مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله بن محسود الهواري (ت401هـ)

يعد الشيخ الفقيه الصالح أبو محمد عبد الله بن محسود الهواري المتوفى سنة 401 للهجرة ، من أهل مدينة فاس الوسيطية، أحد أبرز السير المنقبية في عالم الصلاح والولاية بالمدينة، كان ملازما لجامع عدوة الأندلس، تقلد بها خطة القضاء، فنبغ في الميدان الفقهي علما وعملا، سلوكا وعرفانا، فوصفه صاحب المستفاد بـتحلية “العدل والفضل، زاهدا في الدنيا، مقبلا على الله تعالى”[1]، كما حلاه صاحب جنى زهرة الآس[2]  “بالفقيه الصالح، والقاضي الأعدل الورع”.

يمتد الانتماء الجغرافي والإثني للصالح ابن محسود الهواري إلى أحواز مدينة فاس، وبالضبط إلى “قرية بأوربة[3]، ونزل في جهة باب بني مسافر من عدوة فاس. وكان عدلا في أحكامه، ورعا، لا تأخذه في الله لومة لائم. رحل إلى القيروان، ولقي بها الفقيه الحافظ أبا محمد بن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وشاهد تأليفه للنوادر… ولي القضاء بفاس… وكان… رجلا متقللا من الدنيا، مجتهدا في الأحكام”[4]، وفي ذلك تأكيد صريح أن مدينة فاس لا يمكن أن تكتمل صورتها الحضارية بدون صلحاء أحوازها الذين ساهموا بشكل فعال في بلورة فكر الولاية والصلاح بصيغة أعمق بالمدينة.

 تشكل سيرة الصالح ابن محسود الهواري امتدادا لتيار الزهد المالكي بمدينة فاس الوسيطية إلى غاية مستهل القرن 5هـ/11م، باعتباره ينتمي إلى الرعيل الأول من فقهاء مدينة فاس الإدريسية وصلحائها من أمثال: الصالح جبر الله بن القاسم الفاسي(ت350هـ)، والصالح أبي موسى عيسى بن سعادة الفاسي(ت355هـ)، والصالح أبي ميمونة دراس بن إسماعيل(ت357هـ)، وأقرانه من الصلحاء أمثال: ابن شيبة وابن الغازي الفتوح، والصالح أبي جيدة بن أحمد اليزغتني(ت365هـ)، الملتزمين بالعبادة والمتشبثين بفكر الصلاح والولاية.

يتبين من خلال أخبار الصالح ابن محسود الهواري أن الوضع السياسي بمدينة فاس الوسيطية اتسم بنوع من الاضطراب الأمني، بدليل أن ابن محسود كان حريصا على إقامة الحدود من قتل وصلب، وقطع للأيدي وإقامة اللعان، أمور تنم عن مدى حرص الصالح جاهدا على الحد من تفسخ الوضع الاجتماعي والسياسي بمدينة فاس المغراوية.

عرف عن الصالح الورع ابن محسود الهواري كونه مجتهدا في الأحكام القضائية، مبادرا إلى إعمال رأيه والاجتهاد في النوازل الفقهية المعروضة عليه، نظرا لضعف باب الاجتهاد الفقهي في عصره.

خاض الصالح ابن محسود الهواري غمار الرحلة العلمية فتوجه إلى مدينة القيروان “ولقي بها أبا محمد بن أبي زيد، رضي الله عنه، وشاهد تأليفه “للنوادر”، وكان عنده من رجال المدونة. وكان رحمه الله أخرج زيادات مختصر بن أبي زيد على المدونة”[5].

 من أسمى صور ورع الصالح ابن محسود الهواري “رهن  غزل امرأته في سمن يأتدم به للضيف، فإذا ذلك السمن مرا لا يطاق أكله. فيبنما ابن محسود يوما جالسا في مجلسه، فإذا أبصر السمان مقبلا إليه مع خصمه، فقام ابن محسود، وأمر من حضر أن يحكم بينهما. فلما عاد إلى مجلسه، أخبرهم بأن ذلك السمان كان باع منه سمنا مرا، وقال: خشيت من أجل ذلك أن لا أسمع منه كما أسمع من خصمه، فكرهت الحكم بينهما”[6].

كما أنه لما توفي رحمه الله “طلب في فاس من يعامله في شيء فلم يوجد له معامل، فبحث عن سمنه وزيته من أين كان يشتريه، فوجد له صاحب بمكناسة الزيتون، يشتري له بها الزيت والسمن ويبعثه له، ويأتيه قوته من القمح من هوارة، وزوجته تغزل له كسوته من الثياب القطنية”[7].

اشتهر عن الصالح ابن محسود الهواري الشفاعة للناس واستجابة الدعاء عند قبره، من خلال رواية منقبية اشتهرت عنه بعد الممات، إذ “كان بفاس رجل مسرف عن نفسه. فمات ودفن. فأبصر الناس قبره يهتز التراب الذي حواليه إلى أن ظهرت أكفان الميت. فقالوا: لعله لم يعمق له الحفر. فأخرجوه وأعمقوا له الحفر وأدخلوه في القبر فإذا به أيضا يهتز ويربو ترابه إلى أن ظهرت الأكفان. فلما رأوا ذلك ضج الناس بالبكاء والعويل وقالوا: لفظته الأرض ولم تقبله وأطالوا البكاء. فقال لهم بعض الحاضرين: يا قوم لا ينفع هذا البكاء، ولكن انظروا له قبر رجل صالح وادفنوه جواره لعله يشفع فيه. فأخذوا في ذلك إلى أن اتفقوا على أن يدفنوه جوار قبر ابن محسود. فاستقر به القبر ولم يكن منه مثل ما كان قبل ذلك”[8]. إنها رواية منقبية تعكس مدى تأثير شخصية ابن محسود الهواري في صياغة ذاكرة المجتمع الفاسي من خلال استحضار سيرته وأخباره بين مختلف شرائح أهل مدينة فاس حتى بعد مماته.

أقبر الصالح ابن محسود الهواري بخارج باب الجيسة من عدوة القرويين، أسفل موضع القلة. “لم يترك إلا سجادة وقعبا يتوضأ فيه ومصحفه الذي كان يقرأ فيه”[9].

كشفت المتابعة الطبونيمية للأعلام صلحاء مدينة فاس الوسيطية أن ابن محسود الهواري زاول مهمة التدريس بمسجد حمل اسمه، يقع المسجد في الركن الأيمن بعد السباط الثاني بالنسبة للنازل من عقبة بن دبوز بعد تجاوز زنقة عين الخيل من عدوة القرويين. في  وقتنا الراهن يحمل المسجد اسم مسجد النواعريين نسبة إلى السوق الذي يوجد به وهو سوق النواعريين·.

يعتبر الصالح ابن محسود الهواري حلقة وصل أساسية لترسيخ المذهب المالكي ومعه السلوك والخلق الحسن بمدينة فاس أولا ثم في أرجاء المغرب الأقصى، كما يشكل بمعية أصحابه وأقرانه وتلاميذه مصدرا ومرجعا يستند عليهم لترسيخ السلوك القويم لدى باقي صلحاء الغرب الإسلامي.

صورة لمسجد ابن محسود الهواري بمدينة فاس

 


[1] – المستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد أبو عبد الله التميمي،  تحقيق محمد الشريف، جزءان، ط. 1، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان، سلسلة الأطاريح الجامعية، رقم 4، مطبعة طوب بريس، الرباط، 2002، ج2، ص191.

[2] – جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، علي الجزنائي، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط.2، المطبعة الملكية، الرباط، 1991، ص 95. جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، أحمد بن القاضي، 3أجزاء، دار المنصور للطباعة والنشر، الرباط،  ج 2،  ص 420.

[3] – تنتمي قبيلة أوربة إلى حلف البرانس، ساندت القبيلة المولى إدريس بن عبد الله عند دخوله المغرب. تنسب إلى البيت الأوربي بمدينة فاس، عين أبي خزر أو عين بوخزر، نسبت إلى الولي أبي خزر يخلف بن خزر الأوربي/ت572هـ/. “ذكر مشاهير أعيان فاس في القديم”،  مؤلف مجهول، تحقيق عبد القادر زمامة، مجلة البحث العلمي، ع 4 و5، 1965، ص 82. تتموضع هذه العين على “رأس الرحى الداخل ماؤها الآن إلى زاوية الشيخ عبد القادر بن علي الفاسي الفهري، ويوجد درب الوريبة أعلى وسعة المخفية”، على يمين الصاعد من زنقة المخفية فوق الفرن مباشرة عند بداية عقبة بن بكار. “بيوتات مدينة فاس قديما وحديثا”، عبد السلام بن سودة، مجلة البحث العلمي،ع 22،1974، ص119. انطلاقا من هذا المعطى نشير إلى أن آثار العين ما زالت قائمة من خلال وجود معدة للماء قبالة الداخل للدرب، وعلى يسار الداخل إلى الدرب فوق المعدة مباشرة توجد آثار لقواديس مائية في الحانوت الأول وهو حاليا محل للحلاقة.

[4] علي الجزنائي، م.س، ص 95.

[5] الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، ابن عيشون الشراط، دراسة وتحقيق زهراء النظام، منشورات كلية الآداب الرباط، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 35، ط.1، مطبعة النجاح الجديدة، الدر البيضاء، 1997، ص296. سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني، تحقيق عبد الله الكامل الكتاني وحمزة بن محمد الطيب الكتاني ومحمد حمزة بن علي الكتاني، 3 أجزاء، دار الثقافة، الدار البيضاء، ج 3 صص 196-197.

[6] أبو عبد الله التميمي، م.س، ج2، ص 191-192.

[7] ابن عيشون الشراط، م.س، ص117.

[8] التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، أبو يعقوب التادلي، تحقيق أحمد التوفيق، ط. 2، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 22، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1997، ص117.

[9] نفسه.

· – المسجد مغلق حاليا- فبراير 2017- لدواعي إصلاحية.

د.لمياء لغزاوي

 باحثة في التاريخ  بكلية الآداب ظهر المهراز- فاس 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق