مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

القيم الجمالية في الخطاب الصوفي من التكميل الخُلقي إلى ترشيد الحس الإنساني

من بين الأسئلة التي أصبحت تَطرح نفسها بإلحاح في مجتمعاتنا المعاصرة، سؤال الجمال هذا المفهوم الذي مازال يلفه الكثير من الغموض بعد أن صار يخضع لتوظيفات وإسقاطات متناقضة، وبعد أن كثر اللجوء إليه لتمرير أفكار مغلوطة وخاصة في مجالات لها ارتباط وثيق بحياتنا اليومية؛ كالإعلام والفن والإشهار والأدب والعمران والتكنولوجيا…

أمام هذا الخلط المفاهيمي والتدني القيمي اللذان طالا ماهية الجمال باعتبارها قيمة إنسانية عُليا لتتحول في زماننا هذا إلى مجرد شعور ساذج يقوم على محض الإشباع الغريزي، تأتي الحاجة إلى وعي جمالي مسؤول ومُوجِه لمختلف الأنشطة الإنسانية سواء كانت اقتصادية أو صناعية أو سياسية أو إعلامية أو بيئية أو فنية إبداعية…، وهذا لا يعني أن الحاجة إلى الجمال إنما تُقاس بالمَبَالِغ التي تُنفَق في سبيل كفايتها وإشباعها، فقد تتوفر للإنسان إمكانات مادية عديدة تسمح له بإشباع حاجته الجمالية بشكل منتظم، غير أنه يبقى شقيا مادامت عين قلبه المتذوقة للجمال مطموسة.

 قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينــكر الفم طــعم الماء من سقم

على حد تعبير الإمام  البوصيري في بردته.

من هذا المنظور يبقى أمر تحديد ماهية الجمال متوقف على الذات الناظرة إليه، و التي هي بمثابة مرآة ينعكس عليها ذلك الانسجام الساري بين جنبات الوجود، وهذا ما يجعلنا نُدرك أن مفهوم الجمال ليس  مجرد شعور بالتلذذ قائم على إدراك الملائمة أو المناسبة في المرئيات والمسموعات أو في الأشكال والأصوات بقدر ما هو  مسؤولية إنسانية كبرى وقوة فاعلة تحرك مختلف الأنشطة الإنسانية سواء كانت مادية  أو روحية .

وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا أن العناية التي حضي بها سؤال الجمال في الخطاب الصوفي طيلة تاريخ الإسلام فاقت تلك العناية التي حضي بها في باقي الاتجاهات الفكرية الأخرى. 

    فلو تأملنا ما أنتجه الصوفية –رضوان الله عليهم- من إبداعات فكرية وأدبية، لوجدنها زاخرة بقيم جمالية ناتجة عن تجربة روحية ذوقية وتربوية أخلاقية، ينشأ عنها توليد ممارسة إبداعية تنتفي فيها الإحالة على المرجع المادي الملموس، أو التصور العقلي المجرد أو المحدوس ليحل محله الإشراق أو الوارد الذي يحول معنى الكلام من مجرد عمليات ذهنية مركبة من علاقات سياقية محكومة بمنهج الإبدال إلى كلام  نوراني حالي يمتح من حضرة القرب الأزلية؛ حتى إذا تكلم أحدهم وكان من أهل الإشارة والذوق أشرق بكلامه النوراني الجميل “باطن كل حاضر من الخَلْق؛ فعلى طبقاتهم يفهمون عنه من معنى ما هم فيه؛ كل يرى أن العبارة توجهت لمعنى ما هو فيه، فلا تُغْمِضُ عبارته عن المبتدي، ولا تستوفي جميع إشارته المنتهي”. (من كلام الشيخ سيدي محمد الفاسي في كتابه مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن) .

   انطلاقا من هذا الموقف المؤصل لجمالية الخطاب الصوفي  نتساءل عن سر هذا التناص الوجودي الذي يمزج بين الجمال باعتباره قيم إنسانية عليا والخطاب الصوفي باعتباره خطابا إشاريا  تواصليا وديناميا لا نهائيا نابع من قلوب حية متصلة بالله عز وجل ؟

    قبل الإجابة عن هذا التساؤل لابد من الوقوف عند اعتقاد سائد يحاول أصحابه فصل الخطاب الصوفي عن القيم الجمالية والفنية بحجة انحصار وظيفة هذا الخطاب في التوجيه المُؤطَر بعلاقة تَقَبْل إلزامي أو امتثال قمعي، والمتوسل بأساليب الردع والارتداع. غير أن ما يكذب هذا الاعتقاد هو نتائج التجربة الصوفية الخُلقية العميقة التي تزود المتخلق بأوسع نظرة للإنسان وبأرق ذوق للجمال؛ هذا التذوق الجمالي الذي يمد المتخلق بفعل ثر دافق يمد غيره ولا يمده غيره؛ وهنا يرتفع حكم القبح ولا يبقَى غير حكم الحسن الشهودي فيصير لسان الحال يقول: «ما رأيتُ شيئا إلا ورأيتُ الله فيه»؛ ومن ثمة يتحول الجمال من منحة إلهية إلى مسؤولية إنسانية كبرى، وهذا ما دفع ابن عطاء الله إلى القول  في إحدى حكمه : «جعلك (الله) في العالم المتوسط، بين ملكه وملكوته، ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته»، وقد شرح الشيخ أحمد رزوق هذه الحكمة بقوله: «وذلك يقضي لك (أيها الإنسان) برفع الهمة عن الدناءة، والجنوح إلى معالي الأمور في جميع الحالات، لأن من كان في أرفع العوالم، لا يصح له أن يبيع نفسه بأبخس منها ثمنًا. فعِلْمُ العبد بجلالة قدره في أصل النشأة، ينهض قواه لطلب الأمور العلية… وبيان كونك في العالم المتوسط (يضيف الشيخ زروق) فمن طريق المعنى: أنك لست ملكيًا محضًا ولا ملكوتيًا صرفاً، وإذا كنت كذلك فلك في كل نسبة، وذلك هو الوسط حقيقة، ومن طريق الحس، فإنك وسط العالم السماوات تظلك، والأرض تقلك، والجهات تكنفك، والجمادات تدفع عنك، وأنت جوهر مكنون فافهم» (شرح الحكم العطائية للشيخ زروق ص: 360).

من هنا يبقى السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا هو كيف يمكن توظيف واستثمار الإمكانات والمؤهلات التي يوفرها هذا الخطاب للارتقاء بالحس الجمالي والفني حتى يسهم في تعميق وتنمية القيم التعبدية والروحية في نفوس المتلقين لذلك الخطاب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق