العلوم الإسلامية.. أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟
أحمد عبادي: المسلمون في أمسِّ الحاجة إلى علوم التيسير تُربّي على حاجتنا إلى علوم التسخير
افتتحت بمدينة أكادير، يوم الثلاثاء 13 ربيع الثاني 1431 ه ، الموافق لـ 30 مارس الجاري، أشغال ندوة دولية تنظمها الرابطة المحمدية للعلماء، تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في موضوع "العلوم الإسلامية.. أزمة منهج أم أزمة تنزيل".
وافتتحت الندوة بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ثم بكلمة ألقاها الأستاذ عبد السلام طويل، باسم اللجنة المنظمة، أكد خلالها أن الرابطة المحمدية للعلماء اختطت لنفسها أن تختار محورا فكريا علميا سنويا تطرحه للتداول في المجلة قبل أن تعقد له ندوة علمية للتداول على نطاق واسع مع فعاليات علمية من داخل وخارج المغرب.
وبحكم أن الرابطة المحمدية للعلماء، يضيف عبد السلام طويل، تشتغل في إطار مهامها باعتبارها أكاديمية للعلوم الشرعية والفكر الإسلامي، فإنها تعتبر نفسها معنية بدرجة أولى بالإسهام في إخراج العلوم الإسلامية من أزمتها، وهو الواقع الذي يجمع عليه الجميع.
من جهته، اعتبر أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أن مدار العلوم الإسلامية منذ مبتداها كان على النص المؤسس القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة، نشأة وتداولا، مما جعلها تنفتح على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه.. وتجلت فيها كثير من القيم العليا المركزية للإنسان والبانية للعمران، مضيفا على أننا نجد في هذه العلوم مجموعة من العوائق الذاتية تحول دون استئناف العمل البنائي والتجديدي فيها، قد يكون أخطرها، انفكاك هذه العلوم من مصدرها الكوني الذي هو القرآن المجيد، إضافة إلى أن هذه العلوم قد دلفت لجملة من الأسباب والعوامل نحو قطب التقليد، وتوزعتها نزاعات مذهبية في فترات من تاريخها، كما تسربت إلى بعض مباحثها مناهج دخيلة، مؤكدا على أن هذه التطورات فرضت حتمية تحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة وراء هذه العلوم حتى نتأكد من قرآنيتها، واتصالها الكلي والمنهجي مع المعطيات المبثوثة في الكتابين المسطور والمنظور.
واعتبر عبادي أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى علوم الدين تربي على حاجتنا إلى العلوم الكونية؛ لأنه إذا كانت الثانية هي التي تجسر بين الكون وبيننا، وتجعلنا نستكشف كنوزه ونستكشف القدرة على الحركة، فالأولى هي سبيلنا إلى استكشاف القدرة على تبيّن الوجهة، وتبيّن قبلة الفعل، ومعنى أفعالنا ومناشطنا نحن بني آدم، محيلا الحضور على إشارات قرآنية في هذا الصدد، منها تلك المقابلة البديعة حين يسمي العلوم الكونية علوم التسخير، كما نقرأ في الآية القرآنية: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ" [الجاثية:13] وأن يسمي علوم الوحي: علوم التيسير "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ." [القمر:17] العلوم الكونية عن طريق التفكر "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ." [آل عمران:191] وسبيل الإنسان إلى العلوم المتصلة بالوحي يكون عن طريق التدبر"َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن" [النساء:82]، "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" [ص:29].
واعتبر المحاضر في ختام مداخلته، على هامش افتتاح أشغال هذه الندوة أنه تأسيسا على اعتبار الوحي مصدرا لعلوم التيسير، فقد أصبح لزاما الرجوع إلى أصولها، والنظر في الوظيفية التي كانت وراء إبداعها، والتأكد من مدى ارتباطها بهذه الأصول من جهة أولى، ومن مدى أدائها لوظائفها من جهة ثانية في استلهام لقول نبي الختم عليه الصلاة والسلام حين قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين".. وإذا غابت هذه الجسور الواصلة بين الإنسان وبين الوحي، فإن الإنسان لن يستطيع أن يصل إلى الانتفاع من هذا المصدر، تماما كما لن يصل إلى الانتفاع من الكون في حالة غياب العلوم البحتة والعلوم الكونية من واقعنا اليوم.
ولأنه حالت ظروف صحية وراء قدوم الدكتور طه جابر العلواني، رئيس جامعة قرطبة، بواشنطن، فقد تكفلت اللجنة المنظمة للندوة، بعرض شريط سمعي مرئي لنص مداخلته، كان قد بعث به قبل موعد انعقاد الندوة، حيث افتتح مداخلته بالتأكيد على أن قضايا الإصلاح والتجديد والتنميَّة والتقدُّم، وتجاوز حالات التخلف، رُبطَت بأمورٍ كثيرة لا تشكّل للمسلم بؤرة لتوليد الدواعي والدوافع الخيّرة ولا تقود حركته، ولا تزكّي فعله، ولا تعينه العون السليم على إصلاح فعله ووضعه في مجال التأثير والفاعليَّة.
كما رُبطَت ذات القضايا بتقديم الزاد الفكري والعقلي والمعرفي والثقافي القادر على تشكيل الدوافع والدواعي الخيِّرة لدى الإنسان المسلم هي أهم ما يحتاجه في الوقت الحاضر ليبدأ خطوة الألف ميل في طريق استئناف دوره في بناء الحضارة، وتصحيح مسار الثقافة، والعمران في هذه المعمورة التي قد يكون تدميرها بأيدي أهلها وشيكًا إذا لم تدركها عناية الله ولم تقم أُمَّتنا المسلمة بدورها شريكًا فاعلًا في تصحيح مسار هذه الحضارة.
وأضاف العلواني، أنه لن تستطيع أُمَّتنا أن تقوم بذلك قبل أن تصحِّح مسيرتها وتعيد بناء عالم أفكارها ودعائم ثقافتها، ومناهج معرفتها، وقواعد علومها؛ بحيث يعاد تشكيل العقل المسلم وتأسيس وعيه بالقرآن المجيد تأسيسًا يجعله قادرًا على أخذ موقعه المطلوب في حماية البشريَّة وحضارته اليوم. ومن هنا فإنَّ معالجة أزمة العلوم الإسلاميَّة تستمد أهميتها من ذلك الذي ذكرنا.
بخصوص العنوان البارز للندوة العلمية، فقد أشار العلواني إلى أن أزمة العلوم الإسلاميَّة تبقى أزمة منهج، وأزمة تنزيل، وأزمة تفعيل، وأزمة تصحيح مسار، وأزمة في الغائيَّة والمقاصد، ولذلك فلن تتمكّن إذا بقيت على حالتها تلك من إعطاء المسلم المعاصر الرؤيَّة المطلوبة لإعادة بناء عقله وتشكيله، ومن باب التفصيل في هذه القضايا، اضطر المتدخل إلى تناول عناوين أساسيَّة لابد من تناولها، ونذكر منها مثلا، الثقافة التي كانت سائدة قبل القرآن والتداول الشفويّ للمعارف، الخطاب ومتلقيه والتفاعل بينهما والفهم ثم التطبيق، التراكم الذي حدث لمعارف المسلمين منذ نزول القرآن المجيد حتى عصر التدوين، نظرة تاريخيَّة على نشأة وتدوين العلوم الإسلاميَّة، نبذة عن العلوم المقاصديَّة والإشكالات المنهجية التي تواجهها، العلوم التي استمدت مسائل العلم منها، من مظاهر الهجر للقرآن المجيد، طبيعة المنهج الإسلاميّ
المنهج في القرآن، المحدّدّات المنهجيَّة القرآنيَّة، أزمات المنهج العلميّ المعاصر، ضرورة المراجعة، أُسس وقواعد المراجعة، مداخل المراجعة، عوائق أمام المراجعة، عدم الربط بين تردي أوضاع الحاضر وكسب الناس، المحافظة على الهويَّة وبراءة الماضي، ضغط التقاليد وحصانة الأشخاص، وأخيرا، الإجماع السكوتي وأخطار مخالفته.
من جهته، توقف المفكر التونسي احميده النيفـر، من جامعة الزيتونة، تونس، في محاضرة جاءت تحت عنوان "المفسر الحديث والوحي"، عند طبائع علاقة المفسّرين المعاصرين بالقرآن الكريم، وطبائع تنوّع تساؤلاتهم الفكريّة وهم يعالجون النص المؤسس للحضارة الإسلامية، وردا على هذا السؤال، اعتبر المتدخل أننا نصطدم بأكثر من مقاربة، فمن جهة، لا يتردّد باحث أزهريّ معاصر، هو الشيخ محمد حسين الذهبي (تـ 1398/1977) المختصّ في علوم القرآن، من التصريح في سياق معالجته للتفاسير الحديثة إذ يقول ": "لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله والكشف عن معانيه ومراميه"، ومقابل هذا نقرأ في مقدمة تفسير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ( تـ 1393/1973) رؤية مغايرة إذ يقول: "والتفاسير كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لا حظ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل"، بما يعتبر مؤشر واضح على أن علم التفسير الذي كان يقال عنه في القرون الثلاثة الهجرية الأولى: إنّه علم من العلوم التي "لا نضجت ولا احترقت" تعبيرا عن قلّة وضوح الغاية من التأليف فيه وعن شدة ارتباطه بعلوم أخرى، يظل بعد مرور القرون وتوالي جهود العلماء في التقعيد له والتصنيف فيه بحاجة إلى مزيد المراجعة والتسديد، مضيفا أننا إزاء إقرار نقدي للتراث التفسيري المدوّن يجمل الاعتراف بالأزمة التي يعرفها علم التفسير والتي تنطلق من ضرورة مراجعة النظر في طبيعة القرآن الكريم من جهة وضرورة الإجابة عن جملة تساؤلات المتداخلة، بعضها معرفي وبعضها منهجي وبعضها موصول بمسألة الإيمان.
بالنسبة للجانب الثاني من الأزمة، فيكمن في وجهها المنهجي، وهو وجه يمكن أن يصاغ في سؤال حسب النيفر: هل غاية مفسّر القرآن الكريم اليوم هي الحفاظ على التراث التفسيري الضامن لـ"وحدة الأمة" المتحققة من خلال قدسية مرجعيتها أم أنّ المقصود هو فهم النص المقدّس فهما حيّا يستوعب التراث التفسيري ويتجاوزه مستفيدا من مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة على معنى أن تلك القدسية تستلزم الإقرار بتعذّر التوصّل إلى فهم نهائي لنص الوحي؟ معتبرا أنه من خلال هذا السؤال ندرك البعد المنهجي في أزمة علم التفسير الحديثة.
جدير بالذكر، أن أشغال ندوة "العلوم الإسلامية.. أزمة منهج أم أزمة تنزيل" تستمر طيلة يوم الأربعاء 14 ربيع الثاني 1431 ه ، الموافق لـ 31 مارس الجاري مع تنظيم أربع جلسات في المواضيع التالية: نحو منهجية لتجديد البارديغمات الكامنة وراء العلوم الإسلامية وقياس مدى قرآنيتها، العلاقة بين العلوم الإسلامية والوحي: الحوار والتفاعل المطلوب وآفاق التجديد، العلوم الإسلامية: من فقه النص إلى فقه التنزيل، وأخيرا: العلوم الإسلامية: سبل تجاوز الإشكالات وآفاق التجديد.