مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

النصُّ القُرآني والسَّمتُ النّظميّ ح: 5

6- ومِن مَظاهرِ الانْسِجامِ أيضاً المُلاءَمَةُ والائتلافُ بينَ اللّفظِ واللّفظِ، وبيْنَ اللفْظِ والمَعْنى، لتَتعادَلَ في الوَضعِ وتتناسَبَ في النّظْم:

– فَمِن ائْتِلافِ الألفاظِ مُلاءَمَةُ بَعضِها بَعضاً في الغَرابَةِ، نحو قَولِه تعالى: «قالوا تَالله تَفتأ تذكُرُ يوسُفَ حتّى تكونَ حَرَضاً أوتَكونَ من الهالِكينَ» (1) ، فقد أقسَم بأغربِ ألفاظِ القَسَم وهي التّاءِ، وبأبعَدِ صيغِ الأفعالِ النّاسخَةِ وهي “تَفتأ”؛ فإنّ “تَفتأ” أغربُ من “تَزالُ” وأقلُّ استعمالاً منْها، ثمّ جاءَ بأغربِ ألفاظِ الهَلاكِ وهو “الحَرَضُ”، فاقتضى حُسنُ الوَضعِ في النّظمِ أن تُجاوَرَ كلُّ لفظةٍ بالتي من جِنْسِها في الغَرابةِ وتُقْرَنَ بها توخّياً لحُسنِ الجوارِ ورِعايةً لائتلافِ المَعاني بالألفاظِ.

 – ومن مُلاءَمةِ الألفاظِ لمَعانيها التّناسُبُ بين اللّفظِ والمَعنى في الفَخامَة أو الجَزالَة أو الغَرابَة أو التّداوُل أو التّوسُّط والاعْتِدال، ومن شواهدِه قولُه تَعالى: «و لا تَرْكَنوا إلى الذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُم النّارُ»(2)؛ فالرّكونُ إلى الظّالمِ دونَ مُشاركَتِه في الظُّلم، يُعاقَبُ عَليْه بالمَسِّ بالنّارِ فقط، دونَ الإحراقِ، وقوله: «لَها ما كَسَبَت وعليْها ما اكْتسَبَت»(3)؛ فقَد جاءَ بلفظِ الاكتسابِ الذي يُشعِرُ بالكُلفةِ والمُبالغَةِ في جانبِ السّيّئةِ لثقلِها (4) ، ومن ذلكَ أن الفعلَ “كُبْكِبوا” في قولِه تعالى: «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ» (5) أبلغُ من الفعلِ “كُبّوا” لأنّها في الأوّل معنى الكَبِّ العنيف، و”يَصطرِخونَ” في قَولِه تعالى: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» (6) أبلغُ من “يَصْرُخون” لأنّهُم يَصرُخونَ صُراخاً مُنكَراً خارِجاً عن الحدّ المُعتادِ، واصْطَبِرْ أبلغُ من “اصْبِرْ” .

7- ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً حُسْنُ النّسَق:

وهو أن يأتيَ المتكلِّمُ بكلماتٍ مُتتالياتٍ مَعطوفاتٍ مُتلاحماتٍ تلاحُماً سليماً مُستحسَناً، بحيثُ إذا أُفْرِدَت كلُّ جملةٍ منه قامَت بنفسِها واستقلَّ معناها بلفظِها؛ ومن أجمَلِ ما ذَكَرَه أهلُ البلاغةِ والتّفسير وعُلومِ القُرآنِ في ذلكَ؛ الآيَةُ الرابعةُ والأربَعونَ من سورةِ هود “وقيلَ يا أرْضُ ابْلَعي ماءَكِ”، وما تحدّثَ عنه ابنُ مَعصوم المَدَنيّ في بابِ “حُسن النّسَق” (7) حيثُ بيّنَ تَنسيقَ الصّفاتِ وهو ذكْرُ كَلِماتٍ مَعطوفاتٍ مُتلاحماتٍ تَلاحُماً سَليماً مُستحْسَناً، بحيثُ إذا أُفرِدَت كلُّ جُملةٍ منه قامَت بنفسِها، واستَقلّ مَعناها بلَفظِها، وأكبَرُ شاهدٍ على ذلِك فاتحةُ الكِتاب، وقد بيَّنَ الإمامُ البقاعيّ وجهَ الانسجامِ والتّماسُك في نصّ أمّ الكِتابِ، بقولِه: «وكانَتْ سورةُ الفاتحة أمّاً للقُرآنِ، لأنّ القُرآنَ جَميعَه مُفصّلٌ من مجمَلِها، فالآياتُ الثّلاثُ الأولُ شاملةٌ لكلّ مَعنىً تَضمّنته الأسماءُ الحسنى والصّفاتُ العُلى، فكلّ ما في القُرآنِ من ذلكَ فهو مُفصّلٌ من جَوامعِها، والآياتُ الثلاثُ الأُخَرُ مِن قَولِه: «اِهْدِنا» شاملةٌ لكلّ ما يُحيطُ بأمر الخَلْق في الوُصولِ إلى الله والتّحيُّزِ إلى رَحمةِ الله والانقطاعِ دونَ ذلكَ، فكلُّ ما في القُرآنِ منه فَمن تَفصيلِ جَوامِع هذِه، وكلُّ ما يَكونُ وُصْلةً بَين ما ظاهرهنّ هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصَّلٌ من آية «إيّاكَ نَعبدُ وإياّكَ نَستعينُ» (8).

ونَعودُ إلى آيَةِ «وقيلَ يا أرضُ ابْلَعي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعي وغيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واستوَتْ على الجودِيِّ وقيلَ بُعداً للقومِ الظّالمينَ» (9) ، لنلحَظَ أنّ جُمَلَ الآيةِ مَعطوفٌ بَعضُها عَلى بَعضٍ بواوِ النّسَق، عَلى التّرتيبِ الذي تَقتَضيه البَلاغةُ مِن الابتداءِ بالأهمّ الذي هو انحسارُ الماءِ عن الأرضِ المُتوقِّفِ عليْه غايةُ مطلوبِ أهلِ السّفينةِ من الإطلاقِ من سجْنِها، ثمّ انقطاعِ ماءِ السّماءِ المتوقِّفِ عليْه تمامُ ذلِكَ مِن دفْعِ أذاه بعدَ الخُروجِ ومنع إخلافِ ما كانَ بالأرضِ، ثمّ الإخبارِ بذهابِ الماءِ بعدَ انقطاعِ المادّتيْنِ الذي هو متأخّرٌ عنه قَطعاً، ثمّ قَضاءِ الأمرِ الذي هو هلاكُ مَن قُدّرَ هلاكُه ونجاةُ مَن سبقَ نجاتُه، وأُخِّرَ عَمّا قبلَه؛ لأنّ عِلْمَ ذلكَ لأهلِ السّفينةِ بعدَ خُروجِهم مَوقوفٌ على ما تَقدّمَ، ثمّ أخبرَ باستواءِ السّفينةِ واستقرارِها المُفيدِ ذهابَ الخَوفِ وحُصولَ الأمنِ مِن الاضْطِرابِ، ثمّ ختمَ بالدّعاءِ على الظّالمينَ لإفادةِ أنّ الغَرقَ وإنْ عَمّ الأرضَ فلَم يَشملْ إلاّ مَن استَحقَّ العذابَ لظُلمِه (10).

وقَد سبقَ أنْ بيّنَ عبدُ القاهر الجُرجانيّ مزيّةَ ألفاظِ آيَة “وقيلَ يا أرضُ ابْلَعي” في ارتباطِ بعضِها ببعضٍ وائتلافِها فيما بينَها، وبرْهَنَ على أنّه لا يقعُ في وَهمٍ أن تَتفاضلَ كَلمتانِ مُفردَتانِ مِن غَير أنْ يُنظرَ إلى مَوقِعهِما مِن التّأليفِ والنّظم، ولا تَجدُ أحداً يقولُ: هذِه اللفظةُ فَصيحةٌ، إلاّ وهو يَعتبِرُ مَكانَها مِن النّظمِ وحُسنِ مُلاءَمةِ مَعناها لمعنى جاراتها، وفَضلِ مُؤانَستِها لأخَواتها. ولا يقولونَ: لَفظةٌ مُتمكّنةٌ ومَقبولةٌ، أو قَلقةٌ ونابيةٌ ومُستكْرَهَة، إلاّ وغَرضُهم أنْ يُعبّروا بالتّمكُّن عن حُسنِ الاتّفاقِ بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقَلقِ والنُّبوِّ عن سوء التّلاؤم. و لا يشكُّ النّاظرُ في قولِه تَعالى: “وقيلَ يا أرْضُ ابلَعي ماءَكِ ويا سماءُ أقلِعي وغيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واسْتوَتْ عَلى الجودِيِّ وقيلَ بُعداً للقَومِ الظّالمينَ”، أنّ ما وَجَدَه من المزيةِ الظّاهرة، إلاّ لأمرٍ يَرجِعُ إلى ارتباطِ هذِه الكَلِمِ بَعضِها ببعضٍ، وأنْ لمْ يَعرِضْ لها الحُسنُ والشّرفُ إلاّ مِن حيثُ لاقَت الأولى بالثّانية والثالثةَ بالرّابعة، وهكذا، إلى أن يَسْتقرِيَها إلى آخرِها (11).

ومِنْه قَولُه تعالى: ]إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ و إيتاءِ ذي القُرْبى، ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ، يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذكَّرون[ (12)، وَعظَ في ذلك بألطفِ مَوعظةٍ، وذَكَّرَ بألطفِ تَذكِرةٍ، واسْتَوعَبَ جَميعَ أقسامِ المَعروفِ و المُنكرِ، وأَتى بالطِّباقِ اللَّفظيِّ والمعنويِّ، وحُسنِ النَّسَق وحُسنِ البَيانِ والإيجاز، وائتلافِ اللّفظ معَ معناه.

ومنه: «أخْرَجَ مِنْها ماءَها ومَرْعاها»(13) ، وهي آيَةٌ مُحتويةٌ عَلى حاجاتِ الحيواناتِ كافَّةً، وهذا ما يُسمّى بالكلمَةِ الجامعَةِ أو جَوامعِ الكَلِم، ومن ذلِكَ قولُه تعالى: «قُلْ تعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاّ تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا، ولا تقْتُلوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإِيّاهُمْ، ولا تَقْرَبوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله إلاّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلونَ» (14) إِلى آخر الثلاث الآيات الجامِعَةِ لجميعِ الأوامر والنَّواهى، ومصالح الدُّنيا والآخرة، وقوله: «وأوْحَيْنا إلى أُمِّ موسى أنْ أرْضِعيهِ فإذا خِفْتِ عليْه فألْقيه في اليَمِّ ولا تَخافي ولا تَحْزَني، إنّا رادّوه إليْكِ وجاعِلوه من المُرْسَلينَ» (15) يَشتمِلُ عَلى أمْرَينِ، ونَهْيَيْنِ، وخَبَرَيْنِ، وبِشارَتَيْنِ (16).

8- ومِن مَظاهرِ الانْسجامِ أيضاً اللّفُّ والنّشْرُ (17) :

وهو أن يُذكَرَ شيئانِ أو أكثرُ، إمّا إجمالاً، أو تَفصيلاً بالنّصّ على كلِّ واحدٍ، فَمن الإجمالِ قولُه تَعالى: « وقالوا لَن يدخُلَ الجنّةَ إلاّ مَن كانَ هوداً أو نَصارى» (18) ؛ أي قالَت اليهودُ لن يدخُل الجنّةَ إلاّ مَن كانَ هوداً، وقالَت النّصارى لن يدخُلَ الجنّةَ إلاّ مَن كانَ نصارى، والذي سوّغَ الإجمالَ في اللَّفِّ ثُبوتُ العنادِ بين اليهودِ والنّصارى؛ إذ يقصرُ كلُّ فريقٍ دُخولَ الجنّةِ على فريقِه وملّتِه، فعُرِفَ عقلاً أنّه يُرَدُّ كلُّ قولٍ إلى فريقِه لأمنِ اللَّبْس. ومن التّفْصيلِ قولُه تعالى: « ومِنْ رحمتِه جَعلَ لكُم اللّيلَ والنّهارَ لتَسكُنوا فيه ولتبتَغوا من فَضلِه ولعلّكُمْ تَشْكُرونَ» (19) فالسّكونُ راجعٌ إلى اللّيلِ وابتغاءُ الفَضلِ راجعٌ إلى النّهارِ، ومن التّفْصيلِ أيضاً: «ولا تجْعلْ يدَك مغلولةً إلى عُنُقِك ولا تبسُطْها كلَّ البسطِ فتقعُدَ مَلوماً مَحْسوراً» (20) ، فاللّومُ راجعٌ إلى البُخلِ، وكونُه محسوراً راجعٌ إلى الإسْرافِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يوسُف: 85.

  (2) هود: من الآيَة: 113.

 (3) البَقَرة: من الآيَة: 286.

  (4) السيوطي: الإتقان: ج:2/ص:911، مُعترَك الأقران: ج1/ص:295…

  (5) الشّعراء: 94.

  (6) فاطِر: من الآيَة: 37.

  (7) نقلاً عن السّيوطيّ في الإتقانِ.

  (8) نَظم الدُّرَر في تناسب الآيات والسُّوَر، ج:1، ص:23.

  (9) هود: 44

  (10) عليّ صدر الدّين بن مَعْصوم المَدَنيّ (ت1120 هـ): أنوار الرّبيع في أنواع البَديع، ، تحقيق شاكِر هادي شكر، مط. النّعمان، النّجف الأشرَف، 1389هـ-1969م ج6، ص133. وهذا الكلامُ مأخوذٌ عن السّيوطي بتصرّفٍ يسيرٍ: الإتقانُ في عُلوم القُرآن: ج2، ص925.

  (11) انظُرْ رأي عبدِ القاهِر بِتفصيل في كتابِه: دَلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمّد شاكِر، مكتبة الخانجي-القاهرة، ص: 44-46.

  (12) النحل: 90

  (13) النّازِعات: 31.

  (14) الأنعام: 151.

  (15) القصص: من الآيَة: 7.

  (16) بَصائر ذوي التّمييز في لَطائِف الكِتابِ العَزيز، مجد الدّين الفيْروزابادي ، ج:1، ص71-72.

  (17) الإتقان: ج2/ص:929، ومُعتَرَك الأقران: ج1/ص:310

  (18) البَقَرة: من الآيَة: 111.

  (19) القصَص: 73.

(20) الإسراء: 29

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق