مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تعليقة على نص أبي محمد ابن حزم في طرد الهـم «نص في علم النفس الاجتماعي»(3)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فقد مضى في المقال السالف في قضية سعي الإنسان الدائب في طرد الهـم وإبعاده أن أساس ذلك خوف هذا الكائن البشري وهلعه، ومضى لنا أن علاج ذلك إجمالا إنما يكون بالعوذ بخالقه وشدة اللجإ إليه، والإيقان بالكلية القاطعة القائلة (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو موليـنا وعلى الله فليتوكل المومنون)[التوبة:51]

وأما تفصيلا فثمة قواعد شتى متناثرة في ثنايا القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، منها أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به، فعلى من يروم السكينة الدائمة، ويبتغى الطمأنينة الدائبة، في سبوغ عطاء، وسابل غطاء، ألا يتخذ غيره وليا، ولا سواه نصيرا؛ إذ جماع النفع فيه، وجملة الضر منه، وهو ما دل عليه كتاب الله من خلال هذه الآيات الكريمات الأربع:

الأولى قوله سبحانه: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير﴾ [الأنعام:17] ([1])

والثانية قوله عز وجل: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم﴾[يونس:107]

والثالثة قوله عز من قائل: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾ [فاطر: 2]

والرابعة قوله تبارك وتعالى: ﴿قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون﴾ [الزمر:38]

وتقرير ما دلت عليه الآيات «أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع.

فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو  في الخير؛ لأن زوال الضر خير

وإذا ثبت هذا الحصر فقد بين الله تعالى في آياته أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله.

والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته:

أما الواجب لذاته فواحد، فيكون كل ما سواه ممكنا لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه.

فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به»([2])

وتذييل الآيات الأربع بما يدل على القدرة والعزة، والحكمة والرحمة، والمغفرة والكفاية، يستلزم أحروية التوكل عليه، وتمحيض العوذ به، و صدق المفزع من الكل إليه، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا هـم إلا هـم رضاه وقبوله سبحانه، وما سوى ذلك فكالعدم، وبهذا تطمئن النفوس، وتسكن القلوب، وترتاح الضمائر؛ إذ الكل بيد الله العليم القدير، الرحيم القهار، وهذا ما سماه أهل التصوف بالفناء فيه عن غيره، وليس مرادهم به فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم، فحقيقته: غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه؛ لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبه، وبمشهوده عن شهوده.([3])

وهذا عند أهل الله من كمال التوفيق؛ لأنه إذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته، وفي الباطن بمحبته، والفناء عما سواه، فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة ، حتى يستولي على البصر فيغيب نور البصر في نور البصيرة فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة.

وضده من الخذلان؛ لأنه إذا أراد الله خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان وفي الباطن بمحبتها، فلا يزال كذلك حتى ينطمس نور بصيرته فيستولي نور بصره على نور بصيرته ، فلا يرى إلا الحس ولا يخدم إلا الحس ، فيسعى في هـم وغم في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم، ويقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم، وليس مرادهم بهذا التقرير التكاسل عن السعي الواجب على العبد المأجور فيه، وإنما المراد هناء القلب، وطمأنينة النفس، وأمان الروح؛ إذ الجوارح تعمل، والقلوب تتوكل غير خائفة من قلة، ولا تحمل همَّ الحرمان؛  فجماع ذلك بيد الخالق المنان، وعلى هذا يتنزل قول  ابن عطاء الله رحمه الله: أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك»؛ فمروم القوم في هذا الإرشاد إزاحة الهـم، وتقليل الهلع، وإراحة الضمير؛ حتى لا يكون حال الكائن البشري كهذا المنادي بشعره:

هامت على نفسي الهموم كأنها** وكأنهن فريسة وصقور

يا ليل أين النور إني تائه**هل تنجلي، أم ليس بعد نور

ولذلك عقب قائلا: «اجتهادك فيما ضمِن لك، وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك»([4]) ، وهذا استمداد من مقولة الإمام الحسن البصري الشهيرة: «علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فطمأن قلبي، وأن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به»، وهو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: ‌إن ‌نفسا ‌لن ‌تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، قال المناوي رحمه الله: (‌إن ‌نفسا ‌لن ‌تموت حتى تستكمل أجلها) الذي كتبه لها الملك وهي في بطن أمها، فلا وجه للوله والتعب والحرص والنصب إلا عن شك في الوعد  (وتستوعب رزقها) كذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه القديم الأزلي.. (فاتقوا الله) أي: ثقوا بضمانه، لكنه أمرنا تعبدا بطلبه من حله؛ فلهذا قال: (وأجملوا في الطلب) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بغير كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات»([5]).

سئل حكيم عن الرزق فقال: «إن قسم فلا تعجل، وإن لم يقسم فلا تتعب»([6]).

([1]) ن في تفسيرها مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 12/494، ويؤيده من السنة حديث المغيرة: «اللهم لا مانع لما أعطيت.. » وحديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك..».

([2]) ن مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 12/494، ويؤيده من السنة حديث المغيرة: «اللهم لا مانع لما أعطيت.. » وحديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك..».

([3]) ن مدارج السالكين لابن القيم:1/155.

([4]) ن الحكم العطائية: 46. دار السلام.

([5]) ن فيض القدير للمناوي:2/450.

([6]) نفسه:2/450.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق