تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(9)

وفي حاشية سيدي عبد الرحمان: سئل الشيخ ابن عباد عما يرى في إيمان المقلد، فأجاب: لم أزل أسمع أن التقليد في العقائد لا يُجدي ولا ينفع، ويُشكل ذلك علي من قبل أن أكثر الناس مقلدة، ولا سبيل إلى إبطال إيمانهم، ثم إن الذي يزول به تقليدهم قالوا إنه علم الكلام، وذلك لم يكن في الصدر الأول، بل جاءت نصوص كثيرة في ذمه وذم الآخذين فيه، وحكم كثير من أهل العلم بتحريمه، وكيف يزول التقليد بمثل هذا، وما انبنى على الفاسد فاسد، بل ذلك غير منحصر في علم الكلام، فقد يستفاد ذلك من آيات القرآن، وقد يستفاد من عجائب الصنعة الإلهية، وقد يستفاد من مطالعة سِيَر السلف، وقد يستفاد من مجالسة أهل اليقين وموالاة أهل الدين، ولملازمة الطاعة ومداومة العبادة تأثيرٌ في ذلك، ومن لم يكن فيه أهلية النظر [كجهلة] العوام وأهل البوادي والأعراب ربما ينفعهم التقليد إن كان ما قلد فيه موافقا للحق.
ثم قال: والذي عندي أن الناظر اليوم في علم الكلام وجاعله معتمده على خطرٍ؛ لفقد العلماء بذلك الفن، فإذا عَلِقت بقلبه شبهة من شبه أهل البدع لا يجد أحدا يزيلها عنه. ثم قال: واعلم أن علم الكلام طب، والطب إنما يحتاج إليه العليل، وذو الصحة لا حاجة به إليه، وتثبيتُ اليقين في القلوب فضل من الله عز وجل لا تتعين له جهة من الجهات، أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم، وما أحسن افتقار العبد [ولجأه] إلى مولاه في هذه الحال، حقق الله لنا ذلك بفضله. انتهى[1]. وما ذكره اقتبسه من بداية الهداية وغيرها من كتب الغزالي، وانظر كتاب التفرقة له". انتهى[2].
وقد ألف الغزالي كتابا سماه إلجام العوام عن الخوض في مسائل الكلام، وقد عزى له في شرح الصغرى القول بجواز التقليد وأن النظر من شروط الكمال فقط، وقد تأول في شرح الكبرى وشرح الوسطى قوله: لا تحرك عقائد العامة ويتركون على ما هم عليه، بما يقتضي كلامه في الإحياء في غير ما موضع خلافه، أنظر حواشي الإمام المنجور.
وقد أشار أبو العباس بن البنا رحمه الله في شرح مراسمه إلى أن الأدلة إنما تُذكر في طريق الصوفية لزيادة الاستبصار لا لإثبات المعتقد، وبهذا فارقت طريقتهم مذهب المتكلمين، وفيه تقويةٌ للقول بعدم وجوب النظر. وقد نظم كلامه في ذلك برمته في المراصد فقال:
وقال بعض سادة الطريقة ومعشر التحقيق والحقيقة
من كان مؤمنا بربه على ما رَبَّه عليه جل وعلا
معْ نفيه الإدراكَ للحقيقة وعلمه بالعجز أن يُطيقه
إلا بإيمان به مجزوم نزه عن إدراكنا المرسوم
وعهدِنا المدلول في العبارة إلا بما يقبل من إشارة
معتقدا له الكمال المطلقا ونفي نقصٍ مطلقا أن يلحقا
على الذي هو عليه مؤمنا بشأنه الأعلى لذاك مذعنا
من غير تفصيل دليل أو نظر إلا لأن يفيد قوةَ بَصَر
فإنه أعلى من البرهان قالوا ومِن مرتبة العيان
فقف على قوله: "من غير تفصيل" إلخ.
وقوله: "ومعشر" عطف على سادة، والمعشر: الجماعة أمرهم واحد. وقوله: "على ما ربه عليه"؛ أي من الكمال والجلال في نفسه لا على ما أدركنا من غير تعرض لتعلقات الصفات وكيفية التعلق. وقوله: أن يُطيقه؛ أي عن أن يطيق، فحذف حرف الجر مع أن، والباء في قوله: "بإيمان" بمعنى عن؛ على حد: ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام﴾[3]؛ أي عن الغمام. وقوله: "نزه" صفة لإيمان. وقوله: "وعهده" معطوف على إدراكنا، وهو تفريع لما تقدمه من معنى النفي؛ أي لا تثبت له إلا بإيمان مجزوم به، منزه عن إدراكنا عن مدلول العبارة المعهود لنا، فإذا قلت: هو ذات، نزهت ذاته عن ما تعهد، وإذا قلت: له القدرة، نزهت قدرته عن ما تعهد، ولا تتعلق من مدلول العبارة إلا بضرب من الإشارة، ككون العلم يدل على الكشف، والإرادة على التخصيص في الجملة، مع عدم معرفة كنه هذه الصفات للعجز عن ذلك، هذا معنى هذين البيتين.
وضمير "قالوا" عائد على بعض سادة الطريقة المتقدم؛ نزَّله منزلة الجماعة تعظيما ولعموم لفظ البعض، ولكونه يتكلم بما هو مذهب له ولغيره من أهل الطريقة. ووجه ما قاله من أن الإيمان على الوجه المذكور أعلى من مرتبة العيان إنما هو كشف للذات من بعض وجوه الكشف، أو تَرَقٍّ في العلم بالأسماء والصفات، ومرتبةُ التفويض والاعتراف بالعجز أوسعُ دائرة من سائر المراتب؛ لأنه لا يخلو مقام عنها، ولا تنفك مرتبة العيان عن الاعتراف بالعجز والقصور عن الإحاطة والرجوع إلى التفويض كما قاله سيد الأولين والآخرين: (أنت كما أثنيت على نفسك)[4]، (وبأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم)[5].
الهوامش:
[1]- أي كلام ابن عباد.
[2]- أي كلام الشيخ سيدي عبد الرحمان.
[3]- سورة الفرقان، الآية: 2.
[4]- جزء من حديث رواه مالك في الموطأ، كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء. وجزء من حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود. وجزء من حديث رواه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب في دعاء الوتر، رقم الحديث: 3566. وجزء من حديث في سنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر، رقم: 1179.
[5]- جزء من حديث في سنن ابن ماجة، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، رقم: 3859.