وحدة المملكة المغربية علم وعمرانقراءة في كتاب

اللغة والدين والهوية : تأملات في كتاب الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري

د. جمال بامي

 

فكرة هذه التأملات المتواضعة نبعت من لقائي الأخير بالفاضل الدكتور سيدي عبد العلي الودغيري، الذي يشعرك الجلوس معه والاستماع إليه بالشموخ العلمي والمعرفي والأخلاقي الذي يميزه، كما يبعث فيك أملا بمستقبل زاهر للثقافة والحضارة العربية الإسلامية؛ ولقدأهداني، حفظه الله، مجموعة من كتبه القيمة، منها كتاب اللغة والدين والهوية، الصادر عن مؤسسة الإدريسي  الفكرية للأبحاث والدراسات سنة 2017 في طبعة ثانية، بعد طبعة أولى سنة 2000. وقد راودتني فكرة الكتابة عنه، رغم قلة البضاعة في مجال اللغة والأدب، لكن الطابع الوجودي والفلسفي والحضاري للكتاب جعلتني أخطو هذه الخطوة، مساهمة في إثارة الانتباه إلى أهمية كتاب الدكتور الودغيري في مجال إبراز قيمة اللغة العربية في الوجود الثقافي والحضاري للعرب والمسلمين، وأهمية ذلك بالنسبة للمغرب، في الماضي والحاضر والمستقبل …

من قراءة العنوان أحسست أن مقاربة العلامة اللغوي الخبير في المعاجم وعلم المصطلح، والمتعمق في أسرار اللغة العربية، ضمن أبعادها العلمية والتاريخية والاجتماعية والقيمية والحضارية، ستكون قراءة عميقة متمكنة، ملمة بموضوع وجودي شائك، يتعلق بمسائل الهوية والدين والانتماء للأمة والوطن..

فالكتاب كما يصرح بذلك مؤلفه فرصة للاطلاع على " أفكار تعالج قضايا وإشكاليات كثير منها لم يحسم بعد، وما يزال محل نقاش ساخن وحوار دائر في مجالات حساسة تشغل بال فئة عريضة من المثقفين والمهتمين والباحثين، وعدد آخر من المتدخلين في توجيه مستقبل بلادنا ورسم طريق أمتنا العربية الإسلامية في حياتها الاجتماعية والثقافية".

فالخطب جلل، وسيدي عبد العلي الودغيري  يتحدث عن أشياء لم تحسم بعد، في إشارة إلى العمل الدؤوب الذي لا زال ينتظر المشتغلين بقضايا اللغة في علاقتها بالهوية والمجتمع والعالم، كما يتحدث الكاتب عن مستقبل البلاد ورسم طريق الأمة الإسلامية…

جميل جدا أن يكون الكاتب أي كاتب، حاملا لقضية واضحة المعالم، يبرز حدودها المنطقية والمعرفية ويمضي بها، ضمن منهجه التحليلي، من أفق الأفكار إلى أفق الأفعال، ضمن جدلية يُسدَد العلم فيها بالعمل.. وستكون المسؤولية الفكرية والأخلاقية أكبر حينما يتعلق الأمر بقضية الوجود الحضاري والهوية والانتماء، وما يرتبط بذلك من الكون الواعي داخل العالم.. هذا ما يجعل كتاب الدكتور عبد العلي الودغيري جديرا بالقراءة والاستصحاب في مستقبل القضايا المعرفية والثقافية..

الإسلام ولغة القرآن ، عنوان الفصل الأول من الكتاب الذي يؤطر فيه المؤلف رؤيته لعلاقة اللغة العربية بالدين عبر القرآن الكريم، باعتباره وحيا وحاملا متعاليا لهذه اللغة، ومرتفعا بها إلى أرقى مستويات التعبير الإنساني عن الوجود والكون والمجتمع.

يذكرنا المؤلف أن الله تعالى أبى إلا ان يرسخ في كتابه الكريم حقيقة نزول القرآن بلسان عربي مبين، حتى لا يكون للناس حجة إذا هم فرطوا في مقتضيات هذه الحقيقة القرآنية الأزلية، فيما يتعلق بوجودهم الثقافي والحضاري، وتأسيس حياتهم المجتمعية وبناء أسسهم العمرانية، على اعتبار اللغة العربية لغة التواصل والعلم والتربية والإبداع...

يذكرنا سيدي عبد العلي الودغيري ب"الذهول الذي أصاب العرب، وهم يسمعون كلاما لا يعرفون أين يصنفونه بين فنون القول التي عرفوها وتفننوا فيها، وجوابا على ردود الفعل الكثيرة التي كانت تصدر عنهم وهم على هذه الحال من ادعائهم بأن القرآن شعر أو سحر أو كلام مجنون أو سجع كاهن، كان الله تعالى يؤكد لهم كل مرة بأنه ليس سوى كلام عربي مبين أي فصيح وبليغ ومستمد من لغتهم ومن جنس لسانهم، لكنه لا يشبه كلامهم، إنه فن من القول لا عهد لهم به".

وإذا كان المتلقي الأول للقرآن العربي المبين هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكان المتلقي الثاني هم العرب الذين عاصروا النبي محمد ثم سائر العرب من بعدهم، فالمتلقي الثالث هم سائر الأمم التي لا تفهم العربية، لكنها معنية بالخطاب القرآني باعتبارها أمما إسلامية غير عربية. هذه الأمم وإن كان اجتماعها البشري ينبني على التواصل بلغة غير عربية، فإن تعبدها بالقرآن لا يجوز إطلاقا ان يكون بغير اللغة العربية، وهنا إشارة كونية رفيعة الشأن تتمثل بربط غير العرب بالعربية عبر القرآن، وهذه مسألة تدعو إلى التأمل والاعتبار... ويمضي الأستاذ الكبير في قراءته التركيبية ليقول بأن "كل ما نشأ في ظل الإسلام ولا سيما في القرون الأولى من علوم على اختلافها، ومعارف على اتساعها وتنوعها، إنما نشأ من هاجس الحرص على هذا الكتاب وعدم التفريط في شيء قليل منه أو كثير. فبفضل الحرص على فهم القرآن وتدبر معانيه وأحكامه نشأت علوم القرآن والحديث، والتاريخ والمغازي، وعلم الفقه والأصول، والكلام، واللغة، والشعر والبلاغة، والأدب.. وعلى أساس هذه العلوم الإسلامية الأصيلة قامت النهضة الفكرية وشيد بناء الازدهار الثقافي والعمران الحضاري الأول".

وإذا كانت العلوم الكونية من هندسة وحساب وفلك وطب وكيمياء، قد نمت وازدهرت واشتد عودها بفضل الاحتكاك العلمي والحضاري مع أمم أخرى، فإن علماء المسلمين أبدعوا، من داخل اللغة والثقافة العربية، علوما كونية في تربة عربية اسلامية، مع ما أضافوه من علوم وابتكارات في العلوم التطبيقية والتجريبية..

وقد تكلم العلم عربيا لعدة قرون، يوم كانت التربة الفكرية العربية حاضنة لمختلف العلوم، انطلاقا من مبدأ ارتباط لغة القوم بإنتاجهم الفكري والعلمي والثقافي، كما تقتضي ذلك طبائع العمران... وليث القوم يدركون اليوم أن أي لحاق بركب العلم والمعرفة لا يمكنه أن يتحقق إلا بالمرور بهذا المبدأ من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، مع ما يتطلبه ذلك من جهود نظرية وعملية لكي يتكلم العلم عربيا مرة أخرى، وهذا هو الأصل والمعول عليه..

ويثير المؤلف قضية شائكة تتمثل في علاقة اللغة العربية الفصحى باللهجات العربية المحلية، معتبرا أن الإسلام لم يعق تطور وتولد لهجات محلية بشكل طبيعي، لكن معيار التواصل الحضاري والعلمي والثقافي يبقى اللغة الفصحى، التي ارتبطت ارتباطا عضويا بالإسلام الذي عمل على نشر اللغة العربية وتوسيع أطلسها الجغرافي بشكل سريع ومثير للدهشة...

ثم ينبري الدكتور الودغيري، بنفس أنثربولوجي نقرأه بين السطور، ليبرز أن القرآن العربي المبين "جاء ليحدث ثورة عارمة يغير بها كل أوضاع الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية...وليقدم تصورا ورؤية جديدين وشاملين وعميقين للعالم، ليعطي بذلك تفسيرا لكثير من الظواهر الكونية، ومعنى جديدا لوجود الإنسان والحياة على سطح الأرض. وكان لهذا كله تأثيره القوي الذي امتد قرونا إلى اليوم في تغيير العادات والتقاليد وأنماط العيش والسلوك، فضلا عن تغيير أنماط الحكم والاقتصاد والاجتماع والعمران"... ألا يعني هذا، حسب قراءتي المتواضعة، أن اللغة العربية التي نزل بها القرآن المجيد وارتبطت عضويا ووجوديا به، هي العنصر الأساس في تشكل العمران العربي الإسلامي، وأنها باعتبارها جوهر الكينونة الثقافية للعرب والمسلمين، قد فرضت نفسها ذاتيا وموضوعيا على مجالات التأليف والابتكار والعمران، عند الشعوب العربية أصلا أو عند الشعوب غير العربية التي اعتنقت الإسلام، وهذه مسألة شديدة الأهمية حاضرا ومستقبلا فيما يتعلق بإشكالية علاقة اللغة بالدين والهوية، موضوع كتاب أستاذنا الفاضل سيدي عبد العلي الودغيري، الذي يبين كيف " خدم الإسلام لغة العرب خدمات جلى: طورها ونماها وهيأها لاستيعاب مختلف العلوم النقلية والعقلية حتى أصبحت لغة الدين والفكر والثقافة والتقنية والإدارة والاقتصاد والسياسة والحضارة الإنسانية العالمية طيلة قرون عديدة إلى عصر الاحتلال الغربي الحديث".

لقد سيطر المعجم القرآني، يقول المؤلف، بألفاظه وتراكيبه ودلالاته على اللغة العربية الفصيحة، كما سارت ألفاظ قرآنية على ألسنة العامة في الحياة اليومية رابطة حياتهم بأصلهم الكوني، كما تجاوز تأثير القرآن الكريم مجال التواصل إلى مجال الصناعات والمهارات اليدوية وفنون النقش والرسم والتشكيل والزخرفة والمعمار والهندسة، وهذا مشاهد في النقش على الجبس والنحاس والرسم على السجاد والقماش، وتزدان به سقوف المنازل والمساجد والأعمدة والجدران والقباب والأبواب...

وقد بصم القاموس القرآني عادات العرب وتقاليدهم، في الأفراح والأتراح، فلا تكاد تجد مناسبة لا تحضر فيها أسماء ومعاني هي من صميم اللغة القرآنية، بما تحمله من مضامين أخلاقية واجتماعية وإنسانية، بل نجد لغات غير عربية، كلغة المندنكا السنيغالية واللغة البنغالية، قد استعارت من لغة القرآن ألفاظا قد امتزجت باجتماعها البشري، تعبيرا عن انتمائها للدين الإسلامي الحنيف، كما بين ذلك المؤلف اعتمادا على دراسات علمية، مبينا أيضا كيف أن شعوبا إسلامية غير عربية في إفريقيا وآسيا والقوقاز وشرق أوربا، قد انبرت إلى فتح المدارس لتعليم العربية لأبنائها وتحفيظ القرآن في حركة دائبة تدل على الرغبة الجامحة في تجاوز مخلفات الاستعمار واسترجاع الهوية وتعويض ما فات من سنوات القهر والاستلاب الثقافي والضياع الروحي، حسب ما سطره أستاذنا الودغيري في كتابه القيم...

مما سبق، تبرز بجلاء، العلاقة الجدلية بين القرآن واللسان العربي المبين، وكونه مبينا يدعو إلى ضرورة ترقي العرب المنتسبين إليه بشكل مستمر في استيعاب اللغة العربية وأسرارها البيانية ومضمراتها الفلسفية والمعرفية والقيمية، حتى يرقى قولهم واستيعابهم وفعلهم ووجودهم البشري إلى مستوى الرسالة الكونية التي يحملها القرآن العربي المبين، وهذه قضية تحتاج إلى وقفات أخرى...

ويختم العلامة الودغيري هذا الفصل بالتأكيد على " أن من أسباب فرقة المسلمين اليوم وشتاتهم، سوء فهم الإسلام على حقيقته، وتخلي المسلمين عن رابطة أساسية كانت بالأمس، بالإضافة إلى الدين، من أهم دواعي تلاحمهم وتماسكهم وتفاهمهم وتآخيهم، وأعني بها رابطة اللغة.. فاللغة هي تلك الأداة التي تتوحد بها المشاعر والأحاسيس والأفكار وتتقارب شقة التفاهم بين بني الإنسان أفرادا وقبائل وشعوبا.. ألم يكن أهل اللغة العربية، يضيف سيدي عبد العلي، إذا أرادو التعبير عن شتات أو فرقة حصلا بين فريقين قالوا: تفرقت كلمتهم؟ أليست إذن وحدة الأفراد والشعوب كامنة في وحدة الكلمة؟ أليست وحدة الكلمة بالمعنيين الحقيقي والمجازي هي وحدة اللغة ؟

في ختام هذا الفصل المركب الممتع يتساءل المؤلف قائلا:" أتراني بعد هذا، وفي آخر المطاف، مجرد حالم يطلق العنان لخياله الفسيح وانا أنهي كلامي هذا بدعوة حارة لكافة الشعوب الإسلامية إلى توحيد الكلمة وتقوية هذه الرابطة بينها، رابطة لغة القرآن، بالإقبال على تعلمها وجعلها مادة إجبارية في المناهج والمقررات بالمدارس والجامعات، وإدخالها في وسائل الإعلام السمعية والبصرية، في خطوة نحو جعلها اللغة الرسمية والمشتركة لدى كافة هذه الشعوب "…

وعلى اعتبار أن اللغة العربية كانت، إلى حين دخول الاستعمار، اللغة الرسمية لكافة الشعوب الإسلامية، وكانت لغة التعليم والقضاء والفتوى والحكم والسياسة والاقتصاد والتجارة والإدارة وكل شؤون الحياة العامة، فإن إعادة الارتباط الوجودي بين العرب والمسلمين وبين لغتهم الأم مسألة ملحة، بحيث أضحت مسألة الهوية في علاقتها بالحرية والفكر والثقافة والحضارة القضية الأساس في مستقبل الأمة العربية والإسلامية، وهذا هو رهان كتاب أستاذنا الفاضل الدكتور الودغيري...

الهوية المغربية والمشكل اللغوي، عنوان الفصل الثاني من كتاب اللغة والدين والهوية؛ يذكر المؤلف في هذا الفصل بأن اللغة عنصر أساسي ومكون ضروري وحيوي من مكونات هوية الشعوب والأمم والأوطان، على اعتبار أن الهوية، كما يعرفها أستاذنا الودغيري، هي "مجموعة الخاصيات والملامح التي تتكون منها الشخصية المتميزة لمجموعة بشرية معينة، فلا يمكن تصور مجموعة بشرية بدون لغة ولا لغة بدون مجموعة بشرية"...كما يُذكر المؤلف بكون اللغة العربية مكونا أساسيا وضروريا من مكونات الشخصية المغربية.. وإنني أرى هنا الدكتور الودغيري يؤمن بأن لا مجال للحديث عن شخصية مغربية أصيلة ومنفتحة على العالم إلا بترسيخ عنصر جوهري من عناصر هويتها يتمثل في اللغة العربية.. وتبعا لذلك لا يستقيم الحديث عن أمة مغربية، بتاريخها وتراثها وحضارتها وحاضرها ومستقبلها دون تبوئة اللغة العربية وآدابها وعلومها مكانة الصدارة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية...

يذكرنا المؤلف بأن "التعليم عبر جميع مراحله التاريخية وفي مختلف المناطق الإسلامية، كانت أداته الوحيدة هي اللغة العربية.. كان المنهج التعليمي يبدأ بحفظ كتاب الله العزيز بقراءاته المختلفة، ثم ينتقل إلى تحفيظ المتون اللغوية والأدبية والدينية، ثم إلى دراسة الكتب المصنفة في مختلف وجوه المعرفة، وكلها مكتوبة باللغة العربية، إلى ان يتخرج المتعلم وهو طالب، أي فقيه متعلم له خبرة عالية باللغة العربية... وقد توارثت الأجيال هذه المناهج التعليمية التي كانت تلقن في كل المدارس والزوايا الصوفية والمساجد المنتشرة في كل المناطق المغربية الحضرية منها والبدوية والجبلية والسهلية على حد سواء، إذ لم تكن توجد ببلاد المغرب المسلم منطقة، ولو في حجم دوار أو مدشر صغير تخلو من مدرسة قرآنية...

كما كانت العربية ببلاد المغرب، قبل دخول الاستعمار، لغة المعاملات الإدارية والاقتصادية، بالإضافة طبعا إلى كونها لغة الثقافة والحضارة والاجتماع، وبقدر ما أثرت اللغة العربية في ثقافة المغرب، أثر المغاربة أيضا في التطور الثقافي للغة العربية، بحيث أضحى الخط المغربي خطا متميزا عن الخط المشرقي... يتبع هذا التأثير والتأثر، بمنطق فلسفة التاريخ، انغراس الثقافة المغربية ومعطياتها والتعبيرات الفنية والذوقية للمغاربة في مظاهر العمران المختلفة، التي نشأت ونمت وترعرعت في إطار العلاقة الوجدانية والإنسانية والعملية بين المغاربة واللغة العربية، التي أضحت مكونا وجوديا في تطور الشخصية المغربية حسب ما تقتضيه طبائع العمران...

إن إطلالة عامة على الزخرفة المغربية الإسلامية في المباني المدنية والعسكرية، تبرز غنى الخط المغربي، مندمجا مع مختلف أشكال التعبير الفني من نقش وزليج وجبس وخشب و فسيفساء ومخطوطات، والحاصل من كل هذا مجموع ثقافي مغربي أصيل شديد الانسجام، تشكل اللغة العربية عموده الفقري وأساسه الفكري والحضاري.

وغني عن البيان أن مجمل التراث العلمي المغربي في مختلف مجالات الفكر والثقافة قد ألف باللغة العربية، قام بذلك علماء مغاربة من أصول عربية أو من أصول أمازيغية، وهذا دليل عملي وواقعي على مركزية اللغة العربية، مرتبطة بالنص القرآني الجامع في أذهان أهل العلم والعرفان، على امتداد التاريخ العلمي والحضاري للمغرب.. ذلك أن مشاهير وأعلام الثقافة المغربية عاشوا وأنتجوا وأبدعوا في عصر دول كبرى منحدرة من أصول أمازيغية، لكنها لم تتنكر للغة العربية، لأن هاجس الوحدة عندها كان قويا والوازع الديني كان متجذرا وعميقا، وحس الانتماء للأمة كان عاليا، هكذا عبر المؤلف حفظه الله، طارقا بابا خطيرا، كان قد تسللت منه أفكار وأطروحات فاقدة للوعي بالأمة وبالتاريخ وبالمصير المشترك لكل المغاربة؛ لكن المعول عليه، بمنطق الشواهد التاريخية وطبائع العمران، أن اللغة العربية، الفصحى منها على الخصوص، كانت عصب الثقافة المغربية باعتبارها وعاء للثقافة العالمة، ووسيلة للتواصل مع الأمة العربية والإسلامية..

وإذا كان هذا المستوى من حضور اللغة يمثل الوجه العالم لثقافة البلد، فإن اللهجات المغربية العربية المختلفة، تقوم بدور مهم في التواصل بين المغاربة، بالإضافة إلى تعبيرها عن ثقافة شعبية شديدة الأهمية، ستنتج عن دراستها الأكاديمية في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة، خبرات عملية لاشك ستسهم في البناء الثقافي والحضاري للمغرب، كما ستسهم في التماسك الاجتماعي إن هي اتخذت كأرضية تشخيصية وتحليلية من أجل ترشيد السياسات وتدبير المجال العام، أما أن يتم الحديث عن اللهجات بخطاب متعصب يفاضل بينها وبين اللغة العربية الفصحى، وأحيانا ضمن منظور ثقافي يتخذ الفرانكفونية مرجعا ثقافيا وحضاريا، فهذه مسألة بَيِن هوانها ولا تحتاج إلى مزيد إيضاح...

أما فيما يتعلق باللغة الأمازيغية التي تشكل جزءا مهما من مكونات الهوية المغربية، فإن تاريخها المهتم به علميا وأكاديميا، أو راهنيتها في مجالات الإبداع والتواصل والتعايش، وحملها لمضامين إنسانية وفنية وثقافية مسائل تثري الثقافة الوطنية، وتدعم التماسك المجتمعي، فالحال كما يعبر عن ذلك الأستاذ الودغيري، أنه لم يكن هناك أي صراع لغوي بين العربية والأمازيغية ولا حرب بين الفصحى واللهجات، بل كان هناك تعايش وتكامل وتبادل تلقائي وعفوي للأدوار والوظائف الاجتماعية طوال القرون الماضية، ولم تكن المسألة اللغوية أو قضية الهوية مطروحة أصلا للنقاش، حسب ما وصلنا من وثائق تاريخية، إذ يمكن القول أن طرح هذه القضايا هو من مخلفات الفترة الاستعمارية...

يقول المؤلف أنه "في إطار هذا التمازج والانصهار والتداخل والتكامل بين المكونات البشرية واللغوية للمجتمع المغربي طيلة القرون الأربعة عشر الماضية، لا يمكن إلا أن نتحدث عن ثقافة مغربية من نوع خاص، أي من النوع الذي تداخلت فيه العناصر والمكونات المختلفة وتكاملت فيما بينها وتمازجت، بحيث يتعذر أن نعزل عنصرا منها ونعتبره ممثلا للثقافة المغربية"، لقد قال سيدي عبد العلي الودغيري كل شيء....

ولم يفت أستاذنا الفاضل أن يذكر بالتحولات التي همت المغرب خلال فترة الاستعمار، في مجالات السياسة والتربية والتعليم والثقافة، مشيرا إلى المقاومة الشرسة التي أبداها الوطنيون، عربا وأمازيغ، ضد سياسة التجهيل والتفريق والتغريب التي مارسها المستعمر، والمدارس الوطنية الحرة دليل على ذلك، وما رافق ذلك من أبحاث سوسيولوجية وأنثربولوجية لعلماء المستعمر، سعت إلى تفرقة المغاربة على أساس لغوي وعرقي، وإلى البحث عن أصول وثنية لتدين المغاربة، وصولا إلى استنتاج مفاده أن تاريخ المغرب قبل الإسلام أغنى وأعرق من تاريخه بعد الإسلام..إن أبسط قراءة لمعطيات الحضارة المغربية، في أبعادها العلمية والعمرانية والفنية، تبرز تهافت هذا الطرح..

هنا يتضح أن أطروحات التفرقة المعاصرة، بأبعادها السياسية والإيديولوجية، تنم عن قصور معرفي كبير وعن ضيق أفق في قراءة للتاريخ والإنسان، كما أنها وجه  قاتم وقليل الحيلة والعدة لصورة المستعمر الذي بذل جهودا مضنية، مسنودا بعلماء ومثقفين ومغامرين، من أجل تمزيق الوحدة الثقافية للمغاربة التي بنيت وما تزال على أساس الدين واللغة والتاريخ المشترك...

تطرق الأستاذ الودغيري أيضا في كتابه إلى مسألة التعريب موضحا أنها جاءت كرد فعل ضد الاستعمار ومخلفاته، وأن قصورها الإجرائي لا يخل في شيء بضرورة العمل على توسيعها وتصحيح مسارها من أجل عودة اللغة العربية إلى مكانها الطبيعي في المدرسة والجامعة والسياسة والإدارة والثقافة بشكل عام..

يختم الأستاذ عبد العلي الودغيري هذا الفصل بخلاصة مفادها أنه: "قد حان الوقت للتخلص من كثير من عقد الماضي المفزع، ماضي الفرقة والتشتت والتمزق، والتحرر من دسائس الاستعمار القديم والحديث ورواسب أفكاره ومخططاته وسياسته اللغوية والثقافية، وكثير من العقد النفسية المتولدة عن مرارة الإحساس باليأس والإحباط في ظل التشرذم العربي الإسلامي وانهيار القيم وتهاوي المثل السامية الداعية إلى الوحدة والتكتل والتسامح والتعايش والتضامن"..

ولن يتحقق هذا التحرر إلى بتنزيل مقتضياته إلى أرض الواقع، في السياسة والتعليم والتربية والاقتصاد والثقافة، لأنه لا تنمية بدون استقلال فكري ولا استقلال بدون الاتكاء على هوية راسخة الأركان، روافدها الرئيسية الدين واللغة والتعدد الثقافي، وتتجسد عمليا في السلوك الحضاري والتفوق الفكري والتعايش السلمي في المجتمع والانفتاح الواعي على العالم.. سيترتب على كل هذا الحسم في لغة التعليم والإدارة، واستعادة العلاقة الطبيعية مع اللغة العربية، واعتبار مختلف اللغات الأجنبية وسائل للانفتاح والتواصل من أجل اكتساب خبرات كونية في مختلف مجالات العلوم والثقافة، وتقديم صورة راقية عن النبوغ المغربي وعن الثقافة العربية والإسلامية بشكل عام...

الحوار حول الهوية الثقافية بالمغرب، بعض إشكاليته وقضاياه، عنوان الفصل الثالث والأخير من كتاب الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري..

يأتي هذا الفصل متكاملا مع الفصلين السابقين، ويطرح موضوعين أساسيين سيطرا على ساحة الحوار الثقافي بالمغرب، خلال العقود الأخيرة من مرحلة الاستقلال؛ يتعلق الأمر بموضوع التراث والمعاصرة/التقليد والحداثة، وموضوع الهوية الثقافية وما ارتبط بها من قضايا وإشكاليات...

بعد تذكيره بأن موضوع التقليد والحداثة قد شغل الساحة الثقافية خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، يبين المؤلف أن هذا الموضوع انقسم حوله المثقفون والمفكرون إلى ثلاث اتجاهات: مناصرين للحداثة، ومدافعين عن التراث، وفئة ثالثة تبنت موقفا وسطا بين الاتجاهين السابقين. وقد أفضى الحوار خلال هذه الفترة إلى الجدل الصاخب الذي سيعرفه العقدان الأخيران من القرن العشرين حول مسألة الهوية الثقافية، وهي قضية مرتبطة بإشكالية الحداثة والتراث.. غير أن مسألة التراث والحداثة كانت قضية فكرية عامة والصراع حولها صراع علمي وثقافي محض، بينما اختلط في مسألة الهوية ما هو فكري وثقافي بما هو سياسي وإيديولوجي.. وهذا التمييز الذي يبرزه الأستاذ الودغيري شديد الأهمية، لأنه منطلق أولا من استيعابه للإنتاج الفكري المغربي في مجال الأدب والفلسفة والتراث ضمن سياقاته المختلفة، وأيضا لأنه تشخيص دقيق لمواطن القوة والضعف في بنية الفكر المغربي، فإما انطلاق من العلم، ضمن أسسه ومنطلقاته المنهجية والإبستيمولوجية، وكل اجتهاد علمي يثمر الصواب والازدهار أو الخطأ والاعتبار في أفق الترقي، وإما انزلاق إلى إقحام السياسي والعرقي والقبلي في مسائلَ الأصلُ فيها التحليل العلمي والتناول المعرفي والصرامة المنهجية...

إن ما يطرحه الدكتور عبد العلي الودغيري، ضمن أطروحته المركبة حول اللغة والدين والهوية، يكتسي كل الأهمية في مغرب اليوم، الذي خضع كغيره من البلدان العربية والإسلامية إلى "صدمة الحداثة"، بحيث نجد تأثير هذه الأخيرة، في مظاهرها المادية والتكنولوجية والإعلامية، قد مس "سلوكيات المجتمعات التقليدية وأخلاقها وأعرافها وتقاليدها وأذواقها وميولها، وأثر في حياتها وفي نظرتها إلى ذاتها وموروثاتها الثقافية والفكرية والاعتقادية ورؤيتها للعالم وقراءتها لحركة التاريخ وتفسيرها للحضارة"..

ولقد بدا للحظة أن الشعوب التي تحررت من الاستعمار السياسي في حاجة ماسة إلى استقلال فكري وثقافي شامل، زاد من حدة هذا الشعور تنامي مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. لكن هذا التحرر تعترضه عقبات أهمها وجود نخبة داخل الأوطان العربية، والتي وإن كانت جزءا من الوطن ولا يستطيع أحد أن يزايد عليها في ذلك، غير أن توجهاتها الفكرية والثقافية والذوقية تميل أكثر إلى ثقافة المستعمر، بقصد أو بغير قصد، وهي تضن بذلك أن أسلوب حياتها يقطع مع التقليد الذي يسود معظم جوانب الحياة الاجتماعية في البلاد العربية، والحال أن المسألة أعقد من ذلك، بحيث أن إشكالية الهوية لا تقتصر على مسألة التقليد والحداثة بل هي مسألة وجودية ترتبط بالمنظومة المرجعية والقيمية للمجتمع وبرؤية العالم وبالانتماء الفكري والروحي والثقافي للوطن الأم، لغة وأخلاقا وحضارة...

نفهم من أطروحة سيدي عبد العلي الودغيري أن سيطرة الفرانكفونية على الحياة الثقافية والإعلامية والإدارية والاقتصادية، فضلا عن النظام التعليمي، مسألة تحتاج إلى معالجة فكرية وسياسية وثقافية وحضارية.. ذلك أنه من المفروض على أهل الثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد بالمغرب، أن يسعوا، رغم انفتاحهم على الخارج في عدة جبهات، أن يولوا أهمية بالغة إلى ازدهار حقيقي للبلد، بما تحمله كلمة ازدهار من معاني التنمية والاستقلال السياسي والفكري والاختلاف الثقافي والعيش المشترك...

لا يتعلق الأمر هنا بصراع بين العربية والفرانكفونية، أو بين العربية والأمازيغية، أو بين العربية واللهجات المختلفة، بل بازدهار وطن عريق في المجد والتاريخ والحضارة، مكونات هويته متعددة، ومتفتح على العالم والمعارف واللغات... وعلى جميع أبناء الوطن، عربا وأمازيغ وأهل الصحراء وأحفاد أهل الأندلس، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية، وحتى المتبنين لنظام حياة مخالف لقيمنا وأعرافنا، وهم أهلنا، يجمعنا وطن واحد ولنا تاريخ مشترك وحضارة عريقة، غير أن الوعي بهذا التاريخ وبهذه الحضارة هو من يصنع الفارق... لأن المتعمق في ثقافة المغرب، بكل روافدها، والسائر في أرضها والمتأمل لعبقريتها، ضمن آفاق الطبيعة والبيئة والتاريخ والإنسان، لا يسعه إلا إدراك قيمة هذا البلد الذي نما وكبر وترعرع ضمن منظومة جدلية قوامها اللغة والدين والهوية، ونهجها عشق العلم والمعرفة والابتكار، ومسرحها الاجتماعي والثقافي تنوع كبير، هو مصدر غنى وترق إذا ما فهمت كل أطياف المجتمع أين يكمن الخير كل الخير لهذا البلد الكريم...

بارك الله في جهود أستاذنا الكبير الدكتور عبد العلي الودغيري، وما هذه التأملات المتواضعة إلا عربون محبة وعرفانا بالجميل لما يقدمه من أعمال أكاديمية، لاشك ستأتي أجيال مقبلة بحول الله، تفكك محتواها وتمضي بها في أفق الإصلاح، أجيال تعشق المغرب وتعتز به، متسلحة بالعلم واللغة العربية وفلسفة الإسلام، ومنفتحة على العالم بلغاته وثقافاته، بعيدا عن التطرف الديني والاستلاب الثقافي..

والله الموفق للخير والمعين عليه..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق