المولد النبوي من خلال كتاب السيرة النبوية لابن كثير
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه
تقديم:
تحظى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات في موضوع السيرة النبوية، وإن من أهم هذه المؤلفات : السيرة النبوية لابن كثير؛ والذي يعد بحق من الكتب القيمة في بابها، جمع أحداث السيرة النبوية؛ ومنها مرويات مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بأسانيدها على طريقة المحدثين ، وهو جزء من كتابه الكبير الذي ألفه في التاريخ الموسوم بـ: "البداية والنهاية"؛ ولأهميته ارتأيت أن أخصه بهذا المقال ، والذي قسمته إلى :
أولا: التعريف بالإمام ابن كثير في سطور.
ثانيا: المولد النبوي من خلال السيرة النبوية لابن كثير.
وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
أولا: الإمام ابن كثير في سطور([1]):
هو: الإمام، الفقيه، المحدث، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القيسي البصري، ثم الدمشقي الشافعي، ولد على التقريب سنة (700هـ) ([2])، وقيل (701هـ) ([3])بقرية شرقي بصرى من أعمال دمشق([4]).
تتلمذ ابن كثير على يد عدد من أكابر العلماء في عصره؛ كابن تيمية (728هـ) ([5])، والذهبي (748هـ) ([6])،ووالد زوجته أبو الحجاج يوسف المزي (742هـ)([7]) ، وابن القيم الجوزية (751هـ) ([8])، وغيرهم .
ألف العديد من المؤلفات في فنون عدة، أبان فيها رحمه الله عن علو كعبه في هذا الميدان؛ حيث كتب في التفسير ، والحديث، والتاريخ، والسيرة، والطبقات الخ ، ومن كتبه أذكر:
كتابه: تفسير القرآن العظيم([9])، واختصار علوم الحديث([10]) ، والبداية والنهاية([11]) ، والفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم([12])، وطبقات الفقهاء الشافعيين([13]) وغيرها.
أثنى عليه العلماء ووصفوه بما يستحق من الأوصاف الألقاب؛ وممن أثنى عليه شيخه الذهبي (748هـ) حيث قال: "فقيه متفنن، ومحدث متقن، ومفسر نقال، وله تصانيف مفيدة"([14]).
وقال ابن حجر (852هـ): "الفقيه الشافعي الحافظ"([15]).
وقال أيضا -نقلا عن ابن حبيب-: "إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع، وجمع، وصنف، وأطرب الأسماع بأقواله، وشنف، وحدث، وأفاد، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد"([16]).
وقال ابن تغري بردي (874هـ) فيما نقله عن العيني: "كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، وسمع وجمع، وصنف ودرَّس، وحدث وألف، وكان له اطلاع عظيم في الحديث، والتفسير، والتاريخ، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهى إليه علم التاريخ والحديث والتفسير "([17]).
كانت وفاته –رحمه الله- باتفاق العلماء سنة (774هـ)، وذلك في يوم الخميس سادس وعشرين من شهر شعبان بدمشق.
وقد رثاه بعض طلبته رحمه الله بقوله:
لفقدك طلاب العلوم تأسفوا *** وجادوا بدمع لا يبيد غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما *** لكان قليلا فيك يا ابن كثير([18])
ثانيا: المولد النبوي من خلال كتاب السيرة النبوية لابن كثير:
يعد كتاب السيرة النبوية لابن كثير جزءا مستلا من كتابه الموسوعي في التاريخ الإسلامي الموسوم ب: البداية والنهاية ، والذي قام د مصطفى عبد الواحد بالعناية به وتخريج أحاديثه، وقد طبع في أربعة أجزاء، وتم نشره في دار المعرفة في بيروت عام 1395هـ والموافق ل 1976مـ.
وهو من أهم كتب السيرة النبوية، لا غنى للمسلم عنه، والذي جمع فيه ابن كثير أخبار العرب في الجاهلية قبل الإسلام ، ثم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بها ، ثم نشأته وبعثته، وهجرته، وسراياه وغزواته إلى وفاته.
خصص ابن كثير لأحداث المولد النبوي بابا تحت مسمى : باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد أشار فيه إلى يوم ، وشهر، وعام مولده صلى الله عليه وسلم، مع بيان تاريخ حمل أمه به، ومكان ولادته، وصفة مولده صلى الله عليه وسلم من ولادته يتيما ، وتسميته، وعقيقته، وما وقع في ليلة مولده من الآيات والدلالات، مستعرضا في كثير من هذه الأحداث أقوال ونقول أهل العلم في المسألة الواحدة، مع بيان الصحيح، أو الراجح ، ورد المنكر والغريب منها.
لقد اهتم -رحمه الله- بالرواية بالأسانيد، كعادته في كتبه ، ولا غرابة في ذلك ؛خاصة وأنه يعد من الأئمة المحدثين المبرزين في هذا الميدان، منتقدا في ذلك بعض الأسانيد التي تطرق إليها في كتابه لغرابتها، كما هو الشأن عندما تحدث عن ما رواه ابن عساكر عن يوم وشهر مولده صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما :"ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول" قال ابن كثير: "وهذا غريب جدا "([19])، وقال أيضا في ما رواه أبو نعيم بسنده بشأن بشارة الراهب عيص لعبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من أنه ولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل قال: "هكذا رواه أبو نعيم وفيه غرابة"([20])، كما أبان عن علو كعبه في نقد متون ما تطرق إليه، وكمثال على ذلك: عندما أشار إلى مرويات ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا، قال : "وفي هذا كله نظر"([21])، أو أن جبريل هو الذي ختنه حين طهر قلبه؛ قال: "وهذا غريب جدا"([22])،
كما قال عن ما روي من أن سطيح هو نبي ضيعه قومه قال: "قلت : أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة ، ولم أره بإسناد أصلا"([23]) .
ولم يفته في هذه المسألة كذلك بيان بعض أحوال رجال السند جرحا وتعديلا ، وهذا لمكانته في هذا الميدان؛ فهو إمام محدث له دراية بعلم الرجال وأحوالهم([24]) ؛ ومثله ما قاله في تفرد أحمد بن إبراهيم الحبلي قال: تفرد به وهو مجهول([25]) .
كما لم يغب عنه بيان بعض معاني الألفاظ كقوله في معنى مختونا: أي: مقطوع الختان، ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه([26]) .
وقد نجده يرجح ما يراه صوابا؛ كقوله في يوم ولادته وهو يوم الاثنين: "وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد يوم الاثنين وأبعد بل أخطأ من قال : ولد يوم الجمعة..." ([27])
كما يبين أحيانا ما في الحديث من التفرد، مع إيراد بعض زيادات كل رواية عن غيرها، والغريب منها كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين" قال: تفرد به أحمد، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الاثنين (اليوم أكملت لكم دينكم) ([28]) وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضا: وكانت وقعة بدر يوم الاثنين، وممن قال هذا: يزيد بن حبيب وهذا منكر جدا([29]).
ومعتمد ابن كثير فيما تطرق إليه من أحداث مولد النبي صلى الله عليه وسلم كتب الصحاح؛ كصحيح مسلم([30])، والسنن كسنن الترمذي([31]) ، والمسانيد كمسند أحمد([32])، والمصنفات كمصنف ابن أبي شيبة([33])، وكتب التراجم كالاستيعاب([34]) ، وكتب السير و التاريخ مثل: مغازي الواقدي([35])، والسيرة النبوية لابن إسحاق([36])، وطبقات ابن سعد ([37]) ، وتاريخ خليفة بن خياط([38]) ، وتاريخ الفسوي([39]) ، ودلائل النبوة لأبي نعيم([40])، والشفا للقاضي عياض([41]) ، والروض الأنف للسهيلي([42]) ، وتاريخ ابن عساكر([43]) ، وغيرها من المصادر.
الخاتمة:
من خلال هذه النظرة الموجزة حول حدث المولد النبوي من خلال هذا الكتاب، يتبين لنا مبلغ الجهد الذي بذله المؤلف في الجمع والتصنيف ؛ خاصة وأن ابن كثير نحى فيه منحى المحدثين ؛ حيث اهتم بالرواية بالأسانيد، ونقده لبعض الروايات المذكورة سندا ومتنا ، تمشيا مع صبغته الغالبة عليه كإمام محدث ، مع تنوعه في المصادر التي نقل عنها، فجزى الله ابن كثير عن السنة وعن صاحبها خير الجزاء .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
*******************
هوامش المقال:
([1]) آثرت الاختصار في ترجمته لشهرته ، ومما رجعت إليه ممن ترجم له: ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن (ص: 57-59)، المعجم المختص بالمحدثين (ص: 74-75)، الدرر الكامنة (1/ 373-374) لابن حجر، إنباء الغمر (1 /39-40) له أيضا، النجوم الزاهرة لأبي المحاسن ابن تغري بردي (11/ 98-99) ، ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 361-362).
([2]) قاله ابن حجر في إنباء الغمر بأنباء العمر (1/39) ، وتردد في موضع آخر في كتابه الدرر الكامنة (1 /374) بين (700هـ و 701 هـ) حيث قال:" ولد سنة سبعمائة، أو بعدها بيسير".
([3]) قاله أبو المحاسن في النجوم الزاهرة (11 /98).
([4]) النجوم الزاهرة (11 /98).
([5]) ترجمته وبعض مصادرها في: الأعلام للزركلي (1 /144).
([6]) ترجمته وبعض مصادرها في: الأعلام للزركلي (5 /326).
([7]) ترجمته وبعض مصادرها في: الأعلام للزركلي (8 /236).
([8]) ترجمته وبعض مصادرها في: الأعلام للزركلي (6 /56).
([9]) من طبعاته: طبعة دار طيبة عام 1420هـ- 1999مـ بتحقيق: سامي بن محمد السلامة.
([10]) من طبعاته: طبعة دار الميمان الرياض سنة 1434 هـ- 2013 مـ بتحقيق: ماهر ياسين الفحل.
([11]) من طبعاته: طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر سنة 1436هـ- 2015مـ. بتحقيق: د محيي الدين مستو مراجعة: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط- د بشار عواد معروف.
([12]) من طبعاته: طبعة دار ابن كثير بيروت، ومكتبة دار التراث المدينة المنورة بتحقيق: محمد العيد الخطراوي- ومحيي الدين مستو ط4/ 1405هـ- 1985مـ.
([13]) من طبعاته: طبعة مكتبة الثقافة الدينية بتحقيق وتعليق وتقديم: د أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم محمد غرب سنة 1413هـ- 1993مـ.
([14]) المعجم المختص بالمحدثين (ص: 75).
([17]) النجوم الزاهرة (11/ 98).
([18]) النجوم الزاهرة (11 /99).
([19]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 200).
([20]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /223).
([21]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /209).
([22]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /210).
([23]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 220).
([24]) قال الذهبي : "... ويحفظ جملة صالحة من المتون، والتفسير ،،والرجال وأحوالهم" معجم المختص بالمحدثين (ص: 75).
([25]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /211).
([26]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 210).
([27]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 199).
([28]) سورة المائدة من الآية: (4).
([29]) انظر مثلا : السيرة النبوية لابن كثير (1 /198).
([30]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 198).
([31]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 201).
([32]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 198).
([33]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1 /199).
([34]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 199).
([35]) انظر مثلا: السيرة النبوية لابن كثير (1 /199).
([36]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /199).
([37]) السيرة النبوية لابن كثير (1 /205).
([38]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 203).
([39]) انظر مثلا السيرة النبوية لابن كثير (1 /202).
([40]) انظر مثلا السيرة النبوية لابن كثير (1 /214).
([41])انظر مثلا السيرة النبوية لابن كثير (1/ 207).
([42]) انظر مثلا السيرة النبوية لابن كثير (1 /201).
([43])انظر مثلا انظر السيرة النبوية لابن كثير (1 /119).
*******************
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
الأعلام (قاموس تراجم الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين). لخير الدين الزركلي. دار العلم للملايين بيروت. ط15 2002مـ.
إنباء الغمر بأنباء العمر. لابن حجر العسقلاني. تحقيق: د حسن حبشي. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة 1389هـ- 1969مـ.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لشهاب الدين أحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني. دار الجيل بيروت 1414هـ- 1993مـ.
ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي. لأبي المحاسن الحسيني الدمشقي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان .(د.ت).
ذيل طبقات الحفاظ للذهبي. لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان (د.ت).
السيرة النبوية. لأبي الفداء إسماعيل ابن كثير. تحقيق: مصطفى عبد الواحد. دار المعرفة بيروت لبنان. ط 1396هـ- 1976مـ
المعجم المختص بالمحدثين. لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي . تحقيق: د محمد الحبيب الهيلة. مكتبة الصديق السعودية. ط 1 / 1408هـ- 1988مـ.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي. قدم له وعلق عليه: محمد حسين شمس الدين. دار الكتب العلمية بيروت 1413هـ- 1992مـ.
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو