الـقـول الـراجـح
الدكتور مولاي إدريس غازي
باحث بمركز دراس بن سماعيل
الراجح في وضعه اللغوي مأخوذ من الرجحان، وهي كلمة دالة على معاني القوة والمتانة، ويرد في سياق بيان المفاضلة بين شيئين أو أمرين ثبتت المزية لأحدهما على الآخر لفضل أو قوة فيه، وظهور المزية وثبوت الفضل هما المعبر عنهما بالرجحان.
وقد لوحظ هذا المعنى اللغوي في الدلالة الاصطلاحية للراجح، حيث جرى رسم أغلب العلماء على إطلاق مصطلح الراجح على القول الفقهي المبني على دليل قوي، فقالوا: الراجح ما قوي دليله.[1]
وهناك من العلماء من لاحظ في الراجح كثرة القائلين لا قوة الدليل، فيكون الراجح حسب هذا الاصطلاح مرادفا للمشهور أو فردا من أفراده، قال العلامة محمد بن قاسم القادري: "وأما الراجح ففيه قولان الصواب منهما أنه ما قوي دليله، وقيل ما كثر قائله"[2] والمراد بالدليل ما انبنى عليه القول الفقهي من الأصول الشرعية، بحيث تستلزم قوة الأصل المستند إليه قوة القول المبني عليه فيكون راجحا، وهنا نتصور مراتب متمايزة في الأقوال الراجحة تبعا لتراتب الأدلة من حيث القوة.
وقد نص الهلالي على المباينة الاصطلاحية بين الراجح والمشهور، وبين منشأ القوة في كل منهما، كما وجه قول من رادف بينهما، جاء في نور البصر ما نصه:"فالفرق بينه (أي المشهور) وبين الراجح مع أن كلا منهما له قوة على مقابله، هو أن الراجح نشأت قوته من الدليل نفسه من غير نظر للقائل، والمشهور نشأت قوته من القائل، فإن اجتمع في قول سبب الرجحان والشهرة ازداد قوة وإلا كفى أحدهما، فإن تعارضا بأن كان في المسألة قولان أحدهما راجح والآخر مشهور، فمقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين أن العمل بالراجح واجب، وقيل المشهور ما قوى دليله فيكون مرادفا للراجح، ولا يعتبر صاحب هذا القول كثرة القائلين، كما لم يعتبر في تعارض البينتين كثرة شهود أحديهما، ويحتمل أن يكون أطلق الدليل على ما يشمل كثرة القائلين فيكون أعم من الراجح بإطلاق"[3].
وللراجح معنى اصطلاحي إضافي إلى جانب دلالته الاصطلاحية الأصلية المذكورة، حيث يتعلق به نظران، نظر من جهة الاجتهاد ونظر من جهة التقليد.
أما الأول فإن المتعين في المجتهد سواء كان مستقلا أو منتسبا إلى مذهب معين أن يتبع ما ترجح لديه من خلال النظر في الأدلة ذاتها وسبرها رواية ودراية، أو بملاحظة مدارك إمامه وأصوله، واستصحاب منهجيته في النظر في المسائل المعروضة عليه. فيكون الرجحان حسب هذا المتعلق ثمرة النظر في الدلائل استقلالا أو انتسابا.
وأما الثاني فيقتضي في المقلد أن يلتمس ثمار هذه الأنظار من لدن الصنف الأول، حيث يعتبر ما توصل إليه شيوخ المذهب من ترجيحات نتيجة النظر في الأدلة والموازنة بينها هو المتعين والراجح في حقه، ولا يجوز تعديه إلى غيره، لأن التقليد صفة مؤذنة بانتفاء أهلية الاجتهاد والنظر. قال الهلالي: "إن كان المفتي أهلا للترجيح أفتى بما اقتضت القاعدة ترجيحه عنده، وإلا قلد شيوخ المذهب في الترجيح فأفتى بما رجحوه"[4]. أي أن المقلد مطلوب باتباع ما رجحه علماء المذهب ممن حاز أهلية الترجيح.
والحاصل مما ذكر أن الراجح هو القول الفقهي القوي قوة الدليل المبني عليه، فإن كان المفتي مجتهدا على سبيل الاستقلال أو على سبيل الانتساب، فالراجح عنده هو ما تحصل عنده نتيجة تقليب النظر في الأدلة، أو عبر التقيد بمناهج إمام مذهبه في تحقيق النظر المذكور. وإن كان مقلدا فلا يسعه إلا إتباع ما نص على رجحانه من قبل أئمة مذهبه وشيوخه، سواء كان القول المرجح بسبب قوة الدليل أو كثرة القائلين أو غير ذلك من أسباب الترجيح، فيأخذ ذلك مأخذ المسلمات.[5]
[1] - رفع العتاب والملام ص18.
[2] - نفسه ص19.
[3] - نور البصر شرح خطبة المختصر للشيخ أبي العباس أحمد الهلالي السجلماسي ص115، طبعة حجرية دون تاريخ.
[4] - نفسه ص117.
[5] - كشف النقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب، لابن فرحون ص67.