وحدة الإحياءدراسات محكمة

الوظيفة الإفهامية للسياق في أصول الفقه

 حظيت نظرية السياق في الدرس الأصولي باهتمام كبير، وشغلت أذهان الأصوليين منذ القدم لما لها من وظيفة أساسية في تحديد المعاني، وتلمس مقصد المتكلم. ونظرا لارتباطها بهذا الأخير أشد الارتباط فإنه يتعين مراعاتها واستحضارها في دراسة وفهم الخطاب الشرعي. ولأهمية السياق فقد سعيت إلى تعريفه، والبحث عن العناصر المكونة له من خلال بنية الخطاب، ثم دراسة ومعالجة كل ما له علاقة به كأسباب النزول ومراعاة المعهود العربي.

أولا: مفهوم السياق ووظيفته في تحديد مقصود الخطاب

لا شك أن السياق، بما هو مجموع الإرشادات والإشارات والدلالات المساهمة في بيان الخطاب، اهتمت به جملة العلوم الشرعية والإنسانية.. لأن أي نص نص لا يفهم فهما لا لبس فيه إلا في إطار استحضار كل الظروف المحيطة به. وقد عرفه محمد باقر الصدر باعتباره “الفضاء الذي يحيط بالكلام، وما يكتنف الجمل والعبارات من قرائن ومحددات وعلامات تساهم في بلورة المراد”. وبعبارة أخرى السياق: عبارة عن “كل ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه من دوال أخرى سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاما واحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع[1]“.

 فهو، إذن، كل القرائن المقالية اللفظية والمقامية الحالية التي تساعد على تحديد المعنى المراد، وتعمل على ضبطه، ورفع احتمالية الألفاظ. ما دامت هذه الألفاظ وهي مجردة عن قرائنها المقالية والمقامية لا تفي بالمراد لاحتمالها عدة معان أو لإفادتها غير المقصود منها ظاهرا.

 ولما كانت ألفاظ الشارع منها ما يعبر عن دلالته بالحقيقة أو المجاز، والصريح والكناية، ومنها العام والخاص، والمطلق والمقيد والمشترك… وغيرها كان لابد في تحديد معناها المراد من احتفاء النص وتزييه  بكل ما يحيط به من مفاتيح تحدد هذا المعنى.

جاء في البحر المحيط عن أهمية السياق القول بأن: “السياق يرشد إلى تبيين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات، وكل ذلك يعرف بالاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وإن كانت ذما بالوضع، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، وإن كانت مدحا بالوضع كقوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان: 49)[2].”

وقبل الحديث عن أهمية هذا الأخير بتفصيل يحسن بنا أن نوضح العناصر المكونة لبنية الخطاب.

ثانيا: العناصر المكونة لبنية الخطاب

يشير الشاطبي، رحمه الله، إلى هذه العناصر بقوله: “إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام فإنه لفظ واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك[3]” وأول  هذه العناصر:

1. لغة الخطاب

ذلك أن العنصر الأول الذي يتحكم في فهم المقصود من الخطاب هو نوع اللغة التي تم بها الخطاب من حيث وضوحها أو غموضها، ومن حيث احتمالها أو عدم احتمالها للمعاني المتعددة. ولذلك قال الشاطبي في تتمة النص السابق: “كالاستفهام فإنه لفظ واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك”.

والأمر نفسه يقال في الأوامر والنواهي فإنها “من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها  أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض فالأكثر غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة تقع.

وبالاستقراء المعنوي لم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلا لزم في الأمر ألا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة، والنواهي كذلك أيضا، بل نقول كلام العربي على إطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزأة، ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط، وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول، فما ظنك بكلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم[4].”

فاللغة بتعدد أساليبها، وتنوع وجوه دلالاتها، وكثرة احتمالاتها مما لا ينضبط بحصر مما أشار إليه النص أعلاه لابد من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ المعبر عنها. فالمأمورات والمنهيات مثلا في القرآن الكريم على ضربين: ضرب جاءت فيه الأوامر والنواهي على العموم والإطلاق في كل شيء وعلى كل حال، ومن ثم فهي على وزن واحد ظاهر، ولكنها بحسب كل مقام وعلى ما تقتضيه شواهد الأحوال في كل موضوع لا على وزن واحد، ولا على حكم واحد.

مثل الإحسان في قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ (النحل: 90)، فإنه ليس مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء، بل ينقسم بحسب المناطات، فإحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب، وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوبات والأمر كذلك في العدل فإنه لا يصح أن يقال أنه أمر إيجاب أو ندب بإطلاق، بل يفصل الأمر فيه، ومن أجل ذلك قيل: إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزن واحد، بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في المأمورات ومنها ما يكون في المحرمات أو من المكروهات في المنهيات لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في هذه الأمور.

وضرب تأتي فيه الأوامر والنواهي في أقصى مراتبها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك[5].

وهكذا فإن المتحكم في ذلك هو المعاني المرادة والمقصودة للشارع، بما تؤول إليه من مصالح أو مفاسد تتراوح بين أن تكون عظيمة أو هينة حسب مناطاتها.

2. المخاطب أو (المتكلم)

تعد المعرفة بالمخاطب المتكلم من الأمور اللازمة والمكملة لمعرفة وفهم الخطاب الشرعي، فمن لم يعرف المتكلم “بحسب أحواله من قصده وإرادته واعتقاده وغير ذلك من الأمور الراجعة إليه حقيقة أو تقديرا لا يستطيع أن يفهم مراده[6].

فالمعرفة بالذات الإلهية، مثلا، وصفاتها التي تحدث عنها القرآن والسنة، وآثارها… كل ذلك يجعلنا ندرك أن من “مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، عز وجل، أنه يمتنع من إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، وأنه يستدل على إرادة النظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره (…) فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويبغض هذا[7].”

كل ناتج عن المعرفة الكاملة بالمخاطب “الله” وبما هو أهل له، وبمنزلته وعظمته وامتنانه. والممتن الخالق سبحانه لا يمكن إلا أن ترتاح له القلوب وتصغي له الآذان وتطمئن له العقول والقلوب فيطاع ولا يعصى.

 كما أن المعرفة بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وبكونه الرسول المبعوث الهادي لا يمكن إلا أن تحمل المؤمن على اقتفاء أثره والاقتداء بسنته فلا يقدم على قوله ولا يؤخر لكونه النبي المطاع المحترم المبجل.

والمعرفة بمكانة العلماء في الأمة وأنهم الموقعون عن الله، وورثة الأنبياء في التوقيع على الأحكام واستنباطها، وربما إنشائها وفق ما حد لهم، وكونهم الحامي لبيضة الدين؛ إذ بموتهم يقبض العلم بمقتضى الحديث “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناسُ رؤساءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا[8]” كل هذا هو الذي يحمل الناس على طاعتهم والاقتداء بهم.

3. المخاطَب

وأما أهمية المعرفة بالمخاطَب، فإن المتكلم لما كان لا يتأتى له أن يغفل المخاطَب وهو يبدع الخطاب، أو يتحدث به إليه؛ “أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة[9]“، ووجدنا المخاطب يتنوع في الخطاب وتتنوع الأحكام تبعا لتنوعه، فهو أحيانا صحيح معافى، وأحيانا مريض أو مسافر، وأحيانا مجاهد قادر وأحيانا قادر على الجهاد ولكنه متبلد ﴿يأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الاَرض﴾ (التوبة: 38) وأحيانا منافق… وأحيانا فرد بعينه (…) ووجدنا الخطاب أحيانا مقتضبا موجزا تكثر محذوفا ته، وأحيانا مرسلا فيه إطناب وما ذلك إلا لتنوع علم السامع بالأشياء التي يتحدث عنها الخطاب، كخطاب الله الذي نزل بمكة وخطابه الذي نزل بالمدينة[10]“.. قلت إن طبيعة هذا التنوع في المخاطَب مع ما لها من أهمية جعل الخطاب خطابا متجددا لا على حسب وضع واحد، ولكن بحسب مراعاة مقامات تلك الأوضاع مع وجوب اختيار ما يناسبها من المقالات.

4. موضوع الخطاب

هذه العناصر والأركان الثلاثة السابقة الذكر تبقى متوقفة على عنصر مهم جدا به تكتمل بنية الخطاب هو موضوع الخطاب وأرضيته؛ إذ هو المقصود الأصلي من كل ذلك والغاية التي تنتهي إليها العناصر الأخرى، ولذلك فإنه لابد من وضوح الموضوع ومناسبته.

ثالثا: القرائن المقالية والمقامية المتحكمة في فهم الخطاب

إن كل نص أو خطاب لا يخلو من أن تكون له قرائن مقالية لفظية.. تساعد على تحديد المعنى اللغوي للكلمات، أو قرائن مقامية تساعد على تحديد المعنى المراد منه. هذه القرائن إما أن تكون منفصلة عن الخطاب، كما هو الشأن في معرفة أسباب النزول ومقتضيات الأحوال، أو أن تكون مقترنة بالخطاب كما هو الشأن في معرفة المعهود العربي المتمثل في معرفة أساليب العرب وعاداتها في الأقوال والأفعال وصيغ الاستعمال. كل هذا لازم في معرفة الخطاب وما يرمي إليه.

1. مراعاة أسباب النزول

نظرا للأهمية التي تضطلع بها أسباب النزول في فهم وتحديد ما وراء الأساليب الإنشائية والخبرية في القرآن الكريم، والوقوف على المعنى المقصود بالذات من مراد المخاطب. فقد اهتم الأصوليون، شأنهم في ذلك شأن باقي اللغويين، بمقتضيات الأحوال ومختلف القرائن لرفع الغموض والشبه والإشكالات التي تعرض للمتلقي.

يقول أبو إسحاق الشاطبي مبينا أهمية أسباب النزول “معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران:

أحدهما؛ أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجية وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط. فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه.

ـ الوجه الثاني؛ وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة لوقوع النزاع.”

فأسباب النزول في علوم القرآن هو بمثابة علم المعاني في علم البلاغة الذي عرفه البلاغيون بقولهم هو “مطابقة الكلام لمقتضى الحال”؛ لأنه إذا لم يصحب الكلام بما يفتقر إليه من قرائن دالة فات فهمه جملة أو فهم شيء منه، أو فهم منه عكس معناه الذي يقصد إليه المتكلم. فمقتضى الحال هو الحاكم على الصيغ وليست الصيغ هي الحاكمة. وقد تورد الصفة في سياق المدح فتكون مدحا وإن كانت ذما بالوضع، وقد تورد الصفة في سياق الذم فتكون ذما وإن كانت مدحا بالوضع كقوله تعالى: ﴿ذق اِنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان: 49).

ويوضح هذه المعاني ما ثبت عن عمر، رضي الله عنه، أنه استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال الجارود أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث فقال عمر: ياقدامة إني جالدك، قال والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر ولم؟ قال لأن الله يقول: ﴿ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا..﴾ (المائدة: 95).

 فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لما تجلدني  بيني وبينك كتاب الله فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال إن الله يقول في كتابه: ﴿ليس على الذين ءامنوا﴾ إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد.

فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين لأن الله يقول: ﴿يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام رجس من عمل الشيطان﴾ (المائدة: 92) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله نهى أن يشرب الخمر قال عمر:صدقت الحديث[11].

ومثله، أيضا، ما ورد في الصحيح أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع، إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي، صلى الله عليه وسلم، يهودا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس قوله تعالى: ﴿وإذ اَخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب﴾ (ءال عمران: 187) كذلك حتى قوله: ﴿يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ (ءال عمران: 188) فهذا من ذلك المعنى أيضا.

فمعرفة بعض الصحابة بأسباب النزول ومقتضيات الأحوال هي السبب في حل مشكلات ما أنبهم على بعضهم، ولولا معرفتهم بذلك وبيانهم له لبقي الإشكال قائما إلى يوم الناس هذا، ففهم الناس مقاصد الشارع على غير وجهها المراد وهلكوا من حيث أرادوا النجاة.

قال ابن تيمية معضدا لما نحن فيه “معرفة أسباب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب[12]“. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ (البقرة: 158) فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض. وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكا بذلك وقد ردت عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما؛ لأنه من عمل الجاهلية فنزلت[13][14].

هكذا يبدوا أنه لا يعين، ولا يساعد على التعرف بمعاني المنزل في خصوص أو عموم النازل فيه دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات، وبالتالي إصدار الحكم إن على العموم أو على الخصوص إلا بمعرفة أسباب النزول.

  وبقدر ما يتوقف العلم بالقرآن الكريم على معرفة أسباب النزول يتوقف العلم بالسنة أيضا وفهمها فهما صحيحا على العلم بأسباب الورود؛ إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب؛ منها أنه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم علل سبب الورود بقوله: “إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا”.

 ومنها حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة فإن حديث ابن مسعود يبين أنه خاص بأهل النفاق بقوله: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وحديث الأعمال بالنيات وقع عن سبب… وغير ذلك من الأحاديث التي يضيق المقام بحصرها. فإن الجهل بأسباب ورودها يوقع في قلب الأحكام تماما من واجب إلى مباح أو إلى مندوب أو حرام.

ولم يتوقف بعض الأصوليين في باب العام والخاص، تأثرا منهم بأهمية السياق، عند حصره فيما يستفاد من صيغته الوضعية. بل إن توغلهم فيما يسمى مقاصد الشارع في وضع قصد الإفهام جعلهم يتحدثون عن العموم من زاوية أخرى هي القصد الاستعمالي والشرعي للمتكلم. قال الشاطبي: “وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظران:

ـ أحدهما؛ باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق. وإلى هذا النظر قصد الأصوليون فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة.

ـ والثاني؛ بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك. وهذا الاعتبار استعمالي والأول قياسي.

والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي. وبيان ذلك هنا أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع.

وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال، فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره وهو لا يريد نفسه  ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم. وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع دون غيره، من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع، كما تقول: فلان يملك المشرق والمغرب، والمراد جميع الأرض… وإذا قال أكرمت الناس أو قاتلت الكفار فإنما المقصود من لقي منهم فاللفظ عام فيهم خاصة، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال[15].

فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان فإن قوله: ﴿تدمر كل شيء بأمر ربها﴾ (الأحقاف: 24) لم يقصد بها أنها تدمر السماوات والأرض والجبال ولا المياه ولا غيرها مما في معناها، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة. ولذلك قال: ﴿فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم﴾ (الأحقاف: 24). وقال في الآية الأخرى ﴿ما تذر من شيء اَتت عليه إلا جعلته كالرميم﴾ (الذاريات: 42)[16].

وقد نبه طائفة من أهل الأصول على هذا المعنى، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: “أيما إيهاب دبغ فقد طهر[17]“. قال الغزالي: “خروج الكلب عن ذهن المتكلم المستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع ونقيضه هو الغريب المستبعد وكذا قال غيره أيضا وهو موافق لقاعدة العرب وعليه يحمل كلام الشارع بلابد[18].”

وضمن هذا السياق أيضا “سياق الاستعمال”؛ تحدث الشاطبي عن مقصد الاستعمال العربي ومقصد الاستعمال الشرعي، وذكر أن الأول يفهم حسب ما تدل عليه مقتضيات الألفاظ. وأما الثاني المتعلق بمراعاة عرف الشارع في الفهم فكأنه نوع من الارتقاء في مستوى الفهم ينتقل فيه من الوضع الجمهوري إلى مستوى أعلى منه يختص به أهل الصناعات، ولذلك ذكر أن التفاوت فيه حاصل بحسب المبتدئ في العلم والمنتهي فيه، وإنما يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشرع، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب، قال: “وقد ثبت في أصول العربية أن للفظ العربي أصالتين: أصالة قياسية وأصالة استعمالية، فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا، فالعام في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال.

وعن الثاني: أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه. وللشريعة بهذا النظر مقصدان:

 ـ أحدهما؛ المقصد في الاستعمال العربي الذي نزل القرآن بحسبه…

 ـ والثاني؛ المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري كما نقول في الصلاة إن أصلها الدعاء لغة، ثم خصصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص، وهي فيه حقيقة لا مجاز، فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي: إنها إنما تعم بحسب مقصد الشارع فيها،والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك مع ما ينضاف إليه من مسألة إثبات الحقيقة الشرعية[19].”

فكأن الاستعمال العربي يخصص ما تدل عليه الصيغ في أصل وضعها، والوضع في الاستعمال الشرعي يخصص الوضع في الاستعمال العربي، وهو، كما ذكر، ارتقاء في مستوى الفهم يختص به أهل الصناعات المتخصصين في معرفة مقاصد الشارع ومعرفة السياق العام لروح الشريعة.

وهكذا خصص المقصد العربي الاستعمالي بالمقصد الاستعمالي الشرعي، وخصص ما تدل عليه الصيغ في أصل الوضع بالمقصد الاستعمالي العربي.

ولذلك قال الشاطبي: “فأما الأول” المقصد الاستعمالي العربي؛ “فالعرب فيه شرع سواء لأن القرآن نزل بلسانهم، وأما الثاني: فالتفاوت في إدراكه حاصل إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة ولا المبتدئ فيه كالمنتهي ﴿يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11). فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره واتسع في ميدانها باعه زال عنه ما وقع من الإشكال واتضح له القصد الشرعي على الكمال[20].”

وبذلك يتبين أنه يتوجب لتحصيل سبل الفهم التعرف إلى مقاصد الشرع والوقوف على مقتضيات الأحوال والانطلاق بفقه الجزئيات في إطار كلياتها الشرعية والاستعانة بسائر القرائن التي تعين على فهم المقصود من الألفاظ وتكشف عن المراد منها وما استعملت فيه الآية ربطا للسابق باللاحق والمتقدم بالمتأخر وإلا استعصى الفهم.

ولقد دفع هذا الأمر الشاطبي، وهو بصدد بيان أهمية الوضع الاستعمالي في الفهم والاستدلال على الأحكام، إلى نفي التخصيص سواء بالمتصل أو بالمنفصل، وأنكر في ذلك على جل الأصوليين أخذهم لصيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي قال: “إذا تقرر ما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل، فإن كان بالمتصل كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه “زيد الأحمر” عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه.

 وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما. وكذلك إذا قلت: “الرجل الخياط” فعرفه السامع فهو مرادف لزيد. فإذا المجموع هو الدال ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت “عشرة إلا ثلاثة” فإنه مرادف لقولك “سبعة”؛ فكأنه وضْعٌ آخر عَرَضَ حالة التركيب، وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا.

وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ حسب ما تقدم في رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون[21].”

 وقوله “راجع إلى بيان المقصود”؛ أي إلى مقصود المتكلم الذي يساعد على بيانه مقتضى الحال، أو الإحاطة بمقاصد الشارع التي تعتبر المعيار والمحدد الوحيد لمقصد المتكلم ومراده وتربو بعمومات القرآن وكلياته عما يمكن أن تصير إليه من توهين الاستشهاد بها وإضعاف الاستناد إليها، ولذلك ختم المسألة بقوله: “فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي، حيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل وبالله التوفيق[22].

هكذا امتدت نظرية السياق إلى مباحث العام والخاص لتنال عند الشاطبي وغيره حظا أوفر في تركيزه لهذه النظرية في مباحث علم أصول الفقه.

2. مراعاة المعهود العربي

ويتفرع عن المعرفة بأسباب النزول معرفة المعهود العربي. والمراد به كل ما يتعلق بأحوالهم وعاداتهم في أساليب تواصلهم وتعبيرهم عما يرمون إليه من الأغراض وأعرافهم في الأنكحة والبيوع.. وعلاقة القبائل بعضها ببعض وكذا ما يتعلق بعقائدهم ودياناتهم وتعبداتهم وطقوسهم، وكل ما يتعلق بأحوالهم في السلم والحرب… فإن العلم بهذا مهم جدا في باب التفسير والكشف عن تناسب الآي بعضها ببعض، وعما تقصد إليه أيضا تراكيب ألفاظ القرآن ومعاني حروفه.

إن مراعاة معهودهم هو ما جعل الشارع يسوق الشريعة أمية كما هم. قال الشاطبي: “هذه الشريعة المباركة أمية[23]؛ لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح. ويدل على ذلك أمور:

 أحدها؛ النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: ﴿هو الذي بعث في الاُميين رسولا منهم﴾ (الجمعة: 2). وقوله ﴿فآمنوا بالله ورسوله النبيء الاُمي الذي يومن بالله وكلماته﴾ (الأعراف: 158). وفي الحديث”بعثت إلى أمة أمية” لأنه لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. وفي الحديث “نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا” وقد فسر معنى الأمية في الحديث؛ أي ليس أهل علم بالكتاب ولا الحساب. ونحو قوله تعالى: ﴿وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك﴾ (العنكبوت: 48). وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.

والثاني؛ أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي إلى العرب خصوصا، والى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا. فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية؛ أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلابد من أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذا أمية[24].”

تتشخص هذه الأمية في كثير من أساليب القرآن التي خوطبوا بها مما يلمس فيها زيادة بيان أو تأكيد، منها قوله تعالى في التمتع: ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة اِذا رجعتم تلك عشرة كاملة، ذلك لمن لم يكن اَهله حاضري المسجد الحرام﴾ (البقرة: 195). فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع عشرة أيام كاملة قال تعالى: ﴿تلك عشرة كاملة﴾ فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا اجتمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة.

وقال الله سبحانه: ﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة﴾ (الأعراف: 142) وقوله: ﴿أربعين ليلة﴾ يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون إذا اجتمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين وأن تكون زيادة في التبيين.

 وقال الله: ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا اَو على سفر فعدة من اَيام أخر﴾ (البقرة: 182-183).

وقال تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا اَو على سفر فعدة من اَيام أخر﴾ (البقرة: 184).

فافترض عليهم الصوم ثم بين أنه شهر والشهر عندهم ما بين الهلالين وقد يكون ثلاثين وتسعا وعشرين[25]، وهي أمثلة بين فيها الشافعي طريقة بيان القرآن لما يقصده الشارع من أحكام متضمنة في الخطاب وهو يراعي في ذلك أمية العرب، ولذلك كانت وظيفة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بيان معنى ما أراد الله مما أنزل فيه جملة كتاب.

ولتوضيح هذه المسألة أكثر نورد نص الشافعي الذي يبين فيه بالاستقراء معهودهم اللغوي ومقاصدهم الاستعمالية قال: “فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها.. وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وخاصا ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه، أو آخره.

 وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة[26].”

إن عبارة الإمام الشافعي الحصرية “إنما خاطب الله بكتابه العرب..” وهو يعرض أوجه وصور التعبير القرآني المطابق لكلام العرب، إنما يبين فعلا أن لغة التخاطب القائمة على وظيفة الإفهام في أي علم كان يجب أن تحمل وتتشرب معاني البيئة وسياقاتها الاجتماعية ومساربها الاعتيادية وخصوصياتها النفسية. هذه حمولات كلام الإمام الشافعي وإن كان يتبين في الظاهر أنه يقف عند الأساليب فقط، لكن الأمر غير ذلك؛ فالارتباط الوثيق بين القصد الإفهامي والقصد التكليفي هو ما يبين استقراء الشافعي لعادات العرب انطلاقا من واقعها. ولذلك شرع في التمثيل لما ذكر بعد: قال مفصلا:

أ. بيان ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص

قال الله سبحانه: ﴿الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل﴾ (الزمر: 59). وقال: ﴿وما من دابة في الاَرض إلا على الله رزقها﴾ (هود: 6). فهذا عام لا خاص فيه فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خالقه وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.

وقال تعالى: ﴿حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا اَن يضيفوهما﴾ (الكهف: 77).

وفي هذه الآية دلالة على أن لم يستطعما كل أهل قرية فهي في معناها.

وفيها ﴿أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها﴾ خصوص لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما، قد كان فيهم المسلم ولكنهم كانوا فيها مكثورين وكانوا فيها أقل”[27].

ب. في بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص

قال الله تبارك وتعالى: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ (ءال عمران: 173). والعلم يحيط أن لم يجمع لهم الناس كلهم ولم يخبرهم الناس كلهم ولم يكونوا هم الناس كلهم، ولكنه لما كان اسم “الناس ” يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس وعلى ما بين جميعهم وثلاثة منهم: كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: الذين قال لهم الناس “وإنما الذين قالوا لهم ذلك أربعة نفر ﴿إن الناس قد جمعوا لكم﴾ يعني المنصرفين عن أحد وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم والمخيرون للمجموع لهم غير الطائفتين والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين”.

وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس﴾ (البقرة: 198). فالعلم يحيط، إن شاء الله، أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله، ورسول الله المخاطب بهذا ومن معه ولكن الصحيح من كلام العرب أن يقال (أفيضوا من حيث أفاض الناس) يعني بعض الناس[28].

فقوله من قبل: “من كلام العرب” إنما كان يحمل لغتهم مضمونها الاجتماعي والعرفي الذي  يتحقق به الفهم، ولا يقف في هذا الوصف عند الجانب اللغوي المحايد عن سياقه الثقافي. وتبدو هذه الحقيقة واضحة في اعتراض الناس على ابن الزبعرى عندما فهم من قوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ (الأنبياء: 97) أنه يدخل فيها الملائكة والمسيح. وأثبتوا لجهله بموقعها وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أجهلك بلغة قومك ياغلام[29]“؛ لأنه جاء في الآية ﴿إنكم وما تعبدون﴾ (الأنبياء: 98) و”ما” لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح؟ والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام فقوله “وما تعبدون”.. عام في الأصنام التي كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق، وغفلة عما قصد في الآيات وما روي من قوله “ما أجهلك بلغة قومك يا غلام” دليل على عدم تمكنه من فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يتهدى للمعنى المراد، ونزل قوله تعالى: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى﴾ (الأنبياء: 101) بيانا لجهله[30]. وقد قرر الإمام الشافعي هذه القاعدة. وهي أنه “لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها[31].”

ومما راعى فيه الله، عز وجل، معهود العرب، وهو يخاطبهم بعمومات الألفاظ في اجتناب ما حرم عليهم ما أورده الجصاص في أصوله قال: “ذلك أنه متى كان هناك عادة لقوم في استباحة الاستمتاع بالأمهات والأخوات على نحو ما عليه المجوس وكثير من أصناف الكفار الذين يستحلون الاستمتاع بهن، وقوم كانوا ينتفعون بالميتة على حسب انتفاعهم بالمذكى كان مخرج الكلام تحريم ما كان المشركون يستبيحونه فيكون هذا المعنى متعلقا معقولا بورود اللفظ فيصير بمنزلة: حرمت عليكم الاستمتاع بالأمهات والبنات ومن ذكر معهن، وحرمت عليكم الانتفاع بالميتة لأن المتعارف المعتاد متى خرج عليه الخطاب صار كالمنطوق به فيه فيصح اعتبار العموم فيه[32].”

هكذا يتضح جيدا أن أقرب طرق التواصل وأنضج سبل الإفهام هو مراعاة كل ما يتضمنه الخطاب من الخصوصيات النفسية والأعراف الاجتماعية والأساليب اللغوية والعوائد البيئية.. المتعلقة بعموم الناس.

ولهذا الأمر انطلق الخطاب القرآني أيضا، وهو يهدف إلى وجوب اتصافهم بمكارم الأخلاق، إلى ما هو محمود للعرب مما هو آنس لهم. فقد جاء في الصور المكية: ﴿إن الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى﴾ (النحل: 90). إلى آخرها وقوله تعالى: ﴿قل تعالوا اَتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا﴾ (الأنعام: 151) إلى انقضاء تلك الخصال وقوله: ﴿قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده﴾ (الأعراف: 30). وقوله: ﴿قل اِنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاِثم والبغي بغير الحق﴾ (الأعراف: 31) إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.

لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم. وأبطل لهم ما كانوا يعتدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك، أو فيه من المفاسد ما يربو على المصالح التي توهموها كما قال تعالى: ﴿إنما الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه[33] (المائدة: 92).

والخطاب القرآني وهو ينطلق مما يتمدح به عندهم يضمن خطابه خصالا حميدة لم تكن من محاسن أخلاقهم ولا شرعهم استدراجا بهم إلى التخلق بها، فهو إذ يخاطبهم في البدء  يضع أرضية للتعايش تجنبا لما هم ممتعضون مستنكفون منه حتى إذا حصل التقارب بين البيئتين (بيئة الخطاب القرآني وبيئة المعهود والعرف العربي) وآنست النفوس وارتاحت القلوب إلى ما تعاقدوا عليه استدرجوا، حكمة، إلى ما هو أعظم من ذلك.

ولذلك كانت مكارم الأخلاق على ضربين؛ أحدهما ما كان مألوفا وقريبا من المعقول والمقبول كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه، تم لهم ما بقي “وهو الضرب الثاني”. وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك. وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا عندهم في الجملة. ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام، كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء[34].”

فالشارع سبحانه أجرى أسلوب الفهم بما كان عندهم من مكارم الأخلاق وضرب الأمثال، وما كان عندهم من العلوم معروفا فأقر بعضها كالتاريخ وعلم التنجيم، وأبطل بعضها كالسحر والكهانة كما أجرى أسلوب الدعوة والتواصل والحوار بما كان عندهم أيضا قال تعالى: ﴿اَدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل: 125).

 فالقرآن كله حكمة وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله وكان فيهم أهل وعظ وتذكير كقس بن ساعدة وغيره ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة (الحكمة والوعظ والجدل) وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة[35].”

وقد أرشد القرآن في مجال الدعوة إلى مخاطبة كل قوم بلسانهم الذي يفهمونه لا بلسان غريب عنهم. وقد قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول اِلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ (إبراهيم: 5).

وقد تم التعليق على هذه الآية الكريمة بالقول: “والذي يجب أن يفهم من الآية فهما أعمق من مجرد أن يخاطب الانجليز بالإنجليزية، والروس بالروسية، والصينيين بالصينية، ولكن أكثر من هذا: أن لكل قوم لسانا يخاطبون به، فلسان الخواص غير لسان العوام، ولسان الحضر غير لسان البدو، ولسان الغربيين غير لسان الشرقيين، ولسان الذين وصلوا إلى القمر غير لسان الذين يعيشون في الأدغال[36].”

كما أن معالجة بعض علماء القرآن لمبحث المكي والمدني إنما كانت بناء على مراعاة المعهود العربي، فقول الزركشي في تعريفه للمكي والمدني: “اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات[37]:

ـ أحدها؛ أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة.

ـ والثاني؛ وهو المشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة.

 ـ والثالث؛ أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة”.

 ومن فوائد هذا التقسيم ما يلي:

 أحدها؛ ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها حيث يخاطب كل قوم بما يقتضيه حالهم من قوة وشدة أو لين ورقة.

وثانيها؛ ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما يقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للعمل.

وثالثها؛ متح واقتباس الخطاب القرآني من أعرافهم اللغوية وعوائدهم الاستعمالية وعاداتهم الاجتماعية.      

الهوامش


[1] . دروس في علم الأصول السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة النشر الإسلامي، ص103–104.

[2] . البحر المحيط، 4/48.

[3] . الموافقات، 3/258.

[4] . المصدر نفسه، 3/153.

[5] . المصدر نفسه، 3/140-142.

[6] . إدريس حمادي، الخطاب الشرعي وطرق استثماره، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م، ص153.

[7] . إعلام الموقعين، 1/218.

[8] . صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم.

[9] . أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار المكتبة العلمية، 1/247.

[10] . الخطاب الشرعي وطرق استثماره، م، س، ص157.

[11] . الموافقات، م، س، 3/259-260.

[12] . محمد جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل دار إحياء الكتب العربية، 1/22.

[13] . المرجع نفسه، 1/25.

[14] . جاء في صحيح البخاري في كتاب تفسير البقرة، باب إن الصفا والمروة من شعائر الله. عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السن أريت قول الله تعالى: ﴿إن الصفا والمروة.. يطوف بهما﴾ فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه ألا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة. وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: ﴿إن الصفا والمروة… يطوف بهما﴾.

[15] . الموافقات، م، س، 3/200-201.

[16] . الموافقات، م، س، 3/202.

[17] . سنن الدارمي كتاب الأضاحي باب الاستمتاع بجلود الميتة رقم 1985.

[18] . الموافقات، م، س، 3/202.

[19] . المصدر نفسه، 3/204-205.

[20] . المصدر نفسه، 3/205.

[21]. المصدر نفسه، 3/208.

[22] . المصدر نفسه، 3/216.

[23] . أي لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك والحكمة في ذلك؛ أولا؛ أن من باشر تلقيها من الرسول أميون على الفطرة. وثانيا؛ فإنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم وهذا كله فيما تعلق بأحكام التكليف؛ لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن من الامتثال، حاشية الموافقات، 2/53.

[24] . الموافقات، م، س، 2/53-54.

[25] . الرسالة، ص 26-28.

[26] . المصدر نفسه، 51-52.

[27] . المصدر نفسه، 53- 55.

[28] . المصدر نفسه، 59-60.

[29] . قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف إنه اشتهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند.

[30] . الموافقات، م، س، 3/207-208.

[31] . الرسالة، م، س، ص50.

[32] . الإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي، أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول، ضبط نصوصه د محمد محمد تامر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1420ﻫ/2000م)، 1/136.

[33] . الموافقات، م، س، 2/57-58.

[34] . المصدر نفسه، 2/59.

[35] . المصدر نفسه، 2/60.

[36] . يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم، مؤسسة الرسالة،  ط1، (1422ﻫ/2001م)، ص511.

[37] . البرهان، م، س، 1/279.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق