لقد امتد عمر الدولة الموحدية قرنا ونيفا من الزمان، من نحو (540ﻫ) إلى نحو (650ﻫ) وخفقت أعلامها الإسلامية من حدود مصر والسودان شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن قمم جبال البرينيه في قلب أوروبة شمالا، إلى ما شاء الله في قلب إفريقية جنوبا، ولولا البحر المحيط الذي حجز امتدادها في آسفي وما والاها، لكان لها في مغرب الشمس قراع وصراع واتساع، وقد بلغت كل هذه السعة في زمن يسير، ودهر قصير، عم في أغلب أيامها الرخاء، وطاولت قوتها الجوزاء، ونالت ولا تزال تنال من الباحثين أبلغ المدح والثناء، لشواهدها الدالة عليها، من مكارم وعظائم، وفي مقدمة آيات فخارها ومجدها فن المعمار والبناء، وقديما ردّد الخليفة الأموي الناصر وهو يشيد ويبني في الأندلس:
همُّ الملوك إذا أرادوا ذكرها من بعدها فبألسن البُنيان
إن البناء إذا تعاظم قدره أضحى يدل على عظيم الشأن
لقد ترك الموحدون، ويعقوب المنصور منهم على الخصوص الذي سنقف عنده، منائر للإسلام شامخة، يشق صوت مناديها أجواز الفضاء، ويدعو الخليقة إلى رب السماء، عنوانا لهذه الدولة السُّنية السَّنيَّة، فالكتبية في مراكش رمز لإفريقية كلها، وصومعة حسان في رباط الفتح رمز للجهاد وأهله في الإسلام على مدى الأيام، والخيرالدا في إشبيلية قمة حضارة إنسانية معطاء لا تنال منها تشويهات الحاقدين، وعبث العابثين على مر القرون، شاهد حق للناس على أن المسلم يبني الخير أينما حل، وينشر الرقي في كل الأنحاء.
لقد توجهت هذه الدولة بالفكر الإسلامي توجها جديدا لم يكن آنئذ، وبهذه التوجه حصل إبداع وابتكار، وحفظت لهذه الأمة كثير من مصادر المعرفة والآثار، وتاج أعلامها الأخيار الأبرار.
لقد أرادت هذه الدولة أن تعيد أمر الحياة الإسلامية جَذعاً، وتعود بالمسلمين إلى عصور الخير والازدهار إلى القرون الثلاثة الأولى، في الفكر والسلوك ونمط الحياة.
وقد كان القرن الرابع والخامس الهجريين مرحلة استقرار الفقه الإسلامي بمدارسه المعروفة، ومذاهبه السنية خاصة: الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنبلية وتبلورت هذه المدارس الأربع من خلال قواعد وأصول بنيت عليها، وأغصان وفروع انطلقت منها، وتميزت كل مدرسة بأصولها الخاصة التي تختلف بها عن المدارس الأخرى، مع اشتراك جميع هذه المدارس بجزء عظيم.
ودونت هذه القواعد والأصول، وكتبت كتب الفروع، ولا ضير في ذلك، إلا أن المعركة التي استمرت في بناء الفقه الإسلامي في طليعة القرون الثلاثة الأولى، وعرفت فيها تقارع الأفكار وتدافع الحجج وابتكار الأساليب، بما بهر العقول، وحير الأفكار، فأين مطارحات ابن أبي ليلى وأبي حنيفة؟ وأين مناقشات الشافعي مع محمد بن الحسن الشيباني؟ وأين المراسلات التي كانت ترد وتصدر بين مالك والليث بن سعد؟ وأين ندوات الأوزاعي وغيره؟ وأين حلقات أحمد بن حنبل، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي ثور الفهمي؟ وأين؟ وأين؟
لقد همد هذا في القرن الرابع والخامس، وألفت في كل مذهب كتبه الخاصة، وتعدى الأمر إلى تأليف المختصرات والعكوف عليها، والتعصب للمذهب والدفاع عنه. فللحنفية (مختصر الطحاوي)، ثم تلاه (مختصر القدوري)؛ وهما عمدة هذا المذهب إلى اليوم، وللشافعي (مختصر المزني) وتلاه ما تلاه إلى يومنا هذا، وللمالكية (مختصر ابن عبد الحكم) وغيره، وللحنابلة مثل هذا، وبالأمس كان من منزع الفقهاء من القرآن الكريم والسنة، واليوم عكوفهم على هذه المختصرات وكتب المذهب خاصة .. فحصل بذلك نوع من الهمود والركود، وما كانت المناظرات بعد إلا دفاعا عما هو موجود وانتصارا لما هو قائم، وعرا دولة المسلمين نوع من التفكك وتقطيع الأوصال، مما قطع الأفكار وحير العقول، فالدولة البويهية في بغداد والمشرق، والسلجوقية في الشمال، والفاطمية بمصر، والطوائف في الأندلس، والمرابطية في إفريقية والمغرب... وهذا له ما له من أثر في دفع حركة الفقه، وعجلة التشريع، تشرذما وتشتتا.
وكانت إفريقية والأندلس مقرا لأتباع مالك بوجه عام من أيام مالك، رحمه الله، في نهاية القرن الثاني، ولكنها كانت إلى جانب الفقه المالكي تعج وتموج بالمحدثين الواردين إلى مدارس الحديث بالمشرق، والصادرين عنها، فكان الفقهاء محدثين، والمحدثون فقهاء في الأعم الأغلب.
واستمرت الأمور على ذلك مدة حتى جاءت الدولة المرابطية من منتصف القرن الخامس (465 ﻫ) تقريبا، فعملت على ترسيخ الفقه المالكي المجرد عن الدليل، وذلك أيام أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين وابنه علي الذي امتد حكمه إلى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وكان كأبيه، ومما جاء في وصفه: أنه شجاع مجاهد، عادل دِّين، ورع صالح، معظِّم للعلماء، مشاور لهم، نفق في زمانه الفقه وكتب الفروع، حتى تكاسلوا عن الحديث والآثار، وأهينت الفلسفة...[1].
واستمرت سطوة الفروع والكتب الفروعية مدة بقاء المرابطين، ومن يرجع إلى تاريخ العلماء في هذه الفترة يجد أن عمل العلماء كان حول (مدونة) الإمام سحنون بن سعيد، اختصارا وتهذيبا، وشرحا وتعليقا..
حتى جاءت دولة الموحدين التي انبثقت على هدي أفكار محمد بن تومرت الذي كان قد جال في المشرق، ورأى صراع المدارس الفقهية والاتجاهات العقائدية، ولمس محاولات النهوض بالفقه الإسلامي والبحث عن الدليل من القرآن والسنة، ودرس على الغزالي الشافعي، كما درس على مالكية المشرق، وعاد إلى المغرب وشارك بأعمال علمية، منها اختصاره لـ(موطأ الإمام مالك) وله المكانة العليا عند المحدثين والفقهاء، وحرر رسائل في العقائد وغيرها، ودرَّب أتباعه على قراءة القرآن حزب في الصباح وحزب في المساء ليختم في كل شهر، وحاول إبعاد الناس عن الفروع الفقهية وكتبها[2].
ولما آل الأمر إلى عبد المومن بن علي، وأقام دولة الموحدين، ومدَّ رواقها، وأصغى له الدهر كما قال الوزير أبو جعفر بن سعيد العنسي، مخاطبا له في قصيدة بجبل الفتح جبل طارق[3].
تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر فما لسواك اليوم نهي ولا أمر
ورُمْ كل ما قد شئته فهو كائن وحاول فلا بر يفوت ولا بحر
وعمق عبد المؤمن اتجاه شيخه المهدي ابن تومرت في دفع كتب الفروع وإعلاء شأن الأصول، والرجوع إلى القرآن والحديث، قال الناصري: لما كانت سنة خمسين وخمسمائة، أمر أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بإصلاح المساجد وبنائها في جميع ممالكه، وبتغيير المنكرات ما كانت، وأمر مع ذلك بتحريق كتب الفروع، ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث، واستنباط الأحكام منها، وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة[4].
وكان عبد المؤمن، كما يصفه ابن خلكان وغيره، فصيحا مفوِّها فقيها عالماً بالأصول والجدل والحديث، مشاركا في كثير من العلوم الدينية والدنيوية.
وأقبل طلبة العلم منذئذ على الأصول ودفع عبد المومن بن علي أولاده إلى أهل الحديث، ليحفظوه مع كتاب الله، وقد جاء في ترجمة ابنه يوسف في (المعجب) للمراكشي، وهو قريب العهد به[5]: صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، وأظنه (صحيح البخاري).
وقال: لما تجهز لغزو الروم، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى على الجند، وكان هو يملي بنفسه، وكبار الموحدين يكتبون في ألواحهم، وكان فقيها يتكلم في المذاهب ويقول: قول فلان صواب، ودليله من الكتاب والسنة كذا وكذا.
ولما استلم ابنه يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور سنة (580ﻫ)، كان هذا الاتجاه قد استقر وتوضح، وبلغ يعقوب المنصور من العلم بالكتاب والسنة والفقه مبلغا عظيما، قال تاج الدين بن حموية السرخسي، وقد زار المغرب سنة (593ﻫ)؛ أي قبل وفاة المنصور بسنتين، وكان على صلة بالمنصور، واطلع على أحوال دولته[6]: كانت الدنيا بسيادته مجملة، يقصد لفضله، ولعدله ولبذله، ولحسن معتقده... وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتتح بالتلاوة، ثم بالحديث، ثم يدعو هو، وكان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وينسبونه إلى مذهب الظاهر، وكان فصيحا مهيبا... بزي العلماء وعليه جلالة الملوك، صنف في العبادات، وله فتاو، وبلغني أن السودان قدّموا له فيلا فوصلهم، ورده وقال : لا نريد أن نكون من أصحاب الفيل... وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه، وعمل مكتبا للأيتام فيه نحو ألف صبي وعشرة معلمين.
وقد صح عنه أنه أراد جمع صحيح السنة من مصادرها الأصيلة، وأمر بذلك الحفاظ في عصره. وقال الحافظ أبو الحسن ابن القطان فقيه دولتهم ورأس طلبتهم: حرص، رحمه الله، على تدوين كتاب يشتمل على عجب عجاب من صحيح آثار السنة، وتمحيص السنن الثابتة المنثورة، وتمييزها عن سقيمات الآثار المسطورة، وجعل ذلك لمهرة طلبته الناهضين بخدمته..[7] وجمع كتاب "الصلاة" من الكتب (الخمسة الأصول، والموطأ، ومسندي البزار وابن شيبة، وسنن الدارقطني والبيهقي)[8].
وأراد المنصور، رحمه الله، أن يؤصل للاجتهاد، وينفخ فيه روحا جديدا في ربوع مملكته، وروع أهل العلم من حوله، فأضاف إلى السنة المطهرة بعد القرآن أن أمر بجمع كتاب في الإجماع، يضم المسائل التي أجمع عليها المسلمون من قبل، حتى لا يتخطاها أهل العلم؛ لما للإجماع من مكانة، وأمر بجمع كتب الفقه المذهبي على اختلافها، واعتنى بالكتب التي تبسط المسائل مع أدلتها من القرآن والسنة.
وكأني به، رحمه الله، أراد أن يحيي فقه الكتاب والسنة كما كان غضا طريا في القرون الثلاثة الأولى، وجمعت كتب الفقه في هذا الباب.
وما اتهم به من ظاهرية[9] ينفيها ما ثبت عندنا من رواج لكتب الفقه في عصره، واعتماد الدولة لجميع المذاهب السنية ومنها: المالكية، والظاهرية، وبما أن الظاهرية دائما يناقشون ويحتجون بالآثار فكتبهم محشوة بها، وحظيت عندهم بهذا الاعتبار.
وقد ثبت عندنا نفاق سوق كتب جليلة ذات شأن مما لم يقرع اسمها إلا أسماع خاصة الخاصة منذ مدة طويلة، وهذا ما دعانا إلى بيانها، وإشاعة ذكرها، وتغيير النظرة التي وجهت للدولة الموحدية وعدَّها في صف الظاهرية، وتعصبها لها، والأمر ليس كذلك، لتكون هذه الكتب محل بحث والاهتمام، والبعث والدرس، عنوانا ليقظة فقهية كما أرادت الدولة الموحدية وواسطة عقدها يعقوب من قبل، معتمدا في ذلك على كتب أبي الحسن ابن القطان الفاسي المتوفى (628ﻫ)؛ وقد عاش في كنف هذه الدولة وسلك خطتها العلمية وترك وراءه عديدا من الآثار الجليلة العلمية، واعتمادنا في هذا البحث على كتابيه: "الإقناع في مسائل الإجماع" وكتابه: "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر"، وهما مطبوعان[10].
وكان هذا الإمام قيما على خزانة الموحدية مسؤولا عنها ولهذا، فكتبه مستقاة منها، معرِّفة بمضمون خزانة الموحدين، مرتبا الكتب الفقهية حسب المذاهب، ومعرِّفا بها وبقيمتها.
1. أما المالكية: فلم تحاربها الدولة الموحدية بإطلاق كما هو شائع بين كثير من الباحثين، بل كانت كتب المالكية سائرة رائجة، ولكنها الكتب النقاوة، والتي كانت قبل الدولة وبعدها محط اهتمام العلماء، وحازت قصب السبق في جميع الأعصار، وفي مقدمتها (الموطأ) للإمام مالك أصل الأصول، فكان له شأن بدءا من محمد ابن تومرت الذي اختصره، إلى يعقوب المنصور، و(المدونة) التي نقل فيها سحنون آراء مالك وابن القاسم.
ـ ومن أعلام المالكية وأصحاب المصنفات الذين استمر أثرهم الفقهي ولقي قبولا في الدولة الموحدية: القاسم بن محمد بن سيار القرطبي المتوفى (278ﻫ)، وهو المحدث الكبير تلميذ المزني حامل علم الشافعي، وتلميذ يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والحارث بن مسكين، وكان يعرف بصاحب الوثائق لشهرته بها، قال ابن حزم: وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال، ومحمد بن عقيل الفريابي، وله تآليف جليلة، ومنها كتاب: "الإيضاع في الرد على المقلدين"، ومصنف جليل في خبر الواحد[11].
ـ ومنهم محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني المعروف بابن المواز، المتوفى (281ﻫ) أو نحوها، كان راسخا في الفقه والفتيا علما في ذلك ، وكان المعول بمصر على قوله.
قال القاضي عياض[12]: وله كتابه الكبير المشهور، وهو أجل كتاب ألفه قدماء المالكيين، وأصحه مسائل، وأبسطه كلاما، وذكره أبو الحسن القابسي، ورجحه على سائر الأمهات، وقال: لأن صاحبه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذاهب على أصولهم في تصنيفه وغيره إنما قصد إلى جمع الروايات ونقل منصوص السماعات... إلا أن ابن حبيب فإنه قصد إلى بناء المذهب إلى معان تأدت إليه... ويسمى كتابه هذا بـ(الموازية)، وكان له حضور قوي في المغرب إبان العهد الموحدي، وقد اقتبس منه ابن رشد الحفيد في (بداية المجتهد)، وابن القطان في كتابه: "إحكام النظر" وأكثر عنه[13].
ـ ومنهم كذلك إسماعيل بن إسحاق القاضي المتوفى (282ﻫ)[14] أحد الرؤساء الكبار، وإمام المدرسة المالكية ببغداد؛ جمع القرآن، وعلوم القرآن، والحديث، وآثار العلماء، والفقه، والكلام، والمعرفة بعلم اللسان، صنف في مذهب مالك، ورد على أصحاب الشافعي وأبي حنيفة، وولي القضاء، وكان لكتبه وزن كبير، وكانت عمدة في فقه المالكية، ومنها: (المبسوط) الذي اقتبس منه فقهاء المالكية كثيرا، و(أحكام القرآن)، و(الأموال)، و(الشفاعة)، و(الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، و(مسند حديث يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني)، وهذه الكتب هي من مرويات محمد بن خير الإشبيلي في (فهرسته) المتوفى سنة(575ﻫ): أي: في عصر الدولة الموحدية[15].
ـ ومنهم ابن الجهم المالكي، ومحمد بن أحمد، يعرف بابن الوراق المروزي، صحب إسماعيل القاضي، وتفقه به ومعه، ومع كبار أصحاب ابن بكير وغيره، وتوفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ألف كتبا جليلة على مذهب مالك، وشرح (مختصر) ابن عبد الحكم الصغير وله معرفة تامة بالحديث، قال الخطيب :له مصنفات حسان محشوة بالآثار، يحتج لمذهب مالك، ويرد على مخالفيه، وقد انتشرت مؤلفاته في الدولة الموحدية، واقتبس منها العلماء[16]، ولا نعلم عنها شيئا الآن.
ـ ومنهم المنذر بن سعيد البلوطي، أبو الحسن الأندلسي المتوفى (355ﻫ) سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ونظرائه، ثم رحل حاجا سنة (308ﻫ) فسمع بمكة من محمد بن المنذر النيسابوري المتوفى(318ﻫ) كتابه: "الإشراف على اختلاف العلماء"، وهو من أعظم كتب الإسلام في الفقه، وروى بمصر كتاب العين للخليل بن أحمد، وكان متفننا في ضروب العلم، ولي قضاء الجماعة بقرطبة من سنة (339ﻫ) إلى سنة (355ﻫ) حتى موته، وكان يقضي بمذهب مالك بن أنس لا يخرج عنه، وكان له احتفال بكتب الأدلة، وخاصة كتب داود الظاهري، مما أكسبه معرفة بالمناظرة، واختلاف العلماء، قال الخشني في (قضاء قرطبة): وكان من أهل النفاذ والتحصيل، متدربا للمناظرة متخلِّقا بالإنصاف، جيد الفهم، طويل العلم، بليغا موجزا يميل إلى طرق الفضائل، ويوالي أهلها، ويلهج بأخبار الصالحين.
وله تصانيف حسان جدا كما يقول ابن بشكوال، وقال ابن الفرضي: له كتب مشهورة كثيرة في القرآن والفقه، والردّ، أخذها الناس عنه، وقرؤوها عليه.
ومن كتب التي راجت وكان لها شأن في الدولة الموحدية (الإنباه عن الأحكام من كتاب الله)، و(الإنابة عن حقائق أصول الديانة)، و(ناسخ القرآن ومنسوخه)، وقد اقتبس العلماء من كتبه وخاصة الأول؛ منهم ابن القطان في (الإقناع)، وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي في (فهرسته)[17].
ـ ومنهم الإمام الأبهري، أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح، المتوفى (385ﻫ) جمع بين القراءات، وعلوم الإسناد في الحديث، والفقه الجيد، وشرح (مختصر ابن عبد الحكم)، وعنه انتشر مذهب مالك في المشرق، وقال الإمام الدارقطني: وهو إمام المالكية، وإليه الرحلة من أقطار الدنيا، رأيت جماعة من الأندلس والمغرب على بابه، ورأيته يذاكر بالأحاديث الفقهية، ويذاكر بحديث مالك، ثقة مأمون زاهد ورع.
قال الخطيب البغدادي: وله التصانيف في شرح مذهب مالك بن أنس والاحتجاج له، والرد على من خالفه، وقال القاضي عياض: لأبي بكر من التواليف سوى شرحي المختصرين: (الردة على المزني)، وكتاب (الأصول)، وكتاب (إجماع أهل المدينة)، (ومسألة إثبات حكم القافة)، وكتاب (فضل المدينة على مكة و(مسألة الجواب)، و(الدلائل والعلل).
وقد حمل علمه وكتبه جمع من المغاربة والأندلسيين، وشاعت كتبه فيهم، واقتبسوا منها في العهد الموحدي، ولم يبق منها أثر اليوم[18].
ـ ومنهم أبو الحسن بن على بن عمر بن أحمد المعروف بابن القصارالمتوفى(398ﻫ)، قال القاضي عبد الوهاب المالكي تذاكرت مع أبي حامد الإسفراييني الشافعي في العلم، وجرى ذكر أبي الحسن القصار وكتابه في الحجة لمذهب مالك، فقال لي: ما ترك صاحبكم لقائل ما يقول.
وقال الشيرازي: وله في مسائل الخلاف كتاب كبير، لا أعرف لهم في الخلاف كتابا أحسن منه [19]. وقد اختصر كتابه في (عيون المسائل)، واختصر بدوره (نكت العيون)، وأكثر ابن القطان النقل منه في كتابه (الإقناع).
ـ ومنهم: ابن بطال سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، أبو أيوب، المتوفى نحو (400ﻫ)، وهو فقيه مقدم، وشاعر محسن كثير الشعر، ترجمه غير واحد كالحميدي والضبي، وذكر له في (نفح الطيب): (الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام)، وله شرح على البخاري)، وهو غير ابن بطال علي بن خلف الآتي ذكره، فأين كتابه (الأحكام)؟!
ـ ومنهم الباقلاني، سيف السنة ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث، وطريقة أبي الحسن الأشعري، المتوفى (403ﻫ)، إليه انتهت رئاسة المالكية في عصره، وكان له في جامع البصرة حلقة عظيمة، وذكر له القاضي في (المدارك) كتبا كثيرة، منها: (البيان عن فرائض الدين وشرائع الإسلام ووصف ما يلزم مما جرت عليه الأقلام من معرفة الأحكام)، وكتاب (الأنصار)، وقد حمل المغاربة والأندلسيون كتبه ولآراءه عن تلميذه الحافظ أبي ذر الهروي من مكة، وكان لها رواج في العهد الموحدي؛ لأنهم قفوا طريقته في العقائد الأشعرية. وقد نقل ابن القطان في كتابه: (إحكام النظر) نصوصا عديدة عنه[20].
ـ ومنهم أبو القاسم ابن الجلاب، عبيد الله بن الحسن، وقيل: الحسين، المتوفى (398ﻫ)، تفقه بالأبهري وغيره، وله كتاب: (في مسائل الخلاف)، وكتاب التفريع في المذهب) وهو مشهور، وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان[21].
ـ ومنهم القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر، المتوفى (422ﻫ)، الفقيه الشاعر المتأدب، له كتب كثيرة في كل فن من الفقه، ومنها: (الإشراف)، و(التلقين) وهو من أجود المختصرات، و(المعونة) و(شرح الرسالة)، وغير ذلك، وقد اقتبس ابن القطان وغيره من شرحه (الرسالة)[22].
ـ ومنهم أبو عمرو الطلمنكي، الإمام المقرئ المحدث (الحافظ) المتوفى (329ﻫ)، من شيوخ الحافظ ابن عبد البر، وابن حزم وكان من بحور العلم، رحل، وأدخل الأندلس علما جما نافعا، قال الذهبي[23]: صنف كتبا كثيرة في السنة يلوح فيها فضله، وحفضه وإمامته، واتباعه للأثر.
وقال القاضي عياض[24]: اتسعت روايته، وتفنن في علوم الشريعة، وغلب عليه القرآن والحديث، وألف تآليف نافعة كثيرة كبار وصغارا، ومختصرة، واحتسابا، كتاب (الدليل إلى المعرفة الجليل)، نحو مئة جزء، وكتابه في (تفسير القرآن) نحو هذا،لا و(البيان في إعراب القرآن)، و(فضل مالك)، و(رجال الموطأ)، و(الرد على ابن مسرة)، و(الوصول إلى معرفة الأصول)، وغير ذلك، وكان هذا الأخير متداولا في العصر الموحدي، واقتبس منه الحافظ ابن القطان في كتابه (الإقناع)، كما اقتبس منه معاصره في المشرق الحافظ ابن تيمية الحراني وتلميذه ابن قيم الجوزية[25]. وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي في (فهرسته).
ـ ومنهم ابن بطال، علي بن خلف، العلامة الفقيه المشهور المتوفى(444ﻫ، أو449ﻫ)، صاحب (شرح البخاري) الذي أكثر النقل عنه ابن حجر في (فتح الباري)، وقال القاضي عياض[26] كبير يتنافس فيه، كثير الفائدة. وله (الزهد والرقائق)، و(الاعتصام في الحديث)، وقد أكثر النقل عنه ابن القطان في كتابه (الإقناع) بشكل واضح فيما يتعلق بمسائل الإجماع[27].
ـ ومنهم حافظ المغرب الإمام الحجة أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، المتوفى (463ﻫ) صاحب المؤلفات الجليلة النافعة ومنها (التمهيد) و(الاستذكار في شرح الموطأ)، وعدَّ الإمام الذهبي كتاب (التمهيد) رابع أربعة كتب هي أمهات كتب الإسلام، وكانت كتبه من مفاخر الغرب الإسلامي، ولهذا علا شأنها في الدولة الموحدية، ورجح ميزانها في هذه الفترة؛ لأنها مملوءة بالأدلة، مترعة بنفس الاجتهاد، عمدة في نقل مذاهب الماضين الموافقين للمالكية والمخالفين.
وقد أكثر عنه جدا ابن القطان في جميع كتبه الحديثة والفقهية ووصفه بأنه أحد أشياخ مذهب المالكية، وما كتاب (بداية المجتهد) لابن رشد إلا اختصار لكتاب (الاستذكار) كما صرح هو بنفسه[28].
ـ ومنهم الإمام الباجي، أبو الوليد سليمان بن خلف، المتوفى(474ﻫ)، القاضي العلامة صاحب التصانيف[29] ورافع راية المالكية في وجه ظاهرية ابن حزم، وله كتب كثيرة، ومنها (المنتقى في شرح الموطأ)، وغيره. وكان لكتبه استمرار وحضور، واقتبس منها الحافظ ابن القطان في (إحكام النظر)[30].
ووصفه بأنه أحد أشياخ مذهب المالكيين، ونقل ابن خير في (فهرسته) رواية عن الباجي في عديد من كتبه بلغت اثني عشر كتابا[31].
ـ ومنهم الإمام اللخمي، أبو الحسن علي بن محمد الربعي، المتوفى(478ﻫ)، وهو شيخ الإمام المازري، ورئيس فقهاء إفريقية، كان متفننا في علوم الأدب والحديث والفقه، حسن الفهم، جيد النظر، له التعليق على (المدونة) المشهور باسم (التبصير). وله اختيارات خرجت عن قواعد مذهب مالك، وضرب به المثل حتى قيل:
لقد هتكت قلبي سهام جفونها كما هتك اللخمي مذهب مالك
ومع هذا فهو أحد الأئمة الأربعة المالكية المعتمد ترجيحهم عند خليل بن أسحاق في (مختصره) المشهور. وكانت كتبه حاضرة في العهد الموحدي، واقتبس منها الحافظ ابن القطان[32].
ـ ومنهم إمام المالكية في عصره بلا منازع أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد المتوفى (520ﻫ) صاحب (البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل)، شرح في المستخرجة من أسمعة مالك) للعتبي، ووجه أقولها، ومهد بين يدي هذا الكتاب الموسوعة، وبين يدي كتاب (المدونة) للإمام سحنون بـ(المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات الممكنات، لأمهات مسائلها المشكلات)، و(البيان والتحصيل) جمع فيه ما تفرق من أقوال المالكية وكتبهم، ومحّص ذلك أفضل تحميص.
وقد وصف ابن رشد الجد بأنه أوحد زمانه في طريقة الفقهاء وقرب مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه[33].
وقد كان لكتب إمام مالك وهو من رجال الدولة المرابطية التي قامت على أنقاضها الدولة الموحدية، حضور واستمرار، فقد نقل عنها حفيده أبو الوليد بن رشد الفيلسوف كثيرا، ومثله الحافظ ابن القطان في (إحكام النظر وغيره[34] وينقل نصوصا من (البيان والتحصيل) كما هي، كما اقتبس من (المقدمات الممهدات) عدة نصوص مع تسمية الكتاب[35].
وقد كان لأمهات كتب المالكية قبل الدولة الموحدية ورجال الفقه حضور أثناء هذا العهد في آرائهم ونصوصهم، فمن ذلك (العتبية) لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بالعتبي، المتوفى (255ﻫ) وسمي (المستخرجة) ، وهي التي شرحها ووجهها ابن رشد الجد، واقتبس منها ابن القطان وابن رشد الحفيد[36].
و(المجموعة) لابن عبدوس، محمد بن إبراهيم بن بشير، المتوفى(260ﻫ)، الإمام الزاهد الثقة. وقد وصفها الخشني بقوله[37]: وألف كتابا شريفا سماه: (المجموعة على مذهب مالك وأصحابه) وهي نحو خمسين كتابا، وقد اقتبس منها الحافظ ابن القطان في (إحكام النظر)[38].
وكانت غير هذه الكتب من أمهات المالكية تذكر، وآراؤهم تتداولها حلقات الدرس بدءا من ابن القاسم إلى ابن حبيب الأندلسي وكتابه: (الواضحة) وغيرهم، وأشهب، وأصبغ بن الفرج، وابن دينار، وعبد الله بن وهب، وابن كنانة... وغيرهم.
وإن تدقيقا وتفحصا في تطور المذهب المالكي ومصنفاته يؤكد لنا أن هؤلاء هم بناة المذهب، فما كان العهد الموحدي عهد خمول للمذهب المالكي كما هو شائع، بل عهد تجديد وتمحيص ودعم بالأدلة والحجج ببعث أمهات كتبه وإحياء مصنفات روّاده، وقد أكدنا ذلك في بحث آخر لنا يتمم هذا البحث، ولهذا نستطيع القول بأن الفقه المالكي قد جدد شبابه خلال العهد الموحدي.
الهوامش
[1] . انظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء: 20/124، الناصري، الاستصقاء: 2/69.
[2] . انظر: عبد المجيد النجار، المهدي بن تومرت: حياته وآراؤه، ص: 362.
[3] . انظر: الحلل الموشية في الأخبار المراكشية.
[4] . انظر الناصري، الاستصقاء: 2/126.
[5] . انظر: المعجب، ص: 347.
[6] . انظر: سير أعلام النبلاء، 21/316.
[7] . من مخطوطة الإقناع، لابن القطان، الورقة الأخيرة، وانظر: عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص: 401.
[8] . انظر عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص: 401.
[9] . انظر عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص: 401.
[10] . طبع الكتاب سنة (1316ﻫ/1996م) بدار إحياء العلوم ببيروت، والشركة الجديدة دار الثقافة بالدار البيضاء، بتحقيق الأستاذ إدريس الصمدي ومراجعتنا، وطبع كتاب: "الإقناع في مسائل الإجماع"، بشرحنا وتحقيقنا، بدار القلم بدمشق في أربعة مجلدات ضخام، سنة (1424ﻫ /2003م).
[11] .انظر ترجمته في: القاضي عياض، ترتيب المدارك لمعرفة أعيان مذهب مالك: 4/446.
[12] . ترتيب المدارك: 4/127-169.
[13] . انظر: إحكام النظر، ص: 185، 313، 316، 345 وغيرها، وانظر: ص:318 حيث يذكر أنه نقل النص من كتابه.
[14] .انظر: ترجمته في: تاريخ بغداد: 6/284؛ ومعجم الأدباء: 6/129؛ والديباج المذهب: 1/282؛ وسير أعلام النبلاء: 13/339.
[15] .انظر: المقتبسات عنه في : إحكام النظر، ص 145، 292 وغيرها.
[16] . انظر: الاقتباس في إحكام النظر، ص: 99، 144، 285، 299، 303؛ وانظر ترجمته وهي عزيزة نادرة في: ترتيب المدارك: 5/19-20 والديباج المذهب: 2/185.
[17] . انظر ابن خير في فهرسته، ص: 53، وانظر: الاقتباس في الإقناع، الفقرات: 257، 262 ، 279، 323، 330، 333 وغيرها كثير، وترجمته مطولة في غير مصدر، ومنها: سير أعلام النبلاء: 16/173.
[18] . انظر: ترجمته في: تاريخ بغداد: 5/466؛ والشيرازي، طبقات الفقهاء ص: 167؛ وترتيب المدارك: 6/183 وغيرها.
[19] . انظر: الشرازي، طبقات الفقهاء، ص: 168.
[20] . انظر: الاقتباس في إحكام النظر، ص: 128، 386، 402، 407، وقد أكثر عنه، أما ترجمته فمشهورة متداولة.
[21] . انظر: ترجمته في المدارك:7/76؛ والشيرازي، طبقات الفقهاء، ص: 168، وانظر الاقتباس في إحكام النظر، ص: 261.
[22] . انظر: إحكام النظر، ص: 287.
[23] . انظر: سير أعلام النبلاء: 18/567.
[24] . انظر: ترتيب المدارك: 8/32.
[25] . انظر: الإقناع، الفقرات: 2، 8، 13، 80، 82، 86، وغيرها، وانظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل مع النقل: 2/35، 6/250، وانظر ابن خير فهرسته، ص: 209.
[26] . انظر: ترتيب المدارك، ص: 160.
[27] . انظر: عن سبيل المثال الفقرات: 354، 407، 418، 599، 673، 696، 827. وقد طبع الكتاب؟
[28] . انظر: بداية المجتهد: 2/241، وانظر ترجمته في: المدارك: 8/127، وانظر: إحكام النظر، ص: 222.
[29] . انظر ترجمته في: القاضي عياض، ترتيب المدارك: 8/117، فقد بسط ترجمته وذكر مصنفاته.
[30] . انظر :إحكام النظر، ص: 143،222.
[31] . انظر:ص: 552.
[32] . انظر إحكام النظر، ص: 213، وانظر ترجمته في ترتيب المدارك ص: 8/109.
[33] . انظر: بغية الملتمس، ص: 51، ترجمته رقم: 24؛ والصلة: 2/576؛ ونفح الطيب: 5/346.
[34] . انظر إحكام النظر، على سبيل المثال، ص: 228، 268، 292، 303، 355، 386، 410، وغيرها.
[35] . انظر: ص: 144، 322.
[36] . انظر إحكام النظر، ص: 122، وانظر: ابن رشد، وبداية المجتهد: 8/82.
[37] . انظر: ترتيب المدارك ص: 4/223.
[38] . انظر: ص: 306.