مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 14

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

حقيقة الكسب بين مشهور المذهب وضعيفه

توطئة:

ما دام قد تحقق أنه لا جبر ولا تفويض، فقد تحقق أن المذهب الحق بين هذين المذهبين الفاسدين خرج ﴿من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ﴾ بين قوم فرطوا وهم القدرية -مجوس هذه الأمة- وقوم أفرطوا وهم الجبرية[1]. وقد ثبت أن جعفر بن محمد الصادق قيل له: قد أجبر الله العباد؟ قال: الله أعدل من ذلك. قيل له: هل فوض إليهم؟ قال: الله أعز من ذلك. لوأجبرهم ما عذبهم، ولو فوض إليهم ما كان للأمر والنهي معنى. قلت: فكيف تقول إذا؟ قال: منزلة بين منزلتين هي أبعد مما بين السماء والأرض، ولله في ذلك سر لا تعلمونه  [2]. “فانظر الآن إلى أهل السنة كيف وفقوا للسداد ورشحوا للاقتصاد فقالوا القول بالجبر محال باطل والقول بالاختراع اقتحام هائل”[3].

وهذه الواسطة بين الجبر والتفويض هي التي عرفت عند المتكلمين بمصطلح”الكسب“. وقد استعمله جمع من أئمة السلف[4] جريا على استعمال القرآن له حيث ذكر منسوبا إلى الإنسان في غير ما آية منه، كما في قوله: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾، و في قوله تعالى:﴿بما كسبت أيدي الناس ﴾ وفي قوله سبحانه:﴿ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾. وعليه يكون القول بالكسب قول جميع الفرق المثبتين للقدرة[5] لتظافر الآيات الكريمة عليه كما قاله بعض المحققين.

 وإنما اشتهر بالخصوص عن الإمام الأشعري لغرابة رأيه فيه، فقد قيل له: “ما معنى الكسب المذكور في القرآن؟”.فقال:”وجود القدرة في المحل وتعلقها بالفعل من غير تأثير كتعلق العلم بمعلومه“.ففسر الكسب بما لا يتبادر منه لغة: وهو التأثير في الفعل أو تحصيل الفعل المعدوم بإدخاله في الوجود   [6]، لما دل الدليل عنده على خلافه، فجاء تفسيره غريبا عن اللغة فاختص في الاصطلاح باسمه. فخالف بذلك المعتزلة في قولهم العبد مستقل بإيجاد فعله الذي هو مقتضى الكسب عندهم.

قال الإمام الغزالي:”لما بطل الجبر المحض ببداهة بين حركة المرتعش وحركة المختار وبطلت خالقية العبد بالأدلة العقلية والنقلية المبسوطة في الكتب الكلامية وجب اعتقاد أن فعل العبد مقدور بقدرة الله تعالى اختراعا وبقدرة العبد على وجه آخر معبر عنه بالكسب[7].

ويقول التاج السبكي:”كسب الأشعري كما هو مقرر فى مكانه أمر يضطر إليه من ينكر خلق الأفعال وكون العبد مجبرا، والأول اعتزال ،والثانى جبر. فكل أحد يثبت واسطة لكن يعسر التعبير عنها ويمثلونها بالفرق بين حركة المرتعش والمختار. وقد اضطرب المحققون فى تحرير هذه الواسطة والحنفية سموها الاختيار. والذي تحرر لنا أن الاختيار والكسب عبارتان عن معنى واحد ولكن الأشعرى آثر لفظ الكسب على لفظ الاختيار لكونه منطوق القرآن والقوم آثروا لفظ الاختيار لما فيه من إشعار قدرة للعبد “[8]اهـ

وقال الزركشي :”ولا بد من القول بالكسب تصحيحا للتكليف والثواب والعقاب لامتناع الجمع بين اعتقاد الجبر المحض والتكليف، وحاصله أن الأفعال تنسب إلى الخلق شرعا لإقامة الحجة عليهم ولا فاعل في الحقيقة إلا الله تعالى؛ فمراعاة الظاهر شريعة ومراعاة الباطن حقيقة، وفي هذا المذهب جمع بينهما[9] اهـ

 

 

 


[1] – ابن كيران “شرح على توحيد ابن عاشر’ص:56

[2] – انظر “شرح صحيح  البخاري” لابن بطال (10/318)

[3] – الغزالي” الاقتصاد في الاعتقاد” ص:93

[4] – ومنهم :الإمام أبوحنيفة في “الفقه الأكبر” والإمام  أحمد فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى في “المعتمد” ونصره وأطال في الاستدلال عليه.

[5] – خلافا للجبرية .

[6] – الزبيدي “إتحاف السادة المتقين”(2/168)، و “النشر الطيب”(1/463-464)

[7] – بواسطة “الشيخ خالد النقشبندي العالم المجدد”ص:41

[8] – التاج السبكي”الطبقات الكبرى”(3/385-386)

[9] – بدر الدين  الزركشي “تشنيف المسامع”ص:430

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق