مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

بستان الأذهان في ترجمة القراءات إعجاز القرآن

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين

لقد أصبنا فيما سبق من الشواهد القرائية والمشاهد التوجيهية لأوجه المتلو المنزل حديثا منوَّعا مبيِّنا لبعض أوجه إعجاز القرآن العظيم وخواصّ تنزّله ووحيه خاصة ما يتصل بجانب اللفظ وطرائق تركيبه وأحوال نظمه وما إليه مما يتصل بتصوير المعنى وَفْق أسمى أضرب البلاغة وأعلى أنماط البلاغ والبيان، والقصد منصـرف اليوم إلى تبيُّن ملامح التلاقي والتداخل  بين القرآن وهذه القراءات والأوجه في الأداء المنتشـرة بالأمصار الإسلامية منذ العهود الأولى، فلأجل ذلك وقع الاختيار والاعتبار في توضيح اللحمة بين النوعين (القرآن والقراءات) على حدٍّ اطَّرد أمره بين الدارسين المتأخرين وذاع صيته فيهم فاجتمعت خواطرهم عليه من غير معارض إلا ما استثني ... وذلك قول العلامة البدر الزركشـي (ت‍ 794 ه‍) واضع البرهان، ومن تبعه فيه أو سبقه من الأعيان أمثال النجم الطوفي (ت‍ 716ه‍) صاحب الروضة ثم القسطلاني (ت‍ 923ه‍) ناثر اللطائف وكذا البنّا الدمياطي (ت‍ 1116 ه‍) راصف مباني الإتحاف وجماعة ممن لم يذكر.

قال الزركشي (ت‍ 794 ه‍): القرآن هو الوحي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي ... في كنه الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما. البرهان للزركـشي (النوع الثاني والعشـرون 1/318)،  إذن؛ فالقرآن والقراءات بهذا الاعتبار ووَفق نظر العلامة الزركشـي ومن تبعه ماهيَّتان مختلفان وكنهان متغايران، وليس ذلك على إطلاقه وإرساله من غير قيْد أوضبط؛ لأن هذا التعريف أوهذا التمييز – في صنعة الحدود والتعريفات - محتاجٌ حتى يجمع ويمنع لقيود واحترازات بها يتعين حيِّز الاعتبار أو تنضبط الجهة التي بها يصير القرآن والقراءات حقيقتين مختلفتين؛ خاصة إذا عُلم أنَّ القراءات المعتبرة التي ثبتت صحَّتُها ونُقل اتصال أسانيدها وتلقتها الأمة بعدُ على عيْن الرضا والقبول لا تخرج عن كونها جزءا من أداء القرآن الكريم وهيئات نطقه وأوضاع بثّه، فهما بهذا على اتصال وثيق أكيد مبين عن وجه النسبة التي تربط أَحَدَ طرفي الكل بجزئه، ولعل في تتمّة حَدِّ العلامة الزركشـي وبقيّته كشفٌ عن وجه هذه الصلة وبيانٌ عن جوهر حالها ...، فقد زاد فقال رحمه الله:(ولست في هذا أنكر تداخل القرآن بالقراءات، إذ لا بد أن يكون الارتباط بينهما وثيقا، غير أن الاختلاف على الرغم من هذا يظل موجودا بينهما، بمعنى أن كلا منهما شيء يختلف عن الآخر لا يقوى هذا التداخل بينهما على أن يجعلهما شيئا واحدا، فما القرآن إلا التركيب واللفظ، وما القراءات إلا اللفظ ونطقه، والفرق بين هذا وذاك واضح وبيّن)، قال الله جلَّ في عليائه: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة/112]، اختلفت القَرَأَة في تلاوة قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) على أنحاءَ معتبرة من الأداء العالي المتناصر المستفيض، فالجمهور من السبعة سوى الكسائي ومن وافقه من الأئمة المتقدمين (عليّ وابن عباس ومعاذ وسعيد بن جبير ومجاهد وجَمْع من الصحب الكرام رضي الله عنهم) [فتح القدير (سورة المائدة 5) 2/105، روح المعاني (سورة المائدة 5) 4/57] على تأديته بالتّحتانية غَيْباً (يَسْتَطيع) مع رفع باء اسم الجلالة في (ربُّك) إسناداً إلى ذات الله سبحانه [المبسوط لابن مهران ص 189،إتحاف فضلاء البشـر 2/545] ، قال ابن الجزري (ت‍ 833 ه‍) في (الطيبةّ): ... وَيَسْتطيعُ رَبُّكَ سِوى *** عَلِيِّهم ... [النويري على الطيبة (سورة المائدة)]، وتأويله وَفْقَهم: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه ؟ فتلك منهم رغبةٌ جَموحٌ وعزمةٌ حَرونٌ في نيل شرف تحصيل خارق المعتاد المؤمَّل (مائدة السماء)، واستعجال حادث وقعته بأَن استبطؤوا الظَّفر بإجابة الله إلى ما قد سألوه (آية بالغة العَجَب عالية الرُّتَب)، فجعلوه ملء الرأس وذكْر الفؤاد؛ تَنبُّلاً وكرامةً وتيمُّناً أو ما أشبه، إذ لم يكن الشكُّ في جليل قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه (عزَّةً وحكمة) مذهبَ قوم الحواريين (خالصة عيسى عليه السلام) أهل الإيمان الخالص، ممن وقع التمدُّح بهم في كتاب الله تعالى والاقتداء، كما قد تتبدّى طلائعه من ملفوظ قراءة الجمهور (هل يَستطيع ربُّك) (وعلى هذا أخذه الزمخشـري)، أو التكذيبُ وترْكُ التصديق بما أخبر به الرسول عن ربه جل جلاله مكابرةً وعنادا واختبارا وما إليه كما قد يُتلقَّف من حَرف الكسائي ومذهبه (هَل تَّستطيع ربَّك)؛ إسناداً إلى عيسى عليه السلام، كلاّ، بل إن محمَل الكناية وقرينة إلقاء اللفظ من الأدنى (جملة البشـر) إلى الأعلى (الذات العليّة المقدسة)؛ دالّة كافلة مُسْفرة عن مجاوزة المعنى الصـريح للفظ المقتضـي لطروء عادية الشك واستدعاء أضغاث الرّيبة إلى معنىً ذي سعة وانتداح، مَلْكُه التَّرفُّق في حَبْك طرائق الاستفتاح والعرض والتأنّق في توقُّل مدارج الطلب والدعاء، مع التصاون عن هواجس التكذيب والامتراء، والتَّجانف عن مضاجع الإياس والانتكاس - خوفاً وطمعاً - باعتلاء نَجْوة التصديق والتفويض، ورُقيّ سُلَّم الإيقان والإيمان بنافذ عزائم قدرة المسؤول واستطاعته وهيمنة سلطانه، وأنه لا يمسّه عجز أو ذهول أو لغوب جل وعلا، ولا يشغله أمرٌ عن إنفاذ آخَرَ جلَّ وعلا وهو الكبير الفعّال المتعال، قال الفخر الرازي (ت‍ 606 ه‍): (فهو محمول على أنَّ الله تعالى هل قضـى بذلك وهل علم وقوعه ؟ فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه؛ كان ذلك محالا غير مقدور، لأنّ خلاف المعلوم غير مقدور) [مفاتيح الغيب (سورة المائدة 5) 12/462] فالأمر الذي نيطت به حبائل حكمة الله وقضت بمضائه إرادته عز وجل؛ فإنه حالٌّ واقع ليس له رادٌّ أو دافع، فعلى هذا الوجه يُحمل التعبير عن الفعل بالاستطاعة وينهض كما قَرَّر الشهاب الآلوسي (ت‍ 1270 ه‍) وأنَّ ذلك من باب التعبير عن المسبّب بالسبب، إذ هي من أسباب الإيجاد، وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل؛ تسميةً للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبّب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) [المائدة/6] [روح المعاني  (سورة المعاني 5) 4/56]

وعليه؛ فقد لحظنا من ذلك أن التباين أو التغاير بين القرآن والقراءات ليس مطلقا ومن كل الوجوه والجهات كلا، إذ إنَّ القرآن متضمن مواطن اتفاق واختلاف ثبتت صحة أسانيدها وتواترت نسبتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما القراءات إلا أوجه اختلاف تواترت أو شذَّتْ ...، كما أن الاتفاق بين القرآن والقراءات ليس مسلّما به على الإطلاق ومن غير قيد أو ضبط، إذ بينهما (القرآن والقراءات) تداخل واتفاق من وجه كون القرآن وحيا منزّلا على النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التواتر المفيد للعلم المزيل للعذر القاطع له، والقراءات الصحيحة المعتبرة المتلقاة بالقبول جزءٌ غير منفكّ عن هذا القرآن العظيم، فلا ضير بعد هذا في كون القرآن المتلو حروفا وهيئات مترادفات في غير تضاد أو تعارض بل متساويات هي أجزاء نظمه وصور معانيه المفهومة المستفادة من طرائق ألفاظه المسموعة المعتبرة، كلها (شاف كاف)؛ (شاف) لأفئدة المؤمنين لاتفاقها في المعنى وكونها من عند الله وتنزيله ووحيه، (كاف) في الحجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرهانِ على مرجعية رسالته ومصدرية نبوته، لما كان القصد منها (طرائق اللفظ) الدلالة على الكلام الذي أَنزَل الله عز وجل للإعجاز بسورة منه، وخَيَّر اللهُ الأمةَ أن يقرؤوا بما شاءوا من تلك الصور والطرق والأنحاء، إذ كلها متساو في الدلالة على الكلام المعجز على جهة التناصر والتظاهر، فنقلها الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة ومعارضة ومناظرة، كل واحد منهم نقل عنه ما لقِنه منها، ولم يلقّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بجملتها لكل واحد من الصحابة، والواقع المشهود دالٌّ على صحة ما ذكر، لأن الله تعالى جعلها طرائق متعددة ولحونا مُستمرَّة منوَّعة، توسعة على الأمة ورحمة منه سبحانه لهم، فحفظ كل واحد من الصحابة الوجه الذي لقَّنه الرسولُ الأكرم عليه الصلاة والسلام، فصار ينسب إليه لفظ الحرف، فيقال حرفُ ابنِ مسعود وحرفُ أبيّ وحرفُ زيدِ بن ثابت ... ولم يُعْلِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوسعة التي نزلت من عند الله؛ حتى وقع الاختلاف، فلما ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لكل منهم: (اقرأْ؛ فقرأَ، فقال له: أصبْت) [مسائل القيجاطي (مسألة ... الفرق بين القرآن والقراءات)] وعليه؛ فمن زعم الاتحاد الكلي أو ادَّعى التماهي التام بين حقيقتي القرآن والقراءات من جميع الجهات وعلى الإطلاق، فقد أغرب في الحكم وعالج الحِمل الشديد، إذ من المعلوم عند نقاد القراءة ومؤرخي هذا الفن، أن القراءات السبعَ متواترةٌ عن أصحابها أئمة الأمصار إلى من بعدَهم، وأما من هؤلاء الأئمة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنقولة آحادا ليس إلا، كما حكاه العلامة أبو شامة (ت‍ 665 ه‍) [المرشد الوجيز ص 178، 145 طبعة آلتي قولاج] وغيره، قال العلامة القيجاطي (ت‍ 811 ه‍) [ولما كانت القراءة متعددة والمقروء واحدا؛ لم يلزم من تواتر المقروء تواترُ القراءات، ومن ادعى قراءة متواترة أو قراءات، فعليه أن يعيّنها غير محتاجة إلى إسناد، لأن المتواتر لا يُحتاج فيه إلى إسناد، ولا يصح له أن يَستدل على صحة دعواه بتواتر القرآن، لأنه واحد والقراءات متعددة] [مسائل القيجاطي] وثمة أمر آخر متعلق بتواتر الأداء في المد والإمالة وتخفيف الهمز خاصة، إذ إن المتواتر المعروف من ذلك هو ما يتصل بالقدر الضروري المشترك لهذا الظواهر الصوتية وذلك المد من حيث هو مد والإمالة من حيث هي إمالة وما أشبه، فالتواتر متعلق بهذا الحدّ أو القدْر فقط،  وهذا أمر نسبي غير منضبط لتعلقه بأطواق البشـر وقُدَرهم، متفاوتٌ بتفاوت أداء الأعضاء الصوتية عند القراء؛ فلا ينضبط لأجل هذا ... فربَّ قارئ أو تالٍ مدُّه أطول زمَناً وأوفى نفَسا من مد آخر، وكذا صلةِ ذاك واختلاسه ثم إدغامه وتسهيله للهمز وتفخيمه وتغليظه ...، إلى غير ذلك من أصول الظواهر الصوتية التي هي محل اختلاف  في الأداء حتى بين أهل القطر الواحد المتفقهين بمذهب إمام القراءة الواحد، فمن رام تواترا في مثل هذه الهيآت الصوتية وتطلَّبه وسام له كل دليل أوحجة في كل فرد فرد أو جزء جزء فقد حاول ما لا يُدرك ...، زد على كل ذلك ما وقفنا عليه من صور أحكام النقد وتصرفات الاختيار والنخل من لدن أئمة اللغة والقراءة والتفسير ... مثل سيبويه (ت‍ 180 ه‍) والطبري (ت‍ 310 ه‍)وابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍) وابن عطية (ت‍ 542 ه‍) والزمخشري (ت‍ 538 ه‍) وغيرهم من الأفذاذ رحمة الله عليهم؛ فقد تعرضوا لأوجهَ قرائيةٍ معينة فنسبوها إلى الضعف والنزول عن الرتبة، لشذوذها وخروجها عن خُويصَّة الأداء العربي الفصيح من كلام العرب، وشرودها عن المألوف المأنوس من هدْي القواعد اللغوية والأدائية المستنبطة المعتبرة وما إليه، وهم في كل ذلك معتقدون أن نقدهم للضعيف من الأوجه النازل من الأداء عن الأعلى الألْيق الأتم ...؛ لا يتصل بنفس القرآن المنزّل المقدّس وجوهره بحال، وإنما حملهم على ذلك حميّتهم الظاهرة وإيمانهم الشديد بأن الذي نقدوه من أوجه الأداء وتعرّضوا له؛ مردُّه إلى اختيار المقرئ المؤدي أو إلى اختيار شيخه منحىً مخصوصا أو ما شابه، فهذا نبْذٌ مما يجلّي أوجه التداخل والتمايز بين حقيقتي القرآن والقراءات.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق