مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

تـجـليــات الـتـقـريـب في أصـــول الـفـقـــه الإمـام الـغـزالـي نـموذجـا

اتخذت مسألة التقريب في العلوم الإسلامية عدة أشكال ومناحٍ ذات غاية واحدة ووجهة وحيدة؛ ألا وهي الوصول إلى الحكم الشرعي في كل نازلة وحادثة، وذلك بتسهيل الفهم والتعريف بمختلف الطرق الموصلة إليه، يُعلم ذلك من كثرة التآليف والمصنفات، وتعدد المناهج المساعدة على تقريبه للأفهام، حتى تكون نبراسا ومعونة لمن رام الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية من مظانها.

وقد بذل علماء أصول الفقه جهودا محمودة لتحقيق هذا التقريب، ولا شك أن مؤلفاتهم الكثيرة والقيِّمة، التي اختلفت بين الشارحة، والمختصرة، والموجِـزة، والمبسوطة….، شاهدة على ذلك، وعلى قصدهم المتمثل في الإفهام والتفهيم، والبيان والتبيين، حتى تكون غُنية وبُغية لكل طالب ومجتهد، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله مبينا سبب تأليف نتيجة عمره ويتيمة دهره – “الموافقات” – : «ليكون أيّها الخل الصفيّ، والصديق الوفي-هذا الكتاب- عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق، لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق، ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق؛ إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم، وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم، لا جرم أنه قرَّب  المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة، وإلى أين تسير.»1

وذكر صاحب “روضة الناظر”(620هـ) – في نفس السياق – أن تأليف كتابه كان بقصد أن «يكشف ما يشكل من مطالبه، ويذلل ما يستعصي فهمه على طالبه »2. ويضيف قائلا: «وأخذت بكتابة تعليقات عليه تقرب ما نأى من المطالب، وتفتح باب تلك الروضة لكل طالب، وتهديه من ثمراتها بلا ثمن، وتحرير مسائله تحرير ممارس مؤتمن، مع ترك الواضح منه وصرف الهمة إلى ما أشكل … »3

وقد اختصر نجم الدين الطوفي(716هـ) “روضة الناظر” في كتيب سماه “البلبل في أصول الفقه” قال في مقدمته: «وأسألك التسديد في تأليف كتاب في الأصول، حجمه يقصر، وعلمه يطول، يتضمن ما في الروضة القدامية الصادرة عن الصناعة المقدسية، غير خال من فوائد زوائد، و شوارد فرائد في المتن والدليل، والخلاف والتعليل، مع تقريب الإفهام عن الأفهام، وإزالة اللبس عنه مع الإبهام ، حاويا لأكثر من علمه في دون شطر حجمه ، مقرا له غالبا على ما هو عليه من الترتيب…. »4

على هذا المنوال إذن ألف الأصوليون مؤلفاتهم والتي كانت ذات بعد تقريبي شرحا، أو كشفا لما أشكل، أو تذليلا لما استعصى فهمه، أو إزالة لبس وإبهام، فكان ذلك أكثر ما شغلهم بعد أن استشعروا ضرورة إلغاء كل ما يحول دون الإقبال على المصنفات بتعويض الإطناب بالإيجاز، والإطالة بالاختصار5، والإبهام بالشرح والتوضيح……

وفرة التآليف الأصولية، واختلاف مناهجها أسهم في تقريب علم أصول الفقه :

لقد كان من فضل الله عز وجل أن هيأ الأسباب لتدوين علم أصول الفقه حيث ألف الإمام الشافعي رحمه الله “الرسالة” التي كانت بحق نقطة تحول هامة، حيث أصبحت أساسا ومنطلقا للمؤلفات التي جاءت بعده، ومن ثم توجهت أنظار العلماء إليها، وتوالت جهود الأئمة على شرحها، « والاستضاءة بنورها، والاقتداء بهديها. »6

وبقيت “الرسالة” محط أنظار المهتمين، حتى جاء القرن الخامس خاصة مع الإمام الغزالي رحمه الله الذي اعتبر مجدد المائة الخامسة، وثاني محطة – بعد الشافعي- تجلى فيها التمكن والتجديد الأصولي، حتى عُدَّ مستصفاه واحدا من القواعد الأربعة التي يقوم عليها هذا الفن، يقول ا بن خلدون: «وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب “البرهان” لإمام الحرمين، و “المستصفى” للغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب “العمد” لعبد الجبار وشرحه “المعتمد” لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه. »7، ويقول في موضع آخر مبينا مختلف التآليف التي جعلت من هذه الأساطين الأربعة أرضية  لها «ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين ابن الخطيب في كتاب “المحصول”، وسيف الدين الآمدي في كتاب “الإحكام”، واختلاف طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج، فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة و الاحتجاج. و الآمدي مولع بتحقيق المذاهب، وتفريع المسائل.

وأما كتاب “المحصول” فاختصره تلميذه الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب “التحصيل” وتاج الدين الأرموي في كتاب “الحاصل”، واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه “التنقيحات”، وكذلك فعل البيضاوي في كتاب “المنهاج”، وعني المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس، وأما كتاب “الإحكام” للآمدي وهو أكثر تحقيقا في المسائل، فلخصه أبو عمر ابن الحاجب في كتابه المعروف بـ”المختصر الكبير”، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه، وحصلت زُبدة طريقه المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات »8 وقد تعددت مناهج العلماء تبعا لذلك كتعدد المؤلفات والمصنفات، خاصة بعد أن اتضحت مباحث علم أصول الفقه وتبلورت مسائله، ويمكن إجمال تلك المناهج فيما يلي:

أولا – مـنـهج الــمـتـكـلـميـــن:

وهي طريقة الشافعية والمعتزلة والمالكية والحنابلة، وسميت كذلك لاعتياد أصحابها تقديم مصنفاتهم بمقدمات كلامية كمسائل الحسن والقبح، «وكذلك لسلكهم مسلك الاستدلال العقلي القائم على تقرير القواعد من غير أن يولوا الفروع المندرجة تحت هذه القواعد كبير اهتمام »9

ومن الكتب التي ألفت على طريقة المتكلمين:

– “العمد” للقاضي عبد الجبار(ت415هـ).

– “المعتمد” لأبي الحسين البصري(ت436هـ).

– “البرهان” لإمام الحرمين الجويني(ت478هـ).

-” المستصفى” لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي(ت505هـ).

– “المحصول” للإمام فخر الدين الرازي(ت606هـ).

وقد اختصر هذا الأخير كل من: الإمام سراج الدين الأرموي (ت672 هـ) في كتابه “التحصيل”، والإمام تاج الدين الأرموي (ت656 هـ) في كتاب سماه “الحاصل”، كما لخص الإمام شهاب الدين القرافي (784هـ) منهما كتابا سماه “التنقيحات”، وكذلك اختصر “المحصول” القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 685 هـ) في كتاب سماه ” المنهاج” .

وقد توالت الشروح على منهاج البيضاوي، وشرحه خلق نذكر منهم:

– الإمام جمال الدين الأسنوي (ت772هـ) في كتاب سماه “نهاية السول في شرح منهاج الأصول”، والإمام تقي الدين السبكي (ت756هـ) بكتاب سماه “الإبهاج بشرح المنهاج”….

  – والإمام محمد بن الحسن البدخشي في كتاب سماه “منهاج العقول في شرح منهاج الأصول”.

أما كتاب الآمدي “الإحكام في أصول الأحكام” فقد اختصره هو في كتاب سماه “منتهى السول”.

وكذلك اختصره الإمام أبو عمر عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب (ت646هـ) في كتاب سماه “منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل”، ثم اختصر المنتهى في كتاب سماه “مختصر المنتهى”. 10

ثانيا – منهج الأحـنـاف :

ينطلق الحنفية في تقرير القواعد الأصولية «على مقتضى الفروع المنقولة عن أئمتهم: فالقاعدة مستنبطة من الفروع دائرة حولها، لا العكس، فالدارس لأصول الفقه بهذه الطريقة، يجمع الفروع التي أفتى بها الأئمة، ويقوم بتحليلها، وتقرير أنهم أفتوا بها بناءً على أصول يتوصل إليها فيقررها قواعد لتلك الفتاوي »11، ومن الكتب التي ألفت على طريقة الأحناف:

– “أصول الجصاص” للإمام الكرخي (ت340هـ).

– “تقويم الأدلة” لأبي زيد الدبوسي  (ت 430هـ).

–  “تأسيس النظر للدبوسي”، كتاب فخر الإسلام البزدوي (ت483هـ) .

– “أصول السرخسي” للإمام أبي بكر بن أحمد السرخسي (ت 490هـ).

– ومن المتأخرين: الإمام أبو البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي (ت710هـ)، صنف كتابه المسمى بـ”المنار” وعليه عدة شروح ….

ثالثا- الطريقـة الجامعـة بين منهج المتكلمين ومنهج الأحناف :

لم يبق التأليف الأصولي مقتصرا على الطريقتين المعروفتين، بل عمد الأصوليون إلى الاستفادة من كلا المنهجين والتقريب بينهما؛ في محاولة «لتحصيل فوائد الطريقتين معا وخدمة الفقه بتطبيق القواعد الأصولية على مسائله وربطه بها، وتحقيق هذه القواعد وإقامة الأدلة عليها »12، جاء في المقدمة : «وجاء ابن الساعاتي(ت694هـ) من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب “الإحكام” وكتاب البزدوي في الطريقتين، وسمي كتابه “البدائع” فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا وأولع كثير من علماء العجم لشرحه والحال على ذلك لهذا العهد »13

وألف «ابن الهمام (ت861هـ) كتابه “التحرير”، وشرحه تلميذه ابن أمير الحاج (ت879هـ) بشرح سماه “التقرير والتحبير” والكتاب وشرحه مطبوعان، وهو من الكتب التي كتبت بطريقة الجمع بين طريقتي الحنفية والمتكلمين، وله شرح آخر مطبوع لأمير بادشاه اسمه “تيسير التحرير”، وكذلك “التنقيح” لصدر الشريعة (ت747هـ) وشرحه “التوضيح”، وقد لخصه من كتاب البزدوي، “المحصول”، و”مختصر ابن الحاجب”، “جمع الجوامع” للإمام تاج الدين السبكي (ت771هـ) وقد شرحه الإمام جلال الدين المحلي(ت864هـ) ، وهو من أدق شروحه، وكذلك شرحه الإمام بدر الدين الزركشي (ت794هـ) بالكتاب المسمى “تشنيف المسامع بشرح جمع الجوامع”، وله شروح أخرى كثيرة ، “مسلم الثبوت”  للعلامة محب الدين بن عبد الشكور(ت1119هـ)، وعليه شرح مسمى “بفواتح الرحموت”….. »14

رابعـا – طـريقـة الإمـام الـشــاطـبـي:

 يقوم منهجه – رحمه الله – على «العناية بأسرار التشريع ومقاصده وتأكيد مراعاته للمصالح، وذلك في أسلوب تحليلي استقرائي مغاير لما عرف من قبل في دراسات علماء الأصول….ويعد كتاب الموافقات بإجماع الدارسين لفكر الشاطبي، متفردا في سياق الكتابة عن أصول الشريعة وحِكمها، فقد أضاف إلى علم أصول الفقه ومؤلفاته بيانا إبداعيا في مقاصد الشريعة ، وهو جانب كان حظه من العناية في المؤلفات الأصولية قليلا وضئيلا لا يتناسب مع عظيم أهميته في عملية استنباط الأحكام… »15.

تـجـلـيـات الـتـقريـب عـنـد الإمـام الــغــزالــي

1-مؤلفات الإمام الغزالي في علم أصول الفقه كانت في معظمها خادمة لمسألة التقريب :

  لقد برع الإمام الغزالي رحمه الله في علوم كثيرة، فقد كان فارس كل ميدان، لاسيما علم الفقه وأصوله ، مما جعله يحظى بمكانة مرموقة في صفوف علماء عصره، حتى أصبح مقصدا لكثير من طلبة العلم يرجعون إليه وينتفعون به، ولعل مؤلفاته القيمة شاهدة على ذلك، نذكر منها:

“المــنخـول”: وهو من الكتب التي أشار إليها الإمام الغزالي رحمه الله في مقدمة “المستصفى”، وهو – كما ذكر- يميل إلى الإيجاز و الاختصار، ولعله وُضع للمبتدئين قاصدا التيسير والتسهيل، قال في آخر كتابه: «هذا تمام المنخول من تعليق الأصول، بعد حذف الفضول، وتحقيق كل مسألة بماهية العقول، مع الإقلاع عن التطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه، من تبديل وتزييد في المعنى وتعليل، سوى تكلف في تهذيب كل كتاب بتقسيم فصول، وتبويب أبواب، رَوْمًا لتسهيل المطالعة عند مسيس الحاجة إلى المراجعة. »16

“شـفـاء الـغـلـيـل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل”: وهو كتاب خصص للقياس والعلة والدلالة وما يتعلق بها وقد كتبه كما قال: « في نهاية الإيجاز »17 وخطابه فيه موجه إلى القائلين بالقياس دون غيرهم .

“أسـاس القـياس”: وهو خاص بمبحث القياس وما يتعلق به، ولعل القصد الأصلي من تأليف هذا الكتاب هو البحث عن القياس في الشرعيات ….

“تهـذيـب الأصـول”: وقد ذكر الإمام الغزالي أن كتابه هذا يتميز بالاستقصاء والاستكثار18، في مباحثه ومسائله.19

أما “الــمـسـتـصـفـى” : فقد ألفه بطريقة مبتكرة وبمنهج غير مسبوق فخرج بتأليفه هذا عن المألوف، وزاد عن المعروف، فكان له دور بارز في تطور علم أصول الفقه ذلك أنه « يمثل نقطة الاستقرار لكل من المضمون والترتيب في مجال أصول الفقه »20، يُعلم ذلك من خلال عمله على « تخليص المباحث الأصولية مما شابها من الأفكار الاعتزالية المذهبية، وأقامها على الأسس المقبولة لدى شيوخ أهل السنة… » 21

ويعد “المستصفى” «ركنا مهما من أركان التأليف الأصولي على طريقة المتكلمين، وقد ألفه بعد خروجه من خلوته وعزلته، والكتاب واحد من الكتب الأربعة المعتمدة على طريقة المتكلمين، أو الشافعيين »22

ولعل الذي ساهم في إخراج الكتاب بهذه الصورة من حسن التأليف، ودقة في الترتيب، هو كونه من الكتب التي ألفها في آخر حياته العلمية بعد طول تجربة واطلاع وتمرس، قال رحمه الله: «ثم ساقني قدر الله تعالى إلى معاودة التدريس والإفادة، فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في أصول الفقه ، أصرف العناية فيه إلى التلفيق بين الترتيب والتحقيق، وإلى التوسط بين الإخلال والإملال، وعلى وجه يقع في الفهم دون كتاب “تهذيب الأصول”، لميله إلى الاستقصاء والاستكثار، وفوق “المنخول” لميله إلى الإيجاز والاختصار، فأجبتهم إلى ذلك مستعينا بالله، وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني، فلا مندوحة لأحدهما عن الثاني، فصنفته وأتيت فيه بترتيب عجيب يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه، فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه، فلا مطمع له في الظفر بأسراره و مبانيه، وقد سميته “المستصفى من علم الأصول”…. »23

إن الطريقة التي صاغ بها الإمام الغزالي كتابه جعلته يحتل مكانة مرموقة بين الأصوليين، فلم يكن ناقلا أو جامعا، قانعا بما قاله السابقون بل كان ذا فكر ونظر، فحقق ودقق، وقدم ثمرة جهده واجتهاده ليظهر «الطريق لمن يريد ممارسة عملية الاجتهاد في أي نص كيفما كان »24 فساهم ذلك في انكباب الكثيرين عليه بالشرح والاختصار والتعليق في محاولة تقريبية لفكره ومنهجه في التأليف الأصولي.

2- تقريـب منهـج الإمام الـغـزالي في أصول الفقه

لما كان الحكم الشرعي هو الغاية والنهاية لكل نظر واجتهاد، وكانت الحاجة ماسة لإنشاء أحكام للمستجدات والحادثات، اختلفت تبعا لذلك مناهج الأصوليين وطرقهم، علَّها تكون مرشدا ومعينا لهم في حل إشكال تناهي النصوص وعدم تناهي النوازل، فتظافرت تبعا لذلك جهود العلماء المحققين، والأصوليين المجتهدين لوضع مناهج تضبط العمل الأصولي.

والإمام الغزالي باعتباره مجدد المائة الخامسة، ومجدد علم أصول الفقه، لم يأل جهدا في تقديم علم أصول الفقه لمريديه والمهتمين به وفق منهج واضح المعالم، قرَّب من خلاله طرق ومناهج الاستنباط .

أ – المنهج العـام في ترتيب أقـطاب عـلم أصـول الفقـه عـند الإمام الغـزالي:

لقد ألف الإمام الغزالي رحمه الله مستصفاه بترتيب لم يسبق إليه حتى كان له بالغ الأثر فيمن بعده، يقول الإمام الغزالي رحمه الله : « اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية، لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثم صفات المقتبس أن يقتبس الأحكام. فإن الأحكام ثمرات، وكل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر، ومستثمر، وطريق في الاستثمار » .25

فبهذا تتضح لنا معالم منهجه العام في ترتيب أقطاب علم الأصول، إذ هي على التوالي : الأحكام، ثم الأدلة وأقسامها، ثم كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثم معرفة صفات المقتبس، وقد ذكر أن الأحكام هي الثمرة، وأن لهذه الأحكام الثمرات، مثمرا ومستثمرا، وطريقا في الاستثمار، وهو ما بينه الإمام الغزالي رحمه الله بقوله: « إذاً جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب:

القطب الأول: في الأحكام و البداءة بها أولى

 لأنها الثمرة المطلوبة .

القطب الثاني: في الأدلة، مثمرات الأحكام، وهي الكتاب والسنة والإجماع، و بها التثنية، إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر،

القطب الثالث : في طرق و كيفيات استثمار الأحكام ….

القطب الرابع : في المستثمر…. »26

وهذه « الأقطاب هي المشتملة على لباب المقصود »27 وفيها تبذل الجهود .

ب – المنهج الخاص في استثمار الأحكام الشرعية عند الإمام الغزالي:

لما كانت معرفة الأحكام الشرعية مرتبطة بمعرفة المراد من الخطاب الشرعي، وكانت نصوص الخطاب منها ما هو واضح لا يحتاج لكثير نظر لتحديد دلالة ألفاظه على معانيها، ومنها ما فيه نوع غموض يتطلب بذل جهد للتوصل إلى معرفة الحكم المراد، وكان اللفظ إما « أن يدل على الحكم بصيغته و منظومه أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه و معقوله، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا »28، وجدنا العلماء المجتهدين يبدؤون بالوقوف على «معنى النص المبحوث فيه وذلك من أجل معرفة ما إذا كان هذا النص في استطاعته أن يتناول في حكمه تلك القضية الحديثة المعروضة، وهذا القسم هو النوع الأول من الاجتهاد الذي نطلق عليه اسم الاجتهاد البياني وما فيه من قواعد »29، وهو « يستهدف في الحقيقة بيان النصوص وإن شئت فقل تحديد نطاقها وذلك ليعرف ما قد أراد الشارع إدخاله من الوقائع في نطاق تلك النصوص…وذلك بمجرد  البيان لإرادة الشارع والكشف عن معاني نصوصه »30، إلا أن الأصوليين لا يجدون بدا من الالتجاء إلى طرق أخرى تمكنهم من استيعاب الوقائع التي لم ينص الخطاب على حكمها، فنظروا فيما يمكن

اخد من معان تساعد على «سد حاجات الأمة في ميدان التشريع، وبخاصة في عصر غدت الوقائع فيه متتالية متزاحمة، لا يمكن أن تستوعب تشريعيا انطلاقا مما يدل عليه الخطاب بألفاظه….».31

لأجل ذلك كله نجد الإمام الغزالي يسلك طريقة معينة في استثمار الأحكام الشرعية، إن على مستوى الألفاظ ، أو على مستوى المعاني، يعلم ذلك من تأكيده في بداية كتابه أن وجوه دلالة الأدلة أربعة: «إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها و منظومها، أو بفحواها ومفهومها، أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها »32.

  ومن ثم فإن منهج الاجتهاد عنده يأخذ أربعة مستويات:

– استثمار الأحكام انطلاقا من الصيغة والمنظوم.

  – استثمار الأحكام انطلاقا من الفحوى والمفهوم.

 – استثمار الأحكام انطلاقا من اللفظ بطريق القياس.

– استثمار الأحكام انطلاقا من معقول اللفظ بطريق الاستصلاح.

أولا- من جهة الصيغة والمنظوم:

من تجليات المنهج التقريبي عند الإمام الغزالي- رحمه الله – في هذا المستوى أن جعل تعامله مع النصوص الشرعية انطلاقا من مجموعة من المتقابلات بدءا بتحديد معاني المصطلحات ثم تحديد المراد من اللفظ اعتمادا على مجموعة من القرائن المساعدة على ذلك. و”المنظوم” هو أول ما يبدأ به المجتهد عند نظره في النصوص لاستنباط الأحكام، وللإمام الغزالي منهج خاص في ذلك، إذ وزع نظره إلى نظر عام يتعلق بكل الألفاظ، ونظر خاص يتعلق ببعض الألفاظ قال- رحمه الله- بعد حديثه عن ثنائية (المجمل والمبين)،  وثنائية (الظاهر والمؤول): «وهو نظر يتعلق بالألفاظ كلها، والقسمان الباقيان نظر أخص، فإنه نظر في الأمر والنهي خاصة، وفي العموم والخصوص خاصة، فلذلك قدمنا النظر في الأعم على النظر في الأخص….. »33.

ثانيا – من جهة الفحوى والمفهوم:

بعد النظر في الألفاظ واستثمار ما يمكن استثماره من أحكام من مجرد الصيغة والنظم، ينتقل المجتهد إلى خطوة أخرى تتمثل في الوقوف على المفهوم من الألفاظ، ذلك أن «الألفاظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه أو بمعقول معناه….»34

 ولاستثمار الأحكام من هذه الجهة حدد الإمام الغزالي خمسة أضرب هي:

  – دلالة الاقتضاء.

 – ما يؤخذ من إشارة النص.

– دلالة الإيماء (فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب).

– فهم غير المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده(مفهوم الموافقة).

– مفهوم المخالفة.

ثالثــا- من جهة القــيـاس:

يعتبر القياس خطوة أخرى يقصدها المستثمر بعد أن تعوزه الطرق السابقة في إيجاد حلول لكل ما يطرأ من مستجدات، كما أن الحاجة إليه «لا تنقطع وأن فوائده لا تنتهي ما دامت الحوادث تثرى والزمان يتجدد »35

و يتمثل منهج الإمام الغزالي في هذا النوع، في اهتمامه بالمناط تخريجا وتنقيحا وتحقيقا، إذ يعتبر هذه الثلاثة، مراحل ينهجها المستثمر للوصول إلى أحكام النوازل المستجدة بهذه الطريق.

رابعا- من جهة الاستصلاح:

الاستصلاح أو استنباط الأحكام بطريق الاستصلاح، منهج فريد لابد من اللجوء إليه خاصة مع استمرار وجود الإشكال الذي طُرح، ويطرح، وسيطرح مادامت المستجدات متتابعة، والحوادث متلاحقة.

واستنباط الأحكام بطريق الاستصلاح عند الغزالي يمكن النظر إليه من جهتين:

– جهة لها ارتباط بالنص.

– جهة لها ارتباط بالواقع.

أ – الجهة الأولى: فيعمل فيها المجتهد على إرجاع المصلحة إلى الكتاب والسنة والإجماع36، فالاستصلاح في

 نظره «طريقة من طرق الاستدلال

 بالنصوص الشرعية، وليست دليلا زائدا عليها ولا خارجا عنها، أو بعبارة أخرى هي طريقة مقابلة لها »37

و المجتهد عند إعماله لهذا الأصل، ينظر في المصلحة هل هي من نوع المصالح

 المعتبرة التي شهد لها نص معين بالاعتبار، أو أنها ملغاة شهد الشرع

 لبطلانها، أم أنها مصلحة مرسلة، ثم ينظر في مدى توفر تلك المصلحة على مجموعة من الضوابط 38، وهذا كله له ارتباط بالنص.

ب – أما الجهة الثانية: فتمثل خطوة أخرى في عمل المجتهد، ذلك أن الاجتهاد ليس فقط اجتهادا في النصوص بل هو اجتهاد في الواقع، وذلك بتطبيق الأحكام حسب أحوال الناس ومراعاة الزمان والمكان.

تلك هي المستويات الأربعة التي يجب أن يسلكها الناظر في النصوص الشرعية حتى يتمكن من معرفة أحكام الوقائع والنوازل كما حددها الإمام الغزالي رحمه الله ، بدءا بما يمكن أخذه من الصيغة والمنظوم، مرورا بما يمكن أخذه من الفحوى والمفهوم، وصولا إلى آخر طريق وهو المعقول بشقيه: القياس، والاستصلاح.

    وخلاصة القول إن البعد التقريبي عند حجة الإسلام أبي حامد الغزالي يأخذ عدة أوجه منها:

 – تآليفه الأصولية التي شاعت وذاعت خاصة “المستصفى” الذي أظهر من خلاله أنه لم يكن في أصول الفقه «ممن يقف على ساحله، أو يكتفي بظاهره، بل خاض غماره واقتحم لجته، فسبر أغواره ووقف على حقيقته، وكان واحدا من أربعة عليهم يقوم الأصول»39

 – والآخر في منهجه المتميز الذي أفاد منه من أتى بعده، و بنى عليه، وأطال في شرحه وبيانه، نظرا للحاجة إليه خاصة في استنباط الأحكام الشرعية للمستجدات الحياتية التي لا تتوقف.

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد الأول)

الهوامش:


1- الموافقات في أصول الشريعة للإمام أبي إسحاق الشاطبي(790هـ) شرحه وخرج أحاديثه عبد الله دراز، دار الكتب[1]1. العلمية، بيروت1/17.

2- روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لموفق الدين بن قدامة المقدسي (620) مكتبة الكليات الأزهرية ص 10.

3- روضة الناظر10

4- البلبل في أصول الفقه، مكتبة الإمام الشافعي الرياض، ط2/1410هـ ، ص 5.

5- قال ابن رشد موضحا غرضه من اختصاره للمستصفى: ” إن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت لنفسي على جهة التذكرة، من كتاب أبي حامد رحمه الله في أصول الفقه الملقب بالمستصفى جملة كافية بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة، ونتحرى في ذلك أوجز القول و أخصره …” الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى لابن رشد الحفيد(595هـ). تحقيق وتقديم جمال الدين العلوي، ط1/1994. دار الغرب الإسلامي – لبنان. ص54

6- المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد الغزالي حققه وخرج نصه وعلق عليه محمد حسن هيتو، ط1/ 1419هـ – 1998م ، دار الفكر دمشق ودار الفكر المعاصر بيروت مقدمة الكتاب، ص:8

7- المقدمة ص :455

8- المقدمة 455 و456

9 – إسلامية المعرفة سنة 7 عدد 27/2001 “قراءة في كتب الإمام الغزالي الأصولية” لزينب طه العلواني ص122

10- انظر المنخول من تعليقات الأصول ص: 10وما بعدها

11- أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة د. جابر العلواني، الطبعة الثانية 1415- 1995 المعهد العالمي للفكر[1] الإسلامي.ص :66

12- إسلامية المعرفة “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”.ص:120

13- المقدمة:456

14- المنخول 15

15- إسلامية المعرفة –” نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه ” لمحمد دسوقي ص:120

16- المنخول ص:618

17 – شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل لأبي حامد الغزالي(505هـ) وضع حواشيه زكرياء عميرات [1] ط1/1420-1999م ، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. : ص: 10.

18- المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي (505هـ)، تحقيق وتعليق. محمد سليمان الأشقر، ط1/1417-1997مؤسسة الرسالة. 1/.34

19- انظر مجلة إسلامية المعرفة “قراءة في كتب الإمام الغزالي الأصولية” لزينب طه العلواني سنة7 ، عدد27/2001 ص:121.

20- التنظير الفقهي جمال الدين عطية،ط1/هـ1407-1987، ص45.

21 – أبو حامد الغزالي دراسات في فكره وعصره وتأثيره –” المنهج وبعض التطبيقات ” محسن محمود عبد اللطيف الشافعي منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات(9)1988- ص120.

22 – إسلامية المعرفة – ” قراءة في كتب الإمام الغزالي الأصولية ” لزينب طه العلواني ص:127

23– المستصفى 1/34

24 – الخطاب الشرعي وطرق استثماره للدكتور إدريس حمادي ط1/1994، ص:209.المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع الدار البيضاء.

25- المستصفى 1/38-39

26- المستصفى 1/33

27 – المستصفى1/33

28- المستصفى: 2/7

29- المدخل إلى علم أصول الفقه:محمد معروف الدواليبي، ص325

30- المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 434

31 – الخطاب الشرعي وطرق استثماره: ص350.

32 – المستصفى 1/39

33- المستصفى:2/60

34- المستصفى:2/7

35- نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول لعيسى منون،ط1/1345هـ، المطبعة الأميرية، ص8.

36- المستصفى:1/430.

37- نظرية المصلحة :425.

38- ضوابط المصلحة عند الإمام الغزالي رحمه الله أن تكون قطعية، ضرورية، كلية.

39- المنخول

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق