مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

الفرق بين الحروف المنظومة والكلم المنظومة

قال عبد القاهر الجرجاني رحمه الله تعالى مبينا الفرق بين الحروف المنظومة والكلم المنظومة:

ومما يجبُ إحكامه […] الفرقُ بين قولنا حروف منظومةٌ وكلمٌ منظومةٌ. وذلك أنّ نظم الحُروف هو تواليها في النُّطقِ فقط وليس نظمُها بمقتضىً عن معنى، ولا النَّاظم لها بمقتفٍ في ذلك رسمًا من العقلِ اقتضى أن يتحرّى في نظمِه لها ما تحرَّاه. فلو أنّ واضع اللُّغة كان قد قال “ربضَ” مكان ضرَب لما كانَ في ذلك ما يؤدّي إلى فساد. وأما نظم الكلمِ فليسَ الأمر فيه كذَلك لأنك تقتضي في نظمِها آثارَ المعاني وتُرَتبها على حسب ترتيبِ المعاني في النّفس، فهو إذنْ نظمٌ يعتبر فيه حال المنظوم بعضُه مع بعض، وليسَ هو النَّظم الذي معناهُ ضَمُّ الشّيء إلى الشّيءِ كيف جاء واتفق. وكذلك كان عندهم نظيرًا للنّسج والتأليف والصّياغة والبناء والوَشْي والتّحبير وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضِها مع بعضٍ، حتّى يكون لوضع كلِّ حيث وضِع عِلَّةٌ تقتضي كونَه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يَصِحَّ..

 والفائدةُ في معرفة هذا الفرق أنّكَ إذا عرفته عرفت أنْ ليس الغرض بنظمِ الكلِم أن توالتْ ألفاظُها في النُّطق، بل أن تناسَقت دلالتُها وتلاقتْ معانيها على الوجه الذي اقتضاهُ العقل. وكيف يتصورُ أن يُقصد به إلى توالي الألفاظ في النُّطق، بعد أن ثبتَ أنّهُ نظمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضه مع بعض، وأنه نظيرُ الصِّباغةِ والتَّحْبِير والتَّفْويفِ[1] والنَّقشِ وكل ما يقصد به التَّصوير، وبعد أن كُنّا لا نشكُّ في أنْ لا حال للفظةِ مع صاحبتها تُعتبر إذا أنت عَزلتَ دلالتهما جانبًا. وأيُّ مساغٍ للشكِّ في أن الألفاظ لا تستحقُّ من حيث هي ألفاظٌ أن تُنظَمَ على وجه دون وجهٍ، ولو فرضنا أن تنخلعَ من هذه الألفاظ التي هي لغاتٌ دلالتُها لما كان شيءٌ منها أحقَّ بالتقديم من شيء، ولا يُتَصَوّر أن يجبَ فيها ترتيبٌ ونظم. ولو حفَّظْتَ صبيًا شطر كتابِ (العين) أو (الجمهرة) من غير أن تفسِّرَ له شيئًا منه، وأخذتَهُ بأن يَضبِطَ صُوَرَ الألفاظ وهيئتها ويؤدّيها كما يؤدّي أصناف أصوات الطيور لرأيتهُ ولا يخطرُ له ببالٍ أنّ من شأنه أن يؤخّرَ لَفْظًا ويقدّم آخر. بل كان حالُه حالَ من يَرْمي الحصى ويعدُّ الجوز، اللّهم إلاّ أنْ تسومَهُ أنت أن يأتيَ بها على حُروفِ المعجم ليحفظ نسقَ الكتاب.

ودليلٌ آخر وهو أنّه لو كان القصد بالنّظم إلى اللفظ نفسِه دون أن يكون الغرضُ ترتيبَ المعاني في النفس ثم النّطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي أن لا يختلف حالُ اثنين في العلمِ بحسن النَّظم أو غيرِ الحسن فيه؛ لأنهما يُحسّان بتوالي الألفاظ في النُّطق إحساسًا واحدًا، ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئًا يجهلُه الآخر.

 وأوضح من هذا كله وهو أنَّ هذا النظم الذي يتواصفُه البلغاءُ وتتفاضل مراتب البلاغة من أجلِه صنعةٌ يُستعانُ عليها بالفكرةِ لا محالة. وإذا  كانت مما يُستعان عليه بالفكرة ويُستخرج بالرَّويّةِ فينبغي أن يُنظر في الفِكر بماذا تلبَّسَ: أبالمعاني؟ أم بالألفاظ؟ فأي شيءٍ وجدته الذي تلبّس به فكرُك من بين المعاني والألفاظِ فهو الذي تحدثُ فيه صنعتُك، وتقعُ فيه صياغَتُك ونظمُك وتصويرُك، فَمُحالٌ أن تتفكر في شيءٍ وأنت لا تصنعُ فيه شيئًا وإنما تصنعُ في غيره، لو جاز ذلك لجازَ أن يفكر البنَّاءُ في الغَزْل ليجعل فكرَهُ فيه وصلة إلى أن يُصْنَعَ من الآجُرّ، وهو من الإحالة  المفرطة.

فإن قيل: النظم موجودٌ في الألفاظ على كلّ حالٍ، ولا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعُمه في المعاني ما لم تنظم الألفاظ ولم ترتبها على الوجه الخاصِّ. قيل: إن هذا هو الذي يُعيد هذه الشُّبهة جذَعةً أبداً، والذي يَحُلُّه أن تنظُر: أتتصوَّرُ أن تكونَ مُعبرًا مفكرًا في حال اللَّفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه، أو قبله، وأن تقول هذه اللفظة إنما صلُحت ههنا لكونِها على صفةِ كذا؟ أم لا يُعْقلُ إلا أن تقول: صلحت ههنا لأنّ معناها كذا، ولدلالتها على كذا؛ ولأنَّ معنى الكلام والغرض فيه يوجبُ كذا، ولأنَّ معنى ما قبلها يقْتضي معناها؟ فإن تصورت الأول فقل ما شئت واعلم أنَّ كل ما ذكرناه باطل، وإنْ لم تتصور إلا الثاني فلا تخدعنَّ نفسك بالأضاليل، ودع النظر إلى ظواهر الأمور، واعلم أن ما ترى أنه لا بدّ منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة من حيث إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أوّلاً في النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق، فأما أن تتصوَّر في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرًا في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها، فباطلٌ من الظن ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقَّه. وكيف تكون مفكرًا في نظم الألفاظ وأنت لا تعقل لها أوصافًا وأحوالاً إذا عرفتها عرفتَ أنّ حقَّها أن تنظم على وجه كذا؟.

ومما يلبسُ على الناظرِ في هذا الموضع ويغلطه أنه يستبعد أن يقال: هذا كلام قد نظمت معانيه. فالعرف كأنه لم يجرِ بذلك، إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظم في المعاني قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونظيرٌ له، وذلك قولهم: إنه يرتب المعاني في نفسِه وينزلها ويَبني بعضها على بَعض. كما يقولون: يرتبُ الفروعَ على الأُصول، ويتبعُ المعنى المعنى، ويُلحق النّظير بالنّظير. وإذا كنتَ تعلم أنهم استعاروا النَّسجَ والوَشْي والنَّقشَ والصياغة لنفسِ ما استعاروا له النَّظم، وكان لا يُشك في أن ذلك كله تشبيهٌ وتمثيلٌ يرجعُ إلى أمور وأوصاف تتعلق بالمعاني دون الألفاظ، فمن حَقّك أن تعلم أنّ سبيل النظم ذلكَ السبيل.

    واعلم أنَّ من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل حَدًّا، وتجعلَ النُّكَت التي ذكرتها فيه على ذُكْرٍ منكَ أبدًا، فإنها عُمَدٌ وأصولٌ في هذا الباب، إذا أنت مكّنتها في نفسِكَ، وجدتَ الشُّبه تنزاحُ عنك، والشُّكوكَ تَنتفي عن قَلبك، ولا سيَّما ما ذكرتُ من أنه لا يُتصوَّر أن تعرف لِلَّفظ موضعًا من غير أن تعرفَ معناه. ولا أن تتوخَّى في الألفاظ من حيثُ هي ألفاظٌ ترتيبًا ونظمًا، وأنّك تتوخّى الترتيبَ في المعاني، وتُعمل الفِكر هناك، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتجْ إلى أن تستأنفَ فكرًا في ترتيب الألفاظِ، بل تجدُها تترتّب لك بحكم أنها خَدَمُ للمعاني، وتابعة لها ولاحقة بها، وأن العلم بمواقعِ المعاني في النَّفْس، علمٌ بمواقعِ الألفاظِ الدالة عليها في النُّطق.

فصل في أن النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض.

واعلم أنّك إذا رجعت إلى نفسِك علمتَ علمًا لا يعترضُه الشك أنْ لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضها ببعض ويُبْنى بعضُها على بَعض. وتُجعلَ هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهلَهُ عاقلٌ ولا يخفى على أحدٍ من النّاس. وإذا كان كذلك فَبنا أن ننظر إلى التَّعليق فيها والبناءِ وجعلِ الواحدة منها بسببٍ من صاحِبَتها ما معناهُ وما محصوله. وإذا نظرنا في ذلك علمْنا أنْ لا محصول لها غيرُ أن تعمد إلى اسمٍ فتجعلهُ فاعلاً لفعلٍ أو مفعولاً، أو تعمدَ إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرًا عن الآخر، أو تُتبع الاسم اسمًا على أن يكون الثاني صفةً للأول، أو تأكيدًا له، أو بدلاً منه أو تجيء باسم بعد تمام كلامِكَ على أن يَكون الثّاني صفةً، أو حالاً، أو تمييزًا، أو تتوخّى في كلامٍ هو لإثبات معنًى أن يصير نفيًا أو استفهامًا أو تمنيًا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرْطًا في الآخر فتجيء بهما بعد الحرف الموضوعِ لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضُمِّنت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس.

 وإذا كان لا يكونُ في الكلم نظمٌ ولا ترتيبٌ إلا بأنْ يُصنع بها هذا الصنيع ونحوه، وكان ذلك كلُّه مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء، ومما لا يُتصوَّرُ أن يكون فيه ومن صفته، بَان بذلك أنَّ الأمر على ما قُلناه من أنَّ اللفظَ تبعٌ للمعنى في النَّظم، وأنَّ الكلمَ تترتّبُ في النُّطقِ بسببِ ترتُّب معانيه في النَّفس، وأنّها لو خَلَتْ [الألفاظ] من معانيها حتى تتجرّد أصواتًا وأصداءَ حروفٍ لما وقَع في ضميرٍ ولا هَجَس في خاطرٍ أن يجب فيها ترتيبٌ ونظم، وأن يُجعل لها أمكنةٌ ومنازل، وأنْ يجب النُّطق بهذه قبل النُّطق بتلك. والله الموفّقُ للصَّواب.

دلائل الإعجاز،

الصفحة:97 ومايليها.

تحقيق: د/محمد رضوان الداية، د/فايز الداية

الطبعة الأولى

رجب الفرد 1428هـ

آب(أغسطس)2007م

دار الفكر بدمشق 

الهوامش:


[1] – في لسان العرب يفسر معناه بأنه البياض الذي يكون في أظفار الأحداث، والفوف هي الحبة البيضاء في باطن النواة، وهي أيضاً الجبة البيضاء، وفي حديث كعب: تُرْفَع للعبد غُرْفةٌ مُفَوّفة، وتفويفها لَبِنةٌ من ذهب وأُخرى من فِضة. وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة تفويف، ولكن المعنى الأجمل هو أن يكون الكلام جميلاً بألفاظ سهلة ممتنعة تبدو عليها حلة الفصاحة خالية من البشاعة،  وهذا إن كان نثراً، وأما الشعر المفوف فيكون سهل العروض، عذب القوافي،  جميل مخارج الحروف، ومعانيه لا تحتاج إلى مزيد من التأمل والتفكير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق