضوعية
حدد الباحث أولا المفهوم من مفهوم المشروعية؛ وقد انتهى إلى أن مشروعية علم الكلام، من حيث هو علم كلي سابق على الفقه، لا يمكن أن تعايَر بالآلة الفقهية القائمة على الحلية والحُرمة، معتبرا أن تحكيم الآلة الفقهية في مقاربة مشروعية علم الكلام كانت سببا مباشرا في إصدار الفتاوى الفقهية في حكم الاشتغال به، بل وفي حق الاشتغال بالكثير من العلوم من قبيل المنطق والتصوف والفلسفة، وسواء كانت الفتوى تقضي بحلّية علم الكلام أو حُرمته فإن استعمال هذه الآلة قد كان في غير موضعها اللائق بها، وهو سبب مباشر في الارتباك الحاصل في تراثنا، الممتد إلى عصرنا، بين الحكم بحرمته أو بدعته وبين الحكم بجوازه وحليته.
ثانيا: قدم الباحث تصورا نقديا جديدا لتعريفات علم الكلام؛ فميز في التعريفات بين المضيِّقة والموسِّعة، وانتصر لمسلك التوسيع عوض التضييق، ثم أبرز منزلة علم الكلام وفق تصور موضوعي يضعه بين تهويل مكانته وتهوين وظيفته. ونقد الوقوع في آفة المطابقة بين العقيدة وعلم الكلام، لينتهي إلى التفريق بين مراتب القول في هذا العلم ميز فيها بين العقيدة والاعتقاد وعلم العقائد وعلم الكلام؛ وأهم ما في هذا التمييز أن العقيدة من حيث صدورها عن الوحي معطىً خارجيٌّ مستقل عن الذات المعتقِدة، أما الاعتقاد فهو معطى داخلي محايث يتنافذ فيه العقلاني مع النفسي، والشرعي مع الوجداني، لذلك يختلف الناس في استظهار معاني الإيمان التي تسكنهم رغم وحدة العقيدة وثباتها. إن العقيدة بهذا المنظور ثابتة في نفس الأمر لا تتغير ولا تتطور (بخلاف ما يذهب إليه المستشرقون)، أما الاعتقاد فهو، بلغة علوم النفس، تَمَثُّلات المؤمن لاعتقاده، وهذه التمثلات تتفاوت صفاء أو كدرا، وضوحا أو انبهاما، قوة أو ضعفا، سعة أو ضيقا.. بحسب طريقة تلقين العقيدة وظروف تشربها والبيئة الاجتماعية الحاضنة للفرد ومنسوب المعتقِد من الفهم والإدراك.
أما علم الكلام فدائرة علمية واسعة تستغرق دوائر علمِ الاعتقاد وعلمِ أصول الدين ودائرة العقيدة؛ فكلما انتقلنا توسعًا من دائرة العقيدة إلى التي بعدها ثم التي تليها إلا وامتدّ التجريد واتسع الاختلاف؛ ذلك بأن كل دائرة من هذه الدوائر تختص بأدوات معرفية محددة وجهاز مفاهيمي مخصوص وآليات في البناء والاستدلال والرد والإقناع يُفترض أنها تناسب أهل كل دائرة على حدة.
وقد قدم الباحث محاولة نقدية لما اعتبره آفة إفراغ علم الكلام من أي حمولة عملية، حتى صار كاللاهوت، وهو إفراغ كان نتيجة تأثر علم الكلام بالفلسفة. كما لم يغبَ ـ على حد قوله ـ عن الإلماع إلى النشأة التاريخية لعلم الكلام؛ بالنظر إلى المناشئ السياسية والمنابت الاجتماعية التي ساهمت في نشأته وتشكله؛ والتي تجعل منه علما متشابكا مع واقع الناس متفاعلا مع أطره السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
المحور الثالث: الخلاصات: من موقف مالك إلى المواقف المانعة والشارعة
أولا: عرض الباحث لدراسة وافية ضافية لموقف مالك من كلاميات عصره؛ دراسة نقدية استوفى فيها، بحسب قوله، أكثر أصوله التي ينهض عليها بعد تمحيص النصوص الأساسية التي تترجم أنظار مالك في المسائل العقدية. وقد اعتبر أن موقف مالك من كلاميات عصره على ما فيه من الاقتصاد في الاعتقاد والالتباس في المفاهيم والقسوة في الأحكام على المتكلمين كان له أثره على المواقف المصنفة؛ بحيث لا يخلو موقف منها من صدى موقف مالك وأحكامه؛ فهي مسكونة به محترزة له.
هذا، وقد أسفر البحث في موقف الإمام مالك، حسب الباحث، عن مجموعة من النتائج أبرزها:
1ـ افتقاد مالك لمنظومة علمية متكاملة ومتناسقة يمكن بها تقويم أنظاره واختياراته في مسائل العقيدة بسبب اختيار تاريخي واع لمالك رفض فيه أن يكون «غرضا» يستعمله الناس بعده للقول بمشروعية الخوض في العقائد بالعقل النظري والإثخان في مسالك القوم واستعمال اصطلاحاتهم ورسومهم في تقرير العقيدة، أو يكون «وليجة» يلج بها الناس عوالم السياسة والاجتماع من باب العقائد.
2ـ انبناء موقف مالك على أربعة أصول كبرى حاكمةٍ عليه في هذا الاختيار، هي: أصل عمل أهل المدينة (أو أصلُ الاتباع القريب)، وأصل السكوت، وأصل العمل، وأصل سد الذريعة.
3ـ جواب مالك الشهير في مسألة الاستواء جواب مجمل اعتبره الباحث دستورا قابلا للتأويل، وهو ما وقع فعليا في المدرسة المالكية؛ حيث تعددت قراءات المالكية لمعاقد هذا الجواب وتباينت تفسيراتهم بحسب اختلاف منازع العلماء في القراءة والتفسير؛ فأصحاب المنزَع العقلي يؤولونه بما يناسب قواعد المنظومة الكلامية الأشعرية، وأتباع المنزع الأثري يستمسكون بمظاهر الرفض والتحفظ اللائحة في جواب مالك لينتصروا بها لمسلك الارتكان إلى السلف والإحجام عن «الكلام». وباقي المواقف تستشهد بجواب مالك من أجل الدعوة إلى الاقتصاد في الاعتقاد، أو وضع حدود للعقول في مجال العقيدة.
4ـ موقف مالك تميز بعدد من الخصائص هي: الإقلال، وكراهيةُ التأليد (أي ما يؤدي إلى التحيّر)، والبعدُ عن الجماهيرية، وكراهيةُ التحديث بأحاديث الصفات، ورفضُ محرشات التشكيك، وتفقيهُ مسائل الاعتقاد وجماع هذه الخصائص هو أصل التنزيه.
5ـ وجود جراثيمِ النظر العقلي في مذهب مالك، وهي سمات تربو بموقفه عن النزعة الأثرية، لكن ليست هذه السمات مصنوعة بمقتضيات الصناعة الكلامية، وإنما هي أنظار عقلية تتجاوز الوقوف على حرفية النصوص.
6ـ إنزال الإمام مالك المنزلة التي يستحقها؛ فلا يُعتبر متكلما، وإنما كلام الأشعري في أصول الدين أوسع من كلامه.
ثانيا: بخصوص الموقف الأثري: وهو موقف يمنع من الخوض في علم الكلام بالرجوع إلى آثار سلفية رافضة «للكلام». وقد عين الباحث الكثير من كبار علماء المالكية رأى أنهم نزعوا منزعا أثريا في رفض طريقة المتكلمين، الأشاعرة وغيرهم، في تقرير العقائد والاستدلال عليها؛ منهم ابن أبي زيد القيرواني (ت.386هـ)، وابن أبي زمنين (ت.399هـ)، وأبو عمر الطَّلمنكي (ت.429هـ)، وابن عبد البر النمري (ت.463هـ)، وابن المرابط (ت.484هـ)، وابن عتَّاب (520هـ).. وفي نظر الباحث، استمرَّ عِرقُ هذه النزعة الأثرية المناهضة لعلم الكلام ينبُض حتى بعد هيمنة علم الكلام الأشعري على المنظومة العقدية في الغرب الإسلامي.
في هذا الصدد، صدر الباحث هذا المبحث بتوضيح مستنداته في توصيف هذا الموقف بالأثري عوض السلفي (من حيث ارتدادُه إلى جملةِ آثار منقولة، ومن حيث دلالتُـه على معاني «الأثر» و«الأثَرة» و«الإيثار» و«الاستئثار» وهي معاني مؤثلةٌ وجدَ أن مذهب السلف أوسع منها بكثير)، ثم قدم قراءاتٍ نقديةً للتصنيفات العقائدية التي رامت إما أشعرنةَ جميع المالكية أو تجنيسَ عدد منهم بالجنسية السلفية بمعناها المعاصر. بعد ذلك اشتغل بنموذجين اثنين يستغرقان بوضوح أسس الموقف الأثري في العقديات لا في الفقهيات: وهما موقف ابن أبي زيد القيرواني وموقف ابن عبد البر. وبعد افتحاص هذا الموقف وجده الباحث يرتكز على دعويين اثنتين: دعوى بدعية القول الكلامي، ودعوى جدالية القول الكلامي. الدعوى الأولى تنطوي على مبدأين: مبدأ اكتمال الدين ومبدأ اتباع السلف، والثانية على مبدأ اعتياص الجدل ومبدأ منافاة العمل. وهذه الدعاوى والمبادئ محكومة بمبدأين اثنين: مبدأ الاكتفاء ومبدأ الانكفاء، والأخذ بهما يؤدي إلى الوقوع في آفتين: آفة الاقتطاع من آثار السلف وآفة الانقطاع إلى زمن السلف.
وفي كل هذه الدعاوى والمبادئ والآفات تفاصيلُ، رأى الباحث أن المقام لا يسمح باستدعائها.
ثالثا: بخصوص الموقف الفلسفي: وجده الباحث موقفا يقدح في مشروعية علم الكلام استنادا إلى مرجعية فلسفية منقولة، من حيث أسسها الفلسفية والمنهجية، عن اليونان في الاستشكال والاستدلال، ويمثله ابن رشد الحفيد (ت.595هـ ). وهذا الموقف، وإن خفت صوته بعد موت ابن رشد، إلا أنه انتقل إلى الغرب المسيحي فتمكن بعد سلسلة من المواجهات والمعارك الفكرية داخل الكنيسة وخارجها من أن يُرسِّخ في العقل الغربي قناعة فلسفية كبرى تقضي بضرورة الفصل بين العلم والدين. وهي قناعة يعمل الكثير من الفلاسفة والمفكرين والباحثين المعاصرين على بعثها وإحيائها في الفكر العربي الإسلامي.
وقد قدم بخصوصه أيضا قراءة نقدية للتصنيف الفلسفي والعقدي لاتجاه ابن رشد، ثم نقد موقفه من الداخل فوجده ينبني على دعويين اثنتين؛ دعوى عدم شرعانية القول الكلامي، وهي دعوى تتقوم بحجتين: حجة الانتصار لظاهر الشريعة، وحجة الإضرار بعقائد الجمهور. والدعوى الثانية سماها عدم برهانية المنهج الكلامي، وقد سلك فيها ابن رشد مسلكين اثنين: مسلك توهين الجدل الكلامي ومسلك تهويل التأويل الكلامي. وقد أوقفَه النقدُ الداخلي لموقف ابن رشد على وجود مبدأين يتلبس بهما: الأول أسماه «مبدأ التصحيح» (أي تصحيحَ العقائد) والثاني أطلق عليه «مبدأ التجليح» أو ما عبر عنه بعض علماء الأندلس بـ«الغطرسة بأرسطوطاليس»، وبالأخذ بهما وقع ابن رشد في آفتين: آفة الانفصال (عن الموارد الشرعية في مقاربة المشروعية) وآفة الاقتصار (على القياس البرهاني الأرسطي).
ثالثا: وإذا ما انتقلنا إلى الموقف الثالث وهو الموقف الصوفي المعاند وجد الباحث ابن عربي (ت.638هـ)، وهو يتحرك وسط الإسلام المالكي ومحكوم بتقليده العلمي ونموذجه الديني، يصادر على قيمة علم الكلام في استكناه العقائد الدينية من خلال المقابلة بين علم التجلي الصوفي وعلم النظر الكلامي، وهي مقابلة فاض فيها الانحياش إلى التصوف والانزعاجُ من الكلام، فانتهى إلى المنع من سلوك طريق المتكلمين الأشاعرة، منتصرا لإثبات الصفات مع نوع من التفويض في المعنى، على ما في تركيزه على المتشابهات من اختزال لعلم الكلام الأشعري في مسلك التأويل. وقد بيّن أن هذا الموقف في غاية الالتباس من حيث معايرتُه بالمعايير العلمية المعتبرة في ضبط المصطلحات وبناء الأدلة وتعليل الأحكام، بالنظر إلى خصوصية اللغة الصوفية في التعبير عن العقائد والحقائق.
رابعا: الموقف النقدي ـ الأشعري: وهو يأخذ بمشروعية علم الكلام بناء على الجمع والوصل بين المرجعية الدينية النقلية والمرجعية العقلية، لكن بنزعة نقدية مستفيضة للإنتاج الكلامي الموروث عن المذاهب الكلامية والفرق العقدية الأخرى خصوصا ما أنتجه المعتزلة، وهم المؤسسون الفعليون لعلم الكلام. وأصحاب هذا الموقف لهم اليد الطولى في إنفاذ الأشعرية وزرع بذورها في جميع العلوم الدينية الأخرى، وهو ما أسماه الباحث بـ«التجذير أو التجسير العلمي» لعلم الكلام الأشعري في الإنتاج المعرفي في الغرب الإسلامي. ويمثل هذا الموقف طائفةٌ كبيرة من العلماء المغاربة على تفاوت بينهم في الاقتصاد أو الإسراف في الممارسة الكلامية.
وقد صدَّر هذا المبحث بمسرد جملي للإسهامات المالكية في إنفاذ علم الكلام، ومهَّد بدفاع ابن خمير السبتي (ت.614هـ) والسكوني (ت.ق7هـ) عن مشروعيته الدينية، ثم اشتغل بنقد موقف الحسن اليوسي (ت.1102هـ) من علم الكلام أصالةً والعلوم العقلية تبعًا فانتهى إلى كون موقفه يجسد قمة النزعة النقدية الأشعرية في مقاربة مشروعية علم الكلام، مع أفق عال ونظر عميق في التعاطي مع الفلسفة وعلم المنطق والعلوم العقلية عموما.
خامسا: بخصوص الموقف التاريخي من علم الكلام: وهو موقف يُسلِّم بالمشروعية الدينية لعلم الكلام، لكنه يقيدها بـ«المشروعية التاريخية» التي يفرضها حقُّ الوقت من عدمه في واجب حراسة العقيدة والتصدي للمبتدعين؛ فكأن هذه المشروعية ليست مطلقة، وإنما هي مُرتهنة بالواقع الديني والسياسي والحضاري للأمة أو المجتمع، فتُقدَّر الممارسةُ الكلامية بقدر هذا الواقع. وليس من بين كل علماء المغرب من يمثل هذا الموقف أجْلى من ابن خلدون (ت.808هـ)، وهنالك من العلماء قبلَه وبعدَه من مال إلى قريب من موقفه كابن جُزي الغرناطي (ت.741هـ)، والمقري الحفيد (ت.1041هـ).
وقد تتبع الباحث في صدر هذا المبحث تقلب مواقف الرجل ما بين كتاب «لباب المحصل» وبين «المقدمة» مبينا أنه انتقل من الاستئسار للعلوم العقلية إلى الاستقرار على العلوم النقلية، وهذا الانتقال كان مؤَثرا في موقفه من علم الكلام. ثم شرع في دراسة تعريفه لعلم الكلام ورأيه في نشأته فانتقد نزعته التضييقية في التعريف وتنكبَه عن الكثير من الأسباب التاريخية المساهمة في انبثاق علم الكلام بسبب اختزالها في الموقف من المتشابه. والرجل رغم نزعته التاريخية الوضعية في مقاربة مشروعية علم الكلام الرابطة بين تقدم العمران وتطور العلوم لم يقدم، في نظر الطالب الباحث، ما يكفي من الأدلة التي حملته على إعلان عدم الحاجة إلى علم الكلام في عصره، على ما في موقفه من المفارقات، قال الباحث أنه أوضحها في محلها.
سادسا: انتهى الباب الثاني بمقاربة نقدية للموقف الصوفي المساند؛ وهو يقول بمشروعية علم الكلام مؤيِّدا لمسالك المتكلمين في تأصيل العقائد وتقعيد القواعد، تأييدا لا يزاحم طرق الصوفية الموصلة إلى الألوهية بالذوق العرفاني والمكاشفات الروحية؛ فجعلوا علم الكلام الأشعري أرضيةً علمية اشترطوها على المريد لتصحيح الاعتقادات وبناء الأدلة وإزالة الشُّبه. لكن هذه المساندة الصوفية لمشروعية علم الكلام تراعي عندهم مجموعة من الخلفيات السلفية والأحكام المذهبية المالكية والاعتبارات التداولية، وهي حيثيات وجَّهت إقرارهم بالمشروعية أوردها الباحث في محلها من البحث حسب قوله. وهذا الموقف يجسِّده غاية التجسيد متكلمُ الصوفية أحمد زروق (ت.899هـ)، وإن كان متناثرا بعضُه أو جلُّه عند العديد من صوفية الغرب الإسلامي قبله وبعده، من قبيل أبي مدين الغوث (ت.594هـ)، وابن عباد الرندي (ت.792هـ)، وأبي عبد الله الجزولي (ت.870هـ)، وأبي عبد الله الخروبي الطرابلسي (ت.963هـ)، و المعطي بن الصالح الشرقي (ت.1180هـ)، وغيرهم كثير ممن أدرج الباحث أعمالهم فيما أسماه بـ«التصوف الكلامي» أو «علم الكلام الصوفي».
إلى ذلك، فقد صدَّر الطالب الباحث هذا المبحث بإسهامات صوفية الغرب الإسلامي في هذا الباب. ثم فصل القول في موقف زروق؛ جليت فيه منزلة علم الكلام عنده ومبلغ إعماله لمسالكه ومفاهيمه واستدلالاته. وقد انتهى إلى أن الرجل كان له مساهمة مهمة في تثوير علم الكلام بنزعة صوفية مساندة له، مع الاحتراز لمواقف السلف من المتكلمين والاقتصاد في الاعتقاد المبني على أصل التنزيه والاستمساك بدستور مالك في الاستواء والانتصار لصحة التقليد في العقيدة. وهي أصول وأسس أدت به إلى تضييق القول في علم الكلام رغم المساهمات المتميزة التي اضطلع بها.
المحور الرابع: أفق البحث
إذا كان هذا المنجز العلمي، حسب الباحث، قد انصب أساسا على النقد العقدي الداخلي للمواقف المصنفة من علم الكلام، فإن من آفاق البحث الكبرى التي سعى إلى فتحها هو التمهيدَ لدراسةِ عمليات بناء الخطاب الديني العقدي دراسةً خارجية استثمر فيها آليات التحليل السوسيولوجي ـ التاريخي القائم على المنهج الارتباطي أو العلائقي بين المعرفة والتاريخ، ووظف فيها مفهوم البرادايم أو الإبدال العلمي لتفسير أسباب هيمنة علم الكلام الأشعري على مجمل الغرب الإسلامي ثم على كافة المغرب بعد سقوط الأندلس.
وقد قدم في ذلك تصورا كليا مركزا رأى أنه يعيد النظر في النظرة السائدة عن علم الكلام والتي تجعله علما «فوق التاريخ»؛ يعلو على شروطه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويتفلت من الحتميّات الحضارية فيُؤَثِّر ولا يتأثَّر، ويَفْعَل ولا ينفعل، ويقود ولا يُقاد، لأنه العلم الكلي الذي ينزل فوق جميع العلوم ويُهيمن على جميع المعارف. إنها نظرة كَرَّست، حسب الباحث، صورة عن علم الكلام جعلته أشبهَ باللاهوت منه بعلم نشأ في تُربة عربية إسلامية بموجِبات سياسية واجتماعية وحضارية ومعرفية من أجل تحقيق اليقين العقلي في التوحيد، والرشاد السياسي في الحكم، والعدل الاجتماعي بين أفراد الأمة، وأفرز التدافعُ بهذا العلم فرقا عقديةً ومذاهبَ كلاميةً وتياراتٍ سياسيةً استطاعت جملةٌ منها تأسيسَ دولٍ كان لها ما كان من أثر في التاريخ الإسلامي، هذا فضلا عن استثمار قابلية القرآن للتفسير والتأويل.
إن النشأة التاريخية لعلم الكلام معناها، عند صاحب الأطروحة، القابليةُ للتأريخ، وهذه القابلية تحيل على المناشئ التاريخية والمنابت الاجتماعية التي نشأ فيها علم الكلام، أو على الأقل ظهرت فيها الإرهاصات الكبرى لاتجاهات عقدية ـ سياسية في فهم العقائد وكيفية تنزيلها في الواقع السياسي والاجتماعي المعيش للأمة الإسلامية. ومن أخص خصائص هذه النشأة هو «البعد الجماعي» (نسبة إلى الجماعة)؛ فعلم الكلام، بخلاف الفلسفة، لا ينحصر في التفكير النظري الفردي الذي ينتجه الفيلسوف، بل يتوجه بالخطاب إلى مجموع الأمة، ويفكر في إطار الجماعة الدينية أو المذهبية التي يُراد لها الظهور والتمكّن؛ حيث تؤدي ممارسته إلى التأسيس لـ«ضمير جمعي» conscience collective يعبر عن روح فرقة أو مذهب أو جماعة أو طائفة، ولذلك وجدنا الكثير من أرباب المذاهب الكلامية قادة لحركات سياسية وثورات إصلاحية.
من هذا المنظور التاريخي يرى الباحث أن علم الكلام انبثق لتحقيق ـ على الأقلِّ ـ غايتين كبريَيْن:
- أولاهما؛ إقامة العقائد بأدلتها العقلية والعلمية. وهذه الغاية هي التي انتهى إليها علم الكلام عند أغلب المذاهب الكلامية حتى صار علما نظريا تجريديا. ومرد ذلك في تقديري، إلى تهمّمه بمضاهاة الفلسفة. وهذه الغاية يسميها بإرادة «تعقيل الاعتقاد».
- أما الغاية الثانية المنهود إليها فهي إقامة القيم الرئيسة التي تحتضنها هذه العقائد، وهذا لا يتأتى إلا بالسياسة والاجتماع؛ أي بدولة حاضنة لاتجاه عقدي يُرام تنزيلُ أركانه وتحقيقُ مناطاته في واقع الناس بتمظهراته السياسية والاجتماعية وتجلياته العلمية والثقافية، وهذه الغاية يسميها بإرادة «تنزيل الاعتقاد».
فعلم الكلام، بهذا المنظور، يكون دائما في بحث حثيث عن الدولة، ولذلك كان المتكلمون في الكثير من الفترات التاريخية محطَّ الريبة والحذر من قبل السُّلَط السياسية خصوصا إذا كانوا غير منكسرين لشوكة السلطان.
وقد أشار الباحث إلى أن المعتزلة، وهم المتكلمون الأوائل، كانوا دعاة دولة بالموازاة مع الدعوة إلى المذهب الكلامي. الأمر نفسه بخصوص الإباضية والصفرية والأزارقة المحسوبين على الخوارج، والواصلية المحسوبة على الاعتزال، أما الشيعة بمختلف فرقها الزيدية والإثنا عشرية والإسماعيلية وغيرها.. كل هذه المذاهب والفرق كانت تروم تأسيس الدول لتنزيل اتجاهاتها العقدية والكلامية. أما الأشعرية فالكلام فيها يحتاج إلى تفصيل لا يسمح به مقام التقرير.
في هذا الصدد، قدم الباحث لأهم التصورات الكلية التي انتهى إليها باستخدام المنظور السوسيولوجي التاريخي في دراسة مشروعية علم الكلام في الغرب الإسلامي:
أولا: بخصوص المذاهب قبل المالكية: يدعي الباحث أن المذاهب التي سادت في الغرب الإسلامي قبل دخول المذهب المالكي لم يستطع أي واحد منها إقامة إبدال علمي عقدي صلب؛ فسواء تعلق الأمر بالأوزاعية في الأندلس أو بالواصلية المعتزلة في القيروان وطنجة أو الصفرية أو الإباضية المحسوبين على الخوارج في جسلماسة ومكناسة (مع استثناء منطقة جبل نفوسة وتاهرت وبعض المناطق الأخرى في المغربين الأوسط والأدنى) أو الشيعة البَجَلية في سوس.. كل هذه المذاهب أو الفرق لم تتمكن من تشكيل نموذج إرشادي يمكن أن يتمالأ عليه أهل الغرب الإسلامي.
ثانيا: استطاع المذهب المالكي أن يشكل إبدالا علميا متماسكا بُعيد دخوله إلى الغرب الإسلامي كمذهب في العقائد ونظام في التشريع ومنظومة فقهية كاملة؛ وهو ما عبر عنه بعض علماء الغرب الإسلامي بـ«دين المالكية»، والباحث يسميه بـ«الإسلام المالكي» (بالمعنى التاريخي لا بالمعنى الديني). وقد تمكن هذا البرادايم المالكي من الظفر بالسلطة العلمية والدينية بعد التغلب على المذاهب الأخرى؛ ابتداء من الأندلس حيث تم ترسيم المذهب في مرحلة مبكرة جدا، في حياة الإمام مالك، وانكماش المذاهب السنية وغير السنية فيها. وقد تميز المذهب المالكي بالقدرة على مقاومة المذاهب الوافدة، أهم مظاهرها هو مواجهة المذهب العبيدي الإسماعيلي في القيروان (وهو ما يعرف بمحنة المالكية وخروج المذهب منتصرا وأكثر رسوخا في المجتمع حتى إن بعض المؤرخين لم يجد حرجا من إطلاق عبارة «الدولة المالكية» في تونس، وهذا الحكم يطلق أيضا على الدولة المرابطية).
ـ ثالثا: استطاع المذهب الأشعري بامتداد مشرقي وازن ساهم فيه علماء من المذاهب الفقهية الثلاثة الرئيسة إنشاء إبدال علمي مثل ثورة هادئة على الإبدال العلمي المالكي (ليست الثورة بمعنى الانقلاب الذي يؤدي إلى الاجتثاث كما يذهب إلى ذلك توماس كون (المستعار منه مفهوم الثورة العلمية). وإنما الثورة بمعنى القدرة على احتواء الإبدال القديم في شقه العقدي واهتضامه).
وقد بات المذهب الأشعري هو الإبدال العلمي أو النموذج الإرشادي في التأسيس لنظرية الحقيقة في الإسلام باعتبار علم الكلام في نسخته الأشعرية هو الحاكمَ على باقي العلوم الدينية والمهيمنَ على جميع المعارف والضامن لاستقرار الاعتقاد، وصاحبَ السلطة فيما سماه الباحث بـ«الاحتساب العلمي»؛ أي تقويمِ الممارسات العلمية في الدوائر العلمية الأخرى وفق نظام في المعرفة أو نظام الحقيقة الذي ينبغي أن يسود في المذهب المالكي.
ـ رابعا: حاولَتِ المنظومةُ الصوفية أن تقدم نفسها على أنها إبدال معرفي يتجاوز قصور الإبدال العلمي الأشعري، لكنها لم تنجح في الاستقلال لمجموعة من العوامل:
← أولها الطابع الفردي في الممارسة الصوفية، وقد حاولَتْ تجاوزه باصطناع الطرقية.
← ثانيها فقدان النسقية المذهبية؛ لأن الإنتاج الصوفي عبارة عن أذواق فردية ومكاشفات ذاتية غير قابلة للمَنْسَقة Systématisation أي أن تستحيل إلى نسق محكم.
← والعامل الثالث يتعلق باللغة الصوفية فهي أبعد ما تكون عن الوضوح العلمي المطلوب في الممارسة العلمية المعتمدة في الدوائر العلمية بخلاف لغة المتكلمين أو الفلاسفة.
والنتيجة: استطاع الإبدال العلمي الأشعري احتواء المنظومة الصوفية في الغرب الإسلامي.
ـ خامسا: الإبدال الفلسفي: قدم ابن رشد إبدالا علميا جديدا بالاعتماد على المرجعية الفلسفية المشائية واستقواءً بالأرضية النقدية التأسيسية لابن حزم في نقده لعلم الكلام وبانفتاح السلطة الحاكمة في زمن الموحدين على الفلسفة. وقد أراد له أن يكون مُزيحا للإبدال الأشعري المهيمن وبديلا له، لكنه بقي معلقا. ويمكن القول أنه فشل في الثورة على الإبدال العلمي الأشعري. فارتحل هذا الإبدال الفلسفي إلى الغرب المسيحي، وبعد مراحل من الرفض والصراع استطاع الإبدال الفلسفي الرشدي التمكين لرؤية علمية فلسفية جديدة تقدم الحقيقة العلمية بمعزل عن الحقيقة الدينية؛ فكأنهما خطان متوازيان لا يتداخلان ولا يتنافذان. وربما هذا الإبدال هو النموذج العلمي المهيمن اليوم في الغرب، وهو الذي يعمل عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والدارسين للتمكين له داخل المجال التداولي العربي الإسلامي.
إن المقاربة العلمية لمشروعية علم الكلام بأبعادها الشرعية والعقلية والتاريخية ـ يقول الباحث ـ والتي دافع عنها في هذا البحث، تنهض بواجب التمييز بين العقائد الدينية من جهة، وبين الأوضاع العلمية والاصطلاحية والمشارب التاريخية والحضارية من جهة أخرى. وذلك لتُصان للعقيدة بيضتُها وتُحفظ للعلوم جلالُتها.
والواقع أننا وجدنا أنفسنا، يقول الباحث، أمام مقاربات لهذه المشروعية لا تأخذ بمجامع هذه الأبعاد بل تفيء إلى موقف جامد ربما كان من أسباب ما آل إليه هذا العلم من جمود عند أصحابه، أو جحود عند أعدائه؛ فالفئة الأولى انتصرت له حتى طابقت أو كادت تطابق بينه وبين العقيدة، وهو توسيع للعقيدة أدى إلى تضييق على المعتقِد، والفئة الثانية جرّدته من كل مشروعية حتى نُظر إليه وإلى مزاوليه بعين الناظر إلى المبتدع بل بعين الناظر إلى المارق من الدين.
وهذا التنازع بين الشارعين والمانعين هو ما عَبَّر عنه الباحث بـ«أزمة المشروعية» في علم الكلام، وهي أزمة عمرت طويلا ولا تزال جاثمة على الفكر و الدرس العقديين إلى يوم الناس هذا.
***