مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

القزويني في ميزان ابن حجة الحموي

كتبته الباحثة: سكينة مناري

نبذة عن المؤلفين: 
جلال الدين القزويني: (666-739هـــ =1268-1338م)
  محمد بن عبد الرحمن بن عمر،أبو المعالي،جلال الدين القزويني الشافعي المعروف بخطيب دمشق،من أحفاد أبي دلف العجلي،قاض من أدباء الفقهاء .
أصله من قزوين،ومولده بالموصل،ولي القضاء في ناحية بالروم ثم قضاء دمشق سنة 724هـ،فقضاء القضاة بمصر سنة(727) ونفاه السلطان الملك الناصر إلى دمشق سنة 738 ثم ولاه القضاء بها،فاستمر إلى أن توفي .
من كتبه:(تلخيص المفتاح-ط) في المعاني والبيان ،و(الإيضاح ط-)في شرح التلخيص،و(السور المرجاني من شعر الأرجاني).
وكان حلو العبارة،أديبا بالعربية والتركية والفارسية،سمحا،كثير الفضائل(1).
ابن حجة الحموي:  (767  -837      =     1366 -1433 (
أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي الأزراري ،تقي الدين ابن حجة،إمام أهل الأدب في عصره ،وكان شاعرا جيد الإنشاء ،من أهل حماة بسورية ولد ونشأ ومات فيهازار القاهرة والتقى بعلمائها واتصل بملوكها،وكان طويل النفس في النظم والنثر،حسن الأخلاق والمروءة ،فيه شيء من الزهو والإعجاب.اتخذ عمل الحرير وعقد الأزرار صناعة له ،في صباه،فنسب إليها. له مصنفات كثيرة، منها :«خزانة الأدب » في شرح بديعية له، و«ثمرات الأوراق-طــ »و«كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام ط»و«حديقة زهير»و«قهوة الإنشاء-خ»في مجلد، جمع فيه ما أنشأه من التقاليد السلطانية والمناشير عن الملوك الذين عمل في دواوينهم، و«بلوغ المرام من سيرة ابن هشام –خ»،  في خزانة كايتاني، كتب سنة  844هـ، و«بلوغ المراد من الحيوان والنبات والجماد»مجلدان ، و«الثمرات الشهية من الفواكه الحموية-خ» نظم و«تأهيل الغريب-ط»وقبره في حماة معروف(2).

نبذة عن المؤلفين: 

جلال الدين القزويني: (666-739هـــ =1268-1338م)

  محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي المعروف بخطيب دمشق، من أحفاد أبي دلف العجلي، قاض من أدباء الفقهاء .

أصله من قزوين،  ومولده بالموصل،  ولي القضاء في ناحية بالروم ثم قضاء دمشق سنة 724هـ،  فقضاء القضاة بمصر سنة(727) ونفاه السلطان الملك الناصر إلى دمشق سنة 738 ثم ولاه القضاء بها،  فاستمر إلى أن توفي .

من كتبه: (تلخيص المفتاح-ط) في المعاني والبيان، و(الإيضاح ط-)في شرح التلخيص، و(السور المرجاني من شعر الأرجاني).

وكان حلو العبارة، أديبا بالعربية والتركية والفارسية، سمحا، كثير الفضائل(1).

ابن حجة الحموي: (767  -837      =     1366 -1433  )

أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي الأزراري، تقي الدين ابن حجة، إمام أهل الأدب في عصره، وكان شاعرا جيد الإنشاء، من أهل حماة بسورية ولد ونشأ ومات فيها،  زار القاهرة والتقى بعلمائها واتصل بملوكها،  وكان طويل النفس في النظم والنثر،  حسن الأخلاق والمروءة،  فيه شيء من الزهو والإعجاب،  اتخذ عمل الحرير وعقد الأزرار صناعة له،  في صباه،  فنسب إليها.

 له مصنفات كثيرة،  منها: «خزانة الأدب » في شرح بديعية له،  و«ثمرات الأوراق- طــ »و« كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام ط»و«حديقة زهير»،  جمع فيه ما أنشأه من التقاليد السلطانية والمناشير عن الملوك الذين عمل في دواوينهم،  و«بلوغ المرام من سيرة ابن هشام – خ»،  في خزانة كايتاني،  كتب سنة  844هـ،  و«بلوغ المراد من الحيوان والنبات والجماد»مجلدان،  و«الثمرات الشهية من الفواكه الحموية- خ» نظم و«تأهيل الغريب- ط» وقبره في حماة معروف(2).

تمهيد: 

كان لفصل البديع عن المعاني والبيان كما فعل القزويني أثر في اتجاه الأدباء في عصره وما بعده وقد بدأت هذه الدراسات مبكرة،  ولكنها قويت في هذا العصر فكان «بديع القرآن» و«تحرير التحبير» لابن أبي الأصبع المصري.

واتجه الشعراء ينظمون البديع في مدح الرسول المنقذ «صلى الله عليه وسلم» أو في الغزل،  ويحصرون فنونه في قصائد أطلق عليها إسم البديعيات.

ومن أهم بديعيات عصر القزويني وما بعده بديعية «صفي الدين الحلي (677 هـ- 750هــ)(3)،  حيث جاءت بديعيتة كتابا علميا في فن البديع بحثا وأمثلة حية على كل الأنواع في مائة وخمسة وأربعين بيتا من بحر البسيط وروي الميم مطلعها: 

إِنْ جِئْتَ سلعًا فَسَل عَن جِيرَةِ العَلَم              وَاقْرَ السلامَ عَلَى عُرْبٍ بذي سَلَمِ

وضمن كل بيت فيها محسنا من محسنات البديع، وقد ضمت مائة وخمسين محسنا،  حيث جعل فيها للجناس اثني عشرضربا نظمها في الأبيات الخمسة الأولى وسماها «الكافية البديعية في المدائح النبوية،  وشرحها بكتاب سماه «النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية»،  وصنف «عبد الغني النابلسي» على هذه القصيدة شرحا سماه «الجوهر السني في شرح بديعية الصفي».

ونظم «ابن جابر الأندلسي «698 هـ –  780 هـ » بديعية وهي كالبردة في الوزن والروي والموضوع  وضمن كل بيت فيها نوعا بديعيا من غير أن يسميه،  ومطلعها: 

بطيبةَ انْزِلْ وَيَمِّمْ سَيِّدَ الأمم            وَانْثُرْ لَهُ المَدْحَ وَانْثُرْ أَطْيَبَ الكَلِمِ

وسماها «الحلة السيرا في مدح خير الورى»وقد شرحها أبو جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الغرناطي  بكتاب سماه «طراز الحلة وشفاء الغلة »،  وقدم لها بمقدمة تتعلق بفن البديع تحدث فيها عن معناه لغة واصطلاحا،  وعن الفصاحة وشروطها في الكلمة والكلام المركب،  وتكلم عن  البلاغة والفرق بينها وبين الفصاحة،  وأشار إلى أن ابن جابر اتبع في سرد المحسنات البديعية الخطيب القزويني في كتابيه«التلخيص»و«الإيضاح» ولكنه بدأ بالقسم المتعلق باللفظ،  وأخر القسم المتعلق بالمعنى،  وهو على ذلك يمضي على غرار بدر الدين بن مالك في «المصباح».

ومعنى مطلع البديعية يوضح لنا أن هذه براعة ليس فيها إشارة تشعر القارئ أو السامع بغرض الناظم،  بل أطلق التصريح،  ونثر المديح،  ونشر طيب الكلام.

والبديعية لا بد لها من براعة تهدف إلى حسن التخلص،  وحسن الختام،  وهذا بالطبع له تأثير فعال في نفسية المتلقي،  فإذا كان مطلع القصيدة مبنياً على تصريح المديح،  فإن حسن التخلص لا يكون له محل ولا موضع.

يقول الرعيني: «وقد آن أن آخذ في الكلام على أبيات القصيدة حسبما تحصل به الفائدة،  ويعود على الناظر فيه بأحسن عائدة،  فنقول: إن المصنف تبع في هذه القصيدة القاضي جلال الدين القزويني صاحب «الإيضاح» و«التلخيص»،  فذكر من ألقاب البديع ماذكره،  إلا أن المصنف بدأ بالقسم الذي يتعلق باللفظ،  وأخر القسم الذي يتعلق بالمعني،  وهو في هذا الترتيب موافق لصاحب «المصباح» بدر الدين بن مالك،  وهو ترتيب حسن،  لأن اللفظ وسيلة إلى المعنى،  وحق الوسيلة أن تكون متقدمة  ويضاف أن مايتعلق بالمعنى لا يكون إلا بعد التراكيب بخلاف مايتعلق باللفظ وحال الإفراد مقدم على حال التركيب»(4).

ونظم عز الدين الموصلي المتوفى سنة 789هـ (5) بديعية التزم فيها تسمية الفن البديعي موريا بكلمة عنه في البيت الذي يتضمنه،  ومطلعها: 

بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي العَلَمِ             عِبَارَة عَنْ نِدَاءِ الُمفْرَدِ العَلَمِ

ونلاحظ أن «الموصلي» يمتاز عن «الحلي الطائي» و«ابن جابر الأندلسي» بأنه يصرح في بديعيته باسم اللون البديعي أو البلاغي ضمن نظمه،  على عكس السابقين،  فإنهما كانا يكتفيان بذكر الصورة البديعية أو البلاغية أمام البيت أي على الهامش،  وهذه البديعية قام بشـرحها «عز الدين الموصلي» بنفسه،  شرحاً ضافياً،  سماه: «التوصيل بالبديع إلى التوصل بالشفيع».

فابن حجة يصرح منذ البداية أنه إنما نظم بديعيته وأمامه بديعيتا «الصفي الحلي» و«العز الموصلي»، إضافة إلى بديعيتي «ابن جابرالأندلسي»،  وهو في حالته هذه لا ينظر إليها نظرة القارئ المتصفح أو غير  المبالي،  إنما ينظر إليها نظرة الناقد المتفحص،  الباحث عن خبايا جمالها ومواطن ضعفها،  ليستطيع أن يتدارك نقصا سبق،  وأن يبز غيره بجمال وفضل إجادة،  فينطلق سابقا مخلفا وراءه كل من سبقوه إلى فن البديعيات،  ومن هنا كان تتبعه لهؤلاء الشعراء في بديعياتهم ومقارنة عمله بأعمالهم،  مستعينا بتلك المشورة التي صرح بها قائلا: 

  “فاستخار الله مولانا الناصري…ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام،  وأجاري الحلي برقة السحر الحلال،  فصرت أشيد البيت فيرسمه لي بهدمه وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس- ويقول: “بيت الصفي أصفى موردا،  وأنور اقتباسا،  فأسن كل ماحده الفكر،  وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة،  فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره “(6)

ونلاحظ أن هناك عملا كان يرافق نظم كل بيت من أبيات البديعية وهوتتبع «ابن حجة» لمن سبقه وإعمال نفسه في التفوق على أقرانه،  فقال: “وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة، فجاءت بديعية هدمت بها مانحته الموصلي في بيوته من الجبال،  وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال.”

فمطلع شرح ابن حجة يوحي لنا أنه لن يترك هنة من هنات الصفي والعز  إلا شهر بها وأعلنها وتجاوزها إلى أحسن،  مزهوا بمقدرته وتفوقه وإجادته في كل كلمة من كلمات بديعيته.

في هذه الفترة كان لابن حجة  أثر كبير في البديعيات أو في البلاغة العربية،  حيث وجد عصـره يزخر بالبديعيات وكان قد أعجب ببديعيتي الحلي والموصلي فأراد أن يضع بديعية تفوقهما وتعفو عليهما،  ووضع بديعيته وضمن كل بيت نوعا بديعيا مع الإشارة إلى هذا الفن في البيت نفسه،  وسماها «تقديم أبي بكر» وأبياتها مائة واثنان وأربعون بيتا،  وهي على البحر البسيط،  ورويها الميم مطلعها: 

لِي فِي ابْتِدَا مَدْحِكُم يَا عُرْبَ ذِي سَلَمِ         بَرَاعَــةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي العَلـَمِ

يقول مفتخرا بها “فجاءت بديعية هدمت به ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال،  وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال،  وسميتها «تقديم أبي بكر»عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال”(7)،  وتضمنت هذه البديعية نحو مائة وأربعين نوعا. 

ورأى ابن حجة أن هذه البديعية لن تكون ذات فائدة وقيمة كبيرة إن بقيت أبيات شعر تحفظ وتروى من غير تفهم وتبصر بفنونها البديعية فوضع لها شرحا سماه “خزانة الأدب وغاية الأرب ” ووازن بينهما وبين بديعيتي الموصلي والحلي،  وهنا لم يكن ابن حجة ناظما فحسب وإنما كان شاعراً أديباً قد امتلك زمام الأدب من شقيه: الموهبة الشعرية،  والمقدرة على التأليف.

ومنهجه فيها يختلف عن منهج البلاغيين الذين عرفوا في عصره بعد هيمنة تلخيص القزويني وشروحه على الدراسات البلاغية،  فقد سلك مذهبا آخر، فيه ابتعاد عن كل ما يفسد الذوق،  وينفر الناس عن دراسة البلاغة والنقد،  لقد كان ابن حجة يعرض الفن الذي ضمنه بيتا من البديعية،  فيعرفه تعريفا بلاغيا،  ويذكر أمثلة شعرية ونثرية كثيرة،  ويرد على بعضهم إن كان هناك مجال للرد والمناقشة،  ويوازن بين الآراء المختلفة.

ويمكن أن نعد “خزانة الأدب” من خيرة كتب النقد والبلاغة بعد القزويني،  لأن مؤلفها لم يلتزم بالمنهج السائد،  ولم يقلد المتقدمين تقليدا أعمى، وإنما جاء بكل طريف جديد إذا ما قورنَ بمؤلفات عصره الذي سادته موجة التقليد،  وللكتاب أهمية نقدية وتاريخية وبلاغية.

 أما أهميته النقدية فلأن ابن حجة كان ناقدا ماهرا في هذا الكتاب يعرض الأمثلة،  ويوازن بينها،  ويعطي رأيه في كثير من الأحيان .

وأما أهميته البلاغية فقد شرح المؤلف فيه معاني الفنون البلاغية وذكر التعريفات والآراء المختلفة،  ونجد فيه كثيراً من أقوال علماء البلاغة الذين طمس الزمان آثارهم،  وعفا عليها ومن هنا كانت له أهمية بلاغية كبيرة .

وأما فائدته التاريخية والأدبية فهي أن المؤلف يذكر أخباراً أدبية،  ويسوق كثيرا من الأمثلة الشعرية والنثرية مما لا يمكن العثور عليه في كتب أخرى،  وقد خلد صفحات كثيرة من شعر معاصريه وأدبهم،  ولولا الخزانة لضاع واندثر،  وأن الباحث ليستطيع أن يستخرج منها شعراً كثيراً لمعاصريه أو ممن عاشوا في العصـر المملوكي .

ولا يخلو الكتاب من آراء شخصية،  والتفاتات نقدية صائبة كرأي ابن حجة في الجناس فهو يرى أن لا قيمة لما فيه من محسن لفظي, وإنما تأتي أهميته وقيمته في كونه محسنا معنويا له أثر في التعبير والأداء،  ومن أجل هذا بحث الجناس المعنوي الذي أهمله القزويني وغيره من علماء البلاغة يقول: «أما الجناس فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب،  وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتعقيد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة كقول القائل وأستحيي أن أقول أنه أبو الطيب: 

فَقَلْقَلْتُ بِالْهَمِّ الذِي قَلْقَلَ الحَشَا            قَلَاقِلَ عَيْشٍ كُلهُن قَلَاقِلُ

ولقد تصفحت ديوانه فلم أجد لوافد هذا النوع نزولا إلا ماقل في أبياته وهو نادر جدا،  ولا العرب من بله خيمت بأبياتها عليه غير أن هذا البيت حكمت على أبي الطيب به المقادير»(8) 

وفي « خزانة الأدب» آراء كثيرة مبثوثة يمكن الاستفادة منها في بلاغتنا الحديثة،  وإلى جانب هذا آراء يناقش فيها القزويني ويرد عليه،  وقد يوافقه أحيانا،  وأول مانرى إشارته إلى إهمال القزويني الجناس المعنوي،  فقد قسمه الحموي إلى ضربين: تجنيس إضمار،  وتجنيس إشارة،  وهو عنده من أروع أنواع الجناس لأنه يتعلق بالمعنى،  ويضفي على الكلام جمالا دونه جمال الجناس اللفظي،  يقول عنه «فإن المعنوي طرفة من طرف الأدب عزيز الوجود جدا،  ولم يذكره الشيخ جلال الدين القزويني في التلخيص ولا في الإيضاح ولا ذكره ابن رشيق في العمدة،  ولا زكي الدين بن أبي الأصبع في التحرير ولا ابن منقد في كتابه» (9)

والجناس المعنوي عنده: «أن يضمر الناظم ركني التجنيس،  ويأتي في الظاهر بما  يرادف  المضمر للدلالة عليه، فإن تعذر المراد أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى»(10).

وأعجب ابن حجة ببيت القاضي الأرجاني الذي جاء به القزويني شاهدا في الطباق يقول: 

وَلَقَدْ نَزَلت مِنَ المُلُوكِ بِمَاجِدٍ       فَقْرُ الرِّجال إليه مفتاحَ الغِنَى

كما يفضل رأي القزويني في الرجوع وتسميته، ولا يرى وجها في تسمية ابن المعتز وأبي هلال وغيرهما لهذا الفن استدراكا واعتراضا،  ونقل تعريف القزويني له وأثنى عليه ثناء عظيما (11)،  وذكر أنه لم يبحث الاشتقاق، يقول وهو يتحدث عنه: «وهذا النوع أعني الاشتقاق استخرجه الإمام أبو هلال العسكري وذكره في آخر البديع من كتابه المعروف الصناعتين وعرفه بأن قال: وقد عرض لي بعد نظم هذه الأنواع نوع آخر لم يذكره أحد وسميته المشتق: وهوعلى وجهين: فوجه منها أن يشتق اللفظ من اللفظ،  والآخر: أن يشتق المعنى من اللفظ وهو أن يشتق المتكلم من الاسم العلم معنى في غرض يقصده في مدح أو هجاء أو غيره وهذا النوع ما ذكره القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص (12).

وهذا سهو من الحموي،  لأن القزويني تكلم عليه ولكنه لم يفرده بالبحث،  وإنما ألحقه بالجناس لذلك يقول في التلخيص: ويلحق بالجناس شيئان: أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاق نحو: «فأقم وجهك للدين القيم» والثاني: أن يجمعهما المشابهة وهي ما يشبه الاشتقاق نحو: «قال إني لعملكم من القالين»(13).

وقد اتخذ الحموي من أقوال القزويني تأييدا إلى ما ذهب إليه،  يقول في الإيداع دعما لرأيه: 

«ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص: وأحسنه مازاد على الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه»(14).

ونقل عنه تعريف التجريد،  ولكنه لم يستفد من أمثلته البديعية،  وذكر أمثلة لا رونق فيها ولا رواء كقول الشاعر: 

أُعَانِقُ غُصْنَ البَانِ مِنْ لِينِ قَدِّهَا              وَأَجْنِي جَنِيَّ الوَرْدِ مِنْ وَجَنَاتِهَا

فإنه جرد من قدها غصنا،  ومن وجنتيها وردا (15).

ونقل عن القزويني تقسيم القول بالموجب،  قال صاحب التلخيص في إيضاحه وتلخيصه: القول بالموجب ضربان: 

أحدهما: أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له أو انتفائه عنه.

والثاني: حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه وهذا هو القسم الذي عرف بين الناس ونظمه.

وكان ابن أبي الأصبع قد تكلم عليه،  لكنه لم يقسمه هذا التقسيم فنقله ابن حجة عن القزويني إلا أنه خلط بينه وبين أسلوب الحكيم قال: «القول بالموجب،  ويقال له أسلوب الحكيم،  وللناس فيه عبارات مختلفة،  منهم من قال: هو أن يخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم،  أو يقول بالصفة الموجبة للحكم،  ولكن يثبتها لغير من أثبتها المتكلم» وذكر الأمثلة التي ذكرها السكاكي والقزويني في أسلوب الحكيم في علم المعاني،  وأدخلاه في بحث خروج الكلام على مقتضى الظاهر(16).

ونقده في بحث التورية، لأنه لم يفصل الكلام فيها، ولم يعرض أنواعها التي عاشت في كلام المتأخرين يقول: «وأما صاحب التلخيص فإنه قال مشيرا إلى البديع: ومنه التورية وتسمى الإيهام أيضا،  وهي أن يطلق لفظ له معنى قريب وبعيد وهي ضربان: مجردة ومرشحة،  ولم يزد على ذلك»(17).

وهذا القول صحيح بالنسبة لما ذكره القزويني في «التلخيص»،  ولكن فيه بعدا عن الحقيقة بالنسبة لما جاء في «الإيضاح» فقد تكلم عليها وذكر أمثلة كثيرة، ولكن الحموي لم يكفه هذا كله لأن التورية في عصره استـأثرت بجزء غير قليل من أدب العصر المملوكي،  وكان ميدانها مراح تسابق لأدبائه،  وألف الصفدي فيها كتاب«فض الختام عن التورية والاستخدام»وكان ابن حجة متعصبا لها تعصبا عظيما ومتحمسا تحمسا شديدا وهي عنده في أعلى مراتب الأدب،  يقول: «هذا النوع أعني التورية ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتابة، ولعمري أنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليها من باب التورية، فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة، وسحرها ينفث في القلوب،  ويفتح بها أبواب عطف ومحبة، وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول، ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول»(18).

ومن هنا أفاض في بحثها،  وفصل في أنواعها وأمثلتها وأخذت جزء كبير من كتابه،  واستغرق بحث التورية مائة وأربعين صفحة،  ويمكن أن يعد هذا البحث وحده كتابا كاملا عن التورية إضافة إلى كتابه عن التورية المسمى«كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام» الذي استدرك فيه على الصفدي،  وأوفى التورية حقها من البحث ومن هنا رأى أن القزويني لم يذكر شيئا عنها.

ويرى الحموي أن تعريف السكاكي والقزويني للتقسيم ليس بذي قيمة إذا ماقورن بكلام ابن أبي الأصبع وتعريفه يقول بعد أن ذكر تعريفيهما: «ويعجبني بلاغة زكي الدين ابن أبي الأصبع فإنه قال: التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه »(19) وقد قال السكاكي: «والتقسيم هو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثرثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ماهو له عندك»وقال القزويني: «هو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين»(20).

ويلاحظ أن تعريفي السكاكي والقزويني أقرب إلى مفهوم هذا الفن،  وأنهما يدلان على معناه. 

ونقل عن القزويني تعريف الاستطراد،  ويراه أقرب إلى الغرض وأوفى بالمرام،  يقول: «وحد صاحب الإيضاح الاستطراد بحد أتى فيه بالغرض بعدما بالغ في الإيجاز فإنه قال: الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به،  ثم يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني،  ففي قوله «متصل به»جل القصد،  وعدم الاحتياج إلى الكلام الكثير(21).

حيث قال ابن حجة: «الذي يظهر لي أن الشيخ صفي الدين عبر على الاستطراد بتقديم أداة التشبيه في أول البيت،  وقد تقدم قول صاحب الإيضاح أن يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني، وما خرج أحد من الاستطراد بطريق التشبيه، إلا جعل أداة التشبيه مع المستطرد به»(22).

وأدخل القزويني المقابلة في المطابقة(23)، ولكن الحموي لا يقبل رأيه لأنهما شيئان مختلفان،  يقول: «أدخلها جماعة في المطابقة وهو غير صحيح،  فإن المقابلة أعم من المطابقة وهي التنظير بين شيئين وأكثر وبين ما يخالف وما يوافق … وهذا مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع والفرق بين المطابقة والمقابلة من وجهين: أحدهما: أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين،  والمقابلة تكون غالبا بين أربعة أضداد،  ضدان في صدر الكلام،  وضدان في عجزه،  والثاني: أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد،  والمقابلة بالأضداد وغير الأضداد،  ولكن بالأضداد أعلى رتبة،  وأعظم موقعا»(24)

وهذا اختلاف شكلي بين الفنين،  وأي فرق بين الجمع بين ضدين أو أكثر،  ولاكن ابن حجة الحموي ومن قبله ابن أبي الأصبع كانا مولعين بالتقسيمات وتفريع الفن الواحد إلى عدة فروع لأجل التباهي بإيجاد فنون بليغة أو بديعية جديدة ونرى أن القزويني كان أسلم نظرا،  وأصوب رأيا لأنه لم يرد أن يفرع الفن الواحد إلى فنون، تقليلا للمصطلحات والأقسام التي لا قيمة لها في البلاغة والنقد.

كما ألغى الحموي القسم  الثاني للتفريع الذي ذكره القزويني قال(25): وذكر صاحب الإيضاح للتفريع قسما ثانيا لم يذكره غيره ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضا،  والشيخ ابن أبي الأصبع اخترع قسما ثالثا.  .

هذا مانقله ابن حجة الحموي عن القزويني وما وافقه فيه أو خالفه،  وهو يوضح لنا أثر الخطيب في البلاغة على نطاق واسع،  فلم ينج منه حتى أولئك الذين ابتعدوا عن منهجه،  وخاضوا في بحوث البديع.

ويلاحظ أن الحموي- وإن استفاد من الخطيب القزويني- استطاع أن يصبغ تلك الفائدة بصبغة جديدة، وأن يضفي عليها ظلالا، ولم يكن الحموي ليستطيع أن يقلده في كل شيء وهو يشرح بديعيته التي كان لها تنسيق خاص لموضوعات البلاغة التي لم يقسمها كالقزويني إلى المعاني والبيان والبديع.

ومن هنا كانت له الحرية في ترتيب الموضوعات،  وعرضها، وكانت له الحرية في الشرح والتحليل فجاء بديعه أندى من بديع القزويني،  وأكثر روعة وتأثيرا.

يضاف إلى ذلك أن الحموي كان أديبا موهوبا،  وشاعرا مطبوعا فأثر هذا كله في بلاغته،  أما القزويني فلم تكن له اليد الطولى في الأدب والشعر،  وإنما كان عالما فقيها فأثر ذلك في بلاغته،  وطبعها بطابع علمي ليس فيه من التحليل الأدبي وتحسس مواطن الجمال ما في خزانة الحموي .

ولا شكَّ أنَّ هذا الاختلاف بين العالمين هو مادَّة خصبة للبحث العلمي،  ثم إنَّ أيَّ موازنة قائمة على أسس متينة وأهداف بيِّنة تستحقُّ أنْ تكون مجالاً للدراسة – هي بلا جَرم ستُثري أيَّ بحثٍ علمي وأي باحث جادٍّ؛ لأنها ستكشف الفروق في المنهج والفكر،  وكيفيَّة التعبير وستكشف العلَّة التي مالَ إليها العلماء في بحوثهم ودراساتهم نقدًا وتحليلاً واستشهادًا وطرحًا.

ومهما يكن من شيء فإن الحموي قدم للبديع أكثر مما قدم القزويني،  وأبدع في بحثه،  وعرض أقسامه وأمثلته أكثر مما فعل الخطيب،  ومن هنا نرى أن قيمة «خزانة الأدب» كبيرة لا تدانيها قيمة إيضاح القزويني.

ــــــــ

الهوامش: 

1- نقلا عن: الأعلام للزر كلي ص: 192، ج: 6       

2- نقلا عن: الأعلام للزر كلي ص: 67، ج: 2

3- صفي الدين الحلي (677-750هـ=1278-1349م) عبد العزيز بن سرابا بن علي بن أبي القاسم السنبسي الطائي، شاعر عصره، ولد ونشأ في الحلة (بين الكوفة وبغداد)واشتغل بالتجارة، وكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته.ورحل إلى القاهرة سنة 726هـفمدح السلطان الملك الناصر وتوفي ببغداد له “ديوان شعر-ط”، و”العاطل الحالي-ط” “رسالة في الزجل والموالي”…،  نقلا عن: الأعلام للزركلي، ج: 4، ص: 17-18. 

4- شروح التلخيص، أحمد مطلوب، ، ج: 2،  ص: 446.

5- ينظر الأعلام للزركلي، ج: 4، ص: 280

6- خزانة الأدب وغاية الأرب،  تقي الدين أبي بكرعلي بن عبد الله الحموي الأزراري،  ص: 3

7- خزانة الأدب، ص: 3.

8- خزانة الأدب ص: 20

9- خزانة الأدب، ص: 41

10-خزانة الأدب، ص: 41

11-خزانة الأدب ص: 367.كتاب الصناعتين، ص: 336 .

12- كتاب الصناعتين،  أبو هلال العسكري، ص: 336

13-التلخيص في علوم البلاغة،  الخطيب القزويني، ص: 392

14- خزانة الأدب، ص: 370

15- خزانة الأدب،  ص: 436

16-ينظر الإيضاح في علوم البلاغة ص: 370، 75،  وخزانة الأدب ص: 116 

17- خزانة الأدب ص: 242

18- خزانة الأدب ص: 239

19- خزانة الأدب، ص: 362 

20-مفتاح العلوم، ص: 425

21-الإيضاح ص: 328 

22-خزانة الأدب ص: 105

23-الإيضاح ص: 321-322

24-خزانة الأدب، ص: 129

25-خزانة الأدب، ص: 386


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق