مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

العلم القديم والمدنية الحديثة جورج لســارتون

يضم هذا الكتاب ثلاث محاضرات ألقاها جورج سارتون سنة 1954 واتخذ لها موضوع صلة العلم القديم بالمدنية الحديثة. وقد ألقاها بمونتجومرى في جامعة نبراسكا، بمدينة لنكن في التاسع عشر والحادي والعشرين والثالث والعشرين من ابريل من سنة 1954.

     يعلل الكاتب اختياره لموضوع العلم القديم والمدنية الحديثة، بكون العلم الحديث امتدادا للقديم، وما كان ليوجد لولاه. ويضرب مثالا بأقليدس وفيتاغورس من العلم القديم، ويقول بأنهم مازالوا يعيشون بيننا حتى يومنا هذا، وذلك بتخليد إبداعاتهم الرياضية.

      غير أن ما يهم الكاتب في هذا الصدد هو دراسة البيئة التي عاش فيها العلماء القدامى، فلا يمكن فهم شخصيتهم ولا عبقريتهم دون الرجوع إلى البيئة التي نشأوا فيها، فهم لم يعيشوا في فراغ اجتماعي.

أ – أقليدس وعصره :

     مع فتوحات الإسكندر الأكبر فتح عهد جديد وحدثت طفرة تاريخية عظيمة. فقد ساعدت  تلك الفتوحات على نقل العلوم الإغريقية إلى قلب آسيا بالإضافة إلى استفادة اليونانيين من الثقافة الشرقية في عملية تلاقح أنتجت ما يسمى الهلنستية. ومن بين المدن التي أنشاها الإسكندر وسماها باسمه مدينة “الاسكندرية المصرية”، وقد توفرت لها شروط النهضة العلمية بكامل مقوماتها، فقد كانت تحتوي على متحف يعتبر معهدا للبحث العلمي قبل كل شيء، وقد اشتمل على بيوت لسكنى رجال العلم ومساعديهم وتلاميذهم، وحجرات للاجتماع وأروقة مسقوفة تستخدم للدراسة والمناقشة في الهواء الطلق.

     وقد شهد هذا المتحف كثيرا من الأنشطة العلمية في القرن الأول من وجوده فتزعم البحوث الرياضية كل من أقليدس وإرطسثنيس القورينائي Eratosthenes of cyréné الذي كان أول من قدر حجم الأرض فبلغ قياسه درجة من الدقة تدعو إلى الدهشة. وكان من بين علمائها أيضا أرخميدس Archimedes  وأرسطرخس Aristarchos الذي وضع نظريات بلغ من جرأتها أن أطلق الناس عليه فيما بعد (كوبرنيقوس العالم القديم). ومن بين العلوم التي ازدهرت في الاسكندرية نجد العلوم الفلكية إلى جانب العلوم الرياضية.

     كما كانت الإسكندرية تحتوي على مكتبة ضخمة وربما وصلت محتوياتها إلى 400 ألف لفافة، غير أن المعلومات حول هذه المكتبة لا تتوفر بشكل دقيق. وعموما فلم تكن مكتبة الإسكندرية المكتبة الوحيدة أو الأولى لكنها كانت أعظم مكتبة في العالم القديم، وربما لم تضارعها أي مكتبة إلا في القرن العاشر حين تجمعت مكتبات كثيرة في العالم الإسلامي شرقا في بغداد وغربا في قرطبة كما يقول الكاتب.

    أراد الكاتب قبل الدخول الى تفصيل القول في إنتاج أقليدس تقديم صورة واضحة عن الجو العام الذي كان يحيط به لكي نستطيع معرفة اقليدس جيدا كما ذكرنا في المقدمة أي دراسة البيئة التي نشأ فيها .

     يقول الكاتب إننا للأسف لا نتوفر على معلومات كافية عن ميلاد ولا تاريخ حياته ولا وفاته، ولا نتوفر إلا على تكهنات، وربما تلقى تعليمه بأثينا ودرس الرياضيات بالأكاديمية. ولم يكن أقليدس متصلا رسميا بالمتحف وإلا لما أهمل تدوين مثل هذه الحقيقة، ولكنه كان قد نبغ بالإسكندرية، فلابد إذن أن يكون على اتصال بالمتحف والمكتبة، وربما كان له أيضا بعض التلامذة .

    وقد خلط الناس بينه وبين أقليدس الميغاري أحد تلامذة سقراط لمدة طويلة ولم تصحح هذه المعلومة إلا مع فيديريجو كوماندينو Federgo commandino  في ترجمته اللاتينية التي ظهرت في ببسارو عام1215.

      ويفصل جورج سارتون في مقالات كتاب الأصول، حيت تهتم المقالات من واحد إلى ستة بالتعريفات والمصادرات بالإضافة إلى النظر في المثلثات والمتوازيات والأشكال المتوازية الأضلاع، واهتمت الثانية بالجبر الهندسي، والثالثة  بالهندسة الدائرة، والرابعة بالأشكال المنتظمة الكثيرة الأضلاع….الخ .

        يقول الكاتب إننا ونحن بصدد الحديث عن كتاب الأصول يجب أن لا نرتكب واحدا من خطأين متضادين تكرر الوقوع فيهما كثيرا: الأول أن نتكلم عن أقليدس كأنه مؤسس الهندسة أو الذي صدرت عنه، والثاني أن نقول إنه مجرد جامع لمعارف متوفرة في عصره فقط. فلو اعتبرنا جهود المصريين والبابليين تبين لنا أن كتاب أقليدس كان الثمرة التي تمخضت عنها حقبة تزيد على الألف عام، ويحسب لأقليدس أنه كان أول من جمع كل تلك المعارف ورتبها بشكل منطقي، بالإضافة إلى أن أبقراط الخيوسي hypocrites of Chios (ق 5 ق.م) قد سبق أقليدس  في هذا المضمار، ويقول الكاتب مجملا القول: إن أقليدس لم يكن مجددا إلا في النادر، سواء فيما اتصل بقضايا الكتاب الجزئية أو بنظام تألفيه. لكن يجب الاعتراف لأقليدس أنه رتب مكتشفات الآخرين ترتيبا أفضل مما وضعت فيه، فلقد بنى صرحا يضاهي البارثيون في روعة التناسق والبهاء والوضوح، ولكنه يفوقه تعقيدا وبقاء.

وقد حاول مجموعة من الرياضيين النجاح فيما فشل فيه أقليدس، مثل محاولة بطليموس ( ق1-2) وبرقلس(ق5-2) والتي استأنفها بعض العلماء المسلمين، كالطوسي ( ق 14-1) كما أسهم فيها يهودي هو لفي بن جرسون….الخ. ومن بين المصادرات التي اهتم بها الرياضيون وبلبلتهم المصادرة الخامسة.

ويذكر الكاتب ابتكار الهندسة اللا-أقليدية على يد ساكيرى ولامبرت وجاوس، ونيكولاي أفانوفتش لوباتشيفسكي الذي كان أول من أقام صرح هندسة جديدة على مصادرة مضادة لمصادرة أقليدس، إذ افترض أن النقطة الواحدة يمكن أن يمر بها أكثر من خط مستقيم واحد يوازي كل منها خطا مستقيما معلوما، أو أن مجموع زوايا المثلث يساوي أقل من قائمتين.

يقول سارتون إن دراسة المسلمين لكتاب (الأصول) ابتدأت بالكندي (ق 9)، إن لم يكن قبل ذلك. وتبعه محمد بن موسى (ق9-1)، وكان الحجاج بن يوسف (بن مطر) (ق9) أول من ترجم كتاب الأصول إلى العربية، ترجمه لهارون الرشيد، ثم راجعه للمأمون. ويستطرد الكاتب في بيان اهتمام العلماء العرب باقليدس وبكتابه وشروحهم له .

ب ــ بطليموس وعصره :

العالم الثاني الذي يفرد له مؤرخ العلم سارتون ترجمة لأعماله ولعصره هو العالم بطليموس. وقد عاش بطليموس في عالم كان رومانيا بمقومات لا تزال إغريقية في أكثرها، بالإضافة إلى أن اللغة اليونانية كانت هدف كل روماني يتطلع إلى دراسة الأمور العقلية.

ألف بطليموس كتابين رئيسين هما المجسطي والجغرافيا، ظلا المرجعين المعتمدين في ميدانيهما على مدى أربعة عشر قرنا على الأقل، وبالنسبة  لكتاب المجسطي فمعناه في الأصل المجموع الرياضي وهو مؤلف في علم الفلك- والذي كان فرعا من فروع الرياضيات آنذاك- وقد كان علم الفلك عند بطليموس كما هو عند أبرخس، مبنيا على الأرصاد، سواء  ما قام به هو نفسه أو ما ورثه عن اسلافه من الإغريق والبابليين.

ويقول سارتون بصدد حديثه عن اللآلات “وينبغي أن نذكر أن تتبع تاريخ الآلات هو من أفضل الطرق لفهم التقدم العلمي، ولكنه مفعم بالصعاب، فالآلة الواحدة تمر بأطوار متدرجة، ولا يخترعها إنسان واحد، في وقت واحد تظل بعده على حالها مدى الزمن. ولكن الوظيفة الرئيسية لهذه الآلات في نظرهما لم تكن قائمة في تسجيل الأرصاد، بل كان الغرض منها هو الوصول الى التفسير للوقائع التي تكشف عنها الأرصاد وربط هذه الوقائع في مركب واحد”.

وبالعودة إلى كتاب المجسطي فهو مقسم إلى ثلاث عشرة مقالة. يبرهن فيه على كروية الأرض ويصادر على كروية السماء ودورانها حول الأرض الساكنة في الوسط، وقد اتبع بطليموس المنهج الرياضي كمنهج رئيسي. كما يفصل سارتون في مواضيع وإشكالات كتاب المجسطي ويذكر حساباته الفلكية .

ويقول الكاتب إن براعة المنهج في كتاب المجسطي هي السبب في تفوق النظام البطلمي حتى القرن السادس عشر، وذلك بالرغم مما وجه إليه من نقد كثير كان يزداد حدة كلما زادت الأرصاد عددا ودقة. مع العلم أن أرسطرخس ذهب إلى أن الشمس في وسط الكون، كما أشار ابللونيوس إلى أن المدارات إهليليجية، لكن الفلك البطلمي هو الذي سيطر لقرون طوال. وأرجع سارتون ذلك إلى عوامل البيئة الاجتماعية آنذاك. ويختم بقوله “وباختصار فقد كان “المجسطي” حاويا كل المعارف القائمة حوالي سنة 150 بعد الميلاد، ولم تكن تلك المعارف مختلفة في جوهرها عما كان قائما سنة 150 قبل الميلاد. ومن المستحيل علينا أن نناقش تفصيلها دون ان يؤدي بنا ذلك الى مناقشة علم الفلك القديم برمته”.

بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى الكتاب الثاني لبطليموس وهو كتاب الجغرافياGeographic hypégésis  . هذا الكتاب كان له حظ كبير مثل ما كان لكتاب المجسطي، وقدر له الإنتشار والصمود طويلا، فقد كان إنجيل الجغرافيا على حد تعبير الكاتب. وقد قسمه بطليموس إلى ثماني مقالات تختص كلها بالنظر في الجغرافيا الرياضية وكل ما يحتاج إلى معرفته لرسم الخرائط الدقيقة. وقد ضمنه إبداعه الخاص بالإضافة إلى ما توصل إليه الجغرافيون السابقون عليه وأنتج كتابا جامعا في الجغرافيا.

ويفصل سارتون في أهم المواضيع التي تعرض لها بطليموس في الكتاب، خصوصا طريقة رسم الخرائط وكذا مقدار الأرض والمعمور …إلخ.

بعد ذلك ينتقل إلى الحديث عن بصريات بطليموس والذي تناول فيه تفسير الإبصار بطريقة فزيولوجية ودرس المرايا والانكسار. ويقول الكاتب إنه لم يتم معالجة مسألة الانكسار الضوئي  إلا مع ابن الهيثم  في النصف الأول من القرن الحادي عشر، ولم تتحقق القياسات الدقيقة الأولى إلا على يد طيخو براهي Taycho brahe  وكبلر Kepler .

ومن الكتب الأخرى المنسوبة إلى بطليموس كتاب الأربعة، وهو كتاب في التنجيم وقد شكك الباحثون في نسبته لبطليموس، فكيف لمن ألف كتابا علميا كالمجسطي أن يؤلف كتابا مشحونا بالفروض البعيدة عن المعقول ككتاب الأربعة. ويقول الكاتب إن التنجيم كان الديانة العلمية في عصر بطليموس، وهذا ما ينساه أغلب العلماء، وأنه من الممكن التماس العذر للتنجيم في البيئة الهلينيستية والرومانية التي اعتراها الاضطراب الاجتماعي والروحي.

يقول بطليموس في مقدمة كتاب الأربعة “إن المجسطي كتاب ينظر في أمور تقبل البرهان، في حين أن كتابه الجديد يتصل بأمور صعبة المنال تحتمل الظن، ولكنها جديرة بالنظر”.

ثم يتحدث الكاتب عن تراث المجسطي عند العرب فيقول: “ويدل على أهمية التراث العربي كلمة المجسطي التي تندمج فيها أداة التعريف العربية مع الصفة اليونانية مجسطي Megisté  وقد عرف الرياضيون العرب كتاب المجسطي منذ وقت متقدم جدا، فقد ترجمه باحث مجهول بإلحاح من الوزير النابه يحيى بن خالد البرمكي الذي عاش من سنة 738 إلى سنة 805، وترجمه مرة ثانية عن السريانية الحجاج بن يوسف (ق9)، وترجمه للمرة الثالثة ثابت بن قرة ( ق9). وفيما بعد أقبل على تحرير الكتاب رياضيون لامعون منهم أبو الوفاء والطوسي…” لكن سرعان ما انتقد الفلكيون العرب أفكار بطليموس. فكلما ازدادت الأرصاد الفلكية كثرة ودقة، زاد مقدار الصعوبة في التوفيق بينها وبين النظريات. وقد كتب جابر ابن أفلح (ق12) كتابا عن ذلك بعنوان “إصلاح المجسطي”.

ويقول الكاتب إن تاريخ الفلك في العصر الوسيط هو تاريخ الأفكار البطلمية، رغم ما أثارته من الاعتراضات التي زادت شيئا فشيئا مع مرور الزمن والتقدم العلمي.

وبالإضافة إلى المجسطي كان كتاب الأربعة من أول الكتب اليونانية التي ترجمت إلى العربية بترجمة أبي يحيى البطريق في عهد المنصور، ثاني خلفاء العباسين ومؤسس مدينة بغداد. وترجمه مرة أخرى حنين ابن إسحاق.

ج – نهاية العلم القديم والحضارة القديمة: (من حوالي سنة300  الى سنة 529)

يتحدث سارتون في هذا الفصل عن حال العلم والحضارة في العالم القديم، وفي جزئية منه يتحدث عن المحيط الفلسفي والديني، ويشير في المستهل إلى أن أغلب العلماء الذين ذكرهم كانوا في الغالب وثنيين رغم مرور ثلاثة أو أربعة قرون على التبشير المسيحي، ويفسر ذلك بأن التعليم الفلسفي ظل وثنيا في جوهره ومحصورا في الأفلاطونية الجديدة، ومخلوطا بضروب متعددة من المذاهب الصوفية. ولم تكن المسيحية قد تقوت في ذلك الوقت إلا عندما ارتقى قسطنطين الابن عرش القيصرية سنة 306، وهو أول إمبراطور آزر المسيحية واعترف بها رسميا.

ويقول الكاتب إنه رغم أن الإمبراطورية قد اتخذت المسيحية دينا بعد سنة 313 بقليل، فقد ظلت المدارس الوثنية قائمة، وبخاصة الأكاديمية في أثينا والمتحف في الإسكندرية، وقد كانت  للمسيحية مدارس خاصة بها لكن لا يمكن مقارنتها بنفوذ المدارس الوثنية.

ويتحدث عن مدرسة الرها الطبية التي كانت قاطرة أو طريقا لانتقال العلم من الإسكندرية إلى بغداد، فيقول:

 “ولد العلم اليوناني في آسيا الصغرى ثم انتعش في بلاد اليونان الحقة وبخاصة في أثينا، ثم في الإسكندرية، ثم عاد إلى آسيا فازدهر في برجامون والقسنطينية والرها وبغداد.

لقد طرد العلماء اليونانيون من العالم اليوناني فكان ذلك مساعدا على نشوء العلم العربي. وبعد ذلك ترجمت الكتب العربية الى اللاتينية والعبرية واللغات الأوروبية الحديثة. وقد اتخذ العلم اليوناني، أو معظمه على الأقل في وصوله الينا ذلك الطريق الدائر الطويل. فلا ينبغي الاعتراف بفضل المبتكرين وحدهم، بل ينبغي كذلك أن نعترف بفضل أولئك الذين عملوا بما اوتوا من شجاعة وعناد على نقل التراث القديم إلينا، وبذلك صرنا إلى ما نحن عليه الآن”.

هكذا يختم مؤرخ العلم جورج سارتون سفره في العلم القديم بوصفه الرحلة التي سلكها العلم القديم إلى الحضارة الغربية، فقد كانت غايته من هذه المحاضرة بيان تأثير البيئة والوسط الاجتماعي في العلم والعلماء وبيان مساهمة جل الحضارات فيما وصل اليه العلم الحديث من تقدم وازدهار.

قراءة : مراد لمخنتر

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق