مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

النصُّ القُرآني والسَّمتُ النّظميّ (ح: 8)

14- من أدواتِ القُرآنِ الكَريمِ الرّابطَةِ لأجزاءِ النّصّ: الضّمير ووظيفَة الرّبطِ:

من وَظائفِ الضّميرِ في اللغةِ العربيّةِ الاخْتصارُ، لأنّه يقومُ مَقامَ الظّاهرِ ويُغْني عن تَكْرارِه، ومن وَظائفِه الرّبطُ ووَصلُ الجُملِ بعضِها ببعضٍ، ومن وظائفِه أيضاً الإحالَةُ عَلى سابقٍ؛ وهي عودُه على مُتقدّمٍ بِما يُغْني عن ذكْرِه وبِما يَربِطُ آخِرَ الكَلامِ بأوّلِه.

هذا، ولا بُدّ للضّميرِ من مرجعٍ يَعودُ إليه، ويكونُ المَرْجعُ إمّا مَلفوظاً بِه سابقاً مُطابقاً لَه، نحو قَوله تَعالى: «ونادى نوحٌ ابْنَه» (1) ، «وعَصى آدَمُ ربَّه فَغَوى» (2) ، أو مُتضمِّناً لَه، نحو: «اعْدلوا هو أقْربُ للتّقْوى» (3)، فإنّ الفعلَ “اعْدِلوا” يتضمّنُ الاسْمَ المَرْجعَ  وهو “العَدْل”، أو دالاًّ عليْه بالالْتزامِ نحو: «إنّا أنْزلْناه في ليلةِ القدرِ» (4) ؛ أي القرآن، فإنّ الإنزالَ يدلُّ عليه الْتِزاماً، أو متأخّراً لفظاً لا رُتبةً نحو: فأوْجسَ في نفسِه خيفةً مّوسى» (5)، «ولا يُسألُ عن ذُنوبهِم المُجرِمونَ» (6)، أو متأخِّراً دالاًّ بالالْتزامِ: «فلَوْلا إذا بَلَغَت الحُلقومَ» (7)، فقَد أضْمِرَت الرّوحُ لدَلالةِ الحُلقومِ عليْها. وقَد يدلُّ السياقُ على الاسْمِ الذي يَرجعُ إليه الضّميرُ، فيُضمَر ثقةً بفهمِ السّامعِ وعلْمِه، نحو قولِه تَعالى: «كلُّ مَن عليْها فانٍ» (8)، وقَد يَعودُ الضّميرُ على لفظِ المذكورِ دونَ مَعْناه: «واللهُ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمّ جَعَلَكُمْ أزْواجًا وما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ولا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ. وما يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ في كِتابٍ. إنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ» (9)؛ أي لا يُنقَصُ من عُمُرِ مُعمَّرٍ آخَر (10).

والأصلُ في الضّميرِ عَوْدُه عَلى أقربِ مَذكورٍ، نحو: «وكَذلِك جَعَلْنا لكلِّ نَبيٍّ عَدوّاً شَياطينَ الجنِّ والإنسِ يوحي بَعضُهُم لبَعضٍ زُخْرُفَ القَولِ غُروراً» (11)، فلكَيْ يَعودَ الضّميرُ على أقربِ مَذْكورٍ في الآيَةِ أُخِّرَ المَفْعولُ الأوّلُ وهو الشّياطين، ليَعودُ الضّميرُ عليْه لقُربِه، أمّا إن كانَ مرجعُ الضّميرِ هو المُضافَ عادَ عليْه الضّميرُ وإن حالَ بينهُما المُضافُ إليه، نحْو قولِه تَعالى: «وإنْ تَعُدّوا نعمَةَ الله لا تُحْصوها، إنّ الله لَغَفورٌ رَّحيمٌ» (12).

والأصلُ في الضّمائرِ أيضاً تَوافُقُها في المَرجعِ حَذَرَ التّشتيتِ، نحو قولِه تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (13) فالضّمائرُ كلُّها راجعةٌ إلى موسى، ولا يصحُّ أن يرْجعَ بعضُها إلى موسى وبعضُها إلى التّابوتِ لما في ذلِك من هجْنةِ التّشتيتِ وتَنافُرِ النّظمِ (14).

ومثلُ ذلِك قولُه تعالى: «إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا ونَذيرًا لِتُؤْمِنوا باللهِ وَرَسُولِهِ وتُعَزِّروهُ وتُوَقِّروهُ وتُسَبِّحوهُ بُكْرَةً وأصيلاً» (15) ، فالضّمائرُ في (رَسُولِهِ وتُعَزِّروهُ وتُوَقِّروهُ وتُسَبِّحوهُ) لله تَعالى، والمُرادُ بتَعْزيرِه تَعزيرُ دينِه ورَسولِه، «ومَن فَرَّقَ الضَّمائرَ فقد أبْعَدَ» (16).

وقَد يأتي من الضّمائرِ ما تختلفُ مَراجعُه، كما في قولِه تَعالى: «قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إلاّ مِراءً ظاهِرًا ولا تَسْتَفْتِ فيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا» (17) ؛ فإنّ الضَّميرَ في الجارّ والمَجْرورِ (فيهم) لأصحابِ الكَهفِ، والضَّمير في الجارّ والمَجْرورِ (مِنْهُم) لليَهودِ (18).

ومن قَواعدِ عَودِ الضّمير، أنّه إذا اجتَمَعَ في الضَّمائرِ مُراعاةُ اللّفظِ والمَعْنى، بُدئَ باللّفظِ ثمّ بالمَعْنى، نحو قولِه تَعالى: «ومِنَ النّاسِ مَنْ يَقولُ آمَنّا بِاللهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بمُؤمِنين» (19) ؛ أفْردَ أولاً (مَن يَقول)، باعْتبارِ اللّفظِ، ثُمّ جَمَعَ (وما هُم بِمؤمِنينَ) باعْتبارِ مَعْنى الكَلامِ، ومثلُه: «ومنهُم مَن يَسْتمعُ إليْكَ، وجَعَلْنا عَلى قُلوبِهم أكِنّةً أنْ يَفْقَهوهُ وفي آذانِهِمْ وَقْرًا» (20)، ومثلُه: «ومنهُم مَن يَسْتمعُ إليْكَ، حتّى إذا خَرَجوا مِنْ عِنْدِكَ قالوا للذينَ أوتوا العِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا» (21). ومثلُه: «والذي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أولَئِكَ هُمُ المتَّقونَ» (22).

ويبدو أنّ الحَملَ على اللّفظِ يكونُ أوّلاً ثُمّ يأتي بعدَه الحملُ على المَعْنى، وهو أقْوى، والجمعُ بينَ الجهتَيْن يُثبتُ لنا أنّ النّصّ الواحدَ تترابطُ أجْزاؤُه لفظاً ومَعْنى، أو يُزاوَجُ بين اللّفظِ والمَعْنى، فيُبدأ بالحَمْلِ على اللّفظ ثمّ يُثَنّى بالحَمل على المَعْنى. وقَلّما يُبدأ بالحملِ على المَعْنى ثمّ يُثنّى باللّفظ؛ فقَد ذَهبَ بعضُ النّحْويينَ إلى أنّه إذا حُمل على معنى الجمع لا يجوزُ الرُّجوعُ إلى لفظِ الواحدِ، واعْتُرِضَ عليْه بأنّه وردَ في القُرآنِ الكريمِ ما يُفيدُ الرُّجوعَ من المَعْنى إلى اللّفظِ (23) ، من ذلِك قولُه تَعالى: «ومَنْ يُّطِعِ اللهَ ورَسولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدينَ فيها وذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ» (24) ، وكذلِكَ قوله تَعالى:« ومَنْ يُّؤْمِنْ بِاللهِ ويَعْمَلْ صالِحًا يُّدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا» (25)، فقَد أفْرَدَ في (ومن يُّطع الله، ومَن يُّؤْمنْ) وجَمَعَ في (خالِدينَ فيها)، فرَجَعَ بعْدَ الجَمْعِ إلى الإفْرادِ. وهذا التّنويعُ في الحَمْلِ على اللّفظِ أو المَعْنى من بَلاغَةِ القُرآنِ الكَريمِ ومن مَظاهِرِ تَماسُك نصِّه وانْسجامِه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هود: 42.

 (2) طه: 121.

(3) المائدَة: 8.

(4) القَدر: 1.

(5) طه: 67.

 (6)  القصَص: 78.

(7) الواقعَة: 83.

 (8) الرّحمن: 26.

 (9) فاطِر: 11.

 (10) السّيوطي: الإتْقان، ج:1، ص: 597-599

  (11) الأنْعام: 112.

 (12) النّحل: 18.

  (13) طه: 37-38-39

  (14) وهذا ما رَدَّ به السيوطيّ على الزّمخشريّ. انظُرْ الإتْقان: ج:1، ص:600.

  (15) الفَتْح: 8-9.

 (16) السّيوطي: الإتْقان، ج:1، ص: 601.

  (17) الكَهْف: جزء من الآيَة: 22.

 (18) ذَكَره أبو العَبّاسِ ثعْلبٌ والمُبرِّدُ، انظُرْ: السّيوطي، الإتْقان، ج:1، ص: 601.

  (19) البَقرة: 8.

  (20) الأنعام: جزء من الآية: 25.

  (21) محمّد: جزء من الآية: 16.

 (22) الزُّمَر: 33.

 (23) في ما ذكَرَه محمودُ بن حمزة، أبو القاسم الكرماني (ت.505هـ)، في كتابه: غَرائب التّفْسير وعَجائِب التأويل، (نشردار القبلة للثّقافَة الإسْلامية، جدّة، مُؤسّسَة عُلوم القُرآن، بَيروت)، تَفْسير سورَة البَقَرَة: ج:1، ص:120

  (24) النساء: جزء من الآيَة:13.

 (25) الطلاق: جزء من الآيَة:11.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق