مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

بَلاغَة الأمرِ في العربيّة: فعلُ الأمر ومَعانيه

 

  أولاً: يأتي الأمرُ على صيغ كَثيرةٍ أشهرُها الصّيغةُ المَعْلومةُ: افْعلْ وأفْعِلْ واستفعِلْ وتَفاعَلْ وانفَعِلْ وتَفَعَّلْ وتَفَعْلَلْ وافْعالَّ…

ثانياً: قد يأتي الأمرُ على صيغة المصدرِ النّائب عن الأمر «فضرْبَ الرقاب»، صَبْراً آل ياسر… وغيرها ممّا يُفيدُ مَعْنى الأمرِ بصيغٍ أخرى

ثالثاً: يأتي على صيغة المضارع المُقترن بلام الأمر: فَلْيَكْتُبْ «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ»

رابعاً: يأتي على صورةِ اسم فعل الأمر، نحو: صَهْ ومَهْ وإيهِ ودَراكِ ونَزالِ ودَوالَيْكَ ورُويدَكَ، ومَكانَك، نحو قَول شاعر من بني أسَد يَومَ اليَمامَة (من شواهد ديوان الحَماسَة):

أقولُ لنَفْسي حينَ خَوَّدَ رأْلُها *** مَكانَكِ لَمّا تُشفِقي حينَ مُشْفَقِ

مَكَانَكِ حَتى تَنْظُرِي عَمَّ تَنْجَلِي *** عَمَايَةُ هَذَا الْعَارِضِ المُتألِّق

فقولُه: “مَكانَكِ” ظرف مَكانٍ مَوضوعٌ مَوْضِعَ فعلِ الأمر…

خامساً : قَد يَدخلُ على فعلِ الأمرِ حرفٌ يختص بالدخول على الأسماء، مثل حرف النداء “يا” وذلك نحو قول الشّمّاخِ: أَلا يا اسْقِياني قَبْلَ غارةِ سِنْجارِ

والأخطَل: أَلا يا اسْقِياني وانْفِيا عَنكُما القَذى *** فَلَيسَ القَذى بِالعودِ يَسقُطُ في الخَمرِ

وبشّار بن بُرد:

خامساً: من بلاغة الأمرِ ما ذكَرَه البلاغيونَ في بابِ العُدولِ عَن صيغةٍ من الألفاظِ إلى صيغةٍ أخرى، من أنَّ فعلَ الأمرِ قَد يُرجَعُ إليه عن الفعل المستقبل وعن الفعل الماضي؛ فليسَ الانتقالُ فيه من صيغة إلى صيغة طلباً للتوسع في أساليب الكلام فقط بل لأمر وراءَ ذلكَ وهو القصدُ إليه تَعظيماً لحال من أجري عليه الفعل المستقبلُ وتفخيماً لأمرهِ. فمِمّا جاءَ منه قولُه تعالى: (يا هودُ ما جئتَنا بِبَيِّنَةٍ وما نحنُ بتاركِي آلهتِنا عنْ قَولِكَ وما نحنُ لكَ بمؤمِنينَ إنْ نَّقولُ إلا اعتراكَ بعضُ آلهتنا بسوءٍ قالَ إني أُشهِدُ الله واشْهَدوا أنّي بَريءٌ مما تُشْركونَ) فإنه إنما قالَ (أُشهِدُ الله واشْهَدوا) ولم يقلْ وأُشْهِدُكُم؛ ليكونَ مُوازِناً له وبمعناه، لأنّ إشهادَه اللهَ على البَراءَةِ من الشِّركِ صحيحٌ ثابتٌ وأمّا إشهادُهم فما هو إلاّ تهاوُنٌ بهم ودلالَةٌ عَلى قِلّةِ المبالاةِ بأمْرِهم؛ ولذلكَ عَدَلَ به عن لَفْظِ الأولِ لاختلافِ ما بَينهُما وجيءَ به على لَفظِ الأمرِ؛ كَما يقولُ القائلُ لمن يَبِسَ الثَّرى بَينَه وبينَه اشْهَدْ عَلَيَّ أني أُحِبُّكَ، تهكماً به واستهانةً بحالِه.

 وكذلك يُرجعُ عن الفعل الماضي إلى فعلِ الأمرِ إلاّ أنه ليس كالأولِ بل إنما يَفعلُ ذلكَ توكيداً لما أجْرِيَ عليه فعلُ الأمرِ لمكانِ العنايةِ بتَحقيقهِ، كَقوله تعالى (قلْ أمَرَ رَبي بالقِسطِ وأقيموا وُجوهَكُم عندَ كلِّ مَسجدٍ وادْعوهُ مخِلصينَ له الدّينَ)، وكأنَّ تقديرَ الكلام: أمَرَ رَبّي بالقسطِ وبإقامةِ وُجوهِكُم عندَ كلِّ مَسجدٍ، فَعَدَلَ عَن ذلكَ إلى فِعْلِ الأمرِ للعِنايةِ بتَوكيدِه في نُفوسهِم؛ فإنّ الصَّلاةَ من أوْكَدِ فَرائضِ الله على عِبادهِ، ثمَّ أَتْبَعَها بالإخلاصِ الذي هو عملُ القلبِ إذْ عَمَلُ الجوارحِ لا يَصحُّ إلا بإخلاصِ النيةِ (1).

سادساً: يدلُّ فعلُ الأمرُ بصيغته الموضوعَة: على طلَب الفعلِ على جهةِ الاستعلاء، هذا هو الأصلُ المعلومُ. أمّا المَعاني التي يَخرجُ إليها فهي فُروعٌ لا تخرجُ عن القاعدَة الطّلبيّة: من هذه المَعاني الفرعيّة التي تتلبَّسُ بالأمرِ: الإرشادُ والاعتبارُ والتّخييرُ والإباحةُ والتأديبُ والتّهديدُ والتّمنّي والتّحقير…
فالقاعدةُ في الأمرِ هي قاعدةُ الطّلب على وَجه الاستعلاء، ويتأثرُ هذا الأصلُ الطّلبيّ بحسبِ ما يُحدثُه السّياقُ من جَذبٍ نحوَ مَعانٍ أخرى قَريبةٍ أو بَعيدَة، تُفيدُها قَرائنُ حاليّةٌ أو قوليّةٌ، فيحدُثُ إمساسُ معنى الأمرِ مَعانيَ أخرى: مثلاً : «وإن كنتُم في ريبٍ ممّا نزّلْنا على عبدِنا فَــأْتُوا بسورة مِّن مِّثلِه» [البقرة:23] ، فصيغة الأمر “ائْتُوا” تأثرَت بالسياق سياق التَّعجيز، فأفادَت التّعجيزَ…

ومن المَعاني المستَفادَةِ مِنْ صِيَغِ الأَمرِ: التكليفُ الإِلْزامِيُّ بالفعل، مثلَما يُستَفادُ من صيغةِ النَّهيِ التَّكليفُ الإِلزاميُّ بالتَّرك. وما المَعاني أيضاً: الدعاء، والالتماس والإِرشاد والتَّمنّي والترجّي والتَّيئيسُ والتخيير والتَّسوية والتَّعجيزُ والتَّهكُّم والإِهانة والإِباحةُ والتّوبيخُ والتأنيبُ والتقريعُ والنَّدبُ والتهديدُ والامتنانُ والاحتقار والتقليلُ من أمر الشيء والإِنذار والإِكرامُ والتكوينُ والتكذيب والمشورةُ والاعتبارُ والتعجّبُ أو التعجيبُ وغيرُها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لأبي الفتح ضياء الدين ابن الأثير، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية – بيروت ، 1995، ج:2، ص:11.

 

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق