وحدة الإحياءأعلام

العلامة المغربي عبد الله كنون أديبا مجددا

مع أن عبيد ربه تعالى ممن يتهيبون الكتابة عن الأئمة المجددين الكبار، ذلك بأنه لا يكتب عن الأئمة إلا إمام كما قال الغزالي رحمه الله تعالى.

فإنه لا مناص من الكتابة عن علم من أعلام المغرب الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة الحق والعدل والخير والإبداع والحرية والصلاح. ذلك بأن له أيادي أَيْدَةً بيضاء على الثقافة والعلم والأدب، مما يتجلى من خلال مكتوباته الثرة والغنية التي سنقف عندها وقفات تفصح فيها عن دررها الغالية ومكنوناتها السخية.

وقد تناول هذا البحث محورين رئيسين استخلاصا من الكتب الخاصة بالفكر، والكتب التي اهتمت للأدب واللغة وهي الغالبة عليه، وإن كانت كلها تصب في مصب واحد هو خدمة العلم والأدب والفن الجميل، إن من خلال الأفكار والمعتقدات أو من خَلَلِ اللغة التي تعتبر سر الإسلام وروحه وجوهره، على اعتبار أن القرآن الكريم عربي لا يمكن أن يفقه حق الفقه دون التمكن من اللغة العربية، بل كلما رسخت قدم المرء وأوغل في العلم، ازدادت مقدرته على فهم جمالية الإسلام وحقيقته الصافية النقية. ذلك بأن اللغة العربية هي لب الجمال ووسطه ونبضه وأوجه.

حتى إذا تحدثنا بلغة القواعد والأصول فإن القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع والقياس وقول الصحابي الجليل وشرع من قبلنا، ومثلها معها، كل ذلك عربي بلسان عربي. فاللغة إذاً هي المركز والمفصل في الفقه وأصوله والفكر وعلومه وتكامله وشموله والآداب وحقولها المتعددة. من هنا كان تميز الأستاذ، رحمه الله تعالى، إذ أمسك بعنان العربية أيما إمساك. وقد ترك مكتبة دسمة تومئ إلى كونه محققا ومفسرا وأديبا منظرا وشاعرا مُجيدا مجددا.

ثم بعد ذلك، كان لابد أن نبصر بنظرتين لعلمين فذين من طينته وهما عباس محمود العقاد وشكيب أرسلان، وكلمة للأستاذ أبي بكر القادري، حتى يتضح جليا أن إنصاف الأقران فوق شطحات غيرهم الذين أحسن الشاعر حين قال في حقهم حين يرسلون الكلام على عواهنه، بيد أنهم يواجهون بما قال الشاعر:

        لاَ تَقُـلْ عَنْ عَـمَـلٍ ذَا هَـيِّـنٌ             جِئْ بِأَوْفَى مِنْهُ قُلْ ذَا أَكْمَـلُ

        إِن يَغِبْ عَنْ عَيْنِ سَارٍ قَمَـــرٌ               فَـحَرَامُ أَنْ يُلاَمَ الْـمِـشْعَلُ

هنالك كانت الإشارة إلى الكتاب القيم والنفيس الموسوم بـ”أدب الفقهاء”، واستيحاء العتبة منه في مكتوب سابق بعنوان: “فقيه الأدباء وأديب الفقهاء” لأهميته ومحوريته. ولقد أعجبني فيه إنصاف أدب الفقهاء المغموز بالضعف، فكان الأديب الأري، رحمه الله تعالى، محاميا رائدا وخصيما[1] مقتدرا دافع عن أهل العلم والفقه الذين كانوا مشاركين في شتى الميادين بما في ذلك المجال الشعري والأدبي. والجميل في ذلك أنه واحد منهم، وهو السر في إفساحنا المجال له، رحمه الله تعالى، ليرد بنفسه بطريقة فنية على بعض منتقديه ممن لم ترسخ قدمهم في النقد فوسموا شعره بالضعف دون تدخل منا إلا قليلا في الجانب التطبيقي.

وأحب أن أشير هنا إلى همة المؤلفين الحقيقيين الذين لا يكتبون من أجل الكتابة، وإنما يختصرون مطولا أو يوضحون غامضا أو ينتجون جديدا وإبداعا واجتهادا، فيركبون مراكب من الصعوبة بمكان، إلا أنهم لا شك يغدون سالمين ويرجعون غانمين الدرر النفيسة والكنوز العظيمة والأعلاق والذخائر الفريدة.

ولا تسل عن قوة العارضة ورصانة الأسلوب ومتانة اللغة التي تنبي في مجموعها، بضمنها سمات أخر، عن علو كعب العلامة كنون، بله الحجج البالغة التي يسوق في تفنيد حجج المحاور بالتي هي أحسن في أغلب الأحوال، وهو الأمر الذي يميزه عن كثير من أترابه الذين علت أصواتهم بالنقد الجريء المعجون باللاذع من القول. وقد ضرب مثلا في الأدب والإنصاف. وتلك ميزة قل من يسلم لها أو تسلم له.

وقد دأبنا على اتباع خطة التسلسل المستمدة من الجبهات المتعددة التي ناضل من خلالها في مجموعة من المباحث. وذلك حالة كونه مثقفا ومقاوما وعالما سياسيا ومسيرا وداعية ومصلحا وناقدا المذاهب الدخيلة، مشخصا واصفا، فضلا عن عشقه العلم وأهله مما جعله يقف كتبه، وهي أغلى ما يملك، في سبيل الله تعالى، لا يريد جزاء من أحد ولا شكورا؛ فكان أن جاءت محاور هذه الورقة مرصوفة هكذا:

التعريف بالعلامة عبد الله كنون

إنه علم مغربي من أعلام العربية والإسلام، جاهد في واجهات متعددة ثقافية وسياسية من أجل هوية المغرب الإسلامية، امتدت شهرته إلى المشرق، ووصل صيته أوروبا. وهو يمثل واحدا من رجال الحركة الإصلاحية بالمغرب الحديث دعوة وتعليما وجهادا ممن جعلوا الإصلاح وتأصيل العقيدة في القلوب جزءا من رسالتهم في الحياة. وقد جعل بيته مدرسة وخزانته منبعا لطلاب العلم بأن أوقفها عليهم.

في هذه الورقة نقف على محطات من فكره حتى تستلهم الأجيال إسهامات العلماء الأدباء في النضال على جميع الميادين والجبهات.

نشأته

ولد بمدينة فاس عام 1326ﻫ وَفْقَ 1908م، وهي السنة التي عرفت ولادة بعض أصدقائه من المقاومين أمثال: علال الفاسي وعبد الخالق الطريس، ثم انتقل وأسرته إلى طنجة للاستقرار فيها إبان الحماية، هنالك حيث تعلم وتفتحت مواهبه، وأدمن الكتابة في النثر والشعر وهو في سن مبكرة. وبعد إتمام دراسته بجامعة القرويين العريقة، عاد إلى طنجة ليعمل في حقل التعليم، فأسس بها أول مدرسة مغربية حرة، تخرج منها كثير من أهالي طنجة. كما عمل في الحركة الوطنية، وناضل بقلمه في العديد من الصحف والمجلات العربية.

وقد تقلب في كثير من الوظائف المهمة منها توليه لوزارة العدل بتطوان سنة 1954م، وإدارة معهد مولاي الحسن بالمدينة نفسها، ثم عين بعد الاستقلال على رأس العمالة بمدينة طنجة، فكان بذلك أول عامل يتولى هذا المنصب في إقليم طنجة، كما أسندت إليه بعد ذلك رئاسة المجلس العلمي بالمدينة نفسها، والأمانة العامة لرابطة علماء المغرب، إلى جانب عضويته في الأكاديمية المغربية، بل في جميع أكاديميات البلدان العربية.

وكان من كبار علماء المغرب، ألف العديد من الكتب في مختلِف العلوم، وبالأخص في العلوم الدينية والأدبية والسياسية.

وتوفي، رحمه الله تعالى، في يوليوز1989م قبل أن يتسلم وسام الاستحقاق الثقافي.

في المجال العلمي والتسيير

وقد أولى المقاوم عبد الله كنون أهمية خاصة للتعليم الحر، ذلك أن اللغة العربية عنده تعتبر في أولى الدرجات من سلم أولويات هذه المؤسسات التعليمية بما تُيسر من بث القيم الوطنية. من أجل ذلك سعى إلى تأسيس مدرسة حرة سنة 1936م اعتبرها بن جلون مدرسة ”الوطنيين”. وبعد ذلك أنشأ معهدا دينيا ترأسه مدة طويلة، وعند عودة عبد الخالق الطريس من دراسته الجامعية سيِؤسس رفقة عبد الله كنون ومحمد داود ”اتحاد كتاب المغرب”.

 وبعد ذلك، وارتباطا بالإيمان بجدوى العمل المؤسسي، سيشغل عبد الله كنون منصب مدير لمعهد الأبحاث بتطوان من سنة 1953م حتى بداية 1955م. وفي هذه المرحلة سيفضل الانخراط في مسؤولية إدارة الشأن العام في المنطقة الخليفية، بقبوله التعيين وزيرا للعدل الذي عرض عليه في 14 يناير 1955م بعدما رفض التعليمات العمومية في بداية سنة 1940م خوفا من أن يحسب على الفكر الفرنكاوي[2]، في حين سيكلف عبد الخالق الطريس بالرعاية الاجتماعية، ويوضح عبد المجيد بن جلون قبول عبد الله كنون بهذه الحقيبة الوزارية ليس باعتبارها وساما، ولكن بما أنها مسؤولية ورسالة للسير بالأمور نحو الأحسن، وستمكنه فعلا هاتيك الحقيبة من إنجاء المقاوم خالد الريسوني من التهم الملفقة إليه، وستمنحه القدرة على مد المقاومين بالعتاد الحربي والمبالغ المالية لدعم المقاومة وتبليغ الرسائل بين المقاومين بالداخل والخارج.

كان العلامة عبد الله كنون، رحمه الله تعالى، يملك خزانة ضخمة، تضم آلاف المجلدات في شتى العلوم، ومئات المخطوطات النادرة، وكان يدرك أهمية العلم والبحث العلمي، حيث كان دائما يعمل على نشر التعليم بين الناس، ويشجع على القراءة والاستفادة، لذلك أهدى قبل مماته مكتبته كلها إلى مدينة طنجة، وأمر بوقفها وجعلها حبسا على مثقفيها وطلابها، ومن خلالهم على الباحثين جميعا.

وتضم المكتبة أكثر من 14000 مطبوع، منها 2600 من الجرائد والمجلات، و1200 من المخطوطات، وحوالي 10200 من الكتب المطبوعة.

 لا يُذكر عبد الله كنون إلا ويستحضر السامع شخصية مفكر وضع قضية اللغة العربية والأدب المغربي قضية حياة، ويقف كتابه المشهور ”النبوغ المغربي”[3] شاهدا على نبوغ الرجل، ومعبرا عن المدى العميق الذي بلغه اطلاعا وعلو كعب في شتى العلوم والفنون. ويعتبر الكتاب إلى جانب صنوه “في الأدب المغربي الحديث” بحق من أفضل المصادر والمراجع في موضوع الأدب المغربي القديم والحديث.

ومن مؤلفاته أيضا: التعاشيب، وأدب الفقهاء، وواحة الفكر، وعصف الريحان، وخل وبقل، ومفاهيم إسلامية، والإسلام هو الأهدى، وأحاديث عن الأدب المغربي الحديث، وعلى درب الإسلام.

ومن قصصه قصة تاريخية بعنوان ”حارس الكنيسة”، ومن دواوينه الشعرية: ”لوحات شعرية” بالإضافة إلى عدة دراسات وبحوث عن الأدب الأندلسي في المجلات  المغربية والعالمية.

يؤكد البحاثة المغربي محمد المنوني، رحمه الله تعالى، في مقال له بعنوان: ”عبد الله كنون أديبا ناقدا ومؤرخا ومحققا المخطوطات وناشرا” في مجلة النيابة العدد 25 لسنة” 1990م أن أول ميزة يتحلى بها الفقيد الكبير الشأن تبدو بارزة في مقدرته الكتابية، حيث ينتقي تعابيره عربية صحيحة فصيحة، ويهذبها من كل دخيل قديم أو محدث، ثم يصوغها في أسلوب رفيع ومساق بديع، يذكر بما يعرف ”بالسهل الممتنع” فجاءت طريقته هذه تضفي على إنتاجه مزيدا من الرونق والبهجة، واستوت في ذلك مؤلفاته ومقالاته ورسائله الأدبية وأجوبته الإخوانية (…) فالمنوه به ناقد أدبي من طراز كبار الناقدين”. وبعدما أورد المنوني الكتب التي حققها الفقيد عبد الله كنون أو أشرف على نشرها، استعير قصة ابن رشد مع كتبه عند موته، دارت تفاصيلها بين محيي الدين بن عربي وابن جبير؛ يدل عليها البيت الشعري:

هَذَا الْإِمَامُ وَهَذِهِ أَعْـمَـالُـهُ            يَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَتَتْ آمَالُهُ؟

فهل يقال نظيرها في فقيدنا اعتبارا بمجموع تراثه[4]؟

النهضة الحديثة عند عبد الله كنون

لما كثر الجدال حول القديم والحديث شمر عبد الله كنون، رحمة الله تعالى، عليه عن ساعد الجد ليتصدى بالدرس لهذه القضية. وهذا يعني أن المغرب سار في الطريق العام للنهضة الحديثة التي كانت تغزو بلاد العرب الواحدة تلو الأخرى، ولا يعني مطلقا أي مفهوم تقليدي، كما يحلو لبعض الكتاب أن يجرح النهضة في هذا الشعب أو ذاك من الشعوب العربية، فيجعلها تقليدا محضا لما سبق أن قام في أحدها من الدعوات والاتجاهات، ذلك أن هذه الانتفاضة التي نعبر عنها بالنهضة العربية كانت منبعثة من أسباب وعوامل متشابهة في كل بلد عربي، وكانت انطلاقة للقوى الفكرية والعملية المذخورة في نفس الفرد العربي المسلم أينما وجد، وبالضرورة لا تتفجر العناصر في آن واحد، فذلك تيار النهضة كان يدفع الشعوب العربية بعضها قبل بعض ولكن في اتجاه واحد (…) كذلك كان لأدب المهجر والمهجريين حديث صداه في مصر وتونس والمغرب، ولأدب العقاد وطه رواده في سوريا ولبنان، ولا تقليد في القديم ولا في الحديث، ولكنه تجاوب وتداع وتأثير متبادل[5].

وكان عبد الله كنون في درسه للحيوات الأدبية دائم الإلحاح على نبوغ الشعر المغربي وغيره من الأجناس وتجانفها لهيمنة مذهبية، ما عدا بعض نصوص الموحدين، وعملها على بلورة طريقة شعرية خاصة بالقصيدة المغربية وخالصة من شوائب خارجية عن صميم العملية الأدبية[6].

ويقدم نص شعري له هذا الولع بالإجادة في صناعتين[7]:

نَبَغْتُ فَـنِلْتُ مَكَانَتَهَا          وَلَيْسَ النُّبُوغُ بِمُسْتَصْعَبِ

   وَقَدْ صِرْتُ مَا بَيْنَهَا فَاخِراً           بِتَشْـوِيهِيَ الْأَدَبَ الْعَـرَبِـي

وَسُمِّيتُ بِالشَّاعِرِ الْأَكْتَبِ                وَمَا أَنَا بِالشَّـاعِـرِ الْأَكْـتَبِ.

ليس بدعا أن نعتبر القصيدة التي اجتزئ منها النص إرهاصا بالتحول الذي طرأ على الشعر المغربي في أواخر العقد الثالث من القرن الماضي، وجسرا نقله من خطابية ذات تهدجات شعرية إلى نمط من الكتابة الشعرية. وقد مهد له الخريجون الذين زاوجوا بين دراسة تراثية وأخرى عصرية، وتعرفوا تعرفا عميقا إلى نتاجات أدبية مصرية وعراقية على السواء، وتفاعلوا معها واختبروا التراث الأدبي المغربي، سواء في مصادره التي بدأت تحقق وتنشر، أم في المراجع التي استوفته فحصا وتمحيصا، أم من خلال الأبحاث التي نشرتها المجلات، أم عبر المقالات التي دبجتها أقلام كتاب في الجرائد، وأنسوا روح الجديد في مقارعات النقاد ولذعاتهم ومساجلات الشعراء وردودهم.

وليس بدعا أن تكون إدانة صارخة لواقع أدبي من قبل شاعر شاب يعيش مخاض الكتابة، ويبحث هل (عندنا أدب مغربي؟) ينسجم والتصور الذي يحمله كنون.

وعودة إلى فقهية الأدب المغربي، أين نضع عبد الله كنون، وهو من أسرة ذات قدم راسخة في (العلوم العوالي). وقد هيأه أبوه ليكون محدثا؟ كيف نفهم هذا التمرد الذي يعلنه، في قصيدته ضدا على الجاهز والمتداول؟ وما درجات التحول التي تقدمها أبياته الثلاثة[8]؟

عبد الله كنون في نظر صاحب العبقريات

كتبت مقالا عن الأدب في المغرب الأقصى، يقول الأديب المرموق عباس محمود العقاد في الأدب المغربي، استشهدت فيه بقصيدة للسلطان عبد الحفيظ في رثاء كلبه، وكان مرجعي في روايتها رسالة “أمراؤنا الشعراء” للعالم الفاضل الأستاذ عبد الله كنون مدير المعهد الديني بطنجة، وهي المرجع الوحيد الذي وردت فيه تلك القصيدة السلطانية، بل تلك القصيدة الإنسانية؛ لأنها نمت على شعور إنساني رفيع في ناظمها الرفيع بمكانه ووجدانه، وكان استشهادي بها توفيقا حسنا يسر لي مزيدا من الاطلاع على أدب المغرب الأقصى في العصر الحاضر؛ لأن العلامة المؤلف تفضل حين اطلع على مقالي فأهدى إلي طائفة من كتبه القيمة ورسائله الشائقة، منها ذكريات مشاهير رجال المغرب في إحدى عشر رسالة، والنبوغ المغربي في مجلدين، والمنتخب من شعر ابن زاكور، ومجموعة من المقالات باسم واحة الفكر ومجموعة أخرى باسم التعاشيب، وهذه بعض آثار مؤلفها الفاضل في الأدب والنقد والتاريخ.

قرأت طرفا من هذه الكتب وتصفحت طرفا آخر، ولا حاجة بي إلى دلائل غيرها للجزم بأن المغرب الأقصى في نهضة مباركة، وأن الكتابة فيه قد نشطت من عقال الجمود، واستقامت على الجادة السوية في خطوات تتقدم به، ولا تزال مبشرة باطراد التقدم، وأهم ما في طريق النهضات أن يكون سويا قويما بعيدا عن الشطط والانحراف. أما ما عدا ذلك من طول أو قصر في الطريق، ومن سرعة أو مهل في السير عليه، فدون ذلك من الأهمية، ولاسيما عند ابتداء التحول من التقليد إلى التجديد.

وآية الاستواء في طريق النهضة المغربية أنها تعتدل بين إيثار اللفظ واللغة وبين إيثار المعنى والابتداع، ففي مقال من مقالات واحة الفكر يتحدث الأستاذ عن عيوب الشعر بالمغرب فيقول: “وللشعر في بلاد المغرب عيبان: عيب في المعنى وعيب في اللفظ، فأما عيبه المعنوي فهو ما قصر الشعراء الشيوخ أنفسهم عليه من موضوعات مستكرهة لم يبق لها مساغ في أذواق الناس اليوم كالمدح والرثاء وما إلى ذلك، وخاصة إذا كان فيمن لا يستحق مدحا ولا رثاء وهو الغالب (…) وأما عيبه اللفظي فهو ما يحاول الشعراء الشبان اقتحامه من مواضيع الشعر الحقيقية، ولكن لفظهم يقصر عن بلوغ ما يريدون، وكثير منهم يقصر لفظه ومعناه عن ذلك”.

فهذا الميزان المعتدل بين التقليد والتجديد ضروري في مبتدأ كل نهضة، وهو الكفيل بالموازنة بين النكسة إلى الوراء والاندفاع إلى الأمام، ومن شواهد الشعر التي تناولها المؤلف بالنقد يبدو لنا أن الأمل في توخي هذا الاعتدال قريب الإنجاز.

ومن دواعي الطمأنينة على النهضة المغربية أن أقطابها لا يلقون بالا إلى صيحة الإفرنج والمتفرنجين الذين جعلوا ديدنهم دعوة العرب إلى تغليب اللغة العامية على اللغة الفصحى في الكتابة الأدبية، وقد أحسن المؤلف الرد على واحد من هؤلاء زعم أن المراكشيين أولى من سائر الأمم العربية بتغليب العامية؛ لأن الفارق بين عاميتهم وبين الفصحى أبعد من الفارق بينهما في الأقطار الشرقية، ولأن اللغة الفصحى بمعزل عن المرأة فهي أدب ميت لا رجاء في تمثيله للحياة الطبيعية. وقد قال المؤلف ردا على هذا الداعية بعد أن أورد ألفاظا كثيرة من ألفاظ المعجمات شائعة على ألسنة العامة المراكشيين: “أما المغرب فقد سلم من ذلك التسلط الأعجمي، يعني الحكم التركي، وبقي محتفظا بصبغته العربية، وزاده قربه من الأندلس وحلول مهاجرة الفردوس المفقود به استغرابا وشدة تمكن من العربية، حتى لقد غبر عليه عهد كان وحده حامل راية العروبة لا ينازعه فيها منازع، وقد عبر عن ذلك العلامة محمد بيرم صاحب كتاب صفوة الاعتبار بهذه العبارة البليغة التي هي دليل قاطع على هذا الموضع: لعمري إن صناعة الإنشاء في الدول باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش”.

على أننا نرى الأستاذ المؤلف قد أعار ذلك اللغط الذي لغط به داعية العامية عن الأدب الحي والأدب الميت وعلاقة المرأة بهما تقديرا أكبر من قيمته، فظنه كلاما يؤخذ به في تعليل حياة الآداب، وهو أبعد ما يكون عن صحة التعليل، فالأستاذ كنون يقول في الرد على كلامه هذا: “أما أن الأدب المغربي بعيد عن الحياة الصادقة بسبب بعد المرأة عن المجتمع فتلك مسألة أخرى ولا خصوصية للمغرب بها، بل هي عامة في سائر البلاد الإسلامية، ومع ذلك فإن تباشير النهضة الأدبية الجديدة تحمل على حسن الظن بالمستقبل ولاسيما عند الأخذ بطبع المرأة وتعليمها كي تمكنها المشاركة والتعاون في بناء ذلك الصرح الممرد”.

إن رد الأستاذ هنا رد من آمن برأي صاحبنا ومن على شاكلته من أصحاب الجعجعة الفارغة في أمثال هذه التعليلات، ولا ندري كيف يذهب ناقد أوربي إلى مثل هذا الرأي وأمامه تواريخ الآداب الحية في كل أمة قديمة من أمم الأوروبيين، ودع عنك الشرقيين الذين يجهلهم الإفرنج ويجهلون تواريخ الآداب في بلادهم. فلا حياة أقوى من حياة الأدب اليوناني القديم وقد اشتهر اليونان الأقدمون بإقصاء المرأة عن المجتمع وعزلها في البيوت، ولا حياة أقوى من حياة الأدب الإنجليزي في عهد شكسبير وقد كانوا يبحثون عن فتيات يمثلن أدوار النساء فلا يجدونهن ويلجؤون آخر الأمر إلى إخراج الشبان بأزياء النساء، ولا حياة أقوى من حياة الآداب القديمة في الأمم كافة، ولم يكن للمرأة في مجتمعاتها شأن معدود، ونحسب أن الأستاذ كنون يرى مثلنا أن الأمم العربية تغبط نفسها في عصرنا إذا أبرزت أمثال الشريف الرضي وهم عنوان الحياة في آدابنا العربية، فلا ينخدعن أحد بتلك الجعجعة التي يلهج بها أدعياء الأوروبيين وهم يجهلون حقيقتها أو يتجاهلونها ولا يكلفون أنفسهم في الحالتين أن يقنعوا الشرقيين بكلام تساق له الشواهد الصادقة من الآداب الأوروبية قبل غيرها، فربما كان العكس أدق من ذلك الرأي المردود عند الكلام على أسباب ارتقاء الآداب والفنون، فاشتراك المرأة في مشاهدة التمثيل والصور المتحركة وسماع الأغاني لم يكن من أسباب ارتقائها بل كان من أسباب النزول بها بيننا نحن الشرقيين وبين غيرنا من الأمم الحديثة، وإن تقرير هذه الحقيقة لمن واجب الناقد الذي يتحرى عوامل التأثير في كل أدب ويأخذ السبيل على خدائع الآراء التي نتلقاها أحيانا من جانب الغرب بالثقة والقبول.

وفي كتب الأستاذ كنون أكثر من علامة واحدة من علامات الطمأنينة والأمل، ففيها أدلة كثيرة على اتصال النهضة المغربية حيث ينبغي أن تتصل بالماضي وبالحاضر: فيها عناية بإحياء الذكريات الماضية والأعلام المنسية، وفيها عناية بمتابعة النهضات العربية الحاضرة في البلاد الأخرى ولاسيما المصرية. وقد نقد الأستاذ كنون كتبا مختلفة للأدباء المصريين نذكر منها على سبيل المثال نقده لكتاب “تاريخ حياة معدة” للكاتب الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم، وهو في هذا النقد يقول من الوجهة الفنية إنه: “وإن سمى كتابه هذا في مقدمته قصة يعرف أن اسم القصة الاصطلاحي لا ينطبق عليه، ولهذا تفنن في اسمه فدعاه تاريخ حياة معدة. إذ سلب لفظة تاريخ دلالتها المطابقية كما يفعل الفن بكثير من الألفاظ”.

ثم نظر إلى الوجهة التاريخية فقال: “إن هناك أشياء لا نوافق المؤلف عليها، منها أن ينسب كثيرا من وقائع التطفيل ونوادر أصحابه لأشعب ورفيقه بنان (…) ومع أنه تقدم ببنان إلى عصر أشعب فجعله رفيقه وقرن بينهما في كثير من أحوال العيش وأنواع التحايل على الطعام وموائد الكرام، فإنه تأخر بأشعب إلى ما بعد عصره بكثير وجعله يحيا في عهد المأمون بالصراحة وما بعده بالتلويح كما يفهم مما نسب إليه من أخبار وأشعار لغيره”.

وقد أجاد الناقد في بيان حدود السماح للفن بمخالفة التاريخ حيث قال: “إننا قد نقبل، لوجه الصنعة الفنية، أن ينشط أشعب أو ينحل ما لغيره ولو تأخر عنه. إلا أننا لا نقبل أن يقام غير مقامه في حضرة ملك لم يعش في عصره، وذلك في كتاب يطلق عليه ولو مسامحة تاريخ (…)”.

ولم يختم الأستاذ كنون نقده حتى أعطى الغيرة على الفصحى حقها، فأحصى على الأستاذ الحكيم هفوات في الإعراب يعجبنا ألا يسكت الناقدون عنها وعن نظائرها في كل كتاب.

وقد جرى على هذه السنة في نقد الكتب القديمة التي يقوم على نشرها الفضلاء كما صنع بكتاب الذخيرة لابن بسام، فقد أصاب في نقده اللغوي على هذا النحو حيث ذكر بعض المآخذ فقال: “من ذلك كلمة المفاتشة (…) وصوابها المنافثة لاسيما وقد عطفت على كلمة المباحثة (…) ومن ذلك قول المؤلف: جعل الله الدهر أقصر أيامه والنجوم مراكز أعلامه. جعله المصححون أقصى ولا يناسبه مقام الدعاء (…) وفي صفحة 51 ضبط المصححون لفظة زِناتة بفتح الزاي وكذا في سائر الكتاب وهي بالكسر على المعروف وعليه اقتصر في القاموس (…) ومن ذلك هذه الفقرة في صفحة 135: قبح الله زمانا يقرب إلى اللئيم حصانا وإلى الكريم أتانا. ضبط المصححون حَصانا بالكسر يريدون به الفرس حين رأوه في مقابلة الأتان وهي أنثى الحمار، والصواب أن حَصانا بفتح الحاء وهي المرأة الحصينة المتمنعة من العفاف والتصون[9]. قال حسان بن ثابت في السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:

        حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزْظِنُ بِرِيبَةٍ          وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ.

والموضوع أيضا يعين ذلك حيث إن الرسالة في أمر مصاهرة”.

تلك أمثلة متفرقة، نراها كافية للدلالة على نصيب الفهم والعلم باللغة من كتابات المدرسة الأدبية التي يمثلها الأستاذ كنون، فمن الحق أن أقول إن الأستاذ العلامة قد أولاني بهديته النفيسة سرورين مضاعفين: سرور القارئ بمتعة ما يقرأ، وسرور المتفائل بمستقبل الأمة الشقيقة في نهضتها المباركة، وكلاهما مشكور ومقدور ومبرور[10].

عبد الله كنون في نظر أمير البيان

يقول شكيب أرسلان: قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب الممتع[11] الذي أخرجه للناس فذا في بابه السيد الشريف والعلامة الغطريف الأستاذ عبد الله كنون من مفاخر القطر المغربي في دورنا الحالي. وقد كنت أعهد نفسي، من بين المشارقة، الرجل الذي اطلع أكثر من غيره في تاريخ المغرب وأهله، وأنعم النظر فيما يتعلق بثقافته وسياسته وسائر شؤونه؛ ولكني رأيت نفسي بعد أن طالعت هذا الكتاب الصغيرَ حجْمُه، الكبير قدره كأني لم أعلم عن المغرب قليلا ولا كثيرا، وكدتُ أقول إن من لم يطلع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب علما، ولا أن يصدر على حركاته الفكرية حكما.

وكما قيل في كتاب “نفح الطيب” للعلامة المقّري أنه كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وكلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب، الذي من لم يقرأه فليس بأديب، يمكن أن يقال إن من لم يقرأ كتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي؛ بل هذا الكتاب في موضوعه أجدر بالإطلاق الشامل من كتاب “نفح الطيب” في موضوعه؛ وذلك بأن نفح الطيب على جلالة قدره حشر بين دفتيه غثا وسمينا، وعاليا ونازلا، وأطال حيث ينبغي الاختصار، وأوجز حيث النفوس تشتاق إلى الإطالة والإكثار.

وأيضا فقد يكون الأديب أديبا ولم يقرأ “نفح الطيب”، فأما “النبوغ المغربي في الأدب العربي” فهو خلاصة منخولة، وزبدة ممخوضة، استخلصها صاحبها من مئات الكتب المصنفة، وألوف من الأحاديث التي لقفها من أفواه العلماء الذي أخذ عنهم، وقلما رأيت مؤلفها جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وجاء في ضمن 250 صفحة بالعريض الطويل في درجة هذا التأليف الذي هو ثمرة تحقيق وتدقيق، ودرس عميق لم يخرج إلى قراء العربية أحسن منه في بابه.

أشار العلامة مصنف “النبوغ المغربي” في مقدمة كتابه إلى جمعه فيه بين العلم والأدب والتاريخ والسياسة، وإلى تصويره الحياة الفكرية في المغرب، من لدن قدوم الفاتح الأول إلى يوم الناس هذا، ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف اعتقد في البدء أنه بالغ فيه جدا، وحمل نفسه إدّا، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة، ولا تفي به الكتب الجمة، وادعى فتح مغالق تنوء مفاتحها بالعصبة. إلا أنه عندما يبدأ القارئ بالمطالعة، يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصى بلفظ موجز، وكان فعله محققا لقوله، وقد مزج في كتابه بين الحركات الفكرية والحركات السياسية مزجا عجيبا، حقق فيه الصلة الطبيعية التي لا تكاد تنفك في كل دور من أدوار الأمم بين العلم والسياسة بحيث لا يرقى الواحد منها إلا رقي الآخر برقيه كاللازم والملزوم.

وهو إن لم يكن توخى ذكر الفتوحات والمغازي، ولا حاول استقصاء مآثر السيف في جانب مآثر القلم، فقد ضمن في تضاعيف كلامه على تطور الحركات العقلية في المغرب من لدن الفتح العربي إلى الآن، لمحة دالة ليفهم منها القارئ تطور السياسة وتعاقب الدول المختلفة التي سادت المغرب من ذلك اليوم إلى الآن، فلا يسير المطالع لهذا الكتاب إلا على ضوء من أول الكتاب إلى آخره، ولا يكاد يُشكِلُ عليه فيه مسألة، ولا يستعجمُ موضوع، ولا يفتقر مقامٌ إلى مقال. وهو مع هذا كله من الكتب المختصرة، فكأنما أراد صاحبه لا أن يكون مثالا للتاريخ فحسب، بل مثالا للبلاغة؛

وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ رُؤْيَتَهُ         وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لاَ لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ

فالمشارقة الذين يعزو إليهم إخوانهم المغاربة جهل مقامهم في الأدب ليس منهم واحد يلزُّ في جملة العلماء المحققين، وإنما هم من صغار المتأدبة الذين علموا شيئا وغابت عنهم أشياء. ولم تكن قبل اليوم علاقاتُ العالم بعضها ببعض كما هي في هذا العصر، الذي جعلت فيه الاختراعات العلمية ومظاهر أسرار الكهربائية، القاصي قريبا والمجهول معلوما والبلدان النائية يكون واحدا، والأسفار المشتطة سفرا قاصدا.

وقد كان المغرب من قبل في زاوية من الأرض ليس وراءها إلى الغرب سوى بحر الظلمات. نعم لم يزل المغرب كما كان من الجهة الجغرافية، ولكنه أصبح اليوم قريبا بالباخرة والطائرة والسلكي واللاسلكي والهاتف والراديو؛ فصار الشرقي يعرف عن المغرب وأهله في اليوم الواحد ما لم يكن يعرفه في السنة بطولها. فالآن إذا جهل الشرقي أحوال المغرب وعميت عليه مآثره، يكون جديرا باللوم، وحقيقا بالرثاء لقصور معارفه. فأما عما مضى فلا يتوجه اللوم وأسباب الاتصال قليلة، ووسائل التعارف محدودة.

ولا تنس الانحطاط الذي طرأ على العالم الإسلامي شرقيه وغربيه، فإنه في مقدمة أسباب جهل بعض أجزائه بأحوال البعض الآخر. ولا تنس أيضا تكالب الاستعمار الأوربي، وكون أهم شروطه الفصل والقطع والضرب بالأسداس بين البلاد المستعمَرة وأخواتها، والأمة المستضعفة ومن تمتّ إليهم بصلة دين أو نسب أو لغة. فهذا كله جعل أمور المغرب مجهولة عند غير المحققين من أهل الشرق. ولو كان الاستقلال السياسي موفورا للعالم الإسلامي، لما وقع من التجاهل والتناكر هذا الذي وقع أخيرا وجعل الأخ لا يعرف شيئا عن أحوال أخيه؛ فقد عهدنا عندما كان الإسلام إسلاما، وكانت الرجال رجالا أن الحركات الفكرية إذا شاعت في المشرق شاعت في المغرب، وإذا نبغ شاعر أو كاتب في أحدهما تناقل الناس أقواله للآخر، وإذا كتب الإمام الغزالي كتابا في أقصى الشرق تدارسه الفقهاء في أقصى الغرب، وعلم به الموحدون والغزالي بعد في الحياة. وإذا ألف سعد الدين التفتازاني كتابا في خراسان أو ما يليها تكلم عليه ابن خلدون في فاس أو تونس في عرض كلامه على ملكة المشارقة في العلوم العقلية، والتفتازاني لا يزال حيا. وإذا ألف ابن هشام كتابا في النحو وهو في مصر، ولم تكن المطبعة قد عرفت يومئذ، لم تمض أشهر حتى امتلأت أسواق الوراقين في مدن المغرب بنسخ هذا الكتاب وابن هشام يومئذ حي، وجعله مثل ابن خلدون موضوعا في مقدمته لذكر ملكة المتأخرين في علوم العربية، وهلم جرا.

فالرقي الفكري متصل بالاستقلال السياسي اتصال النتيجة بالمقدمة. ولقد فقدت في الأدوار الأخيرة من العالم الإسلامي أسباب الاتصال بما طرأ من التفكك، ومصير بلاد الإسلام، بل أكثرها عدو للإسلام كاشح يعمل لمحوه من الدنيا. ومن المعلوم أنه لا يعمل للإسلام غير دول الإسلام نفسها، فلا عجب بعد هذا أن يجهل بعضنا مكان بعض وأثر بعض؛ بل العجب أن تعلم اليد اليمنى باليد اليسرى ونحن على ما نحن عليه من تفكك الأجزاء وتقطع الأوصال، والسياسة كما قلنا هي والأدب شريكا عِنان، وفرسا رهان.

وقد أصاب الأستاذ صاحب “النبوغ المغربي” في عدم إطلاقه القول على المشارقة أنهم جاهلون بأقدار المغرب، فإنه قيّد ذلك بقوله: “إنكار كثير من المشارقة لكثير من مزايا المغاربة”. وفي هذا القيد قد أخرج مُحَرِّرَ هذه السطور من هذه الجملة الخاسرة، فإني على ما بي من قصور وتقصير، وعيوب تضيق فيها المعاذير، أقدر أن أدعي بحق سبق غيري من جميع العالم العربي إلى معرفة مزايا المغرب وأهله، وإيجاب عدم التفرقة بحال من الأحوال بين مغرب ومشرق، أقول هذا من باب التحدث بنعمة الله تعالى.

عالج السيد عبد الله كنون في صدر كتابه هذا حادثين جليلين هما من أهم حوادث الفتح الإسلامي في العالم، هما إسلامُ البربر، هذه الأمة العظيمة التي لولا دخولها في الإسلام لكانت بلاد شمالي إفريقيا كلها أقطارا معادية للإسلام، مناوئة للعروبة بخلاف ما هي عليه الآن من الاعتصام بهما وتكوينهما جزءا لا ينفك من أجزاء العالم الإسلامي، ولا يقل شأنا فيه عن مصر والشام وجزيرة العرب والأناضول وفارس وهلمَّ جرّا؛ بل حصنا منيعا تتكسر على جوانبه هجمات الأمم التي لا تطيق وجود الإسلام في الأرض.

 وكذلك حادث استعراب البربر الذين أصبحوا بتأثير الدين الحنيف واللسان العربي الشريف كتلة واحدة هم والعرب، يعادون من عاداهم ويوالون من والاهم، ويكونون دائما يدا واحدة على من سواهم، وإن وجدت في الأحايين بين الفريقين منازعات ومشاجرات، فلا تكون إلا من قبيل تنازع قبائل العرب أنفسهم بعضهم مع بعض، أو من باب المنازعات العائلية التي لا تمنع أصحابها من الاتحاد على الأجنبي وتناسي جميع الأحقاد بإزاء الخطر العام، وهذا على حد المثل العامي القائل… (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب). ولله در القائل:

        وَذَوِي ضَبَابٍ مُضْمِرِينَ عَدَاوَةً قَرْحَى      الْقُلُوبِ مُعَـاوِدِي الْأَكْنَـــــادِ

        نَاسَـيْتُهُـمْ بَغْـضَاءَهُـمْ وَتَرَكْتُهُـمْ      وَهُمُو إِذَا ذُكِـرَ الصَّـدِيقُ أَعَـادِي

        كَـيْـمَا أُعِـدَّهُمُو لِأَبْعَـدَ مِـنْهُمُو      وَلـَقَـدْ يُـجَـاءُ إْلَى ذَوِي الْأَحْـقَـادِ

بل البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض. ولئن كان التاريخ قد روى بين البربر مخاصمات شعبية عامة كما جرى في الأندلس مثلا بعد فتحها بليل وأوجب نكوصا كانت عواقبه السيئة فيما بعد. فقد ندر وقوع هذه الحوادث ذات الشكل العام بين الأمتين وغلب عليهم الشعور بالوحدة الإسلامية حتى صارتا مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 91).

ولا ننسى ما قام به البربر في التاريخ الإسلامي من جلائل الأعمال في الذب عن حوض هذه الملة، سواء على أيدي المرابطين أم الموحدين أم بني مرين وغيرهم، مما يجعلهم في مقدمة صفوف المجاهدين الذين تتباهى بمآثرهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال يمكننا أن نقول بحسن اهتداء البربر وتآخيهم مع إخوانهم العرب حملة القرآن الأولين امتدت جزيرة العرب من شرقي البحر الأحمر الضيق إلى شرقي الأوقيانس الأطلنطيقي الواسع، فصارت هذه الأقطار كلها سلسلة عربية إسلامية غير منفصلة ولا متعصبة.

 وهذا قد وفاه حقه الأستاذ كنون، وأوضح أسباب انتشار الإسلام من أول الفتح بين الأمة البربرية، وذكر من هذه الأسباب انتشار الإسلام من أول الفتح بين الأمة البربرية، وذكر من هذه الأسباب التي أوجبت إقبال البربر على هذا الدين زرافات ووحدانا، ونبذهم ما عداه، ما لا يقدر العدو الألد والخصم الأعند أن يكابر فيه أو يتعامى عنه، وذكر الخلفاء الذين في أيامهم ازداد انتشار الإسلام بين البربر مثل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، الذي أرسل إليهم طائفة من الفقهاء يعلمونهم القرآن وأصول الدين. ولا عجب وهو الخليفة العادل الورع المقرون اسمه باسم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى، عن الاثنين، حتى قيل في عدلهما عدل العمرين، وسارت الأمثال في ورع الثاني كما سارت في ورع الأول.

 وروى المؤرخون أنه لما كثر إسلام القبط في مصر وارتفعت الجزية عمن أسلم منهم، شكا عامل مصر إلى عمر بن عبد العزيز نقصان الجباية عما كانت عليه، وذلك بسبب فشو الإسلام في القبط، فأجابه بتلك الكلمة الشهيرة: “وَيْحَكَ إِنَّ مُحَمَّداً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَجِئْ جَابِياً، وَإِنَّمَا جَاءَ هَادِياً”. إذاً كان جديرا بهذا الخليفة الورع أن يهتم بالاستقصاء في إسلام البربر، والإمعان في تأديبهم بآداب القرآن حتى غرس فيهم هذه النجابة المعروفة، وأوقد في قلوبهم هذه الحمية الإسلامية التي لم تفارقهم من ذلك اليوم. وذكر مآثر موسى بن نصير، رحمه الله تعالى، في هذا الباب حتى لم يمض إلا قليل فظهر الطابع العربي على البربر، ونبغ فيهم العلماء والخطباء بالعربية الفصحى، وحسبك شاهدا طارق بن زياد الذي خطب قبل الموقعة التي هزم فيها لذريق ملك الأندلس، تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس بن ساعدة، أو سحبان وائل، لم يأت بأفصح ولا أبلغ منها، وقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي: هنا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهولة، فقد اتفقت الروايات على كون طارق بن زياد بربريا قحا، وكلك اتفقت الروايات أيضا على كونه هو لا غيره صاحب الخطبة الرنانة المعدودة من أنموذجات الخطب العربية فكيف يمكن التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين؟ وأنى لطارق البربري مثل هذه العربية؟ وكنت أفكر في أن طارقا قد يكون أحسن تعلم العربية كما أحسن ذلك كثير من أبناء جيله، وكما تعلمت العربية فارس حتى بزوا في العربية أقرانهم من أنفس العرب، ولكني لم أكن مستريح البال من جهة إتقان طارق للعربي الفصيح وبلوغه فيه هذه الدرجة العليا، وكان يحز في صدري أن تلك الخطبة كانت بلاغتها في لمعنى، وإنما وضعها رواة العرب في هذه القالب الفصيح الذي سحر الألباب، وما زلت مترددا في هذا حتى جاءني ثلج اليقين على يد الأستاذ عبد الله كنون الذي جزم بأن هذه الخطبة النادرة إنما كانت من جملة ثمرات انطباع البربر بالطابع العربي البحت[12].

ثم أشار الأستاذ إلى مثار الخلاف لأول الفتح بين العرب والبربر، فلم تأخذه العصبية للعرب الذين هو منهم، بل من أشرف بيوتاتهم، سبيل المؤرخ الصادق الذي لا يحابي في الحق، بل سبيل المسلم العامل بمقتضى شريعته، الحافظ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10). الراوي حديث رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهو: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ[13]“. فذكر أن مثار النزاع بين الأمتين كان استبداد العرب بوجوه المنافع، واستئثارهم بمناصب الدولة من أيام الإمام إدريس، رضي الله تعالى عنه، فكان هذا الأمر سببا للتنافس بين الفريقين في المغرب.

 وأنا أقول إن هذا الأمر نفسه كان سببا لتنافسهما في الأندلس منذ أوائل الفتح، حتى إن فريقا من البربر بلغ منهم السخط أن تركوا الجهاد في الطرف الشمالي من بلاد الجلالقة حيث كان منهم العدد الأغلب من المجاهدين، فأصبحت تلك الثغور عورة، ورجع الأسبان فاستولوا عليها، وكان بذلك مبدأ المقاومة الإسبانية ونمو شوكتها، ولم تزل تنمو وتزداد حتى آلت إلى ما آلت إليه، مما لا حاجة إلى ذكره، ولو كان قومنا العرب عملوا يومئذ بقاعدة المساواة الإسلامية ولم يحابوا أنفسهم على إخوانهم الجدد، ولم يجعلوا في الإسلام عاليا ونازلا، لما كان وقع ذلك الخرق الذي انتهى في الأندلس بذهاب الملك ووقوع الهلك، ونجمت عنه في إفريقيا نفسها أضرار جسيمة لا شك فيها.

وقد ذكر صاحب النبوغ المغربي هذه الحقائق في عرض كلامه على تاريخ الحركة الفكرية في ذلك القطر العظيم، وذلك لما تقدم لنا من اتصال الحركة الفكرية بالحركة السياسية والحركة الاجتماعية إلى الحد الذي لا يمكن معه ذكر إحداهما من دون ذكر الأخرى، ونبه الأفكار إلى نكتة هي من الأهمية بمكان، وهي السؤال لماذا لم يكن في المغرب الاندماج تاما كما وقع في الشام والعراق والأندلس حيث قد ألقت العروبة بجرانها وعمت السهل والوعر، ولم يبق إلا أقطار عربية لا تفترق عن جزيرة العرب في شيء”[14].

العلاّمة عبد الله كنون في نظر مؤلف “رجال عرفتهم

لقد تجمعت في العلامة عبد الله كنون من خصال السمو النفسي وسجايا الرقي الفكري وأخلاق التفوق العلمي، ما جعل منه عالي المقام، رفيع المنزلة في مجالي العلم والعمل، مما بوأه مقعدا شامخ الذرى، نفيس القيمة بين أبناء جيله. فلقد كان، رحمه الله تعالى، عالما مشاركا يخوض في غير ما ميدان من ميادين الجهاد العلمي والوطني والإسلامي باقتدار وكفاية، وبإخلاص وتفان، وبصدق الولاء لهذا الدين ولقيم هذا الوطن، حتى عرف في المغرب والمشرق بالعالم الموسوعي الذي يضرب في كل فرع من فروع الثقافة العربية الإسلامية بسهم وافر، ويسمو بعطائه المتميز الذي شمل مجالات متعددة منها ما يتصل بالكتابة والتأليف، والتأصيل والتحقيق، ومنها ما يتعلق بالدعوة والعمل الإسلامي، ومنها ما هو وثيق الصلة بالعمل الوطني، دفاعا عن المبادئ والمثل التي جعلت من المغرب دولة إسلامية العقيدة عربية اللسان، وهمزة وصل بين الثقافات والحضارات عبر الأزمان.

لقد كانت شخصية المغرب ممثلة في العلامة عبد الله كنون بقدر ما تشربت روح الثقافة العربية الإسلامية، حتى صار عنوانا على تلك الحضارة ومرجعا لا يبارى في ثقافته وأدبه وتاريخه وتراثه وفقهه، ومشاركات أعلامه في مختلِف فروع المعرفة النقلية منها والعقلية، العلمية أو الذوقية. غير أن أهم ميزة طبعت شخصية عبد الله أنه كان شديد الالتزام برسالة العالم، عظيم الاعتزاز بكرامة المفكر، قوي الشكيمة في الدفاع عن المفاهيم الإسلامية، يرى أن (الإسلام أهدى) وأن (الإسلام رائد) وأنه لابد لنا من السير (على درب الإسلام) وأن علينا أن نعايش (الشؤون الإسلامية) وأن نصدر دائما من (منطلقات إسلامية) حتى يكون (النبوغ المغربي) منبثقا عن إسلامنا وحضارتنا الشامخة ومجدنا التليد[15].

إننا بإزاء شخصية علمية بالمزايا التي قلّما تتوفر في غيرها، فلقد كان عبد الله كنون يفهم رسالة العالم المسلم فهما أرحب من أن ينحصر في الوعظ الديني أو الكتابة في الصحف السيارة، وإنما كان، رحمه الله تعالى، يفهم هذه الرسالة الشريفة فهما شرعيا يقضي بالارتباط بقضايا الأمة، والانخراط في العمل الجدي لتصحيح المفهومات ولتنوير الرأي العام بحقائق الإسلام وبمفهوماته الجوهرية، وبأحكامه ومبادئه وشرائعه في كل مرفق من مرافق الحياة.

 ولم يكن كنون يكتفي بذلك، بل كان يعطي بسلوكه الراقي وسَمته، وروحه السمحة المثال السامي في الممارسة، وفي العمل والسعي المتواصل، والدأب المستمر لإشاعة القيم الإسلامية الرفيعة، والدعوة إلى المنهج الإسلامي بالتي هي أحسن. وللرد على حملات الطعن والقذف في الإسلام بحجة لا تقاوم ومنطق لا يعلى عليه. وبذلك كانت الفكرة الإسلامية ممثلة أصدق تمثيل في حياة كنون تنطق بها أعماله وتشهد عليها مواقفه.

ولا غرو أن يكون عبد الله كنون على هذا النحو المتميز من علو الهمة ورفعة الشأن في مضمار العلم والعمل، فهو سليل أسرة لها في مجال الدعوة والعمل الإسلامي والدفاع عنه والانتصار لقضاياه قدم راسخة وذكر محمود وصيت ذائع، ويكفي أن يكون من هذه الأسرة الكنونية الشريفة العالم العلامة المجاهد بالكلمة الصريحة المدافع عن السنة النبوية محمد المدني كنون الذي إذا ذكر ذكر معه سلطان العلماء العز بن عبد السلام، من حيث إنه كان جريئا في الصدع بكلمة الحق والصمود في الدفاع عنها غير مبال بالعواقب ما دامت وجهته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذه الأسرة المشهود لها بالسبق في العلم والعمل خرج كنون ليواصل جهاد آبائه وأجداده مقدرا رسالة العالم المسلم الذي يحمل الأمانة المقدسة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واعيا أن العالم المسلم لا يرضى بالدنية، ولا يقبل أن تتحكم في بلاده سلطة احتلالية.

إن خسارة الإسلام والمغرب والعالم الإسلامي في وفاة عبد الله كنون بالغة الجسامة ليس من اليسير سد ثغرتها. ولذلك فإننا نستشعر مرارة الفقد وأسى الفراق وشجن الوداع. فلقد كان الفقيد العزيز ملء العين والسمع ينزل من نفسي شخصيا منزلة خاصة، فلقد امتدت أسباب الأخوة والصداقة والزمالة بيننا منذ سنة 1934م، وأذكر أني تلقيت منه خطابا في تلك السنة في شأن مراجعة أحد الكتب المخطوطة الموجودة بالخزانة العامة بالرباط لتوقفه عليها في أحد بحوثه الأدبية، ثم تطورت علاقتي به وازدادت وثوقا ومتانة منذ ذلك الحين.

لقد كان عبد الله من الرعيل الأول الذي تحمل مسؤولية العمل الوطني في إطار كتلة العمل الوطني والحزب الوطني، وله في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الحركة الوطنية مواقف مشرفة وتحركات موفقة، وفي سنة 1967م تشرفت برفقته في بعثة الحج الرسمية التي كان ترأسها، ولن أنسى ما حييت حلاوة العشرة وطيب الرفقة مع إخوة كرام كان في طليعتهم فقيدنا العزيز، فلقد عرجنا بعد الحج على مصر وسوريا ولبنان، مما أتاح لي الاحتكاك بالمرجوة له الرحمة عن قرب، والتعرف على جوانب إنسانية من شخصيته؛ فزادني ذلك محبة له وإكبارا لدوره في حياة المغرب الفكرية والثقافية والإسلامية.

لقد كانت لعبد الله كنون اهتمامات متعددة ومشاركات متنوعة وحضور دائم في عديد من المجالات، بحيث يمكن القول: إن شخصيته نادرة المثال، فهو وإن كان تفرغ للعلم والكتابة والتأليف، فلم تنقطع صلته بالعمل الوطني بالتشجيع والتعاطف والمشاركة والمؤازرة، والسير على نفس الخطة دفاعا عن قيم المغرب وانتصارا لقضاياه وذبا عن شخصيته العربية الإسلامية المتميزة وإعلاء لشأنه.

لقد كان اهتمامه، رحمه الله تعالى، بالقضايا الإسلامية والعربية اهتماما يستحق كل تقدير، وبالأخص القضية الفلسطينية، فمنذ أن تأسست الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني وهو عضو عامل ومؤازر ومساند فيها، يدافع عن مقرراتها ويؤدي واجب اشتراكه فيها وينشر بلاغاتها في جريدته ويتضامن مع تحركاتها.

لقد كان آخر لقاء لي مع عبد الله كنون حين التحق آخر حياته بمصحة السويسي للعلاج على إثر اشتداد وطأة المرض عليه قبل أن تفيض روحه الطاهرة إلى باريها. وقد استقبلني ببشاشته ولطفه وروحه المرحة وأهديت له كتابي الجديد (المغرب والقضية الفلسطينية) فرحب وهو يقول: “سأقرأ الكتاب وأكتب عنه” إنك أحق من يكتب في القضية الفلسطينية.

ولئن كان عبد الله كنون قد انتقل إلى عفو ربه ورحل عن دنيانا الفانية، فإن المعنى الذي مثله، والأنموذج الذي جسده، والرسالة التي نذر حياته لها، كل ذلك لا يزال قائما. ونحن على العهد مع هذا المعنى وهذه الرسالة، لا نحيد عنهما إن شاء الله تعالى نصل ما انقطع بوفاة الفقيد العزيز ونعمل من أجل أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين[16].

مثال على الموضوعية والإنصاف

يقول العلامة عبد الله كنون رحمه الله تعالى: “قرأت في الجزء السابع عشر من مجلة مجمع اللغة العربية كلمة للعالم البحاثة أمين الخولي بعنوان حول بحث لِمَا بِهِ. وهو البحث الذي كنت قدمته إلى مؤتمر المجمع في دورته الثامنة والعشرين؛ وأحيل على لجنة الأصول. وكان مما يحتوي عليه النظر في تأصيل عبارة لِمَا بِهِ وتصحيح استعمال الواسطة بمعنى الوساطة وإن لم يرد في كتب اللغة.

وأفادت الكلمة المذكورة أن لجنة الأصول وافقت على ما ذكرته في تأصيل عبارة لِمَا بِهِ وعلى إقرار استعمال الواسطة بمعنى الوساطة فلها الشكر على ما تقوم به من خدمة للغة العربية وتقدير لجهود العاملين لخدمتها. غير أن في تلك الكلمة ما يحتاج إلى التعليق وهو نقط ثلاث:

الأولى؛ تعقيبها على قولي في البحث أن بعض الأحاديث يرويها أحد الأئمة الأثبات من غير أن يرفع سندها، لعلها كانت معروفة عند أهل الصدر الأول بأسانيدها المرفوعة، فقالت الكلمة إنني لم أذكر لهذه الأحاديث نظيرا تعني مثالا وتشككت في الأمر. وأظن أن المسألة من الشهرة بحيث لا تخفى على أهل العلم. وأول ما أثيرت في الكلام على تخريج أحاديث الموطأ للإمام مالك بن أنس عند التعرض لبلاغاته الأربعة المعروفة التي لم يجد لها ابن عبد البر سندا مرفوعا وهي حديث: “إِنِّي لاَ أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ”، وحديث “أَنَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ فَأُعْطِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”. وحديث معاذ: “آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ”. وحديث: “إِذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً” إلخ. فهذه الأحاديث هي التي قيل فيها لعلها كانت معروفة الأسانيد عند المتقدمين، وعدم اهتداء ابن عبد البر إلى أسانيدها ليس دليلا على عدم وجودها. وبالفعل فإن ابن الصلاح قد وصل هذه الأحاديث الأربعة في تأليف مستقل وهو بعد ابن عبد البر.

وهذا هو ما قصدت التنظير به في مسألة الواسطة وزدت على نقل استعمالاتها عند غير واحد من الأعلام بالمعنى المراد، فنظرت في اشتقاق الموسوط الذي يدل على وجود الفعل الدال على ذلك المعنى وسكوت العلماء عليه.

وأشار محمد حبيب الله بن مايا الجنكي الشنقيطي في نظمه “دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك” لمسألة البلاغات هذه بقوله:

وَقَــدْ تَـتَـبَّـعَ ابْنُ عَـبْـدِ الْـبَـرِّ مَا       مِـنَ الْـبَـلاَغِ فِـيـهِ كَـانَ عُـلِـمَـا

وَشِـبْـهُـهُ بِـالـسَّـنَــدِ الْـجَـمِـيع لاَ      أَرْبَـعَـةٌ فَـمَـا عَـلَـيْـهَا حَصَلاَ

وَقَــالَ بَــعْـضُ مَنْ عَـلَـيْـهِ كَـتَبَا        مِـمَّـنْ لَـهُ التَّحْـقِيـقُ جَزْماً نَسَبَا

أَنَّ قُــصُـورَ الْـمُـتَـأَخِّـرِيـنَ عَـنْ         وُجُـودِهَـا مَوْصُـولَةً بِـلاَ وَهَـنْ

لَـيْــسَ بِــقَادِحٍ فَــرُبَّـمَا تُرَى             مَـوْصُـولَةً لِبَعْضِ مَنْ قَدْ غَبَـرَا

وَقَـدْ رَأَيْـتُ بَعْـضَ مُتْقِنِي السُّنَــنْ             مَنْ حَازَ فِي كُلِّ الْعُلُومِ خَيْرَ فَنّْ

عَزَا إِلَى نَجْلِ الصَّلاَحِ أَنْ وَصَــلْ                أَرْبَـعَـةَ الْأَخْـبَـارِ فَالْـكُلُّ اتَّصَلْ.

وأثيرت المسألة أيضا من لدن ابن حجر عند الكلام على ما انتقد من أحاديث البخاري لما في أسانيدها من مجاهيل، وذلك في مقدمة الفتح، فقال إن أكثر هؤلاء من مشايخه، وعدم اطلاعنا على أحوالهم لا ينفي توثيقهم لما علم من تثبت البخاري، وعدم روايته إلا عن الحفاظ الثقات الأثبات. وردد هذا الكلام القسطلاني في أول شرحه للصحيح. وأثارها أيضا السيوطي عند الكلام على حديث “اخْتِلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ” فقال أخرجه نصر المقدسي في الحجة، والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ذكره ابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث[17].

هذا ما في إثبات هذه المسألة. أما ما في الكلمة مما يتعلق بتنزيلي لها في الحكم على الواسطة فهو رأي للكاتب لا أناقشه فيه؛ لأن لكل أن يرى ما شاء، وبحسبي نفي التشكيك في صحة القول الذي أوردته.

الثانية؛ تعرضت الكلمة في قسمها الثاني إلى تخريج عبارة لِمَا بِهِ، فانتقدت ما رأيته في ذلك، كما انتقدت ما رآه العلامة محمد علي النجار فيه، وأتيت برأي ثالث أغرب من الرأيين معا، وأطول رِشاء. ولعل الرأي الصواب في هذه العبارة هو ما وقعت الإشارة إليه في البحث من أنها عبارة مأثورة استعملت في هذا المعنى قديما وخلصت إلى الكتاب والأدباء الذي يحتج بهم، فيكفينا ذلك عن توجيهها وتعليلها، إلا أن نجد لعلمائنا المتقدمين رأيا مقبولا في ذلك فنأخذ به شاكرين.

الثالثة؛ ذكرت الكلمة أنها توافق على ما قلته من أن مدلول عبارة لِمَا بِهِ هو ما يفيده تصحيح الناشرين المصريين لعبارة المراكشي. وهذا الكلام ربما أوهم أنني الذي عبرت بالناشرين المصريين، في حين أن أحدهما مغربي والآخر مصري[18]، فتعين رد الأمر إلى نصابه.

وأخيرا أذكر شواهد أربعة من الكلام الفصيح الذي جاء فيه تعبير لِمَا بِهِ ولم تذكر في البحث ولا فيما حوله. واثنان منهما مما كتب به إلي الزميل المحترم الأستاذ محمد الفاضل ابن عاشور بعد رجوعنا من مؤتمر المجمع قائلا: إنه وقف عليهما عفوا في أثناء مطالعاته.

فالأول من كلام الإمام علي  رضي الله تعالى عنه وقد جاء في نهج البلاغة[19] وهو في وصف حال مريض ميؤوس منه ونصه: “حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ، وَذُهِلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفََةِ دَائِهِ، وَخَرَسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجَى خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ، وَمِمَّنْ لَهُمْ عَلَى إِيَابِ عَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ”.

والثاني من شعر أبي نواس يجيب أحمد بن روح حين هجاه فيقول:

لاَ رَعَى اللهُ ابْنَ رَوْحِ          وَسَّخَ اسْمِي بِلُعَابِهِ

أَسْقَمَ اسْـمِي رِيحُ فِـيهِ                فَأَظُنُّ اسْمِي لِمَا بِهِ

فَابْتَغُوا لِيَ اسْماً سِوَاهُ           وَأَجِدُّوا فِي طِـلاَبِهِ.

وأما الشاهد الثالث فقد وقفت عليه في كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم ونصه: “سألت أبي عن حديث رواه معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي حريز عن أيفع عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عاد امرأة من خثعم فقال لها: “كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَانِي إِلاَّ لِمَا بِي. فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّكِ لَمْ تُفَارِقِينِي فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَعُولِي يَتِيماً أَوْ تُجَهِّزِي مُجَاهِداً” إلخ. وهو ما جاء التعبير فيه بصيغة التكلم والعلم لله.

ومثله في ذلك ما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي 164 ونصه: “كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك حين احتُضر: “السَّلاَمُ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لاَ أَرَانِي إِلاَّ لِمَا بِي. فَاللهَ اللهَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّكَ تَدَعُ الدُّنْيَا لِمَنْ لاَ يَحْمَدُكَ وَتُفْضِي إِلَى مَنْ يَعْذُرُكَ وَالسَّلاَمُ”. وهذا هو الشاهد الرابع. والعلم لله[20].

عبد الله كنون يرد على منتقديه

أَثُمَّ إذا ما استمعنا إلى كلام الكبار من مثل صاحب العبقريات وصنوه أمير البيان وقرينهما عبد الله كنون يضيرنا ما قال من قال إن شعر عبد الله كنون شعر فقهاء؟!

كلا، ولكنا مع ذلك نترك له السانحة ليرد بنفسه على ما قيل في حقه بعد سرد ما قيل حتى يُعلم:

يسوق صاحب النقد هذا الكلام عن عبد الله كنون، رحمه الله تعالى، فيقول: “نظم الشعر وهو في بداية العقد الثاني، وفي ذلك يقول: “قلت الشعر في سن الرابعة عشرة وما قاربها، وذلك في الموضوعات المعروفة من الغزل التقليدي والمدح وما إليهما، وشعرت مبكرا أيضا بما في ذلك من العبث والضياع وقصيدة “هل أنا أديب”؟! مما يردد صدى هذا الشعور. ثم قلت في الوطنيات (…) ولم أقتصر على الوطنيات، فإن حالة المسلمين عموما كانت تحز في نفسي، وتجعلني أقارن بمنتهى الأسف بين ما كانوا عليه من عزة وسؤدد، وما صاروا إليه من ذل وهوان، وقصيدة “لسان حال الدول الإسلامية” من مظاهر الثورة التي اعتلجت في نفسي أول نشأتي على واقع المسلمين”. هكذا يتضح أن في حياة شاعرنا مرحلتين متميزتين:

مرحلة كان فيها الشاعر، كغيره من الشعراء، مقلدا ينظم الشعر في أغراض تقليدية كالغزل والمدح والفخر.

مرحلة أصبح فيها مجددا يجاري فيها آمال أمته وآلامها.

والمقصود بالتجديد هنا مجاراة الشعراء الذين جعلوا من قضايا وطنهم مادة لأدبهم، على أن الشاعر حاول أن يذهب إلى أبعد من ذلك، لقد ضاق بالشكل التقليدي للقصيدة العربية، وعبر عن ذلك بقوله:

نُـقَــيِّـدُ بِـالْــَوْزِن أَشْــعَــارَنَـا           لِـتَـبْـقَى مُـقَـطَّـعَةَ الـسَّـبَـبِ

وَنُـغْـرِقُـهَـا فِـي بِـحَـارٍ ثَـمَــانٍ            وَلَـمْ تَـجْـنِ شَـيْئـاً وَلَمْ تُذْنِــبِ

فَـتَـنْـفُـرُ مِـنَّـا وَمِـنْ قُــرْبــِنَا             نُفُـورَ السَّـلِيـمِ مِـنَ الْأَجْـــرَبِ

وَمَا الشِّعْــرُ إِلاَّ حَدِيثُ النُّفُـــوسِ             وَسَجْعُ الْحَمَــامِ عَلَى الْقُضُــبِ[21].

واستجابة لهذه الرغبة في التحرر من القيود التي تكبل الشعر، نظم عبد الله كنون شعرا تحرر فيه بشكل نهائي من قيود الخليل[22].

لم يبعد الشاعر عن الشعر العربي التقليدي، ذلك لأن اطراح الشكل لا يعني الانتماء إلى الحركة التجديدية في الشعر؛ لأنها حركة مست جوهر الشعر لا شكله فقط، وهكذا فإن شعر شاعرنا كلاسيكي، ثم إنه ينقصه الرواء الشعري، إنه شعر الفقهاء، ولا أدل على ذلك من قوله:

        وَيْلِي وَوَيْلُ جَمَاعَةِ الْأَحْرَارِ             مَا ذَا يُلاَقِي الشَّعْبُ مِنْ أَضْرَارِ

        يَا قَوْمُ مَا هَذَا التَّخَاذُلُ بَيْنَكُمْ            فِـي حِينِ أَنْـتُـمْ بِضْعَةُ الْأَنْصَـارِ

        رَبَّاهُ مَا هَذَا الَّذِي أَوْدَى بِنَـا            وَاقْـتـادَنَـا لِـمَـوَاطِـنِ الْإِعْـصَـارِ

        حَـتَّى بَقِينَا لاَ نُحَرِّكُ سَاكِنـاً          نَأْوِي إِلَى الْأَجْـدَاثِ وَالْأَحْـجَــارِ؟

إنها لغة تقريرية بعيدة عن الشعر، ولن يشفع لهذه الأبيات ما فيها من عاطفة وطنية؛ لأن الشعر أكثر من صدق الحس، لا بد من الأداة الفنية التي تجسم هذا الحس وتنقله من قلب إلى قلب.

وهكذا نرى أن عبد الله كنون كاتب قبل أن يكون شاعرا، ولعل الشعر لم يكن يلجأ إليه إلا كما كان يلجأ علماؤنا إلى الإحماض، كما كان الفقهاء قديما إذا طال بهم الحديث في شؤون العلم قالوا: هاتوا ذكر الأدب.

ومن الثابت أن كتابات عبد الله كنون في التاريخ الأدبي للمغرب لم تكن تخضع لمنهاج علمي دقيق، فلا ذكر للمصادر ولا استقصاء لها، ومن ثم فإنها وإن كانت ذات قيمة كبرى في الوقت الذي ظهرت فيه، وهنا أقصد النبوغ المغربي في الأدب العربي[23]، فإنها فقدت الكثير من قيمتها العلمية نظرا إلى ظهور أبحاث جديدة، ومع ذلك يبقى لصاحبنا فضل تعبيد الطريق، وكفاه ذلك فضلا[24].

يقول عبد الله، رحمه الله تعالى، في النبوغ المغربي ردا على المسألة الثانية: “وفضيلة هذا الكتاب في أنه ليس لقطر من أقطار العروبة اليوم نظيره؛ إذ إن جميع كتب الأدب وتاريخه عامة تنتظم البلاد العربية جمعاء، ما عدا المغرب بالطبع، وعمل مثل هذا لا يخفى على العارف ما يقتضيه من جهود جبارة ومشاق عظمى. وإذا تذكر، مع ذلك، أن مصادر هذا البحث الجليل، هي أقل من القليل، ومع قلتها فإن كثيرا منها محفوظ في الخزائن الخاصة التي لا طمع في الوصول إليها بمجان أو مال، فإنه يكون أسبق منا إلى طلب المخارج، والتماس المعاذير فيما عسى أن يكون وقع لنا من التقصير والزلل والخطأ والوهم، ولاسيما مع السرعة في إخراجه للناس؛ لشدة الحاجة إليه وكثرة الطلب عليه. وكان يلزم أن يبقى سنين طويلة تحت التهذيب والتنقيح[25].”

ولا ريب أن هذا الاعتذار الذي يزين العلماء المقتدرين كالعلامة عبد الله، رحمة الله تعالى عليه، يجعلنا في غنية عن مثل هذا الكلام الذي لم يأت فيه صاحبه بنقد جديد.

أما عن مثل هذه المؤاخذات فلا تعد نقيصة وقد مر الاعتذار، ومع ذلك فهي تلصق بالكبار؛ إذ هي الملحوظة نفسها التي قيلت في حق علامة العربية المشرقي مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى.

أما عن الشعر وتقريريته ومباشرته من حيث لا تغني حرارته وعاطفته ووطنيته، فمما يرد على صاحبه إذا ما سلمنا له بنقده، وليس بذاك، ذلك بأن أسلوبه يكفي أن يدفع الناقد البصير ألا يسلم به نظرا إلى فقده للربط والرصانة والمتانة.

وبالرجوع إلى عدم التسليم بمسألة المباشرة والتقريرية فإن البيان بما هو مقصد هام للرسالية والفنية حيث تجتمع المتعة والفائدة، يقتضي أن ترش القصائد مهما علت كعبا واستوت على سوقها، بشيء من الوضوح حتى لا نفقد التواصل بين الشعراء وقضايا الأمة. حتى إذا لم تكن أغلب أشعار شاعرنا مباشرة فكفاه ذلك فخرا وانتماء إلى أصحاب الفن الرفيع بما هو أحد الشعراء الفقهاء الذين يجد المسوغ صاحبنا في الانتقاص منهم. وهاهنا بالذات نعطي الكلمة للشاعر الفقيه عبد الله كنون أن يقول في مقدمة كتابه الموسوم بأدب الفقهاء: “هذا بحث طريف في موضوع أدبي شائق، طالما أغفله الكتّاب وتجنى عليه النقاد، وهو أدب الفقهاء وأعني شعرهم المغموز ظلما بالضعف، والمضروب مثلا لكل شعر ليس بذاك. فالآن أوان إنصافه ورد الاعتبار إليه.

ولم يكن باعثي عليه إلا أريحية الأدب والاهتمام بجمع شوارده ونظم فرائده التي درج مؤلفو الآداب على استبعادها من النصوص الأدبية لمجرد أنها إنتاج طائفة من الأدباء غلب عليهم وصف آخر غير الأدب وهو الفقه والعلم، مع أن في دراستها وعرضها العرض الذي يجلو محاسنها متعة وإثراء لأدبنا العربي الأصيل.

ومن هنا يعلم أن قصدي من المحاماة عن أدب الفقهاء هو توجيه الدراسات الأدبية إلى استيعاب أعمال الأدباء بالمعنى الواسع، وعدم الاقتصار على المنتخبات المعروفة، والأسماء الرسمية، فإن في كنوز الأدب العربي أعلاقا وذخائر ما زالت لم تدرس أو لم تستكشف بعد[26].”

ويضيف العلامة كنون في مدخل نفس الكتاب دفاعا عن أدب الفقهاء: “روى العلامة ابن خلدون عن أبي القاسم بن رضوان كاتب العلامة السلطانية بالدولة المرينية قال: “ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس أحمد بن شعيب (الجزنائي) كاتب السلطان أبي الحسن المريني، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة أبي الفضل ابن النحوي، ولم أنسبها إليه، وهو هذا:

        لَمْ أَدْرِ حِينَ وَقَفْتُ بِالْأَطْلاَلِ             مَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَدِيدِهَا وَالْبَالِي.

فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه. فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: “ما الفرق”؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب.

وهذا صحيح فإن لكلام العرب أساليب لا يحذقها إلا من مارسها أشد الممارسة، وكان محفوظه من النظم والنثر كثيرا جدا، فهو إذا أراد الإنفاق أنفق من سعة، ولم يقع في ضائقة تلجئه إلى القصور عما يريد التعبير عنه، وهل الكلام إلا من الكلام؟!

ونتخذ الجزنائي نفسه مثالا لصدق هذا القول، فقد كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر المحدثين فقط، فما ظنك بما كان يحفظه من شعر الأقدمين؟ ولذلك نبغ منه شاعر عظيم وناقد كبير قال فيه ابن خلدون: “وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدمين والمتأخرين وكانت له الإمامة في نقد الشعر”.

على أن الحفظ وحده لا يكفي، بل لابد من الملكة، وهي الاستعداد النفسي الذي ينميه الحفظ وتصقله الممارسة. والملكة غير الذوق الذي يتحدث عنه علماء البيان. ويقولون أيضا: إن الحفظ لكلام العرب والممارسة لأساليبها في النظم والنثر مما يكوّنه ويربيه، فإن الملكة هي طاقة الإنتاج، وتحتاج إلى الذوق ليكون الإنتاج رفيعا. والذوق معيار النقد، فصاحبه يعرف وجوه الحسن والقبح في الكلام، ولكنه لا يكون أديبا إلا إذا كان صاحب ملكة. وقد كان في العرب نقاد لهم بصر بجيد الشعر وبليغ النثر، ولكنهم لا يستطيعون إنتاج أثر ما في أي باب من أبواب القول. ومنهم الأصمعي الذي قيل له: لم لا تقول الشعر مع سعة روايتك له ومعرفتك بجيده ورديئه؟ فقال: الذي أريده منه لا يأتيني، والذي يأتيني لا أريده. وفي زمننا هذا الدكتور طه حسين مثلا فإنه على رسوخ قدمه في نقد الشعر لا ينظم منه شيئا. وهناك من يجمع بين الملكة والذوق فيكون أديبا وناقدا، كاتبا وشاعرا كالعقاد من المعاصرين وصاحبنا الجزنائي من المتقدمين. والغريب فيه أنه كان صاحب ثقافة علمية واسعة إلى ثقافته الأدبية المتينة. فقد كان بارعا في العلوم العقلية من الفلسفة والتعاليم والطب، وتهتّك في الكيمياء القديمة حتى عرف بذلك، ولم يمنعه هذا من أن يكون شاعرا فحلا، ولا جعل أدبه أدب فقهاء أو علماء بتعبير آخر، مما يدل على أنه لا مناقضة بين الفقه والأدب والعلم والشعر، وأن القضية إنما هي قضية تمكن من المادة الأدبية نظما ونثرا إلى ملكة قوية وذوق مهذب، وإن كان صاحب ذلك إماما في الفقه ورأسا في العلم. ويرحم الله الشافعي إذ يقول:

        وَلَوْلاَ الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي            لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ.

ونحن نرى اليوم علماء مختصين برعوا في الأدب وفي الشعر بالذات حتى غطى أدبهم على علمهم، منهم الدكتور أحمد زكي أبو شادي والمهندس علي محمود طه، وكلاهما من أصحاب الدواوين المتعددة فلتنظر.

ومن شعر الجزنائي الذي ينم عن نفَسه العالي هذه الأبيات التي يقولها في التشوق إلى الحبيب:

        يَا مُوحِـشِي وَالْبُعْـدُ دُونَ لِقَائِهِ                أَدْعُـوكَ عَـنْ شَـحْـطٍ وَإِنْ لَـمْ تَسْـمَعِ

        يُدْنِيكَ مِنِّي الشَّوْقُ حَـتَّى إِنَّنِـي               لَأَرَاكَ رَأْيَ الْـعَـيْـنِ لَوْلاَ أَدْمُـعِـــي

        وَأَحِـنُّ شَـوْقاً لِلنَّسِـيمِ إِذَا سَرَى              بِـحَدِيـثِكُمْ وَأُصِيخُ كَـالْمُـسْـتَطْلِعِ

        كَانَ اللِّقَاءُ فَكَانَ حَظِّي نَاظِرِي          وَسَطَا الْفِرَاقُ فَصَارَ حَظِّي مَسْمَعِـي

        فَابْعَثْ خَـيَالَكَ تَهْدِهِ نَارُ الْحَشَا         إِنْ كَانَ يَجْـهَلُ مِِنْ مَقَامِي مَوْضِعِـي.

        ونعود إلى كلمة صاحبنا وحكمه على بيت ابن النحوي بأنه شعر فقيه من قوله: “ما الفرق”؟! لأنها من عبارات الفقهاء. فهل مجرد استعمال عبارة من عبارات الفقهاء أو غيرهم من العلماء يخرج الشعر عن كونه شعر أديب؟!

وإذاً فبماذا نحكم على قول شاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي؟

        تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لاَ اتِّفَاقَ لَهُمْ         إِلاَّ عَلَى شَجَـبٍ وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَـبِ

        فَقِيلَ تَخْلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالِمَةً          وَقِيلَ تُشْرِكُ جِسْمَ الْمَرْءِ فِي الْعَـطَـبِ

        وَمَنْ تَفَـكَّر فِي الدُّنْيَا وَمُهْجَـتِـهِ         أَقَامَـهُ الْـفِـكْـرُ بَيْـنَ الْعَـجْزِ وَالـتَّعَبِ.

وقد استعمل عبارة “تخالف الناس” ولفظ “الخلف” وجملة “حتى لا اتفاق لهم” (…) وكل ذلك من عبارات الفقهاء والنحويين وغيرهم من العلماء، وهذا عنده وعند غيره من الشعراء كثير لا يخفى على الجزنائي ولا على من دونه معرفة وتحصيلا، بل إن علماء البديع يذكرون نوعا من المحسنات يسمونه المذهب الكلامي، وهو ما يحتج فيه على المطلوب بحجة تشبه حجج علماء الكلام. وثَمَّ أيضا الاقتباس وهو الأخذ من مصطلحات العلماء على اختلاف اختصاصاتهم وقد وقع في كلام المتنبي نفسه كقوله مقتبسا من علم الفقه:

        بَلِيتُ بِلَى الْأَطْلاَلِ إِنْ لَمْ أَقِـفْ بِهَـا

                                       وُقُوفَ شَحِيحٍ ضَاعَ فِي التُّرْبِ خَاتَمُهُ

        قِفِي تَغْرِمِي الْأُولَى مِنَ اللَّحْظِ مُهْجَتِي

                                       بِـثَـانِـيَةٍ (وَالْمُتْلِـفُ الشَّـيْءَ غَارِمُـهُ)

واشتهر قول الشمس بن العفيف حتى بين المطربين ودخل في القطع الشعرية المستعملة في الموسيقى الأندلسية وهو:

        يَا سَـاكِناً قَلْبِي الْمُعَـنَّـى     وَلَيْسَ فِيهِ سِوَاكَ ثَـانِ

        لِأَيِّ مَعْنًى كَسَرْتَ قَلْبِي         وَمَا الْتَقَى فِيهِ سَاكِنَانِ

وفيه اقتباس قاعدة نحوية معروفة بألفاظ النحاة واصطلاحاتهم. فهل ما يتواضع عليه أهل البيان ويقع في كلام المبرّزين من أمراء الشعر ويتنغم به أصحاب الفن يعد من الأدب المدخول ويكون في نظر الناقد الأدبي ليس بذاك؟!

وجاء في قصيدة لأبي العتاهية هذا البيت في الاتعاظ بالموتى والقبور:

        وَلَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا             فَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى

وهذه هي عبارة البيت الذي انتقده الجزنائي تقريبا، ولا قائل بأن أبا العتاهية ليس بشاعر أو أن شعره شعر فقيه.

أما إذا نظرنا إلى الأدب الحديث وخاصة هذا الشعر الذي يسمى بالشعر الحر، فإنا نجده قد كسر هذه الموازين، ولم يعبأ بتقليد من هذه التقاليد الأدبية، حتى إنه يقع في تعابير نابية عن الذوق، ويقتبس من اصطلاح البحارة والحمالة ومن إليهم، بله اصطلاحات العلماء وذوي الاختصاص في مختلِف فنون المعرفة.

ولعل الحكم الصائب في هذه المسألة هو أن المدار على وضع الكلمة أو المصطلح في الجملة أو الفقرة التي تتضمنها، فإن كان ذلك مما لعب فيه الذوق الفني دوره وأداه بعناية، كان مقبولا ومستحسنا، وإلا بأن تقلقلت العبارة وضاقت باللفظة المقتبسة، فإن من حق الناقد أن يدين الأثر الأدبي الذي يقع في هذا المحظور ويحكم عليه حكما مسمطا.

ونحن إذا اعتبرنا موقف الحيرة التي استولت على شاعرنا الفقيه حقا، وما اعتراه من الذهول عند رؤيته لأطلال منازل الأحبة، وتشتت فكره بين ذكر العهود التي سلفت له في هذه المنازل، وما آل إليه أمرها من الدروس والدثور، نرى أنه عبّر عن شعوره بما فيه بلاغ، وأدى ما يجول بخاطره في بيت شعري مؤثر، بقطع النظر عما استعمل فيه من الألفاظ المعهودة عند الفقهاء أو غيرهم؛ لأن المهم هو أنه صور مشاعره ونقلها إلينا بما جعلنا نحس إحساسه ولا زائد، وليس هو بأولى من المتنبي وغيره من الأدباء الذين ليسوا بفقهاء، أن يتجنب استعمال العبارات العلمية والاقتباس من المصطلحات الفنية”[27].

ولا شك أن أولى الناس بمزية الشعر والفقه اللَّذين إذا اجتمعا أسفرا عن نتائج طيبة من فن القول وفائدته، الأديب الأريب عبد الله كنون، رحمه الله تعالى، ونحسب أن العلم والفقه إن لم يرفدا الشعر والفن والأدب بالمفيد والغني فلا أقلّ من تبليغ رسالة الشاعر بحماستها وعاطفتها الدينية والوطنية؛ وما إلى ذلك من المعاني الجميلة التي لا تخدش الشعر والشعور، فنشعر بها كما أداها، عسى أن تنتقل إلى السلوك والتذوق الجمالي في الآن نفسه.

وننهي هذا المبحث برد الاعتبار لشاعرية الرجل على المستوى التطبيقي، وذلك بضرب أمثلة من كتاباته التنظيرية والشعرية حيث كان من أبرز إسهاماته كما قد علم: النبوغ المغربي الذي يعتبر مرجعا هاما في الأدب المغربي. وأحاديث عن الأدب المغربي الحديث محاولة لتأريخ حركة الأدب المغربي الجديد، قبل وبعد الاستقلال، وإن كان قد اهتم بالأسماء الضخمة ولم يؤرخ إلا بإشارات للأصوات الجديدة. وأدب الفقهاء الذي يتناول بالدراسة أدب العلماء والفقهاء كمالك بن أنس والشافعي وابن حزم وأبي بكر بن العربي والقاضي عياض والزمخشري والشريف الإدريسي وغيرهم، متناولا بالتحليل موضوعاته وقضاياه الكبرى. وذكريات مشاهير رجال المغرب حيث كشف في هذه السلسلة الغزيرة النقاب عن الأدباء والشعراء والعلماء المغاربة الذين ظلوا في غياب التنظير النقدي مغمورين في الخزائن كابن الونان وابن البناء وابن الطيب العلمي وعبد العزيز الفشتالي.

فكانت هذه الكتب مع كتاب “العصف والريحان” و”التعاشيب” شكلا من أشكال الريادة البعثية الإحيائية التي مثلها كنون باعتباره رائدا من رواد حركة البعث الأدبي في المغرب اتسمت عنده بـ:الوظيفة الإحيائية: في التعريف بالتراث القديم وتجديد الصلة بالفكر الأدبي الصالح.

الرصد الأدبي: حيث يرجع إليه الفضل، رحمه الله تعالى، في استرعاء الاهتمام إلى ظاهرة الأدب المغربي في مختلِف عصوره وقضاياه، فاتحا الباب للتنظير النقدي، وإن كان قد اقتصر على المنهج الوصفي الاستعراضي.

التمثل الشامل للأدب العربي؛ إذ نقد مناهج الدراسات الأدبية الشرقية التي تغفل إسهامات الأدب المغربي في تطور الأدب العربي، مؤكدا جهل الشرقيين لدوره الرائد يقول: “ساير موكب الأدب في المغرب مواكبه في الأقطار العربية الأخرى من لدن الفتح الإسلامي إلى الآن، ولئن أغفل كثير من مؤرخي الأدب العربي تسجيل هذه الحقيقة، فإنهم لم يستطيعوا أن يغمضوا أعينهم عن المشاركة الفعالة التي قام بها أفراد عديدون من المغرب في بناء صرح المدنية العربية”.

في هذه المدرسة الأدبية التي يمثلها كنون يتخذ الخط الفكري رداء أدبيا ليؤكد جدلية العلاقة بين فكره وأدبه، وتمثل شخصيته الشاعرة جانبا مهما من جوانب شخصيته الأدبية، فهو ممن مارسوا عملية الشعر مبكرا كما يقول في مقدمة ديوانه “لوحات شعرية” منفعلا مع الشكل العمودي بأغراضه الغزلية والمدحية والرثائية والوطنية والإسلامية، والشكل المحدث بمضمونه الاجتماعي والوطني والقومي، موظفا تجاربه في الاتجاه الإصلاحي الداعي إلى النهوض، والناعي على المسلمين تفرقهم يقول في قصيدة “لسان حال الدولة الإسلامية”:

        دُوَلُ الْإِفْرَنْجِ تُعْلِي شَأْنَهَا                وَإِنَّا فِي كُلِّ شَيْءٍ دُونَهَا

        وَبنُوهَا أَحْـرَزُوا كِـيَانَهَـا       وَبَنُو الْغُـفْـلِ نَهْـبٌ بَيْنَهَا

                      يَا بَنِي الْإِسْلاَمِ مَا هَذَا الْجُمُودْ؟!

وتتميز قصائده العمودية بل الخليلية أو ذات نظام الشطرين على الأصح، بالطابع الحماسي والثورة الخطابية المستنجدة يقول في قصيدة “آلام وأحلام”:

        رَبَّاهُ مَا هَذَا الَّذِي أَوْدَى بِنَا      وَاقْتَادَنَا لِمَوَاطِنِ الْإِعْصَارِ

        فَتَحَكَّمَ الْأَعْـدَاءُ فِي أَرْقَـابِنَا      وَتَدَاوَلَتْنَا أَيْدِي الاِسْتِعْـمَارِ؟

ورغم الطاقة التي بذلها للتجديد، فقد بقي مخلصا للنغم الخليلي في قصيدته “الانحناءة”:

        رَمْزُ الْخُنُوعْ

        شِعَارُ مَنْ

        إِلَى الْخُنُوعْ

        قَدِ اطْمَأَنّْ

        اُنْظُرْ لَهُ

        كَيْفَ انْحَنَى

        ثُمَّ انْثَنَى

        يَا وَيْلَهُ.

الشاعر عبد الله كنون ممن ينفلتون من كل تحديد، وممن شاركوا في مختلِف المجالات، حتى عدّ أستاذا للجيل الجديد بالمغرب. يقول د. التهامي الراجي: “الأستاذ العظيم أديب المغرب وعلامة العرب والإسلام في القرن العشرين عبد الله كنون. إني أقرأ فيض عبقريته في كل شهر بمجلة مجمعنا العلمي العربي بدمشق أو مجلة دعوة الحق بالمغرب[28].”

ظل كنون ينظم الشعر على منوال القدماء حتى ظهرت الحركة الفكرية الحديثة فتطور شعره بكيفية محسوسة، وتبدل أسلوبه وخطته، فترفع عن الموضوعات القديمة، وراح ينظم للشعب يحاكي بشعره آلامه وآماله، عرف عنه الجرأة في القول، والمتانة في اللغة، والتضلع من الأدب المغربي ومعرفة فيه. وكثيرا ما نراه يثور على من يحاول الانتقاص من قيمة التراث العربي المجيد. قال من قصيدة “هل عندنا أدب”؟!

        نُجُـومٌ بَـدَتْ فِي سَـمَـا الْأَدَبِ              تُـمَـثِّـلُ عَـاطِـفَـةَ الْـمَغْـرِبِي

        وَلَـكِـنَّـهَا خَـابِـيَـاتُ الـضِّيَا            يُـغَـالِـبُهَا غَـيْهَـــبُ الْحُجُبِ

        تَغَنَّتْ بِشِعْرٍ صَحِيحِ الْقَـوَافِي          وَأَوْضَـاعُـهُ جَـمَّـةُ الْـعَـطَــــبِ

        وَأَجْـرَى الْـيَـرَاعَـةَ كَـاتِـبُـهَـا         فَـيَـا لَــيْـتَـهُ قَـطُّ لَمْ يَـكْـتُبِ

        تَـطَـاوَلَ فَـخْـراً بِإِحْـسَـانِـهَــا                وَقَـدْ شَـوَّهَــتْ أَدَبَ الْـعَـرَبِ

وقال من قصيدة “المغرورون بالمظاهر”:

        فِي الـنَّـاسِ مَـنْ يَمْلَأُ أَعْـيُـنَهُمْ            مَـظْهَـرُ هَـذِي الْحَيَـاةِ الرَّفِيـهْ

        وَفِـيـهِـمْ مَـنْ شُــغِــفُــوا أَبَـداً             بِـكُـلِّ سَـفْـسَافٍ وَكُلِِّ تَفِيهْ

        لَـكِـنَّـمَا نَـفْـسُ الْـعَـظِـيمِ أَبَـتْ               أَنْ يَظْهَرَ الشَّيْءُ بِمَا لَيْسَ فِيهْ

يتصف كنون بالذكاء الفطري، ورقة الطبع، وكرامة الخلق، وصفاء الضمير. من يقرأ نفثاته السحرية، وشعره الحزين، يؤمن أنه صادر عن قلب متألم وفؤاد مكلوم، وهو داع من دعاة الفضيلة وأنصار الهداية الإسلامية الذين تربوا تربية صالحة لم يشبها شيء من أدران المدنية الكاذبة وفساد التقليد.

وإن مقامه بين العاملين لصالح أمتهم، ونفع وطنهم بكتاباته المتوالية في الصحف، وشعره الذي يمثل العواطف الثائرة في نفوس الشباب؛ قال من قصيدة “من هو الغريب”؟!

        لَيْسَ الْغَـرِيبُ الَّذِي يَبِينُ عَنْ سَـكَنِهْ       لَكِـنَّهُ مَنْ يُسَـامُ الْخَـسْـفَ فِي وَطَنِهْ

        يَلْقَى الْغَرِيبُ الَّذِي يُسْلِيهِ عَنْ حَزَنٍ     وَمَا لِمـِثْـلِي مَا يُسْـلِيـهِ عَـنْ حَـزَنِـهْ

        أَهُمُّ بِـالْأَمْرِ لاَ أَلْـقَـى مُــسَـاعَدَةً          فَصَدْرِي الدَّهْرَ مَطْوِيٌّ عَلَى شَجَنِــهْ

        أَبْكِي دِيَـاراً أَبَـاحَ الْجَهْـلُ حُـرْمَتَهَا    وَقَادَ أَبْنَاءَهَـا الْأَغْـرَارَ فِي رَسَنِـــهْ.

وله في وصف الطبيعة قصائد بلغت حد الروعة من دقة التصوير وبراعة العرض وحسن التلوين. قال في “وصف غدير”:

        وَغَـــدِيــرٍ حَـــفَّـــهُ شَــجَــرٌ          يَا سَقَاهُ الْغَيْثُ مِنْ شَـجَـرِ

        كُــلَّــمَـا مَـرَّ الـنَّـسِــيــمُ بِــهِ         مَالَ فِي مَيْسٍ كَذِي سُكُـرٍ

        وَانْــبَـرَى لِلـسَّـجْـعِ بُـلْـبُـلُــهُ         فَـنَـفَى مَـا كَـانَ مِنْ كَدَرِ

        ظَـلْـتُ فِـيـمَـا بَـيْـنَ مُنْعَـرَجٍ          مِـنْ سَــبِـيـلِـهِ وَمُــنْـحَـدَرِ

        أَتَــرَوَّى مِــنْ مَــنَــاهِــلِهِ            وَأَرُوضُ الْـفِكْرَ بِالـنَّـظَـــرِ

        ضَحْوَةٌ مَرَّتْ كَطَيْفِ كَـــرَى         أَوْ كَـلَمْحِ الْـمَرْءِ بِالْبَصَـــرِ

        بَـرَزَتْ فِـيهَا الطَّـبِيعَـةُ مِـنْ          كُـوَّةِ السَّـحَـائِـبِ الْـغُـــرَرِ

        كَـعَـرُوسٍ رَاقَ مَـنْـظَـرُهَـا           بِالْحُلِيِّ وَالْحُسْنِ وَالْخَـفَــــرِ[29]

الخاتمة

ها نحن أولاء بعد هذه الجولات نتبين كيف كان فقيهنا وشاعرنا من الرسوخ وعلو الهمة ما تراها دائما تعلو لتلامس السحاب، وتأخذ من كل فن بطرف، من حيث ضلت كثرة كثيرة حينما غرقت في تخصصها لتتيه إذا ما هي خرجت عنه قِيد أنملة.

كان فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، رحمه الله تعالى، عليه مجددا من خلال الرجوع إلى تراث الأمة وأئمتها المتفانين في خدمتها فأحسن الوراثة واجتهد في تلمس خير الأمور. ولم يمنعه نهله من القديم التجديد والاجتهاد والإبداع، خاصة في المواطن التي كانت مظنة التعثر من لدن غيره من المغاربة والمشارقة سيان.

فقد عايش الجميل من القديم والحديث على السواء، وراهن على معانقة الحق مهما كان، ولم يقصره على عصر دون عصر، فلم يرفضه بحجة قدامته أو عتاقته، ولم يقبله على علاته بحجة حداثته ومعاصرته.

وأكبر مثال على هذا وذك التقويم في اللغة والأدب حيث منعت الرؤية القاصرة كثيرين من هؤلاء وأولئك من الإبداع في الأساليب والتراكيب فجمدوا على التوقيف دون خوض غمار التوفيق وأنساهم المواضعةَ الاتباعُ المحض، ولكن العلامة عبد الله أمسك العصا من الوسط كما يقال، فكان مثالا رائعا في هذا الشأن؛ هنالك كانت الحكمة ديدنه ودأبه، فالتوقيف توقيف والتوفيق توفيق؛ أما عن التناسب والانسجام بينهما من البصر بجميل الماضي، وعيش الحاضر، واستشراف المستقبل؛ فذلك المطلوب والمنشود من كل صاحب فكرة وفطرة من أهل التحقيق في الفنون والعلوم والآداب.

وإن شئنا الحقيقة فإن المجال اللغوي من أهم المجالات وأعلاها التي حظيت باهتمام المصلحين في عصر النهضة وما قبلها وما بعدها نظرا إلى مسألة بسيطة وهي أنها ذات صلة وشيجة بكل مكتوب من حيث إن إصلاحها يصلحه.

وهكذا بسق الإصلاح من اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها وبيانها إلى التفسير وعلومه والتحقيق وأصوله؛ ليترك هذا العلامة الجليل الرائقَ من العلوم والفنون لأمته.

وللحقيقة فإن في جميع مكتوبات عبد الله كنون يتجلى قلم الأديب وفكر العالم وروح الداعية وعاطفة المحب لله ولرسوله، صلى الله عليه وسلم، وصالحي المؤمنين والناس أجمعين لأنهم إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق إذا ما جاز أن نتمثل بمقولة علي رضي الله تعالى عنه.

كما إن نقوده حين تأتي تخرس كل دعي ومزور ومعور على مذهب القائل:

        إِذَا جَاءَ مُوسَى وَأَلْقَى الْعَصَا            فَقَدْ بَطَلُ السِّحْرُ وَالسَّاحِرُ!

كما كان، رحمه الله تعالى، كبير القدر لا يصغره تنويهه بقدر غيره، بل يزيده عظمة، ويرفعه مكانا عَلِيا، أما الصغار فلا يعرفون قدر الكبار، ولو عرفوه لخشوا أن يتحدثوا عنه، فيشعر الناس بصغرهم. ولله در القائل:

        وَلَيْسَ يَعْرِفُ لِي فَضْلِي وَلاَ أَدَبِي       إِلاَّ امْرُؤ كَانَ ذَا فَضْلٍ وَذَا أَدَبِ!

وإلى هنا ربما قيل لي: إنك كتبت بقلم المحب لا بقلم الناقد، وأنا أشهد أني أحب عبد الله كنون وأتقرب إلى الله تعالى بحبه، ولكني لم أعد الحق في ما خط قلمي، ولا ينبغي أن يغمط الإنسان من يحب، فرارا من أن يتهم بالتحيز، فالعدل يحكم القريب والبعيد، والصديق والعدو. ذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: 153).

وإني لأنكر على من لا يعطون مفكريهم وعلماءهم وأدباءهم ما يستحقون من تكريم وتقدير ينزلهم منازلهم، في حين يصنع الآخرون هالات مكبرة حول رجالاتهم، حتى يجعلوا من الحبة قبة، ومن القط جملا. وصدق فيهم قول الشاعر:

        وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ يُزَيِّنُ بَعْضُهُمْ          بَعْضاً لِيَدْفَعَ مُعْوَرٌ عَنْ مُعْوَرِ!

وإذا قيل: إنك نظرت إلى العلامة بعين الرضا، وعين الرضا لا تبصر العيوب، فحسبي أن أقول: إني لا أزعم أنه، رحمة الله تعالى، عليه مبرأ من العيوب، فما هو بالنبي المعصوم ولا بالملَك المطهر، إنما هو بشر يخطئ كما يخطئ البشر، ويصيب كما يصيب البشر، ولكن أخطاءه مغمورة في محيط حسناته وميزاته. و”إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ”[30]. فكيف إذا كان بحرا لا تكدره الدلاء؟!

الهوامش

[1]. مدافعا ومحاميا.

[2]. نسبة إلى فرانكو الإسباني.

[3]. عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، ط2، طنجة، (ربيع الثاني 1380ﻫ/أكتوبر 1960م).

[4]. مراجع هذه الفقرة:

ـ مجلة الفرقان المغربية العدد 37 سنة 1996م .

ـ مجلة دار النيابة السنة السابعة العدد 25 سنة 1990م.

ـ مجلة دعوة الحق الأعداد العدد الأول السنة 22 مارس 1981م. والعدد 672 شتنبر1989م. والعدد 365 السنة الثالثة والأربعون مارس 2002م.

ـ موقع ”TANGER”. الإلكتروني.

ـ عبد المجيد بنجلون، عبد الله كَنون الوطني.

[5]. عبد الله كنون، أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ط2، 1978، ص65.

[6]. عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي. عبد الله كنون، ط3. د. ت، في مواضع متفرقة من الجزء الأول.

[7]. مصطفى الشليح، في بلاغة القصيدة المغربية، الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، ط1، 1999م، ص60.

[8]. المرجع نفسه. ص60.

[9]. في الكتاب المنقول عنه التصوف والصواب هو التصون نظرا إلى الخطأ المطبعي.

[10]. عباس محمود العقاد، بين الكتب والناس، بيروت: دار الكتاب العربي/لبنان، ط1، آب أغسطس 1966م، ص573-579، بتصرف.

[11]. يقول عبد الله كنون رحمة الله تعالى عليه: “وكتب أيضا أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، رحمه الله، مستوفى عن كتاب النبوغ المغربي حين صدوره في صورة عرض وتحليل. ونحن نثبت هنا القسمين المنشورين منه بجريدة “الوحدة المغربية” الغراء الصادرة بمدينة تطوان في عددها 224 و234 المؤرخين في صفر و29 ربيع الثاني 1361 ونقدمهما بين يدي الكتاب تتويجا له وتحلية”.

[12]. يستشكل بعض الباحثين صدور خطبة طارق بن زياد منه وهو بربري قح، يستبعد أن تكون له هذه العارضة القوية في اللغة العربية، حتى يأتي بتلك الخطبة البليغة. وهو استشكال في غير محله، (أولا)؛ لأن طارق بن زياد إن كان أصله بربريا فقد نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق ولم يكن هو الذي أسلم أولا بل والده، بدليل اسمه زياد فإنه ليس من أسماء البربر، ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وأنه انتقل إلى المشرق حيث تولاه موسى بن نصير ونشأ ولده في هذا الوسط العربي الذي كونه وثقفه. (ثانيا)؛ لأن نبوغ غير العرب في اللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام أمر غير بدع حتى يستغرب من طارق، وهو قد نشأ في بيت إسلامي عربي. فعندنا سلمان الفارسي الذي قضى شطر حياته في بلاد عجمية فلما أسلم بعد ذلك تفتق لسانه بالعربية إلى أن قال فيها الشعر، وبيته المضروب به المثل في الاعتزاز بالإسلام واعتباره وهو نسبه الذي يفخر به، إذا افتخروا بقيس أو بتميم لا يخفى على أحد. ونمثل ببربري آخر، غير طارق وهو عكرمة مولى بن عباس الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب لله من عكرمة؛ ومقامه في العلم والرواية لا يجهل، (ثالثا)؛ لأنه ليس في الخطبة من صناعة البيان ما يمنع نسبتها لطارق، وبلاغتها في نظرنا إنما ترتكز أولا وبالذات على معانيها، والمعاني ليست وقفا على عربي ولا عجمي. نعم يمكن أن يكون وقع في هذه الخطبة بعض تصرف من الرواة بزيادة أو نقص، ونحن قد صححنا فيها بالفعل إحدى العبارات التي لم تكن واضحة الدلالة على معناها، ولكن هذا لا ينفي أصل الخطبة ولا يصح أن يكون حجة للتشكك في نصها الكامل. هذا رأينا ولكل وجهة، والأمير شكيب، رحمه الله، لشدة المودة التي كان يخصنا بها جعلنا حجة في صحة نسبة الخطبة لطارق ولسنا هناك.

[13]. رواه أبو داود في الأدب (1-15) عن جبير بن مطعم.

[14]. النبوغ المغربي، م، س، ص17-24، بتصرف.

[15]. العنوانات التي بين قوسين هي عناوين كتب ألفها عبد الله كنون رحمة الله تعالى عليه.

[16]. ألقيت في الحقل التأبيني الذي أقيم له بمدينة طنجة بتاريخ غشت 1989م. انظر “رجال عرفتهم في المغرب والمشرق”، البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ط1، ( 1412ﻫ/1991م)، ج4، ص 66-71. بتصرف.

[17]. وحتى لا نهتم بالتحيز للعلامة بحق أو بغيره نرجح الحق حيث الدليل المتيقن نظرا إلى قول الله تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين﴾. مما لا يمنع أننا كتبنا عنه المحب الذي لا تودي به المحبة في بحر المجاملة العرجاء.

[18]. الإشارة إلى الأستاذين محمد العربي العلمي ومحمد سعيد العريان وكتاب المعجب لعبد الواحد المراكشي المنشور بتحقيقهما.

[19]. ط. بيروت، ص244.

[20]. اللسان العربي، مجلة دورية للأبحاث اللغوية ونشاط الترجمة والتعريب في العالم العربي. العدد الرابع. (ربيع الثاني 1386ﻫ/غشت 1965م). يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب التابع لجامعة الدول العربية.

[21]. أحمد قبش، تاريخ الشعر العربي الحديث، بيروت: دار الجيل/لبنان، د. ط أو ت، ص182-184، بتصرف.

[22]. ومن قال بأن تقعيد القواعد وتأصيل الأصول يعتبر تقييدا للفن والإبداع؟ بل على العكس من ذلك تماما نرى أن الذي لا يفقه العروض لا يملك أن يلج إلى مملكة الشعر الحق. وله بعد الإمساك بعنان العروض أن يجرب إن كان في مستوى عبد الله كنون، رحمة الله تعالى، عليه. أما أن يأتي المرء غفلا عن كل صنعة فضلا عن الملكة والموهبة ويدعي أنه يكتب الشعر الحر متحررا من القيود، فلا.

[23]. عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، م، س.

[24]. عبد السلام شقور، طنجة: دراسات حديثة، مكتبة الجامعة، ط1، 1981، ص97-103، بتصرف.

[25]. النبوغ المغربي، م، س، ص32.

[26]. عبد الله كنون، أدب الفقهاء، بيروت: دار الكتاب اللبناني، د. ط. د. ت، ص3، بتصرف.

[27]. المرجع نفسه، ص7-12. بتصرف.

[28]. مصطفى الزباخ، في دراسة الأدب العربي الحديث، الرباط: منشورات مكتبة المعارف، ط2. (1403ﻫ/1982م). ص124-129، بتصرف.

[29]. أحمد قبش، تاريخ الشعر العربي الحديث، بيروت: دار الجيل/لبنان. د. ط.  د. ت، ص182-184، بتصرف.

[30]. رواه النسائي في موضعين من سننه برقم 52 و326.

Science
الوسوم

د. سعيد ساجد الكرواني

شاعر وناقد مغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق