مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

بحر العلوم: أحمد بن عجيبة (1160-1224ﮪ)

     عارف رباني كبير، وعالم صوفي جليل، اجتمعت لديه عوارف العلوم والفنون، وانكشفت له أسرار الفهوم والمتون، فقيه ومفسر كبير، قلّ نظيره في بلاد المغرب، وعلا صنيعه ببلاد المشرق، وقد سلكت طريقه العديد من النفوس، وتغنت بشعره الكثير من الألسن، إنه الشيخ العالم العارف الصوفي: “ابن عجيبة أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الأنجري الحسني”،[1] شريف النسب، شاذلي المشرب، “ولد بقرية أعجيبش من قبيلة حوز تطوان وذلك سنة 1160ﮪ “،[2] من أبوين عابدين ناسكين، فطموه على الطاعة والعبادة منذ الصغر، يقول رضي الله عنه: “… وكنت والحمد لله ألهمني الله الخلوة والوحدة، لا ألعب مع الصبيان ولا ألتفت إلى ما هم فيه…، وقد ألقى الله تعالى في قلبي محبة العلم وأنا في حال الصبا، فقرأت القرطبية قبل ختم السلكة”.[3]

     وعلى عادة العلماء المغاربة، حفظ سيدي أحمد ابن عجيبة القرآن، واعتنى بتصحيح قراءته، وببعض العلوم التي تلقاها على يد شيوخ كبار، كالمقرئ المحقق: سيدي أحمد الطالب، والفقيه الصالح سيدي عبد الرحمن الكتامي الصنهاجي، والأستاذ المحقق سيدي العربي الزوادي، يقول رحمه الله: “… فقرأت مع قراءة القرآن مقدمة الأجرومية، والألفية، وابن عاشر، والخراز، وجزءا من حرز الأماني وغير ذلك من التآليف… فلما حفظت القرآن، سافرت لتصحيح القراءة وتعلم التجويد، فمكثت في قراءته خمس سنين بعد حفظ السلكة”.[4] .

     لقد كانت أوقات سيدي ابن عجيبة في مرحلة الشباب، كلها بالعلم معمورة، وبالجد مثمورة، فلم تُلهِهِ تجارة ولا لهو، يقول رضي الله عنه: “وكانت نشأتي والحمد لله في صيانة وحفظ ورعاية وعفاف،لم يمر علينا ما يلحق حال الشباب من شعبة الجنون، بل عصمنا الله وحفظنا من المعاصي الكبار بعد الابتلاء والاختبار”.[5]

       كانت قريحته ولوعته بالعلم وهّاجة، وذلك لكثرة اعتنائه بالدراسة، وشدة حبه للعلم، فقد صدقت فراسة العالم الفقيه سيدي محمد السوسي السملالي، الذي فطن لنباغته وفطنته، فقرر اصطحابه معه إلى القصر الكبير للاستزادة من العلم، والتبحر في فنونه، وصقل عوارفه وعلومه، يقول سيدي ابن عجيبة: “اشتغلت بقراءة العلم ففنيت فيه فناءا عظيما، حتى أهملت نفسي ونسيت أمرها..، وكنا نقرأ عليه- السوسي السملالي- سبع مجالس بين الليل والنهار، وإذا كان الثلث الأخير من الليل أقامنا للتهجد، فنتوضأ وندخل الجامع الأعظم، فيأخذ كل واحد منا سارية للتهجد حتى يقرب الفجر، ثم نرجع إلى المدرسة لقراءة العلم، فكانت أوقاتنا كلها معمورة، بين مطالعة ومدارسة وعبادة، فأقمت معه نحو عامين…، وكانت قراءتي والحمد لله كلها ممزوجة بالعبادة،لم نترك قيام الليل إلا نادرا، وكنت أَقْسم الليل ثلاثا: ثلث للنوم، وثلث للتهجد، وثلث للمطالعة، وكنت ألفت الوحدة، فما كنت أسكن إلا وحدي للتفرغ للعلم والعبادة، وما كنت أَجلس في حلقة العلم إلا على وضوء والحمد لله”.[6]

     هكذا كان سيدي ابن عجيبة مولعا بالعلم، فلا يطبق له جفن عند قراءة القران، ولا يفتر له لسان عن ذكر الرحمن، ولا يعطل من وقته شيئا، يحب العلم حبا جماًّ، ويلم بحقائقه لماّ، يقول رحمه الله: “…فأخذت العلم عن الفقيهين العالمِيْن المُدرسيْن سيدي أحمد الرشا، وسيدي عبد الكريم بن قريش فلازمتهما سنين”،[7] حيث درس على الأول” الألفية ومختصر خليل والسلم ومختصر السنوسي في المنطق والصغرى والكبرى له والمقنع، والخزرجية؛ ودرس على الثاني، التفسير وصحيح البخاري مرارا وصحيح مسلم مرارا والرسالة، وتحفة الحكام لابن عاصم، وألفية بن مالك…والعقيدتين الصغرى والكبرى، وتلخيص المفتاح في البيان، ومختصر السبكي في الأصول، والشفا، وهمزية الإمام البوصيري”.[8]

     كان رضي الله عنه لا يسافر إلا لطلب العلم أو نشره، فبعد مكوثه عامين بالقصر الكبير كطالب علم، انتقل إلى تطوان لمتابعة دراسته على يد شيوخ العلم، “… وقد حصل على ما لم يحصل غيره من العلوم والفنون من نحو، وصرف، وبيان، ومنطق، وكلام، وفقه، وتفسير، وحديث، وتصوف، وأصول، وغيرها”،[9] وبعد ذلك رحل إلى فاس لمتابعة دراسته العليا وأخذ الإجازة من علمائها، ثم رجع إلى تطوان ليشتغل بالتدريس، والذِكر…، وهناك التقى بالشيخ سيدي محمد البوزيدي الحسني، يقول سيدي ابن عجيبة: “فاشتغلت بتدريس العلم، وذكر الله تعالى فردا وجماعة، حتى أخذ الله بيدي بملاقاة الشيخ سيدي محمد البُوزيدي الحسني”.[10]

     ولقد فرح سيدي ابن عجيبة، فرحا شديدا بملاقاة شيخه، خاصة حين أخبره بما سيعرفه من رفعة وعلو شأن، حيث قال له: “… والله ليكون لك أمر عظيم… والله لتكونن جامعا بين الحقيقة والشريعة”.[11]

     ورغم كل هذا لم تقف نفس شيخنا ابن عجيبة الشرهة لأخذ العلم عند علم الظاهر فقط، بل تجملت وتجهزت لتستقبل علم الباطن كذلك، خاصة حين نضجت ثمرات علمه، وأصبحت بساطا لعمله، وهذا حال علماء الصوفية، يقول: “ولما حصلنا بفضل الله ما قسم الله لنا من العلم الظاهر انتقلنا إلى التهيؤ للعلم الباطن، وهو العمل بالشريعة الظاهرة، إذ لا ينتقل العمل للبواطن حتى تستقيم الظواهر، إذ الشريعة باب والحقيقة باب “.[12]

     فلقد ارتشف شيخنا من كؤوس علوم الظاهر، ولم له يبق سوى كأس علم الباطن، الذي ختم به مسيرته العلمية الضخمة، لكن هذه المرحلة كانت أصعب من كل المراحل التي مر بها في حياته، حيث انتقل من الإجتهاد في طلب العلم، إلى الجهاد في تربية النفس، خاصة حين أمره شيخه البوزيدي، بترويض نفسه وتهذيبها، وذلك بكثرة المجاهدات والرياضات، لكي تصبح مرنة، وتنسلخ من بقايا الشوائب والعلل العالقة بها، فقد استطاع الشيخ احمد ابن عجيبة من تحقيق ذلك، وكان قدوة لغيره في الامتثال والتمسك بالشريعة، مع العلم أنه كان ذا خلق وعفة، ورفعة وهمة، فلقد “… أخذ أنوار الطريقة، وتلقى أسرار الحقيقة من أستاذه سيدي محمد البوزيدي ولقّنه العهود والأوراد والذكر، وقال له يا أحمد يا ولدي، شروط الطريق عندنا الصدق والمحبة”.[13]

     إن تغلغل سيدي ابن عجيبة في علوم القوم، وتفننه في معانيه، جعله جبلا شامخا في ميداني العلم والتصوف، حتى نال الحظ الأوفر، والقدر الأشمل، يقول: “وأما التصوف فهو علمي ومحط رحلي، فلي فيه اليد الطولى، والقدم الفالح، حزت فيه قصب السبق على طريق أهل الأذواق، فلله الحمد وله الشكر”.[14]

     ومما يدل على صدق كلامه، كثرة وتنوع مصنفاته، ومؤلفاته، وكتبه، التي اشتهرت وانتشرت في كل ربوع البلاد الإسلامية، ككتاب: القضاء والقدر، وحقائق التصوف، وكشف النقاب عن سر لب الألباب، وكتاب إيقاظ الهمم في شرح الحكم، وكتاب الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية… وغيرها.

     وأما عن الشروح فيقول: “… شرحت الهمزية والبردة للبوصيري، وشرحت الوظيفة الزروقية، وشرحت الحزب الكبير للشاذلي، وشرحت أسماء الله الحسنى، وشرحت المنفرجة وغيرها… وفسرت كتاب الله العزيز من أوله إلى آخره…، وجمعت فيه عبارة أهل الظاهر، وإشارة أهل الباطن، سميته بالبحر المديد في تفسير القرآن المجيد”،[15] ومن الأحزاب الصوفية التي وضعها رحمة الله عليه، كثيرة نذكر من بينها: حزب الحفظ والتحصين، وحزب العز والنصر، وحزب الفتح… وغيرها.

     إن مقصود مقام التصوف وجوهره عند ابن عجيبة “تصفية البواطن حتى يكون العبد في حالة يرضاها الله ورسوله ظاهرا وباطنا… وأما مقام التصوف فهو مقام الإحسان الذي فسره رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك»”،[16] فهو يَعتبر رحمه الله أن علم التصوف”… من أجل العلوم قدرا وأعظمها محلا وفخرا، كيف لا وهو لباب الشريعة، ومنهاج الطريقة، ومنه تشرق أنوار الحقيقة”.[17]

     أما سلوك الطريق عند ابن عجيبة فله شروط، كما ورد في قوله:” إن سلوك طريق التصوف، وخصوصا لمريد الكشف والتحقيق لا يكون من غير التزام الطاعة والانقياد لشيخ محقق مرشد جامع بين حقيقة وشريعة، لأن الطريق عويص، وأدنى زوال يقع عن المحجة، يؤدي إلى غاية البعد عن المقصود”.[18]

ونختم ببعض حكمه وأقواله، حيث يقول رضي الله عنه:

 – “شدّوا أيديكم على الشريعة المحمدية، فإنها مفتاح لباب الطريقة والحقيقة، فكل من ترك منها شيئا طرد وأبعد، ولو كان واصلا، فالأبواب كلها مسدودة إلا من أتى باب الشريعة.

– لولا صحبة الرجال، ما عرف النقص من الكمال.

– لولا الشهوات والحظوظ، تصرفت الهمم بأسرع من اللحوظ.

– بقدر ما يتفرغ القلب من العلائق تشرق عليه أنوار الحقائق.

– لولا الوقوف مع ظلمة الأكوان لأشرقت على القلب شموس العيان”.[19]

توفي رحمة الله عليه عام (1224ﮪ)في عقر دار شيخه الروحي العارف بالله الشيخ محمد البوزيدي الحسني، ودفن بموطنه بقرية تسمى الزُميج، من قبيلة أنجرة، حيث مازال ضريحه هناك قائما.

 

الهوامش:


[1]– الأعلام، خير الدين الزركلي، ط17/2007، دار العلم للملايين- لبنان، 1/240.

[2]–   المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي (950ھ)، دار الأمان للنشر والتوزيع، ودار البشائر الإسلامية، الرباط، ط 4/2003، ص: 220.

[3]– ابن عجيبة، الفهرسة، تحقيق: عبد الحميد صالح حمدان، ط: 1/1990، دار الغد العربي- القاهرة، ص:26.

[4]– المصدر السابق، ص:27.

[5]– نفسه، ص:28.

[6]– نفسه، ص:30-34.

[7]– نفسه، ص: 30.

[8]– معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا: ط، 2005، 18/5990.

[9]– المطرب، ص: 220.

[10]– الفهرسة، ص:32.

[11] – المطرب، ص:221.

[12] – الفهرس، ص:40.

[13] – طبقات الشاذلية الكبرى، قاسم الكوهن الفاسي المغربي (1347ﮪ) ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط2 /2005، ص:152.

[14] – الفهرسة، ص:101.

[15] – الفهرسة، ص:38.

[16] – الفتوحات الإلهية في شرح  المباحث الأصلية، أحمد بن عجيبة الحسني (1224ﮪ)، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية-بيروت، ط:1/2010، ص:56.

[17] – إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري، أحمد بن عجيبة، تحقيق: محمد عزت، ط: 2008م، المكتبة التوفيقية، ص:23.

[18] – الفهرسة، ص: 60.

[19] – نفسه، ص: 125-127.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق