مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

المصطلح الصوفي: أصول وتجليات

التصوف جزء لا يتجزأ من مجموع ما يتألف منه تراثنا الحضاري الإسلامي، وهو كغيره من العلوم الإسلامية يمتاز بتوفره على جهاز مفاهيمي خاص، وتعد هذه المفاهيم والاصطلاحات بمثابة مفاتيح تسهم إسهاما فعّالا في تمكُّن الدارس من فهم متعلقات هذا العلم فهما سليما، ومن ثم فمعرفتها ضرورية لولوج فضاء المعنى الصوفي بكل معالمه.

لهذه القيمة المحورية التي يشغلها المصطلح الصوفي في بناء معالم للتلقي الممكن للخطاب الصوفي، كانت دراسة مصطلحات هذا العلم من أولى الأولويات التي يجب على الباحث الاشتغال بها قبل الخوض في غمار البحث في علم التصوف ومحاولة تلقي خطابه؛ على اعتبار أن المصطلح هو باب العلوم التي لا يمكن ولوجها إلا من خلاله، كما أن عملية تقريب أي علم لا تتأتى – في جانبها الأكبر –  إلا عن طريق تيسير مصطلحاته.

إن الأهمية التي يحظى بها المصطلح في تقريب العلوم الإسلامية وتيسيرها بشكل عام كبيرة، وهي في علم التصوف أكبر؛ وذلك لعدة اعتبارات: أهمها طبيعة المصطلح في هذا العلم؛ حيث إنه اختزال للتجارب الوجدانية التي يعيشها أصحابه، فالصوفي حين ينشئ اصطلاحاته فإنه ينشئها وفقا لتجربته ووجوده. كما أن الخطاب الصوفي يتمايز عن غيره من الخطابات بكون أغلب ألفاظه تحمل دلالات تختلف عن مدلولها اللغوي، حيث يمكن القول: إن كل لفظة توظف في السياق التداولي لهذا الخطاب تصبح مصطلحا قائم الذات يحمل معنى خاصا، وهذا يرجع إلى طبيعة التعبير الصوفي الذي هو تعبير إشاري بالدرجة الأولى، حيث تصبح الكلمات في سياق القول الصوفي عبارة عن رموز تشير إلى معان كلية.

لقد كان الصوفية واعين بالأهمية التي يتبوّؤها المصطلح في خطابهم، فقاموا – ومنذ وقت مبكر-  بالتأليف في هذا المجال، فكان لهم بذلك دور رائد في  الإسهام في وضع علم الاصطلاحات بشكل عام، وعبر مراحل تاريخ التصوف، أُلفت العديد من المعاجم التي تشرح مصطلحات هذا العلم وتفسرها، فهي من هذه الجهة تعتبر ممارسة تقريبية لعلم التصوف من خلال الوقوف عند كبريات معالمه المعنوية ووحداته الموضوعية.

1: المصطلح الصوفي: أصله وشرعيته

لما كان المصطلح الصوفي تعبيرا عن أحوال النفس البشرية وتقلباتها([1])، وما يرتبط بأمر تدرجها في السلوك إلى الله تعالى، لزم أن نجد لهذا المصطلح أصولا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، على اعتبار أن الوحي إنما جاء لتحقيق مقصد أصلي ألا وهو تزكية النفس وتطهيرها([2]). والناظر في هذه المصطلحات، يجد أن أغلبها مأخوذ من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ وذلك من قبيل: الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والذكر، والنفس، والقلب، والروح، والسر، والخاطر، والحال، والمقام، والقبض، والبسط، والذوق، والتجلي…الخ. غير أن هذه المصطلحات منها ما بقي على أصله، ومنها ما تغيرت دلالته بحسب التجربة الروحية التي يحياها الصوفي. وهذا الأمر ليس بدعا إذا ما علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم – باعتباره المبيّن لكلام الله تعالى – قد كشف عن كثير من المعاني الخفية لألفاظ القرآن الكريم([3])، كما أن الصحابة والتابعين قد نقل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا هذه المعاني وأخذوا بمقتضاها([4])، وهو ما تطور فيما بعد ليبرز في نوع مخصوص من التفسير هو “التفسير الإشاري”؛ إذ يستمد المصطلح الصوفي أصوله وشرعيته من الفعل التأويلي لكلمات الله تعالى عبر تجربة إسلامية عميقة.

ولمَّا كان القرآن الكريم متضمنا لكل تفاصيل الدين في أصوله الكبرى، فقد انطلق الصوفية في تجربتهم من القرآن على اعتبار أنه الأصل الذي استمدوا منه مبادئهم وأصولهم، شأنهم في ذلك شأن باقي العلوم الإسلامية التي نشأت في رحاب كلام الله تعالى. فالتصوف تجربة تطبيقية لما في القرآن الكريم من إشارات أخلاقية، إذ إنه تأوُّل للنص القرآني من خلال الوقوف على مقاصده الخلقية. فأهل التصوف يرون أن القرآن جاء من أجل تربية النفس البشرية وتزكيتها وتطهيرها، وكله إشارات في هذا الباب.

إن الخطاب الصوفي هو تفاعل بين ذات الصوفي والقرآن الكريم من خلال تجربة سلوكية خاصة تعتمد أساسا على التخلق بأخلاق القرآن الكريم الذي هو «شامل لحقائق الإنسان وحقائق العالم، وعندما يتحقق الصوفي، عبر تجربته، باستكناه حقيقة ذاته، فإنه في الوقت نفسه يفهم كلمات القرآن وكلمات العالم، فتغدو مظاهر الكلمات جميعها إشارات ورموزا هي خطاب الحق إلى الإنسان الذي عليه أن يتبين معانيها ومقاصدها عن طريق اتباع أوامر الكتاب المنزل والتحلي بآدابه، في سبيل القرب من المتكلم الأسمى سبحانه، وهذه هي طريق العرفان الذي هو حضور كلي ومتجدد داخل الشبكة الإشارية لكلمات الله في قرآنه وفي أكوانه»([5]).

إن طبيعة التجربة التي يعيشها الصوفي، تجعله يسلك في التعبير عنها مسلكا رمزيا؛ فليس بوسع اللغة المعيارية العادية القيام بهذه الوظيفة، لأجل هذا اعتمد الصوفية اللغة الرامزة عوضا عن اللغة الواصفة للتعبير عن مواجيدهم مما لا تقدر لغة التخاطب البسيطة على الإحاطة به أو وصفه. وما دام أن المشترك بينهم في تجربتهم هو مجال وجداني، فقد توافقوا عليه بمصطلحات جعلوها رموزا وإشارات لما يجمعهم من حقائق ومعارف تخصهم، وهي لا تخرج عن ألفاظ العربية، لكن بدلالات مختلفة في الغالب. هذه الدلالات ما هي إلا تأويل للنص القرآني، «التأويل الذي هو عبارة عن تبيان للمقاصد الخلقية للنص المؤول؛ أما الوسيط الذي عن طريقه يتحول هذا النص إلى مصطلحات صوفية فتجسده التجربة الصوفية؛ هذه التجربة بالذات هي التي تحول تلقي القرآن لدى الصوفي من مستوى في الفهم إلى مستوى آخر، فيتحول التأويل تبعا لذلك من مستوى إلى آخر»[ م. ن، ص: ن.].

فالصوفي يتدبر كلمات الله ليفهم معانيها ومقاصدها ويعمل بها ويطبقها، وهذا التطبيق ُينتِجُ له فهما جديدا أعمق من فهمه الأول تحقيقا لقول الله تعالى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾[ سورة: البقرة، الآية: 281.]، وما دام أن فعل التقوى هذا إنما هو احتكام لما في القرآن الكريم وتطبيق له، فإن الصوفي بفعله ذاك يُكشَفُ له عن فهوم عميقة لما في القرآن، وبتلك الفهوم يتعمق له فعل التقوى من جديد مما يؤدي به إلى مزيد من التعمق في معاني كلمات الله تعالى بما يتناسب ودرجة التقوى التي حصّلها، وهكذا يبقى الصوفي بين ممارسته لفعل التقوى وتلقيه للفهوم والعلوم المترتبة عليه إلى ما لا نهاية في طريق القرب من معرفة حقائق كلام الله تعالى وأسراره.

إن ما يمكن أن نخلص إليه بشأن المصطلح الصوفي، هو أنه مصطلح أصيل يستمد أصوله وشرعيته من الكتاب والسنة انطلاقا من تجربة إسلامية عميقة قائمة على أساس التخلق العملي والتطبيق الفعلي لما جاء في القرآن الكريم من إشارات سلوكية وتوجيهات تربوية.

2: المعاجم الصوفية: النشأة والتاريخ

سبقت الإشارة إلى أن المصطلح الصوفي نشأ في ضوء المحاولات التبيينية الأولى للقرآن الكريم، وخاصة تلك التي جنحت إلى الكشف عن دقائق كلام الله تعالى وحقائقه مما لا يُفْهم من ظاهر عباراته، والتي أصبحت تُعرف فيما بعد بالتفاسير الإشارية، وقد كانت هذه التفاسير اللبنة الأولى التي تأسس عليها هذا المصطلح، إلى أن أخذ يتشكل تدريجيا، وبدأت الأقوال بخصوصه تستقل شيئا فشيئا، ومن أهم الأقوال المؤسِّسَة في هذا الباب، ما قاله ذو النون المصري (ت245هـ) بشأن عدد من المصطلحات الكاشفة عن أحوال الصوفية ومقاماتهم؛ من توبة، وورع، وتقوى، ومحبة، وتوحيد … الخ، بالإضافة إلى ما قاله الإمام الجنيد (ت 279هـ)، وأقوال أبي محمد سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ)، وغيره ممن عاصروه أو جاؤوا بعده. وقد بقيت أقوال هؤلاء بخصوص معاني اصطلاحاتهم متفرقة بين مرويات القوم، إلى أن جاء الشيخ أبو نصر السراج الطوسي في القرن الرابع الهجري (ت378هـ) فجمع أكثر تلك المصطلحات وشرحها في قسم من كتابه “اللمع” معنونا إياها ب “كتاب البيان عن المشكلات”.

وبهذا يكون السراج الطوسي أول من تكلم في مصطلحات التصوف، وأول من أخذ بزمام المبادرة في وضع عمل مرجعي للتعرف عليها([6])، وإن حاول أبو سعيد الخراز قبله (ت277 أو279هـ) أن يجمع بعض المصطلحات في كتابه “الحقائق”([7]).

ثم بعد ذلك توالت الكتابات في هذا الباب، منها: “التعرف لمذهب أهل التصوف” للكلاباذي (ت380هـ)، و”قوت القلوب” لأبي طالب المكي (ت386هـ)، و”الرسالة القشيرية” لعبد الكريم القشيري (ت465هـ)، و”كشف المحجوب” للهجويري (ت465هـ)، و”إحياء علوم الدين” للغزالي (ت505هـ) بما تضمنه هذا الأخير من شرح مفصل لعدد من المصطلحات خاصة في جزئه الرابع، بالإضافة إلى كتابه “الإملاء في إشكالات الإحياء”؛ الذي يعتبر من أهم الكتب المنجزة في هذا المضمار؛ حيث بلغت مصطلحاته نحو خمسين مصطلحا، ومنها أيضا كتاب “عوارف المعارف” لشهاب الدين أبي حفص السهروردي (ت632هـ) الذي خصص فيه بابين لشرح مصطلحات الصوفية بلغت قرابة الخمسين كذلك.

إن هذه المؤلفات وما يماثلها في منهج بنائها، هي بمثابة الأُسّ الذي انبنى عليه الخطاب الصوفي في عمومه، وقد حوت أغلب مصطلحاته وعرّفت بها، غير أنها ليست معاجم مستقلة بخصوص هذه المصطلحات، وإنما هي متضمنة لأبواب فيها، من خلال ما نقله أصحابها من أقوال القوم حول هذا المصطلح أو ذاك، أو بما أضافوه لها، إلى أن تطور الأمر فيما بعد، وظهرت معاجم خاصة بالمصطلح الصوفي، من قبيل الرسالة التي ألفها الإمام ابن عربي الحاتمي الطائي (ت638هـ) المعروفة باسم “اصطلاحات الصوفية”([8]) والتي تعد من بواكير إعداد المعاجم المتخصصة في المصطلح الصوفي، وليس ببعيد أن تكون البادرة الأولى لنشأة المعاجم المستقلة في هذا الباب. بالإضافة إلى مؤلفات كمال الدين عبد الرزاق بن جمال الدين القاشاني (ت730هـ) المعدّة في هذا الباب؛ وهي “لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام”، و”اصطلاحات الصوفية”، و”رشح الزلال في شرح الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال”، ويكاد يكون كتاب “اللطائف” مستوعبا لكل الكتب التي سبقته في هذا الشأن؛ لكونه تضمن على وجه التفصيل ما يزيد على ألف وستمائة مصطلح صوفي.

ومع هذه المؤلفات دخل المصطلح الصوفي مرحلة الاكتمال والاستقرار، وأصبح مكونا أساسيا من مكونات الاصطلاح العلمي العام للحضارة الإسلامية، خاصة مع كتاب “التعريفات” للشريف الجرجاني (ت816هـ) وكتاب”كشاف اصطلاحات الفنون” للشيخ محمد علي التهانوي (ت1158هـ).

وتجدر الإشارة إلى إسهام المغاربة في التصنيف المعجمي الصوفي، ومن أهم معاجمهم في هذا المجال كتاب معراج “التشوف إلى حقائق التصوف” للشيخ أحمد بن عجيبة (ت1224هـ)، الذي هو أحد نماذج هذه الدراسة، وكتاب “الإيضاح لبعض الاصطلاح” للشيخ ماء العينين (ت1328هـ) النموذج الثاني في هذا الباب، بالإضافة إلى عدد من المؤلفات المنجزة في هذا الغرض، سواء التي طبعت أو التي ما تزال مخطوطة([9]).

3: المعاجم الصوفية ومقصد التقريب

لقد كان المقصد من إنجاز كتب المعاجم الصوفية هو شرح الألفاظ الجارية على ألسنة القوم، والذين حاولوا من خلالها التنبيه إلى أن الألفاظ عندهم تحمل معاني خاصة، وأنها ذات طبيعة رامزة يصعب على غير الصوفي استيعاب دلالتها أو فك شفرتها، فجاءت معاجمهم موضحة ومفسرة لما اختص به القوم من حقائق طريقهم ودقائقها. ولا تكاد كتب المعاجم هاته تخرجُ في سبب تأليفها عن هذا المقصد التقريبي للتجربة الصوفية، فأصحابها وضعوها لتكون عونا لمن أراد فهم كلام القوم، وهو ما صرح به الشيخ ابن عجيبة في مقدمة كتابه “معراج التشوف إلى حقائق التصوف” حيث قال عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: «وقد اشتمل [أي علم التصوف] على حقائق غريبة، وعبارات دقيقة، اصطلح القوم على استعمالها، فينبغي الوقوف على معانيها، لمن أراد الخوض فيه، والوقوف على معانيه، وقد أردت بحول الله وقوته، أن أجمع نبذة صالحة من حقائق هذا الفن واصطلاحاته، لعل الله ينفع به من يريد الوقوف على هذا العلم»([10])؛ أي صالحة لأن تخدم غرض تقريب التجربة الصوفية وتبسيطها لمن أراد التعرف عليها.

ليس هذا فحسب، فهي مؤلفة أيضا لإنارة الطريق للمريدين والسالكين الذين ما يزالون في بداياتهم، وهذا مستوى آخر من مستويات التقريب الذي يميز هذه المعاجم، غير أن هؤلاء وكما يشير إلى ذلك الإمام الشعراني لا يستعصي عليهم فهم دلالات اصطلاحات القوم، فالمريد الصادق إذا دخل مجلسا من مجالس الصوفية، وليس عنده فكرة عما يتكلمون فيه من موضوعات، وما يتحدثون به من ألفاظ وإشارات، فإنه يفهم جميع ما يتكلمون به، وكأنه واضع تلك الاصطلاحات والإشارات، ويمكنه أن يشاركهم في الخوض في علومهم، أما المريد الكاذب فيبقى قاصرا عن فهم كلام الصوفية إلا بتوفيق وإخلاص في الإرادة([11]).

إن الغاية الأساس من إنجاز كتب المعاجم الصوفية، تتجلى في تبسيط التجربة وتقريبها لمن أراد التعرف عليها، فهي تمهد للسالكين الطريق إلى فهم ما دق من المعاني التي يعيشونها، وهم أولى بها من غيرهم ممن لا ترتفع هممهم لطلبها والإفادة منها، فالغاية من إنجازها هي توضيح الحقائق لمن يطلبها سواء أكان يُنسب إلى مسلك القوم أم لا.

بالإضافة إلى هذا، ثمة مقصد آخر من وراء تأليف هذه الكتب يكمن في كون بعض الصوفية يرون أن الكثيرين ممن يتعرضون للتصوف بالطعن إنما يفعلون ذلك لجهلهم بحقائق هذا العلم، لهذا فهم يريدون أن يرفعوا اللبس عنهم حتى تتبين لهم حقيقة ما جهلوه من أمر هذا العلم الشريف. فعبر التاريخ الإسلامي تعرض أهل التصوف لكثير من المضايقات بسبب طبيعة لغتهم التي يصعب فك رموزها دون ربطها بمجالها التداولي، لذلك تجد «من لا علم له بذلك أبدا في إنكار وتشنيع، لجهله بالمصطلح وغباوة الجبلة، وتشبعه بما علم، ووقوفه عند العادة الحاكمة على طبعه وعقله المعقول بعقال الخيال المسجون في سجن الوهم الذي لم ينج من قيد سجنه إلا الأفراد الآحاد، وقليل ما هم»([12]). هكذا علق الشيخ ماء العينين على من ينكر أمر التصوف، وحصر سبب ذلك في عدم معرفته بالمصطلحات؛ ولذلك فقد أراد تقريب أصول علم التصوف ببيان حقيقة معانيه من خلال مؤلفه الذي سماه “الإيضاح لبعض الاصطلاح”، فلا تبقى للمنكرين حجة للطعن فيه، وقد لخّص الشيخ ماء العينين سبب تأليفه لهذا الكتاب في أمرين:

الأول توضيح الطريق للمريدين المبتدئين، إذ «معرفة اصطلاح العلم المراد فهمه لطالبه هي التي تفتح ما استغلق فهمه»([13]) من هذا العلم.

والثاني أنه وضعه «ليعرف به السالك أقرب المسالك»([14]) للوصول إلى الله تعالى؛ ففهمُ معاني القوم يختصر الطريق على المريد في الوصول إلى الكثير من دقائق هذا الفن وحقائقه، وإن كانت معرفته لا تتحصّل عن طريق التلقين المعهود في سائر العلوم، وإنما تُحصَّل بطريق الكشف والإلهام، ف«جميع علوم الباطن إنما تُحصَّل بالذوق والوجدان والشهود والعيان، لا بالدليل والبرهان، وهي ذوقيات لا نظريات، فإنها ليست بطريق التأمل السابق، ولا بسبيل التعجل اللاحق بترتيب المبادئ والمقدمات، وعلى اعتبار حصولها بطريق الانتقال بالواسطة لا بطريق الذوق بغير واسطة»([15]). 

إن القصد من وراء إنجاز كتب المعاجم الصوفية هو تقريب التجربة لمن أراد التعرف عليها، وإزالة اللبس عن مفاهيمها وحقائقها، وتقديمها في شكل بسيط ميسر يستطيع معها غير الصوفي فهمها واستيعابها، وهو ما أكده القاشاني في مقدمة كتابه “لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام” حيث قال: «وبعد: فإني لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم، ربما استعصى عليهم فهم ما تتضمنه كتبنا وكتب غيرنا من النكت والأسرار التي يشير إليها المحققون العالمون بالله من أكابر شيوخ الصوفية، الوارثين للعلوم الحقيقية والمعارف الحقيّة، من مشكاة النبوّة المحمدية … أحببت أن أجمع هذا الكتاب مشتملا على شرح ما هو الأهم من مصطلحاتهم، وما تواطئوا عليه من الألفاظ، والألقاب التي يعبرون بها عما يتداولونه بينهم من علومهم الإلهية، وأسرارهم الشريفة الربانية، وما به يفهم بعضهم عن بعض، كما جرت عليه عادة أهل كل فن» [لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام، عبد الرزاق القاشاني، ضبطه عاصم إبراهيم الكيالي، منشورات دار الكتب العلمية – لبنان، ط1؛ 2004، ص: 6]. وبهذا، نفهم أن الصوفية وهم يُقْدِمون على تأليف معاجمهم إنما كان قصدهم في ذلك مد جسر التواصل بينهم أولا وبين غيرهم ثانيا، ممن ينكر أحوالهم؛ لجهله بحقيقتها، عن طريق تيسير تلك الحقائق وتبسيطها.

لكن، في مقابل هذه الغاية التقريبية التي تحكم هذه المعاجم الصوفية، ما نفتأ نواجَه، في مقابل ذلك، بكثير من الإشكالات التي يثيرها التراث الاصطلاحي الصوفي لدى المتلقين من جهة تحصيل الغاية التيسيرية المرادة منه، خاصة من قِبل من هم خارج حقل التصوف ممن لا يعرفون خصوصياته، فما يفتأ المتفحص منهم لهذه المعاجم أن يفاجئ بمجموعة من المعطيات التي قد تضعه في اضطراب وحيرة من أمره بخصوص ما يجده من كثرة التعاريف المُعدّة بخصوص نفس المصطلح، فلا يستطيع التمييز بينها، ويظن ذلك من باب الاختلاف في حقائق تلك المصطلحات، ولا يستطيع النظر إليها بنظر توفيقي، لذا، وجب التنبه إلى هذه القضية وفهم المفاهيم الصوفية وفق أصولها وسياقاتها.

الهوامش: 


[1]– ينظر تقديم طه عبد الرحمن لكتاب “المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل” لمحمد المصطفى عزام، نداكوم للصحافة والطباعة، ط 1؛ 2000، ص:  10.

[2] – كما دلت على ذلك العديد من الآيات والأحاديث منها قول الله تعالى: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم﴾ البقرة الآية 150، وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم﴾، البقرة الآية 128، وقوله: ﴿لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم﴾ آل العمران الآية 164، وقوله عز من قائل: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ الجمعة الآية 2، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» أخرجه مالك في الموطأ عن أبي هريرة، وغير ذلك من الأحاديث التي تنضوي ضمن ذات السياق.

[3] – من ذلك تفسيره عليه السلام للظلم في قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم…﴾ [الأنعام الآية 82] الذي استشكل على الصحابة ولم يفهموا إلا معناه الظاهر، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقته التي هي الظلم، وكذلك تفسيره عليه السلام للعبادة في قوله تعالى: ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي﴾ [غافر الآية 60] بأنها الدعاء وغيرها من النماذج التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها.

[4] – ينظر مثلا: التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة ـ مصر، ط 2؛ 1976، 2/ 354.

[5] – المصطـلح الصوفي بين التجربة والتأويل، م. س، ص:  13.

[6] – المعجم الصوفي، محمود عبد الرزاق، دار ماجد عسيري، جدة – المملكة السعودية، ط 1؛ 2004، 1/149.

[7] – المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل، م. س، ص: 14.

[8] – تنظر هذه الرسالة ضمن كتاب: اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق القاشاني (ت730هـ)، ضبطه د. عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت  لبنان، ط: 1؛ 2005، من ص: 167، إلى ص: 180. وكذا وردت ملحقة في نهاية كتاب التعريفات للجرجاني، مكتبة لبنان، بيروت، 1996.

[9] – ومن ذلك؛ الرسالة التي ألفها الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت656هـ)، وهي تأليف في أحوال الصوفية ذكر فيها العديد من المصطلحات كالتوبة، والذكر، والفقر، والمحبة، والوصال، والعزلة…الخ، توجد نسخة منها بخزانة القرويين بفاس.

[10] – معراج التشـوف إلى حقائق التصوف، أحمد بن عجيبة (ت1224هـ)، تح عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي ـ الدار البيضاء، ط 1؛ 2004، ص: 25.

[11] – ينظر: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، عبد الوهاب الشعراني، دار المعرفة ـ بيروت (د.ت)، 1/3.

[12]– الإيضاح لبعض الاصطلاح، الشيخ ماء العينين (ت1328هـ)، تح الدكتور محمد الظريف، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، ط 1؛ 2000، ص: 35ـ36.

[13] ــ م. ن، ص: 35.

[14] ــ م. ن، ص: 36.

[15] ــ م. ن، ص: 24.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق