مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

إرهاصات تشكل الهوية الأخلاقية لدى المغاربة في عهد الأدارسة

أولا: مقدمات منهجية

    إن أهم ما يميز أرض المغرب كطبيعة وموقع جغرافي هو كونها شكلت نقطة عبور من الشرق إلى الغرب، وحلقة وصل بين الشمال والجنوب، وجسرا  لتلاقح الثقافات والحضارات، وفضاء لتفاعل قيم التعايش والتسامح.

    وهذا ما تؤكده جل الأبحاث التاريخية والدراسات الأنثروبولوجيا والحفريات الأثرية التي أثبتت أن المغرب يُعد من بين الدول الأكثر قِدما من حيث وجود الإنسان على أرضه، وهناك من المتخصصين في التاريخ القديم من يرى أن تعمير المغرب كان نتيجة اندماج ثلاثة عناصر بشرية[1] وهي العناصر الإيبيرية والموريتانية وسلالة العصر الحجري الحديث، إضافة بطبيعة الحال إلى العنصر الأمازيغي.  

   لكن قد يقال: إن المغرب قد تعرض لغزو أجنبي متعدد الأعراق والعقائد والثقافات، مما تسبب في تسرب ثقافات دخيلة إلى نفوس المغاربة جعلتهم يفقدون هويتهم الأصلية.

   صحيح أن المغرب شهد توافد العديد من الأجناس والأعراق والعقائد والثقافة، غير أن القول بأن المغاربة فقدوا هويتهم الأصلية المبنية على وحدة العرق والانتماء إلى الأرض، فيه الكثير من المبالغة والجنوح عن الصواب، لذلك سنحاول الاستناد إلى أربع مقدمات لدحض هذا الإدعاء والتدليل على تهافته:

1- يُجمع المختصون في تاريخ الحضارات الإنسانية على استحالة وجود شعب أو بلد في هذا العالم لم يشهد اندماجا في تركيبته العرقية الأصلية، كما أنه من غير الممكن عقلا تصور وجود بلدان لم تستقبل عبر تاريخها أفواجا من شعوب الأخرى؛ وأرض المغرب لم تخرج عن هذه القاعدة، فقد استقبلت منذ القدم أجناسا إفريقية من جنوب الصحراء وأخرى مشرقية من عرب اليمن، ومن المصريين ومن الأندلس…[2]، كما توافد على المغرب ديانات متعددة ومختلقة وخاصة السماوية منها: اليهودية والمسيحية والإسلام، لتضمحل كل هذه الديانات ويبقي الإسلام مستمرا في هذا البلد على مدى اثنى عشر قرنا إلى يوم الناس هذا.

2- تفاعل الإنسان –سواء الأصلي أو الوافد- مع أرض المغرب أفرز علاقة وجدانية، وفكرا وطنيا بين هذا الإنسان وأرض المغرب، هذه العلاقة التي ستُنَمي اللاشعور الجمعي عند هذه الجماعة النفسية على حد تعبير غوستان لوبون في كتابه “روح الجماعة“، مما سيخلق مزاجا نفسيا موحدا يمكن تسميته بـ:” روح الشعب المغربي”.

3- لقد نجح الإسلام في صياغة هوية أخلاقية للمغاربة، دون أن يفرض عليهم ذلك التخلي عن خصوصياتهم، كما مكنت ثقافة الإسلام المغاربة من التعبير عن هويتيهم الأخلاقية.

4- يمكن القول إن الهوية الأخلاقية  للمغاربة تتأسس على مرتكزين أساسيين؛ المرتكز الأول أو المرجعية الأولى هي العقيدة الإسلامية، والمرتكز الثاني هي المواطنة أي الانتماء إلى المغرب كوطن موحد على مستوى اللاشعور الجمعي ومتنوع على مستوى الملامح والقسمات.

    بعد هذه المقدمات الأربع التي حاولنا من خلالها دحض الإدعاء القائل بأن المغاربة فقدوا هويتهم الأصلية بفعل الغزو الأجنبي، سننتقل إلى دحض إدعاء آخر مفاده أن المغاربة وخاصة الأمازيغ منهم اعتنقوا الإسلام من باب تقليد المغلوب لفكر الغالب أي تحت قهر السيف والسلطان.

   قبل الخوض في مناقشة هذا الإدعاء أرى لزاما التأكيد على أمر مهم أثبتته نتائج الحفريات والدراسات التاريخية والانتروبولوجيا؛ وهو أن الشمال الإفريقي قد عرف العديد من العقائد والديانات المحلية والوافدة[3]؛ منها ما يعود إلى أصل سماوي، ومنها ما هو مرتبط بالوضع البشري؛ لنستنتج من ذلك أن المغاربة لم يكونوا شعبا لا دينيا، بل العمق الديني عندهم أصيل، والتدين فيهم يعد من بين أهم ملامح حياتهم النفسية والاجتماعية قبيل الفتح الإسلامي.

  ثم إن إقبال المغاربة على الإسلام لم يكن من باب الخضوع والتبعية كما يقول المعترضون؛ ولتدليل على هذا الحكم سننطلق من أربع معطيات تاريخية:

1- يتشكل الدعاة الممهدون والقادة الفاتحون الذين عرفهم الغرب الإسلامي، من كبار قراء التابعين الذين تشربوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه مكارم الأخلاق وسمو الأذواق، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عقبة بن نافع الفهري، وموسى بن نصير…

2- الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا لم يكن على يد العرب وحدهم، بل حتى أبناء القبائل الأمازيغية -وخاصة الذين أسلموا قبل خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه- أسهموا في هذه الحركية؛ فطارق بن زيد الأمازيغي -وهو ابن مسلم بل وحفيد مسلم- من فتح الأندلس، كما يذكر ذلك ابن عذاري في “البيان المغرب”[4].

3- إقبال المغاربة على الإسلام كان عن اقتناع واعتقاد راسخ، دون أن يفرض عليهم ذلك التخلي عن خصوصياتهم وهويتهم.

4- أصبح الإسلام فاعلا أساسيا في توجيه الحياة السياسة بالمغرب، فقد حمل لمعتنقه من الأمازيغ المغاربة نظاما جديدا مبني على الشورى والعدل والمساواة.

ثانيا: قيام الدولة الإدريسية وتَشَكُل الوعي الهوياتي الأخلاقي

   بعد هذه المقدمات التي حاولنا من خلالها دحض بعض الادعاءات المغرضة والفجة التي يسعى أصحابها إلى طمس بعض الحقائق التاريخية بحجة إعادة كتابة تاريخ المغرب من جديد، سننتقل إلى الحديث عن التجربة الإدريسية باعتبارها ممهدة لتشكل الوعي الهوياتي الأخلاقي لدى المغاربة، بل يمكن  القول إن قيام الدول الإدريسية يعد بمثابة إعلان رسمي عن ظهور أمة مغربية ذات شخصية وطنية موحدة استمرت إلى يوم الناس هذا.

   فلو تصفحنا معظم المصادر التي أرخت للعهد الإدريسي لوجدنا أن هذا الإحساس الوطني الذي تَكون في “اللاشعور الجمعي” عند المغاربة ابتدأ بقدوم المولى إدريس الأكبر (تـ177هـ /793م) إلى المغرب، وبالتحديد منطقة طنجة -التي لم يمكث فيها كثيرا لغلبة الاعتزال على أهلها- مغادرا صوب وليلي سنة 172هـ التي لقي بها كل الترحاب والبيعة من قبل أهل الحل والعقد بها، وخاصة زعيمها عبد الحميد الأوربيّ؛ وفي هذا يقول ابن أبي زرع في الأنيس المطرب: “فلما دخل رمضان من سنة 172هـ جمع عبد الحميد إخوانه وقبائل أوربة، وعَرَّفهم بنسب إدريس وفضله وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرفه، وعلمه… “[5]؛ وهي ذات الأسباب التي جعلت باقي القبائل المغربية الأخرى تلتف حوله، وخاصة سجلماسة وزناتة وزواغة وصدراتة وغياتة ومكناسة وغمارة.

يمكن أن نستنتج من خلال هذا النص مجموعة من الاستنتاجات:

1-  تعلق المغاربة بالمولى إدريس هو تعلق وارتباط في الحقيقة بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأوربيون قَدموا المولى إدريس على غيره من زعماء الفرق الإسلامية التي كانت تنشط بالغرب الإسلامي، اعتبارا لكونه سليل الدوحة النبوية ولتحققه بمكارم الأخلاق التي كان عليها جده المصطفى صلى الله عليه وسلم.

2-  المولى إدريس لم يكن داعية لمذهب معين أو وكيلا لإمام معصوم كما يعتقد بعض غلاة الشيعة، وإنما كان فاتحا ومبشرا بشريعة الإسلام السمحة على منهج أهل السنة والجماعة.

3- عمل -رضي الله عنه- على تقويم بعض الممارسات والسلوكات المنحرفة التي خلفتها مرحلة حكم الإمارات المذهبية وخاصة الخوارج الصفرية والإباضية، التي أسهمت بشكل كبير في انتشار ممارسات الشعوذة والخرافات والانحلال الخُلقي.

4- رغم قصر مدة حكمه –رحمه الله- التي لم تدم سوى خمس سنوات وستة أشهر، إلا أنه استطاع تحقيق الكثير من الأهداف النبيلة التي اجتمع حولها المغاربة، وهذا ما دلت عليه الرسالة التي وجهها إلى المغاربة والتي أصبحت تعرف “بالميثاق الإدريسي” والتي يقول فيها: “إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله،
وإلى العدل في الرعية، والقسم بالسوية، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد، واعلموا – عباد الله – أن مما أوجب الله على أهل طاعته المجاهدة لأهل عداوته ومعصيته باليد واللسان”[6].

5- على نفس المنوال والنهج سار وارث سره المولى إدريس بن إدريس -رضي الله عنهما- الذي ثَبَّتَ قواعد الدولة الإدريسية، ورسخ الفكر الأخلاقي السني المبني على المذهب المالكي البعيد عن غلو وتطرف التيارات الشيعية والخوارج والمعتزلة.

6- عمل المولى إدريس الأزهر على ترسيخ حب آل البيت، ورفع من قدرهم بما لا يتنافى مع ضوابط عقيدة أهل السنة والجماعة.

7- كما كان للتجربة الإدريسية الأثر الكبير في تأسيس لنظام اجتماعي وسياسي متفرد في العالم العربي والإسلامي وهو ما يسمى “بالشرف السياسي”، وتاريخ المغرب يشهد على ما قدمه الشرفاء ممن كانت لهم تجارب في حكم المغرب من عطاء كبير لهذا البلد حيث حرصوا أشد الحرص على المحافظة على وحدة المغرب سواء على مستوى المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، أو على مستوى المحافظة على الشعور الوطني الموحد.

8- أسهمت الدولة الإدريسية في نشر منهج أخلاقي مبني على الوسطية والاعتدال في فكر المغاربة وطبائعهم بعيدا عن الغلو والتعصب للعرق أو اللون.

10-عملت التجربة الإدريسية على تعزيز روابط الأخوة بين العرب والأمازيغ وبناء وحدة ذات مضامين متنوعة ومتداخلة تترفع عن كل أشكال الإثارة والتشنج والغلو المفضي إلى الصراع والتفكك الذي يؤدي إلى الجمود والتخلف.   

 

الهوامش:


[1] – العلوي القاسمي (هاشم)، مجتمع المغرب الأقصى، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1995، ج 1 ص 63.

[2] – العلوي القاسمي (هاشم)، مجتمع المغرب الأقصى، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1995، ج 1 ص 63.

[3] – ينظر: التحولات الحضارية في شمال إفريقيا في الفترة الوندالية 534- 429 م بحث لنيل شهادة الماجستير في التاریخ القدیم، إعداد الطالب: العود محمد الصالح، بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة منتوري- قسنطينة الجزائر

[4] – البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذري المراكشي، تحقيق ج.س كولان وليفي بروفنصال، دار الثقافة- بيروت، الطبعة الثانية 1983م ، (1/43).

[5] -الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، لأبي الحسن بت أبي زرع، راجعه عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، ط 2 1999م، ص 17-30.

[6] – الحضارة المغربية عبر التاريخ، الحسن السائح، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1 1975 1/ 117-118.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق