مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينأعلام

قصة الصحابية الجليلة نَسِيبَة المازنية، ومكانتها في الإسلام.

>أنتم على موعد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند العقبة في آخر الهَزِيعِ([1]) الأوَّل مِنَ اللَّيل<.

أَسَرَّ مُصْعَبُ بن عُمَيْر بهذه الكلمة إلى واحد مِنْ مُسلمي >يَثْرِبَ<، فَسَرَى الخَبَرُ بينهم سَرَيَانَ النَّسِيم في سُرْعَةٍ، وَخِفَّةٍ، وهدوء.

وَأُحِيطَ به المُسْلِمُون الذين تَسَلَّلُوا مِنَ المدينة، وَانْدَسُّوا بَيْنَ جُمُوعِ حُجَّاجِ المُشْرِكِين الوافدين على مكَّة مِنْ كُلِّ صَوْبٍ.

وأقبل اللَّيل فاسْتَسْلَمَ حُجَّاجُ المُشركين إلى الكَرَى([2])

وَجَعَلُوا يَغُطُّونَ في نوم عميقٍ بَعْدَ يَوْمٍ جاهدٍ ناصبٍ([3]) قَضَوْهُ في التَّطْوَافِ حَوْلَ الأَوْثان…والذَّبْحِ لِلأَصْنَام…

لكنَّ أصحابَ مُصعب بْنِ عُمَيْر مِنْ مُسْلِمِي >يَثْرِب< لَمْ يَغْمُضْ لَهُمْ جَفْنٌ…وَكَيْفَ لِجُفُونِهِم أَنْ تَغْمُضَ؟!.

وقلوبهم تَخْفِقُ بين فَرْحَةٍ باللِّقاء الذي قَطَعُوا من أَجْلِه الفَيَافِي([4]) وَالقِفَار([5])، وبين أفئدتُهم التي تكاد تَطِير مِن بين ضُلُوعِهِم شَوْقاً لِرُؤْيَةِ نبيِّهم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه.

فَقَدْ آمن به أكثرهم قَبْلَ أن يَسْعَدُوا بِلُقْيَاهُ…وَتَعَلَّقُوا به قَبْلَ أنْ تَكْتَحِلَ أَعْيُنُهُم بِمَرْآه…

وفي آخر الهَزِيعِ الأوَّلِ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّام التَّشْرِيق، وَعِنْدَ >العَقَبَةِ< في >مِنَى< تَمَّ< اللِّقاء الكبيرُ في نَجْوَةٍ([6]) مِنْ قُرَيْش…فَلَقَدْ تَقَدَّمَ اثْنان وسَبْعُونَ رَجُلاً مِنَ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ الله وسلامه عَلَيْهِ…ووضعُوا أيْدِيَهُمْ في يَدَيْهِ واحداً بَعْدَ آخر مُبايِعِينَ على أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ منه نساءَهم وأولادَهُمْ…

ولمّا انتهى الرِّجَالُ مِنَ البيعةِ تَقَدَّمَتِ امرأتانِ فَبَايَعَتَا على ما بَايَعَ عليه الرِّجال…وَلَكِنْ مِنْ غير مُصافَحَةٍ…ذلك لأن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام لا يُصافِحُ النِّساء.

وقد كانت إحْدَى هاتَيْنِ المرأَتَين تُعْرَفُ بِأُمِّ مَنِيعٍ([7])…أمَّا الأخرى فهي نَسِيبَةُ([8]) بِنْتُ كَعْبٍ المازنيَّةُ المُكَنَّاةُ بِأُمِّ عُمَارَةَ([9]).

عَادَتْ أُمَّ عُمارة إلى >يَثْرِب< فَرِحَةً بما أَكْرَمَهَا الله به مِنْ لقاءِ الرَّسول الأعظَمِ صلى الله عليه وسلم.

عاقِدَةً العَزْمَ عَلَى الوَفَاءِ بِشُرُوطِ البَيْعَةِ…ثُمَّ مَضَتِ الأيَّامُ سِرَاعاً، حتَّى كان يَوْمُ >أُحُدٍ<، وكان لأُمِّ عُمَارَةَ فِيهِ شَأْنٌ وَأَيُّ شَأْنٍ؟!.

خَرَجَتْ أُمُّ عُمَارَةَ إلى >أُحُد< تَحْمِلُ سِقَاءَهَا لِتَرْوِيَ ظَمَأ المُجَاهِدينَ في سَبيل الله.

وَمَعَهَا لَفَائِفُهَا لِتُضَمِّدَ([10]) جِرَاحَهُم…ولا عَجَبَ فقد كان لها في المعركة زَوْجٌ وثلاثةُ أفئدة: هُم رسولُ اللهِ، صلوات الله وسلامُهُ عليه…وَوَلَدَاهَا حَبيبٌ، وعبد الله…وذلك بالإضافة إلى إخْوَتِهَا مِنَ المُسلمين الذَّائدينَ([11]) عن دِينِ الله المُنافِحِينَ عَنْ رسول الله.

ثم كان ما كان يَوْمَ >أُحُد<…

فلقد رَأَتْ أُمُّ عُمَارةَ بِعَيْنَيها كيف تَحَوَّلَ نَصْرُ المُسْلمين إلى هزيمةٍ كبرى…

 وكيف أَخَذَ القتْلُ يَشْتَدُّ في صُفُوفِ المُسلمين فيتساقطون على أرض المعركة شهيداً إثْرَ شهيد…وكيف زُلْزِلَتِ الأقدامُ، فتفرَّقَ الرِّجال عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلاَّ عَشَرَةٌ أو نَحْوٌ مِن عشَرَةٍ…مِمَّا جَعَلَ صَارِخَ الكُفَّارِ يُنادي:

لَقَدْ قُتِلَ محمد…لَقَدْ قُتِلَ مُحمَّدٌ…عِنْدَ ذلك أَلْقَتْ أمُّ عُمارةَ سِقاءَها، وانْبَرَتْ إلى المعركة كالنَّمِرة التي قُصِدَ أشبالها بِشَرٍّ…

وَلْنَتْرُكْ لِأُمِّ عُمَارَةَ نَفْسِهَا الحديثَ عَنْ هذه اللَّحظات الحاسمات، فليس كمثلها مَنْ يَسْتَطِيعُ تصويرها بدقَّةٍ وَصِدْقٍ.

قالت أُمُّ عُمَارَةَ: خَرَجْتُ أَوَّلَ النَّهَار إلى >أُحُدٍ< وَمَعِي سِقاءٌ أَسْقِي منه المجاهدين حتى انتهيتُ إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والدَّوْلةُ والرِّيحُ([12]) له وَلِمَنْ مَعَهُ…

ثُمَّ ما لبث أن انكشف المسلمون عَنْ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما بقي إلاَّ في نَفَرٍ قليلٍ ما يزيدون على العَشَرَةِ…فَمِلْتُ إليه أنا وابني وزوجي…

وأحطْنا به إحاطة السِّوار بالمِعْصَمِ، وجعلنا نَذُودُ عنه بسائر ما نَمْلِكُهُ مِنْ قُوَّةٍ وسلاحٍ…

ورآني الرَّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ولا تُرْسَ مَعِي أَقِي به نفْسي مِنْ ضَربَات المُشركين.

ثُمَّ أَبْصَرَ رَجُلاً مُوَلِّياً([13]) وَمَعَهُ تُرْسٌ فقال له: (الْقِ تُرْسَكَ إلى مَنْ يُقاتلُ)، فألقى الرَّجُلُ تُرْسَهُ ومضى…

فَأَخَذْتُهُ وجَعَلْتُ أَتَتَرَّسُ به عن الرَّسول، صلى الله عليه وسلم.

وما زِلْتُ أُضارب عن النبي بالسيف…وأرْمي دُونَهُ بالقوْس حتَّى أَعْجَزَتْنِي الجِرَاح.

وفيما نَحْنُ كذلك أَقْبَلَ >ابنُ قَمِئَة< كالجمل الهائج وهو يَصيحُ: أين محمد؟…دُلُّوني على محمد.

فاعْتَرَضْتُ سبيله أنا ومصعب بن عُمير، فَصَرَعَ مُصْعَباً بسيفه وأَرْدَاهُ قتيلاً…

ثُمَّ ضَرَبَنِي ضَرْبَةً خلَّفَتْ في عَاتقي جُرْحاً غائراً…فضربْتُه على ذلك ضَربَاتٍ، ولكنَّ عَدُوَّ الله كانت عليه دِرْعَان([14])

ثُمَّ أَتْبَعَتْ نَسِيبَةُ المازنية تقول: وفيما كان ابْنِي يُناضلُ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ضَرَبَهُ أحَدُ المشركين ضربةً كادت تقْطَعُ عَضُدَهُ…

وجَعَلَ الدَّمُ يَتَفَجَّرُ مِنْ جُرْحِهِ الغائر…

فأَقْبَلْتُ عليه، وضَمَّدْتُ جُرْحَهُ، وَقُلْتُ له: انْهَضْ يا بُنَيَّ وَجَالِد([15]) القوم…

فَالْتَفَتَ إليَّ الرَّسول، صلوات الله وسلامهُ عليه، وقال: (وَمَنْ يُطيقُ ما تُطِيقينَ يا أُمَّ عُمَارة)؟!.

ثُمَّ أقبل الرَّجل الذي ضَرَبَ ابْنِي، فقال الرَّسول، عليه الصلاة والسلام: (هذا ضَارِبُ ابْنِكِ يا أُمَّ عُمارة).

فما أَسْرَعَ أَنِ اعْتَرَضْتُ سبيلَهُ وَضَرَبْتُهُ على ساقِهِ بالسَّيْفِ؛ فَسَقَطَ صريعاً على الأرض…

فأقْبَلْنَا عليه نَتَعَاوَرُهُ([16]) بالسُّيوفِ وَنَطْعَنُهُ بالرِّماحِ حتَّى أَجْهَزْنَا عليه([17])، فَالتَفَتَ إليَّ النبيُّ الكريم، صلى الله عليه وسلم، مُبْتَسِماً وقال: (لَقَدِ اقْتَصَصْتِ منه يا أُمَّ عُمارة…والحمد لله الذي أَظْفَرَكِ به…وأراكِ ثَأْرَكِ بِعَيْنِكِ).

لَمْ يكن ولدَا أُمِّ عُمارة أقلَّ شجاعةً وَبَذْلاً مِنْ أُمِّهِمَا وَأَبِيهِمَا، ولا أدْنَى تَضْحِيَةً وفِدَاءً مِنْهُمَا…

فالولد سِرُّ أمِّه وأبيه، وصورةٌ صادقةٌ عنهما.

حَدَّثَ ابنُها عبدُ الله قال: شَهِدْتُ >أُحُداً< مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلمَّا تَفَرَّقَ النَّاس عنهُ دَنَوْتُ منه أنا وأُمِّي نَذُبُّ([18]) عنه، فقال: (ابنُ أُمِّ عُمَارة؟).

قُلْتُ: نَعَمْ.

قال: (ارْمِ…).

فَرَمَيْتُ بين يديه رجُلاً مِنَ المشركين بحجر فَوَقَعَ على الأرض، فما زِلْتُ أَعْلُوهُ بالحجارةِ حتَّى جَعَلْتُ عليه منها حِمْلاً، والنبي، عليه السَّلام، يَنْظُرُ إلَيَّ ويَبْتَسِمُ…

وَحَانَتْ منه الْتِفَاتَةٌ فَرَأَى جُرْحَ أُمِّي عَلَى عاتقها يَتَصَبَّبُ منه الدَّمُ فقال: (أُمَّكَ…أُمَّكَ…اعْصِبْ جُرْحَهَا. بارك الله عليكم أهل بَيْتٍ…لَمَقامُ أُمِّكَ خيرٌ مِنْ مقام فُلَانٍ وَفُلاَن…رَحِمَكُمُ الله أَهْلَ بَيْتٍ).

فالْتَفَتَتْ إليه أُمِّي وقالت:

ادْعُ الله لنا أَنْ نُرَافِقَكَ في الجنَّة يا رسول الله.

فقال: (اللَّهُمَّ اجْعَلهُمْ رُفَقَائِي في الجنة).

فقالت: أُمِّي: مَا أُبَالِي بَعْدَ ذلك ما أصابني في الدُّنيا.

ثُمَّ عَادَتْ أُمُّ عُمَارةَ مِنْ >أُحُدٍ< بِجُرْحِهَا الغَائِرِ، وهذه الدَّعْوَةِ التي دعا لها بها الرَّسُول الكريم، صلى الله عليه وسلم.

وعاد النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنْ >أُحُدٍ< وهو يقول:

(مَا الْتَفَتُّ يَوْمَ أُحُدٍ يميناً ولا شِمالاً إلاَّ ورأيْتُ أُمَّ عُمَارةَ تُقاتِلُ دُوني).

تَمَرَّسَتْ أُمُّ عُمارةَ يوم >أُحُدٍ< على القتال؛ فأتْقَنَتْهُ…

وَذَاقَتْ حلاوَةَ الجهادِ في سبيل الله؛ فَمَا عَادَتْ تُطِيقُ عنهُ صَبْراً.

وقد كُتِبَ لها أَنْ تَشْهَدَ مع الرَّسول صلواتُ الله وسلامُه عليه أَكْثَرَ المشاهد…فَحَضَرَتْ معه الحُديبية، وخيبراً…وَعُمْرَةَ القَضِيَّةِ([19])، وحُنينا…وَبَيْعَةَ الرِّضْوان…

وَلَكِنَّ ذلك كُلَّهُ لا يُعَدُّ شيئاً إذا قيس بما كان مِنْهَا يَوْمَ >اليمامة< على عَهْدِ الصِّدِّيق، رضي الله عنها وعنه.

تَبْدَأُ قصَّة أُمِّ عُمارةَ مع يومِ >اليمامة< مُنْذُ عهد الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.

فقد بَعَثَ الرَّسُولُ الأَعْظَمُ، صلى الله عليه وسلم، ابْنَهَا حَبِيبَ بْنَ زيدٍ برسالةٍ إلى مُسيلمةَ الكذَّاب…

فَغَدَرَ مُسيلمةُ بحَبيبٍ، وَقَتَلَهُ قَتْلَةً تَقْشَعِرُّ منها الجُلُودُ.

ذلك أن مُسيلمةَ قَيَّدَ حبيباً ثُمَّ قال له: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رسول الله؟.

فقال: نَعَمْ.

فقال مُسيلمةُ: أتشهدُ أَنِّي رسول الله؟.

فقال: لا أسمعُ ما تقول…

فقطع منه عضواً…

ثُمَّ ما زال مُسيلمةُ يعيدُ عليه السُّؤالَ نفسَهُ، فَيَرُدُّ عليه الجوابَ نَفْسَهُ…

لا يزيدُ عليه ولا يُنْقِص…

وكان في كُلِّ مرَّةٍ يَقْطَعُ منه عُضْواً حتَّى فَاضَتْ روحه الطَّاهرةُ، وذلك بَعْدَ أَنْ ذَاقَ مِنَ العذاب ما تَتَزَلْزَلُ منه الصُّمُّ الصِّلاَبُ([20]).

نَعَى النَّاعي حَبِيبَ بْنَ زيدٍ إلى أُمِّهِ نَسِيبَةَ المَازنيَّة فما زادتْ على أَنْ قَالَتْ:

مِنْ أَجْلِ مِثْلِ هذا الموقف أَعْدَدْتُهُ…وعند الله احْتَسَبْتُهُ…

لقد بايعَ الرَّسُولَ، صلى الله عليه وسلم، ليلةَ العقبةِ([21]) صغيراً…وَوَفَّى له اليَوْمَ كبيراً…

ولئن أمْكَنَنِي اللهُ مِنْ مُسيْلمة لأَجْعَلَنَّ بناتِه يَلْطِمْنَ الخُدُودَ عليه…

لَمْ يُبْطِئِ اليَوْمُ الذي تَمَنَّتْهُ نَسِيبَةُ كثيراً…؛ حيثُ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ أبي بَكْرٍ في المدينة أَنْ حَيَّ على قِتَالِ المُتَنَبِّئِ الكذَّابِ مُسيلمةَ…

فَمَضَى المسلمون يَحُثُّونَ الخُطَى إلى لقائه، وكان في الجيش أُمُّ عُمارةَ المُجاهدةُ الباسلةُ وَوَلَدُهَا عبدُ الله بنُ زيدٍ.

ولمَّا الْتَقَى الجَمْعَانِ وَحَمِيَ وَطِيسُ([22]) المعركةِ، كان يَتَرَصَّدُ لِمُسَيْلِمَةَ نفرٌ من المسلمين وعلى رأسِهم أُمُّ عُمَارَةَ التي تُريدُ أَنْ تَنْتَقِمَ لابنها الشَّهيد…

وَوَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ([23]) قَاتِلُ حمزةَ يَوْمَ >أُحُدٍ<…؛ فقد كان يُريدُ أن يَقْتُلَ شَرَّ الناس وهو مؤمنٌ، بَعْدَ أن قَتَلَ أَحَدَ أخيار الناس وهو مُشْرِكٌ.

لم تستطع أُمُّ عُمَارة أن تَصِلَ إلى مسيلمة بعد أن قُطِعَتْ يَدُهَا في المعركة…وَأَثْخَنَتْهَا الجِرَاحُ([24])

لكن وحشيَّ بن حرب، وأبا دُجانةَ صاحبَ سيفِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وَصَلاَ إلى مُسيلمةَ وضرباهُ عَنْ يَدٍ واحدةٍ…

فقد طعنهُ وَحْشِي بِالحَرْبَةِ…وَضَرَبَهُ أبُو دُجانةَ بالسَّيْفِ…فَخَرَّ صريعاً في طَرْفَةِ عَيْنٍ.

عَادَتْ أُمُّ عُمارةَ بعد >اليمامة< إلى المدينة بِيَدٍ واحدةٍ ومعها ابنُها الوحيد.

أمَّا يَدُهَا الأخرى فقد احْتَسَبَتْهَا([25]) عند الله كما احْتَسَبَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَدَهَا الشَّهيد.

وَلِمَ لا تَحْتَسِبُهُمَا؟!.

أَلَمْ تَقُلْ للرَّسُول، عليه الصلاة والسَّلام: ادْعُ الله لنا أَنْ نُرَافِقَكَ في الجنة…

فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رِفَاقِي في الجنَّة).

فقالت: ما أُبَالِي بَعْدَ ذلك ما أَصَابَنِي في الدُّنيا…

رضي الله عَنْ أُمِّ عُمارةَ وَأَرْضَاهَا؛ فقد كانت طِرَازاً فَرِيداً بَيْنَ النِّساء المُؤْمِنَات… وَأُنْمُوذَجاً فَذّاً بين المُجاهدات الصَّابرات([26]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

  • بَيْعَةُ المؤمنين الأوائل للنبي، صلى الله عليه وسلم، عنوان مَحَبَّةٍ وتصديق، والتزام بالدِّفاع عن دين الله، وعن الحق، والخير، والعدل، والفضيلة.
  • مشاركة النساء في البيعة النبوية دليلٌ على أن النساء شقائق الرِّجال في الأحكام الشرعية.
  • شروط بيعة النساء للنبي، صلى الله عليه وسلم، مذكورة في سورة الممتحنة: (يَأَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا جَاءَكَ المُومِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلاَ يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ الله إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم)([27]).
  • تنوُّعُ ألوان جهاد المرأة في الإسلام بين تيسير الطَّعام، وسقي الماء، وتطبيب الجَرْحَى، والمشاركة العَمَلِيَّةِ في القتال.
  • الوفاءُ بِكُلِّ بَيْعَةٍ على الحَقِّ واجبٌ شَرْعِي، وحَقٌّ مَرْعِي؛ لقوله تعالى: (وَمَن اَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيما)([28]).
  • صُحْبَةُ الرسول، صلى الله عليه وسلم، تفرض على المؤمنين مقتضى قوله: (النَّبِيءُ أَوْلَى بِالمُومِنِينَ مِن اَنفُسِهِم)([29]).
  • أُمُّ عُمارة بَطَلَةُ غزوة أُحُد مع كافة أُسرتها يوم قَلَّ النَّفير، وَعَزَّ النَّصير.
  • أَثَرُ التَّربية الصَّالحة يَظْهَرُ في الأخلاق، والشَّجاعة، والإقدام، وقديماً قيل: (إِنَّمَا الشِّبْلُ مِنْ ذَاكَ الأَسَد).
  • الرَّعِيلُ الأوَّلُ مِنْ حَمَلَةِ الإسلام وناشِرِيه، تَحَمَّلُوا العذاب الأَليم إذايةً وتعذيباً، وتَنْكِيلاً، وتقتيلا.
  • الرَّسُول، صلى الله عليه وسلم، يُثْنِي عَلَى أُمِّ عُمارة الثَّناء العاطر، وَيَدْعُو لها ولأهْلِ بيتها.
  • لا شيء أَنْفع وأَجْدَى عند حُلول النَّوائِبِ مِنَ الصَّبْر والاحتساب، ورجاء المَثُوبَة.
  • كان شعار أبطال الصحابة، رضوان الله عليهم، ما قال شاعرهم خُبَيْبُ بن عَدِي الأنصاري، رضي الله عنه:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً  **  عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي.

 والحمد لله رب العالمين

—————————————————————————————————–

([1]) الهَزِيعُ الأول من اللَّيل: الثلث الأول منه.

([2]) الكَرَى: النوم.

([3]) جاهدٍ ناصبٍ: مُتْعِب بسبب ما بذل فيه من جهد.

([4]) الفَيَافِي: الصحاري الواسعة.

([5]) القِفَار: الأراضي الجرداء.

([6]) النجوة: البعد عن الأمر حتَّى يُظن أنه لن يلحقه أحد.

([7]) أُمّ مَنِيع: هي أسماء بنت عمرو بن عدي بن ياسر الأنصارية السلمية، ابنة عمَّة الصحابي مُعاذ بن جَبَل، شهدت العقبة هي وأم عُمَارة نَسِيبَة، ولم يشهدها من النساء غيرهما. ينظر: معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم: 6/3565، الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ لابن عبد البر: 4/ 1784، أسد الغابة؛ لابن الأثير: 7/ 12.

([8]) نَسِيبَة: بفتح أَوَّلِه، وكسر ثانيه، كما ضبطها ابن ماكولا في كتابه: الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب: 7/ 338.

([9]) أُمُّ عُمَارَة: هي نَسِيبَة بنت كعب الأنصارية، من بني مازن، غلبت عليها كنيتها، وشهدت العقبة، وَأُحُداً، وغيرها من المشاهد. ينظر: معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم: 6/3534، الاستيعاب: 4/ 1948، أسد الغابة: 6/ 371، الإصابة: 8/ 441.

([10]) تُضَمِّدُ: تُداوي جراحهم، وتربطها بالضماد، وهو رباط الجرح.

([11]) الذَّائدِين: المدافعين عن دِين الله.

([12]) الدَّوْلَة: النصر والغلب، والرِّيح: القوة. قال تعالى في سورة: الأنفال، من آية 46: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)؛ أي: قُوَّتُكُم.

([13]) مُوَلِّياً: فارّاً هارباً.

([14]) الدِّرع: لِبَاسٌ من الحديد يلبسه المحارب ليحمي صدره.

([15]) المجالدة: المضاربة بالسيف.

([16]) نَتَعَاوَرُه: نَضْرِبُه واحداً بعد آخر.

([17]) أَجْهَزْنَا عليه: قضينا عليه وأهلكناه.

([18]) نُدافع.

([19]) عُمْرَةَ القضية، أو عُمْرة القضاء: هي العُمْرَة التي اعتمرها النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعد صُلْحِ الحديبية.

([20]) الصُّمُّ الصِّلاب: الصخور الصَّلبة.

([21]) ليلة العقبة: ليلة بيعة العقبة.

([22]) الوَطِيسُ: التَّنُّور، ويقال: حمي وطيسُ المعركة: الْتَهَبَتْ واشتدَّت.

([23]) وَحْشِيُّ بنُ حَرْب: هو أبو دسمة الحبشي، من سودان مكة، وهو مولى لطعيمة بن عدي، وقيل: مولى جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي، قاتل حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، يوم أُحد، وشارك في قتل مُسيلمة الكذاب يوم اليمامة، وكان يقول: قَتَلْتُ خَيْرَ الناس في الجاهلية، وَشَرَّ الناس في الإسلام. ينظر: معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم: 5/2733. الاستيعاب: 4/ 1564، أسد الغابة: 4/ 662، الإصابة: 6/470.

([24]) أَثْخَنَتْهَا الجِرَاح: أَوْهَنَتْهَا وَأَضْعَفَتْهَا.

([25]) احْتَسَبَتْهَا عند الله: طَلَبَتْ أَجْرَهَا عليها من الله.

([26]) القصة من كتاب: صور من حياة الصَّحابيات؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 61- 77.

([27]) سورة: الممتحنة، آية: 12.

([28]) سورة: الفتح، من آية: 10.

([29]) سورة: الأحزاب، من آية: 6.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق