وحدة الإحياءقراءة في كتاب

العمل والعمال في نظر الإسلام من خلال قراءة في كتاب العمل والعمال في نظر الإسلام لعطية صقر

ذ. محمد الشرقاوي

العمل والعمال في نظر الإسلاممن خلال قراءة في كتاب العمل والعمالفي نظر الإسلام لعطية صقر

(العدد 8)

 إنها لبادرة حسنة هذه التي سارت عليها رابطتنا بقيادة أمينها العام، فضيلة العلامة الشيخ محمد المكي الناصري، عملا بقول الله تعالى: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ (التوبة: 122) وبقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: “من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” الحديث.

ـ والمناسبة شرط كما يقولون، فبالأمس القريب احتفلت الطبقة العاملة بعيد الشغل كما جرت العادة للاحتفال به غرة شهر مايو من كل سنة، وهو تقليد غربي، سرعان ما ثار عالميا. وكان الأجدر أن تنبثق هذه الفكرة من العالم الإسلامي، نظرا لتكريم الإسلام للعامل، قبل صدور قوانين العمل الوضعية بمراحل.

ـ ولذلك اخترت أن يكون حديثي إليكم اليوم عن العمل والعمال في الإسلام، وعن علاقة رب العمل بالعامل التي وردت الإشارة إليها في القرءان الكريم، كما سيأتي بعد سرد نماذج فريدة في ميدان العمل والعمال في السيرة النبوية الطاهرة، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. فالنبي، صلى الله عليه وسلم، أعطى المثل من نفسه في هذا الميدان، فاشتغل أول ما اشتغل برعي الأغنام، على قراريط لأهل مكة، ثم اشتغل بالتجارة في مال السيدة خديجة، قبل أن تصبح زوجا له، وبسبب أمانته في تجارته في مالها تزوجته واشتغل عنده، صلى الله عليه وسلم، سيدنا أنس، رضي الله عنه، خادما فقال:

“خدمته عشر سنين لم يقل لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء تركته، لم تركته ولكنه يقول: ما شاء الله كان” وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي، صلى الله عليه وسلم، على كل مسلم صدقة. قال أرأيت إن لم يجد؟ قال: “يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق” الحديث. ويبين النبي، صلى الله عليه وسلم، أن مما امتن الله به على العبد: الصحة والوقت، فلا بد من شكره عليهما بتوجيههما فيما يفيد؛ فيقول عليه الصلاة والسلام: نعمتان مغبون فيهما أكثر الناس:

الصحة والفراغ” رواه البخاري. ويذكر أن الله سبحانه سيحاسبه يوم القيامة على صحته وعمره وماله وعمله كيف استغلهما في حياته الدنيا فيقول صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه، ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه”.

عمل المرأة في الشرع الإسلامي

وكما على الرجل أن يعمل، كذلك على المرأة أن تعمل، وذلك على سبيل الجواز، إذا وجدت من يعولها دون منة، لأن المرأة لا يخلو أمرها، من أحد أمرين: فهي إما أن تكون متزوجة أو غير متزوجة. فأما الأولى فنفقتها على زوجها، لقول الله تعالى في كتابه العزيز ﴿الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ (النساء: 34) كما أن الصداق، وقد سماه القرءان الكريم أجرا، فهو على الرجل، ولذلك خاطب النبي، صلى الله عليه وسلم، معشر الشباب بقوله: “من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء”. وقد فسرت الباءة بالنفقة.

وأما المرأة غير المتزوجة، فنفقتها، كما هو معلوم، على من يتولى أمرها والد أو ولد أو قريب، وهي لا تلجأ إلى العمل إلا إذا عدمت هؤلاء، أو كانوا في عسر يضيق بحاجتها الضرورية، وفي هذه الحالة يجوز لها أن تعمل، ويتأكد ذلك العمل إذا كانت تعول ضعافا، ليس لهم من يتولى أمرهم، وساء عملها داخل البيت أو خارجه لقول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: “قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن” وعن جابر قال: “طلقت خالتي فأرادت أن تَجُدَّ “تقطع” نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: بلى فَجُدِّ نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا” رواه مسلم. وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنها قالت: “تزوجني الزبير، وماله في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه وناضحه؛ أي بعيره، فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤونته، وأسوسه وأدق النوى لناضحه” وأعلفه، وأستقي الماء، وأغرز غربه، أي أخيط دلوه، وأعجن، وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني” “الحديث” متفق عليه.

– ومن هنا كان النهي عن السؤال والمسألة، فحرم الإسلام على المسلم مد اليد بالسؤال، إلا من ضرورة قاسية، وحاجة ملحة، صورها النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: “إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع “شديد” ولذي غرم مفظع؛ أي غرامة كبيرة، ولذي دم موجع” متفق عليه، ففي هذه الأحوال الثلاث تحل المسألة، ولا تحل ولا تجوز في غيرها، وكان عمر، رضي الله عنه، يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.

ـ ومن هنا كان الحث على النشاط في العمل، فيقول عليه الصلاة والسلام: باكروا بالغدو، أي الصباح، في طلب الرزق، فإن الغدو بركة ونجاح، رواه الطبراني في الأوسط عن عائشة. ومن هنا كذلك كان فضل العمل يفوق فضل الطاعات، فمما ورد في فضل التجارة، قوله صلى الله عليه وسلم: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء”. وفي الزراعة قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”.

ـ وفي الصناعة وغيرها، ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ما أكل أحد طعاما، خير من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود – عليه السلام – كان يأكل من عمل يده”.

ما ورد في العمل مطلقا

وروى الطبراني أن الصحابة كانوا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرأوا/شابا قويا، وقد خرج مبكرا، يسعى لكسب عيشه فقالوا: ويح هذا لو كان خروجه في سبيل الله، فرد عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، منبها لهم أن سبيل الله، متعدد الميادين، ليس قاصرا على حمل السلاح للدفاع عن الدين والوطن، بل كل عمل طريقه مشروعة وغايته شريفة، والنية فيه حسنة، فهو جهاد في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة، ويغنيها عن الناس، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعافا ليغنيهم ويكفيهم، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخرا وتكاثرا فهو في سبيل الشيطان” وقال صلى الله عليه وسلم: “خير الكسب كسب العامل إذا نصح” وقال: بعض السلف: ” إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة”.

ـ وجاء في الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري عن الواحدي وأبي الفرج:

إن عبد الرحمن بن عوف لم ترض نفسه الأبية أن يعيش كَلاًّ على سعد بن الربيع عندما آخى النبي، صلى الله عليه وسلم، بينهما بعد الهجرة، بل خرج إلى السوق، فجد ونشط في التجارة، حتى أقبلت عليه الدنيا إقبالا، وانهالت عليه الأموال من كل جانب، ولم يلهه ذلك عن واجبه نحو ربه وأمته، فلبى نداء البر، ودعوة الخير، وتصدق بأربعة آلاف درهم وأمسك لنفسه مثلها، فيقول النبي، صلى الله عليه وسلم، بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت، فتوفي رضي الله عنه، وثمن التركة الذي أصاب زوجاته الأربع، يقدر بثلاثمائة ألف، وعشرين ألف دينار، وقد أعتق من الرقاب ثلاثين ألفا، وأوصى بخمسين ألف دينار وبألف فرس في سبيل الله، وأوصى لمن بقي من البدريين إذ ذاك، وكانوا مائة، بأربعمائة دينار.

فما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

وقال أبو سليمان الداراني، وهو من أعلام الصوفية “ليست العبادة عندنا أن تصف قدميك، وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد”.

فرص العمل

قد يقول قائل: إن فرص العمل غير مهيأة للجميع، يقول بعض الباحثين ردا على هذا القول: “ليس في الدنيا فقر في الثروة والمال، فالله الذي خلقنا، جعل لنا السموات والأرض ميدانا لنشاطنا، وأودع فيها من القوى والكنوز ما يكفي حاجة الإنسان إلى أن تقوم الساعة، ولكن في الدنيا فقر في العقول والأفكار، فمن المستطاع أن توجد الإنسان له عملا مهما كان قدره ونوعه إذا صحت نيته، وصدقت عزيمته، فعن أنس، رضي الله عنه، أن رجلا من الأنصار أتى النبي، صلى الله عليه وسلم فسأله، من المسألة وليس من السؤال، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلس، كساء غليظ ممتهن، نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقُعب نشرب فيه من الماء قال، صلى الله عليه وسلم، ائتني بهما، فأتاه بهما فأخذهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده الشريفة، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجا أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال له: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به فأتاه به، فشد فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عودا بيده ثم قال اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.

بمثل هذا التفكير أمكن إيجاد عمل ولو بسيط، يصون الإنسان به وجهه، عن إراقة مائه بالمسألة، واحتقار الناس له، وإثقاله بالمنن إن كان يحس لها ثقلا، ويتمثل قول القائل:

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فالواجب على من يريد أن يعمل، أن يكون ذا بصيرة وفطنة، وأن يعرف الأساليب التي يرجى منها التوفيق في عمله، ويتخير من الاتجاهات، ما درس بدايتها واطمأن إلى نهايتها، وأن يكون في كل ذلك قوي الإيمان، صادق العزيمة، صبورا محتملا، واثقا بالله ومعونته للمخلصين.

وقَلَّ من جَدَّ في أمر يحاوله واستشعر الصبر إلا فاز بالظفر

ويقول ثور في مذكراته: “إذا كنت قد شيدت بأمانيك قصورا في الهواء، فلا تظنن أن جهدك قد ضاع، فالقصور لا تقوم في الهواء، ولكن عليك أن تبني لها أساسا ثابتا في الأرض”.

فكل عمل تخدم به دينك ووطنك ويرضي ربك، فهو عمل مبرور، والمدار كله على النية الصحيحة الخالصة، وإتباع المنهاج الذي رسمه الشرع الحكيم، والسعي في سبيل الرزق للاستعانة به على الطاعة، وصون النفس عن التفكك، وتوفير الحياة الكريمة للأسرة والوطن، أمر محبوب يحله الله ويكرمه، ويحث عليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويرغب فيه ويكره لنا التواكل، وعدم التوكل، والأخذ بالأسباب فيقول صلى الله عليه وسلم: “لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو، خماصا، وتروح بطانا”. فلا بد من الغدو والرواح. وفيما بينهما سعي للبحث عن الرزق، فهو بعينه الأخذ بالأسباب. أما الرزق فهو على الله مصداقا لقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها﴾ وأما السعي إليه، وهو الأخذ بالأسباب، فعلى العبد، متوكلا على الله حق التوكل، فقد دلل لنا السبيل في الحصول عليه بقوله: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه﴾ (الملك: 15) والسعي إليه يكون بالعمل من أجله، وهو لا ينافي العبادة، بل يعين عليها، حتى إذا ما فرغ الإنسان من عمله، وكسب قوته وقوت عياله، تفرغ إلى عبادته. وقد ألمح القرءان الكريم إلى ذلك بأن سد على الفراغ منافذه، في قوله تعالى: ﴿فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب﴾ (الشرح: 7 و8). والفراغ إذا ملأه الإنسان بما يفيد، أصبح نعمة؛ فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» وقد جاء في كتاب “الوقت في حياة المسلم” ليوسف القرضاوي ما نصه: «وكان السلف الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغا، لا هو في أمر دينه ولا في أمر دنياه، فتنقلب نعمة الفراغ نقمة على صاحبها رجلا كان أو امرأة ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة أي محرك للغريزة والتفكير في أمر الشهوة، وهل تعلق امرأة العزيز بسيدنا يوسف، عليه السلام، وشغفها به، وتدبير المكايد لإيقاعه في شباكها، إلا نتيجة الفراغ الذي كانت تعيش فيه»؟ ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع الفراغ، الشباب، الذي يتميز بقوة الغريزة والجِدة، أي القدرة المالية التي تمكن الإنسان من تحصيل ما يشتهي، وفي هذا يقول أبو العتاهية في أرجوزته:

إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

ومن الأدعية والأذكار التي علمها النبي، صلى الله عليه وسلم، لأمته، ليقولها المسلم في صباحه ومسائه “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل” ويضيف القرضاوي: وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول العوائق والفتن، ويقول صلى الله عليه وسلم: “هل تنتظرون إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا أو الدجال، فشر غائب ينتظر أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر، وقال صلى الله عليه وسلم: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعته الجنة”.

ومما رواه النبي، صلى الله عليه وسلم، عن صحف إبراهيم: “ينبغي للعاقل، ما لم يكن مغلوبا على عقله، أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب” وجاء في نفس المصدر:

ولا يحسن بالمرء المسلم أن يرهق نفسه بالعمل إرهاقا يضعف من قوته ويحول دون استمرار مسيرته ويحيف على حق نفسه، وحق أهله وحق مجتمعه، ولو كان هذا الإرهاق في عبادة الله تعالى صياما وقياما وتنسكا وزهدا. ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه لما رآهم تكاثروا للصلاة خلفه في الليل: خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”. وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا” ومعنى فسددوا ألزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط، وقاربوا، أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه وأبشروا، أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل ” فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”. وروى الأصمعي أنه رأى في البادية امرأة بيدها مسبحة وقفت تكتحل وتتزين قال: فقلت لها، أين هذا من هذا؟ يعني أنه يستبعد أن تكون من أهل الذكر والتسبيح، وفي الوقت نفسه من ذوات اللهو والتجمل، فأنشأت المرأة تقول:

ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب

قال الأصمعي: “ففهمت أنها امرأة صالحة ذات زوج تتجمل له”.

ـ والعامل المقصود بالتكريم في نظر الإسلام هو كل من يقوم بعمل شريف يعف به نفسه وينفع به قومه وأمته، مهما كان العمل الذي يقوم به، ما دام هناك إتقان للعمل، ومراقبة لله، فالفضل مداره العمل الصالح والتقوى، والعمل الصالح يشمل عمل الدنيا، والعمل للآخرة. وروي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما رجع من غزوة تبوك، استقبله أحد الصحابة فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم، ما هذا الذي أرى بيدك؟ قال: من أثر المر – الحبل – والمسحاة، أضرب وأنفق على عيالي، فقَبَّل صلى الله عليه وسلم يده، وقال: هذه يد لا تمسها النار”.

ويحدثنا القرءان الكريم أن الله علم سيدنا داود صنعة الدروع السابغات وألان له الحديد. قال تعالى في سورة فاطر: ﴿ولقد آتينا داود منا فضلا يا جيال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد﴾ سورة سبأ آية 10-11. وقال: ﴿وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم﴾ (الأنبياء: 80).

كما يحدثنا القرءان عن سيدنا نوح، عليه السلام، وقد أمره ربه بصنع الفلك ﴿بأعيننا ووحينا﴾ وقال: ﴿ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه﴾ (هود: 38).

هذا وجميع الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، رعوا الغنم. وكان نبينا، صلى الله عليه وسلم، يرعاها لأهل مكة على قراريط كما كان، صلى الله عليه وسلم، يمشي في الأسواق متعاملا، وهو القائل: “الدين المعاملة” حتى عابه المشركون وجاء في القرءان الكريم على لسانهم: ﴿وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ (الفرقان: 7).

وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بزازا تاجر قماش، فخرج صبيحة بيعته بالخلافة حاملا على كتفيه أثوابا إلى السوق فاعترضه عمر، رضي الله عنه، وبعض الصحابة، وسألوه أن يضرب عن التجارة ويتفرغ لمصالح المسلمين فقال لهم: ومم أنفق على أهلي؟ إني إن أضعتهم فأنا للمسلمين أضيع ففرضوا له في بيت المال ما يغنيه عن التجارة للتفرغ لمهام منصبه الجديد: الخلافة، وقال عمر رضي الله عنه: “ما من يوم يأتيني أحب إلي من يوم أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري”.

وكان سيدنا عثمان، رضي الله عنه، تاجرا ناجحا، وكان ابن عوف صاحب ثروة ضخمة من تجارته، فلنا في هؤلاء السلف الصالح الكرام، أسوة حسنة.

سعة ميدان العمل

نعم لنا في ميدان العمل سعة، تتجلى في كونه تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا. قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه﴾ وقال سبحانه: ﴿وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها﴾ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز” ومن هنا كان على المسلم إذا ضاق به العيش في مكان أن يهاجر منه إلى مكان آخر وإذا أخفق في نوع من العمل أن يجرب نوعا آخر، قال تعالى: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة﴾ أي طرقا متنوعة. أما من رضوا لأنفسهم بالذل وعاشوا مستعبدين فقراء مع يسر أسباب الرخاء والحرية لهم فيقول: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا”.

والهجرة من موطن الشدة والفقر والذل إلى موطن الأمن والرخاء والعزة هي سنة الرسل، صلى الله عليهم وسلم. فلقد هاجر سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما هاجر لوط وموسى عليهم السلام، وهاجر غيرهم من أجل الحياة الحرة الكريمة، وهاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، من القرية الظالم أهلها وهي مكة إلى دار الهجرة المدينة التي وجد فيها هو وصحابته رضوان الله عليهم من يؤثرونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فتمكنوا من أداء رسالتهم على الوجه الأكمل في هذه البيئة الجديدة.

ولولا هجرة المسلمين في صدر الإسلام إلى أمصار، وإقامة معالم المدنية المتحضرة في كل مكان حلوا به، ما كانت للإسلام هذه الدولة، وما سجل له التاريخ هذه النهضة المثالية.

فالإسلام يريد من المسلم أن يكون عضوا عاملا في المجموعة الإنسانية، ويحتم عليه أن يكون في حياته إيجابيا يندمج في بيئته فيستفيد منها ويفيد، ويكره السلبية المتخاذلة، والانكماش والانزواء عن معترك الحياة.

علاقة رب العمل بالعامل

إن علاقة رب العمل بالعامل قد وردت الإشارة إليها في القرءان الكريم في سورة القصص، وكان الأجير فيها نبي الله موسى، عليه السلام، ورب العمل على الأرجح هو سيدنا شعيب، عليه السلام، وهو من أهل مدين، وكان أهل مدين قوما عربا يسكنون في بلاد الحجاز مما يلي جهة الشام قريبا من جهة العقبة من الجهة الشمالية منه.

وخلاصة قصة موسى، عليه السلام، مع شعيب الرجل الصالح من أهل مدين أو نبي الله شعيب على الأرجح أن موسى، عليه السلام، خرج من أرض مصر فارا يريد النجاة من فرعون الذي كان يبحث عنه لأنه قتل خطأ أحد الأقباط، فتوجه عليه السلام نحو أرض مدين ماشيا على قدميه يتلفت خشية أن يدركه أحد من آل فرعون. ولم يكن معه زاد فكان يأكل ورق الشجر. وبقي يمشي مسيرة ثمان ليال، وهي المدة الفاصلة بين مصر وأرض مدين كما ورد في تاريخ الطبري، حتى وصل إلى أرض مدين فجلس تحت ظل شجرة وقد أنهكه الجوع والتعب. وبينما هو جالس للاستراحة، أبصر ابنتين ترعيان الأغنام تريدان سقي أغنامهما من تلك البئر الكبيرة التي يسقي منها الرعاة، ولكنهما كانتا تحبسان الغنم لئلا يختلط بغنم الآخرين، فأشفق عليهما موسى عليه السلام، وسألهما عن سبب تعهدهما لرعاية الغنم بأنفسهما، فأخبرتاه بأن أباهما شيخ كبير وليس عنده من الأولاد من يرعى له هذه الأغنام، ولذلك فإنهما يتعهدان رعايتها وسقايتها. فما كان من موسى عليه السلام بعد سماع قصتهما المؤثرة، إلا أن سقى لهما ثم جلس بجانب الظل يدعو ربه كما ورد في القرءان من سورة القصص ﴿ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذوذان، قال: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾.

وقد ذكر ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر حجرة عظيمة، فتجيء هاتان المرأتان فيردان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم، جاء موسى عليه السلام. فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما وسقى عنهما، ثم رد الحجر، وكان لا يرفعه إلا عشرة، فرفعه موسى عليه السلام وحده، ورده وحده، رجعت الفتاتان إلى أبيهما أخبرتاه بخبر موسى وبقوته، وطلبتا منه أن يكرمه على هذا الصنيع الجميل، وأن يستأجره لرعاية الغنم، فأرسل واحدة منهن لتدعوه إلى أبيها فجاءته وهي تمشي على استحياء، فقالت له: ﴿إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا﴾ سورة القصص آية 25. فلما جاءه موسى، عليه السلام، وقص عليه قصته، قال له شعيب: لا تخف من القوم الظالمين، ثم زوجه بابنته على رعاية الغنم. ومكث موسى عليه السلام في أرض مدين بعد أن تزوج بابنة شعيب، وهو يرعى الغنم، حتى أتم المدة، وهي عشر سنين. وقد روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أكملهما وأفضلهما، وإن كان الاتفاق مبدئيا على ثماني حجج، أي ثمان سنوات، ولنأخذ العبرة من هذه القصة التي كان فيها العامل نبيا من أنبياء الله بل من أولي العزم من الرسل، ورب العامل هو شعيب نبي الله، عليه السلام، ووقعت المصاهرة بينهما بسبب العمل الذي هو الصداق في هذه المصاهرة النبوية.

فموسى عليه السلام عمله متطوعا (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) فهو لم يطلب الأجر إلا من الله تعالى، فاستجاب الله دعاءه حينا قال تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء، قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فماذا كان الأجر والأجرة، كان الأجر معنويا، أضافت الآية على الفور: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) فكان هذا جزاء معنويا، حيث نجاه الله بسبب قدومه إلى مدين، حيث التقى بشعيب عليه السلام، فاطمأن إليه، وحصلت المصاهرة بينهما، فتم لموسى عليه السلام الاستقرار المادي والمعنوي.

ثم تتطور العلاقة، علاقة العمل، من عمل عارض تطوعي، وهو سقي موسى، عليه السلام، لابنتي شعيب، إلى عمل قار مستمر تتحدد من خلاله علاقة، العامل برب العمل، مع بعض الشروط التي يتطلبها عقد العمل، وتبدأ العلاقة بقول إحدى ابنتي شعيب عليه السلام (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) وتوسلت لطلبها بصفتين أساسيتين إحداهما مادية وهي القوة، فلا خير في عامل لا قوة فيه، وفي الحديث الشريف “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”. والأخرى معنوية، وهي الأمانة؛ ولا خير في عامل قوي لا أمانة له. فاستجاب أبوها لطلبها، وفهم مغزاها من ورائه، وهي أنها تريد الزواج منه لقوته وأمانته: (قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين). والنكاح لا بد له من صداق، وموسى، عليه السلام، كان فقيرا، ولذلك قال كما جاء في القرءان الكريم: ﴿على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك﴾. وقد أتم موسى، عليه السلام – كما ورد في الحديث – أكمل الأجلين وأفضلهما. وأضاف الرجل الصالح، أي شعيب، كما ورد في القرءان الكريم أيضا: ﴿وما أريد أن أشق عليك، ستجدني إن شاء الله من الصالحين﴾ وفي هذا درس لأرباب العمل، الذين يشقون على العامل، كي يشفقوا عليه أخذا للعبرة من هذه القصة.

وننتقل من سورة القصص إلى سورة الكهف ودائما مع سيدنا موسى عليه السلام، وهذه المرة قصته مع الخضر، وهي قصة التواضع في طلب العلم، وتحمل المشاق في سبيل الحصول عليه وتلقيه ممن هو أقل منزلة، حيث التقى موسى، عليه السلام، بذلك العبد الصالح وقدم له نفسه بتواضع وأدب طالبا منه العلم:

(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) ثم كان من شأنهما، ما قص علينا القرءان العزيز، من روائع القصص من قصة السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، وكلها أخبار غيبية أطلع الله عليها ذلك العبد الصالح، وفيها عبر وعظات: (فوجدا عبدا من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) إذن، فهو العلم اللدني، يقذفه الله في قلب المرء من غير تحصيل. وصدق الله العظيم: ﴿يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾.

والشاهد عندنا في هذه القصة هو هذه الآية ﴿فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا﴾ صدق الله العظيم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين والحمد لله رب العالمين.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق