هذا بحث أتناول فيه "واقعية" الحياة المتغيرة و"مثالية" القيم الدينية، باعتبارهما يشكلان معادلة يستصعبها المسلمون اليوم، وربما شكوا في إمكان حلها. وسأجعله في مقدمة تمهيدية أعرض فيها للإشكالية والمصطلح، ثم في قسمين: في الأول؛ أتطرق لما يمكن عده منطلقات للواقعية في الإسلام، وفي الثاني؛ أتعرض لبعض تجليات هذه الواقعية، وبعد ذلك أختم بالرؤية التغييرية في الإسلام لكونها أكبر دليل على واقعيته.
إن المسلمين اليوم يجتازون واقعا يمكن وصفه بأنه:
- مليء بالتناقضات والصراعات.
- تتحكم فيه عوامل خارجة عن إرادتهم.
ومن ثم، فإنهم في هذا الواقع يعانون عقدا ومركبات، أهمها عقدة التخلف بالقياس إلى العالم المتقدم الذي ينظر إليهم من فوق، ويريدهم طوع يديه؛ وربما يرفض أن يكونوا أصحاب عقيدة، فضلا عن أن يكونوا أصحاب شريعة ومنهاج. ولا أدل على ذلك من هذا الذي يتعرضون له من معاناة بلغت حد الإبادة على مرأى ومسمع من هذا العالم المتقدم، المتشدق بحقوق الإنسان وحرية الرأي والعقيدة. والمسلمون أمام هذا الوضع، يعيشون داخل نفوسهم وفي مجتمعاتهم نزاعا يمزقهم:
- بين الماضي والحاضر.
- بين الهوية التي تشكلت في ذلكم الماضي وما يفرضه العصر.
- بين الاستقلال والتبعية.
- بين الدين ومختلف المؤثرات التي تصرف عنه وعن تطبيقه، كالمذاهب الفكرية الهدامة، وطغيان الحضارة المادية وقيمتها الجارفة، وما حملت من أدواء، كالمخدرات ومختلف الانحرافات السلوكية.
والمسلمون، نتيجة هذا النزاع، يجدون أنفسهم مضطرين إلى ازدواج في الشخصية يمس كل الجوانب المتعلقة بالذات الخاصة والعامة. وهو وضع يفضي بهم، لا أقول إلى الرفض، ولكن إلى الحيرة بين مثالية القيم وواقعية الحياة: مثالية القيم التي يجسدها الإسلام، باعتباره عقيدة وفكرا ونظاما وتراثا وكيانا، وواقعية الحياة بكل ما فيها من معطيات لم يهتد المسلمون بعد إلى تكييف معظمها مع مقتضيات الذات في ارتباطها بالدين.
إنهم لا شك متمسكون بالمثال، أي بالإسلام، راغبون في المحافظة عليه، ولكنهم منجذبون إلى الواقع ومشدودون إليه، وربما أشادوا بالدين ومبادئه وتاريخه، ومواقف الأسلاف، وما أقاموا من حضارة وثقافة، مما يولد عندهم أو عند بعضهم رأيا بأنه، لمثاليته، لا مجال له في التطبيق اليوم.
ومن غير أن ادخل في نقاش فلسفي لا يتسع له مجال هذا العرض، أبادر إلى القول بأنه إذا كان المقصود بالقيم Les valeurs تلكم المبادئ والصفات المطلقة التي تتضمن تقديرا في ذاتها، وإذا كان المقصود كذلك من كونها مثالية، أو لها مثالية، ما يرتسم عنها في الأذهان والأفكار من صور مجردة وأصول غير مادية، تبلور الهدف منها والغاية، فإنه كلما اقترب الفعل من التصور كان الواقع أقرب إلى المثال، أي أصبحت القيم موجودة بالفعل، أعني وجودا فعليا. وبذلك تتحول المثالية Idéalisme إلى واقعية Réalisme أي إلى وجود حقيقي ملموس. آية هذا ممارسة الإسلام في عهوده الزاهرة. ذلكم أن الإنسان، بحكم فطرته وتثقيف هذه الفطرة، يصبح مستعدا لقبول القيم وبلورة مثاليتها، ومستعدا كذلك لجعل واقعه أقدر على تطبيقها.
يضاف إلى هذا أن الإسلام يتميز بكونه مثاليا وواقعيا في نفس الآن، أي أنه يجعل المثال ممكنا في الواقع. لقد خلق الله الإنسان ومنحه القدرة على الحياة والعمل والإنتاج، وعلى تجاوز الصعوبات وإدراك الغوامض. وإنه لا يحتاج في ذلك إلى النظر والملاحظة والتجريب. ذلكم أنه إذا نظر ولاحظ وجرب، فإنه يصل إلى الوعي بحقيقة الخلق من حوله.
ومن هنا، كان الإسلام يجمع إلى مثاليته واقعية يضع الأسس لها والمنطلقات. ما هي هذه الأسس؟
الأول: أن الإسلام يقارب كثيرا من الغيبيات ويقربها لنا. هو يقربها إذ يدعو إلى معايشة الكون بفهم ووعي. وبذلك يستطيع الإنسان أن يقارب هذا الكون، ويلمسه بمشاهدته وبإحساسه وفكره، وبفعله كذلك. وكثيرا ما طرح القرآن الكريم المقابلة بين الغيب والشهادة؛ أي بين مالا يحضره الناس ولا يشاهدونه بأبصارهم، أو يدركون علمه بعقولهم، وهو "الغيب" وبين ما يحضرونه ويشاهدونه ويدركون علمه وهو "الشهادة" نقرأ ذلك في آيات كثيرة منها قوله عز وجل: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (الأنعام: 74). أي العالم بجميع الموجودات.
ونحن طالبون بالإيمان "بالغيب"، لأن هذا الإيمان هو نقطة البدء في الاعتقاد. منه يكون الإنسان مستعدا لتقبل مختلف متطلبات الإيمان وتطبيقها. لذلك فهو علامة بارزة للمتقين. يقول الله تعالى في أول سورة البقرة: ﴿الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
والإنسان بما رزقه الله من قدرة فكرية وطاقة روحية يتمثل "الغيب"، أي يتصور الكون حتى في أبعاده اللامرئية والغائبة. وقد قرب لنا القرآن الكريم هذا التصور من خلال ملامح مادية ملموسة، على نحو ما فعل في وصفه ليوم القيامة والجنة والنار، وما تكون عليه وجوه المؤمنين والكافرين، وعلى نحو ما عرض من دلائل وحدانيته وقدرة خلقه. وقد جمع ذلك في الآيات العشرين الأولى من سورة الغاشية التي استهلها باستفسار تشويقي لما سيخبر به عز وجل: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً. تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً. فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ. أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾.
وإنه يكفي أن ننظر للكون وما فيه من مخلوقات، لندرك وجود الصانع القادر الذي هو الله عز وجل. ورحم الله أبا العتاهية إذ يقول:
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ويكفي كذلك أن نتأمل سير هذا الكون لفهم السر الكامن خلفه وخلف تدبيره.
ما هو هذا السر؟
- إن الكون خاضع لنظام دقيق محكم ومتكامل.
- إنه في نمو متزايد وتطور مطرد.
- وأن الله سخره للإنسان، حتى يحقق الاستفادة منه والاستمتاع به، وحتى يطوعه باعتباره واقعا يتصرف فيه.
ولنقرأ في هذا الصدد قول الله عز وجل: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ (البقرة: 21). ولنقرأ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ (الملك: 15). ولنقرأ كذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم: 32-34). ثم لنقرأ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل: 12). ثم: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 14).
ويؤكد الحق سبحانه هذا التسخير في سياق آخر يرتبط بالتأنيب والتدليل على إمكان البعث وقدرة الله عليه، من خلال بعض المصالح الحيوية والمنافع الملموسة، فيقول: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة: 63-74).
الثاني: أن الإنسان مخلوق من مادة وروح، أي أنه جامع بين عنصرين مختلفين في النوع والدرجة، ولكنهما قابلان للاقتراب والاتصال وللاندماج والانصهار.
إن هناك اتجاهات تقول بالروح فقط وتدعو إلى الزهد، وإلى الانصراف عن الدنيا وعن العمل والإنتاج؛ كما أن هناك اتجاهات أخرى لا تقول إلا بالمادة، وبإشباع الحاجات وتحقيق الملذات. إلا أن الإسلام يجمع بين العنصرين. يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 71-72).
وقد عرض الإسلام موقفه من مختلف الحالات التي قد تكون في هذه القضية، وهي ثلاثة:
الأولى: الذي يريد الدنيا بلا آخرة، أي الدنيا بلا دين، يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ (البقرة: 200). أي لا نصيب له فيها ولاحظ.
الثانية: الذي يريد الدنيا والآخرة. يقول عز وجل في نفس السورة: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
الثالثة: الذي يريد الآخرة وحدها، ولم يذكره تعالى إلا في سياق الذين اتخذوا "الرهبانية" كذبا وبهتانا. يقول سبحانه: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ (الحديد: 27).
إن هذا الجمع في الإنسان بين المادة والروح هو الذي جعله بالفطرة قابلا للإسلام، لأن الإسلام جاء محققا للجانبين، وداعيا إلى تكامل بين العالمين: عالم المادة وعالم الروح.
وحتى يتحقق هذا التكامل نبهنا القرآن الكريم إلى مراعاة مطلبيهما، على حد قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77). فإذا كانت العناية بالمادة؛ أي بالجسم، تقتضي تغذيته وتطهيره وترويضه وعلاجه وما إلى ذلك، فإن العناية بالروح تقوم على الأخلاق والعبادات واحترام الحدود. والأمران يسيران متوازنين متوازيين، إلى حد أن الجسد إذا أصابه ما يحول دون أداء العبادات على وجهها الأكمل رخص له بالتخفيف.
الثالث: أن هذا التوازن لا يتم إلا في نطاق الاعتدال الذي به تهذب الغرائز فلا تبقى حيوانية، وبه يقترب الإنسان من عالم الروح. يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143)؛ أي أن الله عز وجل أراد للأمة الإسلامية أن تكون وسطا، أي متوسطة ومعتدلة، بدينها الذي لا غلو فيه ولا تقصير، وبأعمال الخير التي هداها الله إليها وهيأ لها أسبابها؛ إذ الخير مرتبط بالتوسط بين طرفين ذميمين. وفي الحديث الشريف الذي رواه السمعاني عن علي مرفوعا، يقول الرسول صلوات الله عليه: "خير الأمور أوساطها" ورواه الديلمي عن ابن العباس بلفظ: "خير الأعمال أوسطها".
والوسط، من هنا، يعني الخيار. ويؤكد هذا المعنى قوله عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ (آل عمران: 110).
وفي نطاق التوازن القائم على الوسطية والاعتدال، أتاح الله للإنسان كل طيب يتمتع به دون إسراف، ولكن في حدود ما يقيم الجسم ويحفظ له قوته، ويمنع عنه عوامل الوهن والضعف. يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف: 31-32).
وبهدف تحقيق نفس التوازن القائم على التوسط والاعتدال في مجال الروح، نهى القرآن الكريم عن "الرهبانية" لما تقتضيه من انصراف كلي للعبادة. يقول سبحانه: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ (الحديد: 27). ومعروف أنه "لا رهبانية في الإسلام". وفي حديث سعد بن أبي وقاص كما عند البيهقي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة".
الرابع: أن الله تعالى كرم الإنسان وفضله على كثير من المخلوقات. يقول عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: 70).
إن في هذه الآية الكريمة خمسة أشياء عددها الحق سبحانه منعما بها على الإنسان:
- كرمه.
- سخر له المراكب في البر.
- سخر له المراكب في البحر.
- رزقه من الطيبات.
- فضله على كثير من الكائنات.
فبالإضافة إلى تكريم الله للإنسان في صورته وخلقه وما أفاض عليه من نعم وخيرات، فإنه فضله بأن جعله عالما متحضرا قابلا لاكتساب المعارف ولتحقيق التطور والتغير في معاشه وحياته بكل جوانبها، مما لا يتوافر عليه الحيوان أو غيره من المخلوقات.
ولعل هذا العلم هو الذي جعل عبد الله بن عباس، الصحابي الجليل الذي اشتهر بأنه "حبر الأمة"، يفسر التكريم بظاهرة معينة من ظواهر التحضر، وهو الأكل بالأصابع، إذ الإنسان يتناول طعامه وشرابه وغير ذلك بيده، على عكس الحيوانات التي إذا أرادت الأكل أو الشرب أو أي تناول فإنها تستخدم فمها مباشرة.
ومن تكريم الله للإنسان وتفضيله على غيره أنه حمله الأمانة التي لم تطقها أعظم الموجودات. يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ (الأحزاب: 72).
ويدخل في مفهوم "الأمانة" الإيمان بالشرائع والطاعات والعبادات ومقتضيات العقل، كما يدخل في مفهومها المعنى المادي، وهو ما يدعه شخص عند آخر بصفة مؤقتة، من دين وغيره، إلى أن يسترده وهو آمن مطمئن، أي غير خائف على ما تركه عنده. ومن هنا؛ أي من الأمن، يكون لا شك أصل تسمية "الأمانة".
ويدخل في مفهوم الأمانة بعد هذا خلافة الأرض، ولعله المعنى الأولى بالاعتبار في السياق الذي نحن بصدده، وإن كان مستوعبا لبقية المدلولات.
إذا أردنا بعد هذا أن ننظر في بعض تجليات "الواقعية" الإسلامية، فإننا نجدها كثيرة، تمس مختلف جوانب الحياة، دالة على مسايرة الدين للطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية، في مراعاة جميع مقاصده للمصلحة، وفي استناد أدلته وحججه على المنطق والعقل. وسنقتصر منها على تجليات بارزة نجمعها في أربعة محاور:
الأول: يتصل بالأحكام والتكاليف الشرعية، وبالعبادة في مفهومها الواسع. وهو مفهوم يتجاوز الفروض الدينية التي نحن مطالبون بها إلى كل عمل يقوم به الإنسان ويحسنه، ويخلص النية فيه، ويسعى به إلى رضى الله. وإننا لنطمئن لهذا المفهوم حين نتأمل آيتين كريمتين هما: قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). وقوله سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 1-2). ولعلنا في غنى عن إثارة العلاقة بين الإيمان والعمل في الإسلام، فهي معروفة.
وما هو متصل بالفروض الدينية نحن مطالبون به في نطاق محدد موقوت. فللصلاة زمانها المعروف خمس مرات في اليوم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ (النساء: 103). ويقول: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء: 78). ويقول: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (الروم: 17-18). والزكاة تستحق حين يحول على المال الحول أو حين يحصد الزرع؛ يقول عز وجل: ﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام: 141). وبالنسبة لزكاة الفطر، فهي مرتبطة بالصوم، وهذا الصوم محدد بصوم رمضان، يقول جل شأنه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185). ثم هناك الحج الذي يؤديه من يستطيع مرة واحدة في العمر؛ يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (آل عمران: 97).
ثم إننا مطالبون بالفروض الدينية في نطاق الإمكان، بقدر ما تستجيب لمنزعنا النفسي، وتفضي به إلى الخشوع التلقائي الذي لا تمحن فيه ولا تكلف، إذ الهدف من تلكم التكاليف هو تقويم النفس، وليس الإكثار بقصد العد والإحصاء.
ومن ثم لا حاجة في الدين إلى الغلو. وقد نهانا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن التشدد والتنطع، أي عن التطرف في الدين؛ فقال في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأبو داود: "هلك المتنطعون" وهم الغالون والمتقعرون. وقال عليه السلام في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
ولنقرأ قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج: 78). وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا".
والسبب في الدعوة إلى اليسر والسهولة أن "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها. ومن الشائع عندنا في المثل الدارج: "أقليل أوا مداوم أحسن من أكثير ومقطوع". وفي الصحيحين عن سيدتنا عائشة كذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". وفي البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة أيضا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها. قال: مَهْ عليكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه. والمقصود أنه تعالى لا يمل من إثابتكم، ولا يقطع جزاءه حتى تملوا. ومن شأن التشدد أن يبعث على الإرهاق، وهذا يؤدي لا محالة إلى الملل، ثم التخلي. ولكي يداوم الإنسان ولا يتخلى عليه ألا يمل، وحتى لا يمل فإن عليه أن يقتصد ويتوسط.
وفي نطاق "الواقعية" المرتبطة باليسر في العبادة، أسقط الشرع الزكاة والحج عمن لا مال له ولا استطاعة، وأتاح مجموعة من الرخص حين يقع الاضطرار إليها، كالتيمم وقصر الصلاة والإفطار في رمضان وغير ذلك، مما تدعو إليه "الضرورات التي قد تبيح المحظورات".
والحديث عن المحظورات يفضي إلى إثارة موضوع الحلال والحرام. ويكفي القول فيه بأن الإسلام لم يحرم شيئا فيه منفعة أو مصلحة أو خير أو ضرورة ملحة للإنسان في معاشه وحياته. ومعروف أنه "أينما كانت المصلحة فثم شرع الله". كما أنه لم يحل شيئا فيه الأذى والضرر. ولهذا سمى الحق، سبحانه، الحلال طيبا والحرام خبيثا. يقول تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف: 157).
الثاني: يتعلق باجتماعية الإسلام أو مجتمعيته. وهي حالة لا يمكن أن تتحقق إلا في نطاق الاحتكاك والتعامل والتعايش والتساكن، أو ما عبر عنه القرءان الكريم "بالتعارف" في الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
وقد لخص القرآن الكريم حال الجماعة الإسلامية وما ينبغي أن يكون بين أفرادها من روابط وعلاقات في الآية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (الفتح: 29).
إن أفراد هذا المجتمع يتميزون بصفتين تبدوان متناقضين:
1.هم أشداء على الكفار، أي أقوياء بإيمانهم ورفعهم لواء الحق، وحماسهم المتدفق من اجل نصرة كلمة الله، وما يظهر عليهم في ذلك من نور مضيء للوجوه والقلوب.
- ثم هم رحماء بينهم، لما يجمعهم من رأفة وألفة ومودة، وأخوة وحنو وإشفاق.
هاتان الصفتان اللتان تبدوان متضادتين من خلال ما بينهما من طباق، وردتا في آيات أخرى، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 54). فهم أذلة على المؤمنين، أي متواضعون لينو الجانب، وهو تعبير مجازي. ثم هم أعزة على الكافرين؛ أي أقوياء أشداء لا يلينون ولا تأخذهم في الله لومة لائم.
وقد ألح القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على هذه الصفات التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: 71). وقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10). أي لا ينبغي أن يكونوا إلا إخوة، ولا ينبغي أن تكون بينهم أية عداوة. والتعبير بأداة الحصر "إنما" يفيد أنه لا توجد أخوة أقوى وأمتن من الأخوة التي تجمع بين المؤمنين، بما في ذلك أخوة الدم والنسب. ويذكر هنا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير: "مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وهذا ما يجعل المجتمع الإسلامي مجتمع تكافل على ما فيه من تفاضل؛ أي أن كل فرد فيه محتاج إلى الآخر ومكمل له، وأن أي عمل يقدمه له يعود عليه بالخير والنفع.
والمجتمع الإسلامي بعد هذا مجتمع تضبطه قوانين ونظم سياسية واقتصادية لا يتسع مجال هذا العرض للتحدث عنها. وقد بلغ الضبط أوجه باعتبار أن كل فرد فيه مسؤول يشارك في حمل الأمانة. وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن حنبل عن ابن عمر، والذي يقول فيه: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
ومن هنا كانت عناية الإسلام بالمجتمع لا تلغي الفرد، ولكن تنظر إليه في نطاق المفهوم الذي يعطي للفردية مدلولها الفلسفي والنفسي الذي هو رديف الشخصية، وكذا بعدها الاجتماعي الذي يجعلها حالة الفرد، باعتباره وحدة ضمن الوحدات المكونة للمجتمع، بكل ما في هذه الوحدة من صفات ومؤهلات تجعلها صالحة للحياة في ذلك المجتمع. وهذا المفهوم للفردية يبعد مدلولها السلوكي الذي يجعل الفرد أنانيا منعزلا عن الآخرين يعيش في عالم منزو، ويعتبر نفسه الغاية التي يلغي بها الغير.
الثالث: يمس السلوك، وتمثله الأخلاق التي تهدف في الإسلام إلى التحلي بالفضائل، والابتعاد عن الفواحش، والتزام التوسط في كل التصرفات، سعيا إلى تكميل شخصية الفرد وذات الإنسان. إلا أنها إلى جانب اعتبارها أحد عناصر الكمال الفردي، لا يتاح لها أن تتبلور إلا من خلال التطبيق، داخل إطار اجتماعي معين تتجلى في واقعه، مما يجعلها أخلاقا عملية، وليست مجرد قضية نظرية تجريدية، على حد ما نجد عند بعض الفلاسفة اليونان كسقراط الذي ربط المسألة الخلقية بالفضيلة، وربط هذه بالعلم؛ إذ عنده أن الفضيلة علم والشر جهل.
وارتباط الأخلاق بهذا الإطار يحمل المتحلي بها تبعة ومسؤولية، لما يكون لها من انعكاسات على الجماعة التي تتدخل لتحكم وتفصل. ومن ثم فهي أساس قيام هذه الجماعة، لأنها هي التي تجعل الذين يعيشون فيها يبتعدون عن نزعاتهم ونزواتهم، ويتخلون عن بعض منافعهم ورغباتهم، لكي يضمنوا للآخرين مصالحهم التي يمكنهم تحقيقها في حرية وأمن. وبهذا تنشأ جماعة متراصة ومتحابة ومتعاونة عن طريق العطاء والبذل والتضحية، وكذا بوقايته والدفاع عنه وكف الظلم، سواء من نفس أفراده أو من غيرهم.
فمقياس الأخلاق الحميدة وتفاوتها راجع في النهاية إلى الشعور بالتبعة والمسؤولية، ومدى ارتقاء هذا الشعور والاستعداد له، بكل ما في ذلك من محاسبة للنفس وترقب للمصير، في نزوع ذاتي لا جبر فيه ولا فرض. ويبلغ هذا الأمر أوجه في الحسنة المختارة التي لا يلزم بها أحد، على حد ما يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان: 8-9).
والجماعة قد تكون الأسرة أو القبيلة أو المجتمع الصغير، وقد تكون الدولة. ورأي الإسلام في هذا يختلف عن النظريات التي قال بها بعض الفلاسفة كهيغل، والتي تفصل الدولة عن السلوك الخلقي، باعتبارها مثلا، كما عند هذا الفيلسوف، تدخل في نطاق عقلي لا مجال فيه للقيم الخلقية.
الرابع: يبلوره منظور الإسلام للحضارة والثقافة بكل ما يشكلها من علوم وآداب وفنون؛ بدءا من المكانة المتميزة التي جعلها للعلم، إذ به كان تفضيل الإنسان على غيره من الكائنات وتقديمه للخلافة. يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31).
ولا باس أن نذكر ببعض ما يجعل العلم في الإسلام مرتبطا بالواقع وتطويره:
- فهو علم نافع. يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما في الموطأ وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة ومسند ابن حنبل: "أعوذ بالله من علم لا ينفع"
- وهو علم عملي، يقول تعالى في الآية الكريمة: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 44)، ويقول صلوات الله عليه في الحديث الذي رواه الدارمي: "لا تكون بالعلم عالما حتى تكون به عاملا".
- ثم هو علم ينمو باستمرار ولا يتوقف؛ يقول عز وجل: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85). ويقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114).
وإن هذا المنظور يربط المبدعات في جميع الميادين الحضارية والثقافية بالحياة وبتجربة الإنسان ورسالته، في إعلاء صادق للقيم التكريمية التي جاء بها الإسلام، وعلى أساس التوحيد، أي في إطار الإيمان، وفي نطاق علاقات متناسقة وجمالية بين الإنسان ومختلف مظاهر الكون التي خلقها الله قويمة ومنسقة. ولم لا تكون كذلك وهو تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 7). ولا بدع فالإيمان يقود إلى الحق والخير والجمال. وكيف ونحن نقرأ قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ (التغابن: 11). وعلى هذا الأساس نفهم موقف الإسلام من بعض الفنون التعبيرية والتشكيلية، كالشعر المناهض للتوحيد، وقد أدانه القرآن الكريم: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ (الشعراء: 224-227).
انطلاقا من هذا المنظور، أتيح للمسلمين في عهودهم الزاهرة أن يحققوا إمكاناتهم الفكرية والذوقية، وأن يضمنوا بذلك استمرار وجودهم وكيانهم في قوة والتحام وثيق بالعقيدة. وقد تسنى لهم هذا التبريز الحضاري والثقافي بما كان لهم من رؤية شمولية جعلتهم يزاوجون بين ما هو مادي وروحي، وبين ما هو فردي وجماعي، وبين ما هو نافع وممتع، وما إلى هذه وتلك من ثنائيات متناسقة ومتجانسة، وبما كان لهم من تسامح وتفتح تجاوزوا بهما قضايا الجنس والعصبية، وحدود الزمان والمكان، والإقليمية الضيقة، كما تجاوزوا كل انغلاق يحد من طاقاتهم الإبداعية والإشعاعية، في تعامل مرن مع الواقع الذي يعيشون فيه بكل معطياته ومكوناته، وفي قدرة على الاجتهاد،لاحتواء النوازل وتكييف المستحدثات، وفي اقتراب من المثال، بما يبعد عن مجرد المحاكاة التي قد تصل في أضعف مراحلها إلى تقليد يفقد الفكر والفن ما ينبغي لهما من إبداعية وجمال وروعة خيالية.
وكان نتيجة لهذا كله أن حققوا التوازن الذي معه كان الازدهار. وما أن اخذ هذا التوازن في الاضطراب حتى بدأ الانهيار. وقد تجلى هذا الانهيار في إفلات الزمام وضياع إمكان السيطرة والتحكم، وفي ضعف الحرية والدخول إلى مجال التنفيذ الآلي، وكذا فقدان القدرة على الإبداع.
هذه بعض تجليات اقتراب "الواقع" من "المثال" في الإسلام، وتلكم أسس ومنطلقات هذا الاقتراب. وهي جميعا دالة على أننا مطالبون بمعايشة "الواقع" والتدخل بالفعل فيه بالتطوير والتغيير، وألا نكتفي بمجرد الملامسة والمشاهدة، منتظرين الذي لن يأتي أبدا؛ على أن يكون ذلك في نطاق المتغيرات، أي ما هو قابل للتطوير والتغيير، وليس في إطار الثوابت التي تحكمها النصوص. وهنا حقيقة ينبغي تأكيدها، لاسيما ونحن نسمع الكلام يكرر بشأن "فصل الدين عن الحياة"، وهي أن الإسلام، على خلاف الديانات الأخرى السابقة عليه، له جانبان: أحدهما؛ عقدي صرف، يعنى بالمجرد والمطلق، والثاني؛ نظامي أو منهجي يظهر في السلوك والممارسة، من خلال ما يتضمنه من مبادئ وقيم يمكن الانطلاق منها في تشكيل منظومات وقتية أو ظرفية. وهي؛ أي هاته المبادئ والقيم، صالحة لكل زمان ومكان، وتستمد هذه الصلاحية من إطلاقية الجانب الأول، وما يتسم به من مرونة وقابلية للتكيف مع فطرة الإنسان في مختلف مراحل تطورها. وهذه عملية لا يشترط لها إلا أن يكون الإنسان بعلمه وتجربته وعقله راغبا فيها قادرا على القيام بها. وصدق الله العظيم إذ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). وإن جاءت هذه الآية أصلا في سياق التغيير من الحسن إلى السيئ. وقبل ذلك قال عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). أي أن إرادته شاءت ما لم يكن في علم الملائكة ولا فيما تعودوه، وهو إحداث التغيير الذي كان تعالى يعرف أنه سيحدث على يد الإنسان، باعتباره أمرا له شأنه، على ما قد يكون فيه من فساد أو انحراف.
ولعل مسؤولية التغيير المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي جعلت من المسلمين خير أمة، مصداقا لقوله عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110).
وقوله تعالى : ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 40-41).
فما أحوج المسلمين، في الظرف الدقيق الذي يجتازون اليوم، إلى أن يعوا، في ضوء هذه الآيات الكريمة، أمر تطوير أنفسهم ومجتمعاتهم، في نطاق حل صحيح لمعادلة الواقع والمثال. وهو حل ممكن التحقيق، إذا توافرت لهم المعرفة الدقيقة بمختلف مقتضياته، والإرادة الصادقة للعمل على الوصول إليه، والقدرة الصامدة على مواجهة ما قد تظهره الممارسة من مصاعب.
(انظر العدد 3 من مجلة الإحياء)