مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

العارف بالله أبو المحامد الشيخ أحمد بمب امباكي (الشيخ الخديم رضي الله عنه ) -الحلقة الثانية –

قدمنا في الحلقة الأولى نبذة عن حياة الشيخ الخديم –رحمه الله تعالى -، وعن ضروب النثر التي تطرق إليها، ونؤمل في هذه الحلقة الكلام عن شعره، وعن الأغراض التي تناولها.

الثاني: الشعر

للشيخ الخديم –رضي الله عنه – تراث شعريٌّ كثير، فهو أضعاف أضعاف تراثه النثريّ، ويضمّه ذلك إلى كوكبة الشعراء الصوفية الذين عاشوا في مختلف العصور؛ أولئك الذين «قالوا فأفاضوا، واعتمدوا على البديهة والارتجال فأحسنوا، وأتوا في شعرهم بغرر المعاني وروائع الخيال وبدائع الصور وجميل التشبيهات ولطيف المجازات»(1).

 وإذا نظرنا في شعره – رضي الله عنه –، نجده متّسمًا بصدق التجربة، حاملا بين أحشائهِ معانيَ سامية، تسبح في فلك تحقيق العبودية الحقة لله تعالى؛ بصدق التوجّه إليه والإقبال على ما فيه مرضاته، إلى ما ينطوي على ذلك من مشاعر صادقة يحسُّ بها  – رحمه الله – تجاه سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم –، وعبَّر عنها بشعر يفوح منه أريج المحبة والوداد والصفاء.

 ويدندنُ شعره حول أمرين اثنين، أولهما: توحيد الخالق، ويتفرّع منه موضوعات كثيرة، ومنها المناجاة والتوسل والابتهال، ثانيهما: إخلاص الخدمة للرسول –صلى الله عليه وسلّم – بمدحه والصلاة عليه، وكشف أوصافه البهيّة وأخلاقه السّنيّة، إلى النّصح لأمته وإرشادهم إلى فيه سعادتهم العاجلة والآجلة. 

ويفهمُ ذلك من قوله: 

وجَّهتُ توحيدي لخَيْر مُرسِل =*= وقدتُ أمداحي لخير مُرْسَل

*  *   *

رفعت توحيدي لربي الواحد =*= رافع أمداح لليث الجاحد

ويمكن في هذا المقام حصر الأغراض التي تطرق إليها الشيخ – رحمه الله – في ما يلي:

1- المدح النبويّ:

كان للصوفية عناية خاصة بالمديح النبويّ، وكان لهم إقبال منقطع النظير على سبك القصائد الفائقة والمدائح الرائقة في ذات قطب الوجود –صلى الله عليه وسلم -، متقربين بذلك إلى الله زلفى، مستمطرين بركاتهِ – صلى الله عليه وسلم -،  طامعين في شفاعته يوم القيامة، ورحم الله القائل: [من الكامل]

مَدْحُ الرَّسولِ عِبَادَةٌ وتَقَرُّبُ =*= لله فاسْعَوْا لِلْمَدَائِحِ وَاطْرَبُوا

فَبِمَدْحِهِ الْبَرَكَاتُ تَنْزِلُ جَمَّةً =*= وبِمَدْحِهِ مُرُّ الْحَنَاجِرِ يَعْذُبُ

وليس ما حبَّره الصوفية في مدحه –صلى الله عليه وسلم – «مجرد نظم سيرته وسرد معجزاته وتبيان شمائله الظاهرة»(2)، بل يتجاوزه إلى «إظهار عاطفة الأديب المحبِّ تجاهه وفنائه في محبته وكشف صورته الباطنيّة وكماله وحقيقته الوجودية»(3).

ويعدُّ المديح النبوي أحد الموضوعات التي تناولها الشيخ الخديم – رحمه الله تعالى -، وفي صدر الأغراض الشعرية التي تطرق إليها وأفاض فيها؛ فقد أكثر – رحمه الله- من مدح النبي –صلى الله عليه وسلم -، مبتغياً به الوسيلة إلى ربه عزوجل، معتقداً أنّ مدحَه – صلى الله عليه وسلم – مفتاحُ الفلاح، وباب التوفيق والرباح، وأنه عبادة تقرب المادح المخلصَ إلى الله زلفى، وترفعه إلى حضرة سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم – الذي يمدُّ الأولياء والعارفين بالله؛ فمن بركاته يغترفون، ومن نفحاته يرتشفون، يقول – رحمه الله -: [من الطويل]

مَدِيحُكَ يَا خَيْرَ البَرَايَا عِبَادَةٌ=*=يَنَالَ بِهِ الْفَوْزَ الَّذِي دَامَ يَمْدَحُ

ويقول: [من الطويل]

كَرِيمٌ مَتَى تَمْدَحْهُ يَمْدَحْكَ رَبُّهُ=*=وَفِي مَدْحِهِ فَارَقْتُ شَكًّا مَعَ الْغَيِّ

ويقول: [من الرجز]

أَمْدَاحُهُ قَادَتْ لَنَا الصَّلَاحَا=*=وَالْأَمْنَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْفَلَاحَا

ومن أجل ذلك صرف – رحمه الله – «مدادهُ وأقلامَهُ» إلى خدمة النبي – صلى الله عليه وسلم -، بكشف صفاته الجميلة ومفاخره الجليلة، وإلى التعريف بالإنسان الكامل الذي يجب على الأمة النسجُ على منواله، والائتساء به في أقواله وأفعاله وأحواله، ليحصل لهم بذلك السعادة والمدد والتوفيق، ويقول في مدحته: «المشرب الصافي»: [من البسيط]

وَهْوَ الَّذِي لَا أَزَالُ الدَّهْرَ مَادِحَهُ =*= حِرْصًا عَلَى ذِكْرِ مَا قَدْ حَازَ مِنْ سِيَرِ

وكان الشيخ– رحمه الله – يؤمنُ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحقّ الناس بالثناء، وأجدرهم بالتنويه والمديح، وأن شمائله الباهرة، ومناقبه السائرة تضيق عن درك وصفها الدفاتر، وتنفد دون ذكر عشرها المحابر، ولله دره حين قال: بمن البسيط]

وَهْوَ النَّجِيبُ الَّذِي فِي وَصْفِ خِلْقَتِه =*= وَخُلْقِه قِيلَت اَسْجَاعٌ وَأَشْعَارُ

وَلَمْ يَجِئْ مِنْ ذَوِي الْإِفْلَاقِ وَالْبُلَغَا =*= بِالسَّجْعِ وَالشِّعْرِ مِمَّا حَازَ مِعْشَارُ

ويقول في «فتح الفتاح في مدح المفتاح»:

ضَاعَ ثَنَاءٌ لَمْ يَكُنْ مَدْحَ النَّبِي =*= إِذْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ مَنْقَبِ

ضَنَّ بِلُبِّهِ الَّذِي قَدْ أَفْلَقَا =*= وَلَمْ يُدِمْ مَدْحَ الْكَرِيمِ الْمُنْتَقَى

وقد حبَّر قصائد كثيرة في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – أشهرها:

– مقدمات الأمداح في مزايا المفتاح

– جذب القلوب لعلام الغيوب

– مواهب النافع في مدائح الشافع

– سعادات المريدين في أمداح خير المرسلين

– جالبة المزيات ودافعة الرزيات في مدح خير البريات

– الـمَشربُ الشَّافِي في مدحِ الـمُصطفَى الكَافِي

– الميمية «القلب مني»

– النونيات: (1) قد عاقني عن مزاري مسكن المنن، (2) قد عاقني اليوم حب الأهل والوطن، (3) قد طاب قلبي لما الله سلمني.

*   *   *

ومن مدائحه النبوية قوله في قصيدته «سعادات المريدين في أمداح خير المرسلين» المشهورة بالرائية؛ فقد استهلّها بمقدمة يبين فيها الحيرة التي تستولي عليه والوله الذي يبرِّحُ بهِ، وما ذلك إلّا للنزاع الشديد الذي بين قلبه وجسمه والحرب المضطرمة بينهما؛ فالأول يسمُو إلى المعالي وَيحنّ إلى محامد الأمور، والثاني أخلد إلى الدعة والراحة وغره بالله الغرور، ولا يزيدُه عتابُ القلب وعذلهُ إلا إصراراً على الباطل، ولَجاجًا في غُلوائهِ، يقول في مقدمتها: [من البسيط]

قَلْبِي لَهُ فِي عِتَابِ الْجِسْمِ تَكْرَارُ =*= لِأَنَّهُ لِلْهُدَى وَالنُّورِ جَرَّارُ

يَلُومُ جِسْمِيَ دَأْبًا فِي الْجُلُوسِ بِلَا =*= عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ وَالنَّفْسُ غَرَّارُ

مَا زَالَ لِلْخَيْرِ يَدْعُوهُ وَيَجْذُبُهُ =*= وَلِلسَّعَادَةِ دَأْبًا وَهْوَ قَرَّارُ

يَلُومُهُ وَهْوَ فِي قَهْرٍ وَفِي كَبَلٍ =*= بِإِذْنِ رَبِّيَ وَالْمَحْبُوسُ مِبْرَارُ

قَدْ عَاقَ جِسْمِيَ عَمَّا الْقَلْبُ يَطْلُبُهُ =*= مِنَ الْمَنَاقِبِ تَسْوِيفٌ وَإِصْرَارُ

فَالْيَوْمَ وَجَّهْتُ وَجْهِي تَائِبًا أَبَدًا =*= لِلَّهِ تَوْبَةَ مَنْ أَدْنَاهُ غَفَّارُ

غَفَّارُ لِي اغْفِرْ ذُنُوبِي وَافْكُكَنْ كَبَلِي =*= بِمَنْ عَلَيَّ لِتَرْكِي زَوْرَهُ عَارُ

ثم يعرج إلى مدح سيد الوجود –صلى الله عليه وسلم -، مشيدا بحسن خلاله وطيب خصاله، ومنها: البذل والبأس والشجاعةُ والحلم والصبر، إلى معارف وهبيّة لم يذق معشارها مخلوقٌ، ومكانة سنيةٍ لم يتسنّمْها ذو جاهٍ مرموق، يقول: [من البسيط]

فَلَا تَقِيسُوا ابـْـنَ عَبْدِ اللهِ بِالْفُضَلَا =*= إِنَّ الْكَوَاكِبَ يُـخْـفِيـهَا سِنِمَّارُ

لِلْمُصْطَفَى خَيْرِ خَلْقِ اللهِ مَنْزِلَةٌ =*= لَوْ وُجِّهَتْ نَحْوَهَا كُلُّ الْوَرَى حَارُواْ

رَامَ الْوَرَى نَيْلَ فَضْلٍ مُسْرِعِينَ لَهُ =*= وَالْفَضْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ قَرَّارُ

كِلْتَا يَدَيْهِ لَهَا سَعْيٌ تُلَازِمُهُ =*= بَذْلٌ وَبَأْسٌ لِمَنْ لَانُواْ وَمَنْ جَارُوا

لَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَحْوِهِ بَشَرٌ =*= أَوْ جِنٌّ اَوْ مَلَكٌ وَالصَّدْرُ مِزْخَارُ

لَهُ لَدَى اللهِ سِرٌّ لَا يُطَالِعُهُ =*= بِالْكَدِّ وَالْعِلْمِ رُهْبَانٌ وَأَحْبَارُ

فَالْغَيْثُ مِنْ سَكْبِ جُودِ الْبَرِّ ذُو خَجَلٍ =*= وَلَيْثُ غَابٍ لِخَوْفٍ مِنْهُ فَرَّارُ

لَهُ مِنَ الْحِلْمِ مَا لَمْ يَحْوِهِ جَبَلٌ =*= لَاقَى الْأَذَى فِي الْبَرَايَا وَهْوَ صَبَّارُ

إِنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ =*= مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ بَتَّارُ

لِلْكُلِّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْيَارِ مَرْتَبَةٌ =*= لَكِنَّمَا أَحْمَدُ الْمُخْتَارُ مُخْتَارُ

وقد ختمها بالدعاء والابتهال متوسلا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وبالصحابة – رضي الله عنهم أجمعين-

ويقول في نونية مطلعها: [من البسيط]

قَدْ عَاقَنِي الْيَوْمَ حُبُّ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ =*= عَن دَرْكِ مَا لِذَوِي الْأَنْوَارِ وَالْفِطَنِ

وهي نونية رائعة استهلها بالحنين إلى بيت الله الحرام، وبالشكوى مما يلقاه من تباريح الشوق والغرام، مبتهلا إلى ربه سبحانه وتعالى أن يوفقه للحج، ولزيارة سيد الوجود –صلى الله عليه وسلم – الذي تهفو نفسه إلى زيارته، متخلصًا إلى مدحه والكشف عن قدره الشريف ومقامه المنيف، يقول: 

اَلْمُذْهِبِ الْحَزَنِ ابْنِ الْمُذْهِبِ الْحَزَنِ ابْـ =*= ـنِ الْمُذْهِبِ الْحَزَنِ ابْنِ الْمُذْهِبِ الْحَزَنِ

زَادِ الْمُسَافِرِ غَوْثِ الْمُسْتَغِيثِ وَعَوْ =*= ـنِ الْمُسْتَعِينِ وَخَيْرِ الْحِصْنِ وَالْجُنَنِ

الجِهْبِذِ الْفَطِنِ ابْنِ الْجِهْبِذِ الْفَطِنِ ابْـ =*= ـنِ الْجِهْبِذِ الْفَطِنِ ابْنِ الْجِهْبِذِ الْفَطِنِ

بَابِ الْمَرَاغِبِ مِفْتَاحِ الْمَطَالِبِ مِغْـ =*= ـلَاقِ الْمَهَالِكِ لِلْمُرْتَاعِ ذِي الشَّجَنِ

الطَّاهِرِ الْحَسَنِ ابْنِ الطَّاهِرِ الْحَسَنِ ابْـ =*= ـنِ الطَّاهِرِ الْحَسَنِ ابْن الطَّاهِرِ الْحَسَنِ

بَابِ الْهِدَايَةِ مِغْلَاقِ الْغَوَايَةِ مِفْـ =*= ـتَاحِ الدِّرَايَةِ جَالِي الشِّرْكِ وَالْوَثَنِ

الرَّافِعِ الْـمُكَنِ ابْنِ الرَّافِعِ الْـمُكَنِ ابْـ =*= ـنِ الرَّافِعِ الْـمُكَنِ ابْنِ الرَّافِعِ الْـمُكَنِ =*= بَابِ الْفَلَاحِ

وَمِفْتَاحِ الصَّلَاحِ وَمِغْـ =*= ـلَاقِ الطَّلَاحِ مُقِيمِ النَّهْجِ وَالسُّنَنِ

فَالْعِلْمُ أَتْقَنَهُ وَالسَّعْيُ أَحْسَنَهُ =*= بِذَا لَهُ انقَادَتِ الْخَيْرَاتُ بِالرَّسَنِ

فَالْعَقْلُ تَمَّ لَهُ وَالْفَهْمُ لَازَمَهُ =*= بِذَا تَوَطَّنَتِ الْآدَابُ فِي الْعَطَنِ

وَالْقَلْبُ مُقْتَرِبٌ وَالدَّمْعُ مُنْسَكِبٌ =*= وَالْجِسْمُ مُنتَصِبٌ فِي الْفَرْضِ وَالسُّنَنِ

وَالصَّدْرُ فِي حَزَنٍ وَالْعَيْنُ فِي نَظَرٍ =*= وَالْجِسْمُ فِي نَصَبٍ شُكْرًا عَلَى الْمِنَنِ

وهي أبيات بهية، تكرر فيها الترصيع؛ وجاءتْ على مقاطع مسجوعةٍ، وأجزاء متوافقةٍ ومتشابهة، فجاءت موسيقاها عذبةً رقراقةً.

وله قصيدة أخرى مشهورة اسمها «مواهب النافع في مدائح الشافع»، ما زالت تهيج قلوب مريديه، ويلهجون بها في الموالد والمهرجانات الصوفية، ونظمها على منوال قصيدة الشيخ محمد اليدالي الشنقيطيّ –رحمهما الله تعالى – التي مطلعها:

صلاةُ ربِّي=*= مَعَ السَّلاَمِ

عَلَى حَبِيبِي=*=خَيْرِ الأَنَامِ(4)

وهي همزية طويلة مسمطّة تكلم فيها الشيخ الخديم –رحمه الله تعالى – عن مناقبه – صلى الله عليه وسلم – الفاخرة، وأخلاقه الباهرة، ثم مدحَ الصحابة – رضي الله عنهم – وأثنى على بأسهم وشجاعتهم، إلى تحدثه –رحمه الله تعالى – بالنعم الظاهرة والباطنة التي أسبغه الله تعالى عليه، يقول:

يَا أَهْلَ بَرِّ =*= يَا أَهْلَ بَحْرِ

عُوجُواْ لِبَرِّ =*= بَحْرِ السَّخَاءِ

مَاحِي الْعُيُوبِ =*= مُبْدِي الْغُيُوبِ

مُنْقِي الْجُيُوبِ =*= مِنَ الطَّخَاءِ

مُسْدِي الْأَيَادِي =*= مُرْدِي الْأَعَادِي

مُعْطِي الْـمُرَادِ =*= مَعَ الرَّخَاءِ

مَاحِي الرَّذَائِلْ =*= مُعْطِي الْفَضَائِلْ

مُحْيِي الْـمَنَازِلْ =*= بَعْدَ الْعَفَاءِ

نِعْمَ الْحَبِيبُ =*= نِعْمَ الْقَرِيبُ

نِعْمَ اللَّبِيبُ =*= مَاحِي الْخَفَاءِ

حَمَى الْعِيَالَا =*= كَفَى الْقِتَالَا

مَحَا الْـمَجَالَا =*= بِلَا رِفَاءِ

أَخْفَى الشُّرُورَا =*= أَبْدَى الْخُيُورَا

قَادَ السُّرُورَا =*= لِذِي الرَّجَاءِ

شَفَى السَّقِيمَا =*= نَفَى الْأَلِيمَا

قَادَ الْخَدِيمَا =*= إِلَى النَّجَاءِ

قَدْ فَكَّ كَبْلَا =*= قَدْ بَثَّ فَضْلَا

فَالضُّرُّ وَلَّـى =*= وَالنَّفْعُ جَاءِ

جَالِـي النَّوَائِبْ =*= مُبْدِي عَجَائِبْ

نَافِي مَصَائِبْ =*= بَادِي اللُّهَاءِ

مُسْدِي الْخُيُورِ =*= إِلَى الْقُصُورِ

بَادِي النُّصُورِ =*= بَادِي الْبَهَاءِ

غَيْثٌ أَفَادَا =*= مَنِ اسْتَفَادَا

لَيْثٌ أَبَادَا =*= عِدَى الدَّهَاءِ

لَهُ مَنَاقِبْ =*= لَهُ عَجَائِبْ

لَه غَرَائِبْ =*= بِلَا انْتِهَاءِ

ظَبْيٌ يُكَلِّمْ =*= ضَبٌّ يُسَلِّمْ

طَيْرٌ يُعَظِّمْ =*= كَذِي دَهَاءِ

سَرْحٌ تَسِيرُ =*= غَيْثٌ يَفُورُ

بِئْرٌ تَفُورُ =*= بِلَا رِشَاءِ

جِذْعٌ يَحِنُّ =*= لَهُ يَئِنُّ

ذِئْبٌ يَعِنُّ =*= بِرَعْيِ شَاءِ

ويلاحظ القارئ حرصَ الشاعر على تجويد مِدحته النبوية، واهتمامه بالمحسنات البديعية من طباق وجناس وغيرهما، وكذلك قوة ظهور ذات الشاعر في النص، واستحلاءَهُ الكشفَ عن عاطفته وعن المشاعر الجيّاشة التي يحس بها تجاه الممدوح – صلى الله عليه وسلم -،  والتحدّثَ بأياديه الجسيمةِ عليه، فهو – صلى الله عليه وسلم – حلَّاه من العيوب، وأظفره بالغيوب، وفك كبله، وبثَّ عليه فضله، ورفعه إلى رتبة الأصفياء الأكابر، وخلّصه من أعدائه الذين كانوا يتربصون به الدوائر.

*  *  *

 وتلكم بضعة أمثلة من مدائحه – رحمه الله تعالى – للنبي –صلى الله عليه وسلم -، وهي تتألف غالباً من عناصر أبرزها: مدح النبي – صلى الله عليه وسلم-، والتوسل به، والصلاة عليه، ومدح الصحابة – رضي الله عنهم -، ومدح القرآن الكريم، إلى ما يتخلل ذلك من الشكر لله تعالى والثناء عليه والتحدث بالمواهب اللدنية التي تفضل بها عليه(5).

2- المناجاةُ والتوسل:

للشيخ – رحمه الله تعالى – شعر كثير يسبح في فلك المناجاة والابتهال، والتوبة والاستغفار، بالإنابة إلى الله والتضرع إليه، فتراه – رحمه الله – ناكس الرأس، ممرّغا خدّه في تُراب العبوديّة، خاشعًا قلبه وجوارحه، سائلا ربه اللطف والغفران، والستر والرضوان، مؤملا أن يخلع عليه حلله الباهرة، وأن يفيض عليه آلاءهُ الباطنة والظاهرة، إلى ما يتخلل ذلك من ثناء على الله تعالى، وشكر له، وتحدّث بما اختصه به من النعم والمواهب، كما يتخلله في كثير من الأحيان الصلاة على النبي – صلّى الله عليه وسلم-، والتوسل إلى الله بصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين – رحمهم الله تعالى -.

ومن ذلك قصيدته الهائية المشهورة التي كرّر في قوافيها كلها لفظة الجلالة «الله»، استلذاذاً واستعذابًا، داعيًا ربّه تضرُّعًا وخفيةً، مثنيا عليه بما يليق بكماله، يقول فيها: [من البسيط]

بِسْمِ الْإِلَهِ اكْفِنِي الْأَكْدَارَ  يَاللهُ =*= صَفِّ الْبَقَاءَ بِهِ لِي فِيكَ يَاللهُ

يَا مَنْ لَهُ الْأَمْرُ يَا مَنْ لَا شَرِيكَ لَهُ =*= وَسِّعْ وَمَلِّكْ وَأَطْلِقْ فِيكَ يَاللهُ

وَاجَهْتُكَ الْيَوْمَ يَا رَحْمَانُ مُرْتَجِيًا =*= فَوْزِي بِمَا شِئْتُ فِي دُنْيَاكَ يَاللهُ

أَنْتَ الرَّحِيمُ الَّذِي أَرْجُو بِرَحْمَتِهِ =*= أَنْ لَا أُلَاقِيَ ضُرًّا مِنْكَ يَاللهُ

مَلِّكْ يَمِينِي وَقَلْبِي السُّؤْلَ يَا مَلِكِي =*= بِلَا حِسَابٍ بِجُودٍ مِنْكَ يَاللهُ

قَدَّسَّتَ سِرِّيَ يَا قُدُّوسُ مُرْتَضِيًا =*= عَنِّي وَعَنْكَ رَضِيتُ الدَّهْرَ يَاللهُ

أَنْتَ السَّلَامُ الَّذِي سَلَّمْتَ كُلِّيَ مِنْ =*= عُيُوبِ نَفْسِي بِطَيٍّ مِنْكَ يَاللهُ

يَا مُؤْمِنُ اكْفِ جَنَابِي الضُّرَّ مَعْ كَدَرٍ =*= وَهَبْ لِيَ الْأَمْنَ فِي الدَّارَيْنِ يَاللهُ

وَبِالْمُهَيْمِنِ لِي اشْهَدْ بِاشْتِرَائِكَ مَا =*= قَدْ بِعْتُ سِرًّا إِلَى الْجَنَّاتِ يَاللهُ

أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي أَبْغِي بِعِزَّتِهِ =*= عِزًّا يُخَلِّدُ لِي التَّكْرِيمَ يَاللهُ

ومنها ميميته التي يجأر فيها إلى ربه، ويشكو كثرةَ ذنوبه وغرقه في المعاصي، ويرجو من مولاه العفو والغفران وأن يجاوز عن عثراته وزلاته، إلى ما في القصيدة من هضم النفس، فهو –رحمه الله تعالى – متذلـل بين يدي ربه، منكسر القلب، يغلبه الغموم، وتستولي عليه الهموم، يقول فيها: [من المتقارب]

شَكَوْتُ أُمُورِي وَذَنْبِي الْعَظِيمْ =*= لِرَبِّي الْقَدِيرِ الْغَفُورِ الرَّحِيمْ

فَكُنْ مُشْكِيًا لِي وَهَبْ لِي الْمُنَى =*= بِجَاهِ النَّبِيِّ الشَّفِيعِ الْكَرِيمْ

وَصَلِّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ انْتِهًا =*= وَسَلِّمْ سَلاَمًا عَلَيْهِ يَدُومْ

وَكُنْ لِي وَلِيًّا هُنَا وَغَدًا =*= وَكُنْ لِي نَصِيرًا فَإِنِّي عَدِيمْ

وَكُنْ بِي لَطِيفًا وَهَبْ لِي رِضًى =*= وَكُنْ لِي غَفُورًا فَإِنِّي مُلِيمْ

وَكُنْ لِي مُعِينًا عَلَى مَطْلَبِي =*= وَكُنْ مُقْدِرًا لِي فَإِنِّي سَئِيمْ

وَهَبْ لِي صَلاَحًا وَهَبْ لِي تُقًى =*= وَنَوِّرْ جَنَانِي وَزِدْنِي عُلُومْ

وَهَبْ لِي نَجَاةً وَزِدْنِي هُدًى =*= وَأَصْلِحْ أُمُورِي وَزِدْنِي نَعِيمْ

وَأَخْرِجْ عُيُوبِي وَزِدْنِي عُلًى =*= وَأَبْرِأْ سَقَامِي وَفَرِّجْ غُمُومْ

وَلاَ تُخْزِيَنِّي قِنِي مَهْلُكًا =*= وَلاَ تَفْضَحَنِّي بِكَوْنِي لَئِيمْ

فَإِنِّي لَئِيمٌ أَسِيرُ الْهَوَى =*= وَعَاصٍ وَلَكِنْ إِلَهِي حَلِيمْ

وَعَافِيَةً هَبْ هُنَا وَغَدًا =*= لَنَا وَلِمَنْ لِهُدًى يَسْتَقِيمْ

وَصَلِّ صَلاَةً عَلَى الْمُصْطَفَى =*= وَسَلِّمْ سَلاَمًا عَلَيْهِ يَدُومْ

وله أيضا – رحمه الله – هائية اشتهرت بـ«الصنديد»ـ يتوجه فيها إلى الله سبحانه تعالى، متوجها إليه بصفوة خلقه، متوسلا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبأولي العزم والرسل ـ عليهم الصلاة السلام ـ، وبصفوة الملائكة، وبالخلفاء الأربعة والصحابة، وبالأئمة الأربعة كما يتوسل فيها باللوح المحفوظ والقلم والكرسي والكتب السماوية، ويقول فيها:[من البسيط]

يَاللَّهُ بِالْمُصْطَفَى الصِّنْدِيدِ يَاللَّهُ =*= وَبِخَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ يَاللَّهُ

وَبِكَلِيمِكَ مُوسَى صَالِحٍ خَضِرٍ =*= وَبِشُعَيْبٍ وَإِسْمَاعِيلَ يَاللَّهُ

وَبِسُلَيْمَانَ نُوحٍ يُونُسَ الْيَسَعٍ =*= وَزَكَرِيَّاءَ يَحْيَى هُودَ يَاللَّهُ

هَارُونَ يُوشُعَ إِلْيَاسٍ وَآدَمَ مَعْ =*= دَاوُدَ ذِي الْكِفْلِ عِيسَى لُوطَ يَاللَّهُ

وَيُوسُفٍ وَبِإِسْحَاقٍ وَغَيْرِهِمُ =*= مِنْ أنْبِيَاءَ وَرُسْلٍ لَكَ يَاللَّهُ

وَبِالْمَلَائِكِ طُرًّا ثُمَّ صَفْوَتِهِمْ =*= جِبْرِيلَ ثُمَّ بِمِيكَائِيلَ يَاللَّهُ

وَصَاحِبِ النَّفْخِ إِسْرَافِيلَ قَابِضِ أَرْ =*= وَاحِ الْخَلَائِقِ عِزْرَائِيلَ يَاللَّهُ

وَبِالصَّحَابَةِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ مَعًا =*= وَالْعَامِلِينَ مِنَ الْأَحْبَارِ يَاللَّهُ

وَبِالصِّدِيقِ وَبِالْفَارُوقِ ثُمَّ بِذِي =*= النُّورَيْنِ ثُمَّ أَبِي السِّبْطَيْنِ يَاللَّهُ

بِمَالِكٍ ذِي الْمَزَايَا الشَّافِعِيِّ أَبِي =*= حَنِيفَةٍ أَحْمَدَ الْمَحْمُودِ يَاللَّهُ

بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ بِعَرْ =*= شِكَ الْعَظِيمِ وَبِالْكُرْسِىِّ يَاللَّهُ

وَبِالْقُرَانِ وَبِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ بِمَا =*= دَاوُدُ جَاءَ بِهِ وَالرُّوحُ يَاللَّهُ

بَلِّغْ صَلَاتِي وَتَسْلِيمِي عَلَيْهِ لَهُ =*= وَالْآلِ وَالصَّحْبِ وَالْأَزْوَاجِ يَاللَّهُ

ثم ينتقل – رحمه الله تعالى – إلى الابتهال، داعياً مولاهُ أن يسبل عليه ثوب العافية، وأن يرزقه القصد، -وهو ملازمةُ الوسط المعتدل في الأمور -، والفتح والرشد، وأن يكفيه تعالى الزّلل في الأقوال والأعمال، ويعصمه من الأعداء والأهوال والأوجال، يقول:[ من البسيط]

وَأَسْبِلَنَّ عَلَيْنَا رَبِّ عَافِيَةً =*= وَهَبْ لَنَا الْقَصْدَ فِي الدَّارَيْنِ يَاللَّهُ

وَافْتَحْ لَنَا كُلَّ بَابٍ كُنْتَ فَاتِحَهُ =*= لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْخَيْرَاتِ يَاللَّهُ

وَاسْلُكْ بِنَا نَهْجَ رُشْدٍ وَاكْفِنَا زَلَلًا =*= وَاطْرُدْ لَنَا الْجِنَّ وَالشَّيْطَانَ يَاللَّهُ

وَكَمِّلَنْ كُلَّ مَا نَنْحُو وَنَقْصِدُهُ =*= وَهَبْ لَنَا كُلَّ مَا نَخْتَارُ يَاللَّهُ

وَرُضْ لَنَا كُلَّ ذِي صَعْبٍ وَذِي حَرَنٍ =*= وَيَسِّرَنْ كُلَّ ذِي التَّعْسِيرِ يَاللَّهُ

طَوِّلْ لَنَا عُمْرَنَا صَحِّحْ لَنَا بَدَنًا =*= وَهَبْ لَنَا الرُّشْدَ وَالتَّوْفِيقَ يَاللَّهُ

وَدَمِّرَنْ كُلَّ أَعْدَاءٍ تُضِرُّ بِنَا =*= قَبْلَ الْوُصُولِ لَنَا يَاللَّهُ يَاللَّهُ

وَكُنْ لَنَا عَاصِمًا مِنْ كُلِّ مَهْلَكَةٍ =*= وَنَجِّنَا مِنْ بَلَايَا الدَّهْرَِ يَاللَّهُ

وهي قصيدة المباني رائقة المعاني، يلاحظ فيها القارئ «كيف أظهر الفقر والعجز ومد إليه سبحانه يدَ الافتقار في إقامة حق العبودية من الامتثال يدعوه صفيا باسم الجلالة ويتوسل بالصالحين بعد صلاته على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إقرارا بأن الأعمال وإن بالغ العبد في تزكيتها لا تتأهل للرفع إلا بكرمه تعالى لعدمية العبد في نفسه»(6).

وله أشعارٌ أخر في التوسل والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -، مثل منظومته «تَيسير العسير في الصلاة على البشير النذير» التي يدعو فيها الله ربّه، مصلّيا على النبي – صلى الله عليه وسلم – متوسلا به، وبسور القرآن الكريم، ويقول فيها: [من الرجز]

وَانْشُرْ عَلَيَّ بَرَكَاتِ الْفَاتِحَهْ =*= وَاجْعَلْ قِلَامِي خَيْرَ بَابٍ فَاتِحَهْ

وَصَلِّ يَا رَحِيمُ وَلْتُسَلِّمَا =*= عَلَى الَّذِي بِهِ كَشَفْتَ الظُّلَمَا

وَهْوَ الَّذِي سَمَّيْتَ بِالضِّيَاءِ =*= وَالْآلِ وَالصَّحْبِ ذَوِي الْحَيَاءِ

وَانْشُرْ عَلَيَّ بَرَكَاتِ الْبَقَرَهْ =*= يَا مَنْ يُوَجِّهُ لِغَيْرِي سَقَرَهْ

وَغَيْرَهَا مِنْ كُلِّ بَابِ النَّارِ =*= وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ وَالشَّنَارِ

وَصَلِّ يَا مَلِكُ وَلْتُسَلِّمِ =*= عَلَى الَّذِي بَشَّرْتَهُ بِقَلَمِي

وَهْوَ الَّذِي سَمَّيْتَهُ بِالْمَلْجَأِ =*= وَالْآلِ وَالْأَصْحَابِ وَاشْكُرْ لَجَإِي

وَانْشُرْ عَلَيَّ بَرَكَاتِ آلِ =*= عِمْرَانَ فِي الْآلِ وَفِي الْمَآلِ

بِغَيْرِ آفَةٍ وَغَيْرِ كَدَرِ =*= يَا ذَا الْقَضَاءِ وَالْوَرَى وَالْقَدَرِ

وَصَلِّ يَا قُدُّوسُ بِالتَّسْلِيمِ =*= عَلَى النَّبِي مَدِينَةِ الْعُلُومِ

وَهْوَ الَّذِي سَمَّيْتَ بِالشِّفَاءِ =*= وَالْآلِ وَالصَّحْبِ ذَوِي الْوَفَاءِ

وَلِيَ هَبْ بِسُورَةِ النِّسَاءِ =*= كَوْنَكَ لِي فِي الصُّبْحِ وَالْمَسَاءِ

وَبَرَكَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ =*= بِلَا تَغَرُّرٍ وَلَا انْتِهَارِ

وَعِصْمَةً مِنَ الْأَذَى وَلْتَشْكُرِ =*= هَذَا النِّظَامَ وَلْتُنَوِّرْ فِكَرِي

وعلى فلك المناجاة والصلاة على سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم – تدور أراجيز أخر للشيخ – رحمه الله تعالى – مثل: نور الدارين في خدمة الحامي عن العارين، ونور الدارين في الصلاة على سيد الكونين، ومفاتح البشر والأمن والجنة في التسليم على مقيم السنة…

3- الزهد:

إن من أخلاق الصوفية الإعراض عمَّا سوى الله تعالى، والازورارَ عن كل ما يشغَلهم عن الحقِّ، بالزهد في الدنيا وحطامها، والإقبال على الدار الآخرة، وإيثار الخمول، ومجانبة الجاه والشهرة، وكذلك ترك مخالطة أهل البذخ والترف من الأمراء والسلاطين، إذ الداخل عليهم «متعرض لأن يعصي الله إما بفعله، وإما بسكوته، وإما بقوله، وإما باعتقاده ولا ينفك عن أحد هذه الأمور»(7).

ومن زهدياتِ الشيخ الخديم – رحمه الله تعالى – نونيته المشهورة بـ«قالوا لي اركن»؛ وهي عشرة أبيات كتبها إلى قومه إثرَ والده –رحمهما الله -؛ فقد «طلبوا منه أن يُداريَ السّلاطين ويركن إلى أبوابهمْ، وليخلف أباه الذي كان وجيها عندهم مشاوَراً ناصحًا أميناً، فعلَّ أن يظفر ببعض المباحات التي يستعين بها ـ حسب نظرهم ـ على حوائجه وعلى طاعة الله وعبادته، لكنه –رحمه الله – رفض هذا العرض، وربأ بنفسه عن الوقوف على عتَبات الضيم واستحيا أن يراه ملائكةُ الرحمانِ ناكسَ الرّأس على باب أميرٍ أو سلطانٍ جائرٍ، مؤثرا رضى الخالق على رضى المخلوق، قانعاً بما أسبغه الله عليه من ستر»(8)، والقصيدة هي: [من البسيط]

قَالُوا لِيَ ارْكَنْ لِأَبْوَابِ السَّلَاطِينِ=*=تَحُزْ جَوَائِزَ تُغْنِي كُلَّمَا حِينِ

فَقُلْتُ حَسْبِيَ رَبِّي وَاكْتَفَيْتُ بِهِ=*=وَلَسْتُ رَاضِيَ غَيْرِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ

وَلَسْتُ أَرْجُو وَلَا أَخْشَى سِوَى مَلِكِي=*=لِأَنَّهُ جَلَّ يُغْنِينِي وَيُنْجِينِي

أَنَّى أُفَوِّضُ أَحْوَالِي لِمَنْ عَجَزُوا=*= عَنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ عَجْزَ الْمَسَاكِينِ؟!

أَوْ كَيْفَ يَبْعَثُنِي حُبُّ الْحُطَامِ عَلَى=*= جِوَارِ مَنْ دُورُهُمْ رَوْضُ الشَّيَاطِينِ؟!

إِنْ كُنْتُ ذَا حَزَنٍ أَوْ كُنْتُ ذَا وَطَرٍ=*=دَعَوْتُ ذَا الْعَيْنِ قَبْلَ الرَّاءِ وَالشِّينِ

وَهْوَ الْمُعِينُ الَّذِي لَاشَيْءَ يُعْجِزُهُ=*=وَهْوَ الْمُكَوِّنُ مَا شَا أَيَّ تَكْوِينِ

إِنْ شَاءَ تَعْجِيلَ أَمْرٍ كَانَ ذَا عَجَلٍ=*=أَوْ شَاءَ تَأْجِيلَهُ يَبْطَأْ إِلَى حِينِ

يَا مَنْ يَلُومُ فَلَا تُكْثِرْ وَدَعْ عَذَلِي=*=إِذْ لَسْتُ مِنْ فَقْدِ تِي الدُّنْيَا بِمَحْزُونِ

إِنْ كَانَ عَيْبِيَ زُهْدٌ فِي حُطَامِهِمُ=*=فَذَاكَ عَيْبٌ نَفِيسٌ لَيْسَ يُخْزِينِي

وهي رائع سبكها، بهي حبْكها، هَجم فيها الشيخ – رحمه الله – على ما يريده مكافحة، وتناوله مصافحةً، وبين فيها أنه لا يخاف ولا يرجو مخلوقا لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا، ولا يفوّض أمره إلا إلى الله تعالى، ولا يتّخذ من دونه وليًّا ولا نصيرًا، وكذلك فلا أرَبَ له إلّا في «العلم والدين»، ثم اختتم –رحمه الله – قصيدته بالإفصاح عن رضاه بما فيه وقناعته به، إلى كونه غير مأسوفٍ على عدم مخالطته للأمراء، ولن يزال مقبلًا على ربّه تعالى، صارفاً إليهِ همّته بصدقٍ ووفاءٍ وإخلاص.

ومن زهديّاته أيضا قصيدته المشهورة بـ«قالوا سفيه»، وهي ثلاثة عشر بيتا، كتبها ردًّا على بني جلدته الذين رثوا لحاله، وشكُّوا في عقله، لما رأوه منعزلا عن الناس، مقبلا على الأذكار والأوراد، مشتغلا عن اللهو وما لا يعني، لا يخالط الأمراء فضلا أن يختلف إلى قصورهم، يقول –رحمه الله تعالى-:

قَالُوا سَفِيهٌ لِصَرْفِي عَنْهُمُ بَصَرِي=*=وَرَغْبَتِي عَنْ ذَوِي الْعِصْيَانِ فِي الْبَشَرِ

قَالُوا سَفِيهٌ لِتَفْوِيضِي إِلَى مَلِكِي=*=أَمْرِي عَنِ الْكَوْنِ فِي صَفْوٍ وَفِي كَدَرِ

قَالُوا سَفِيهٌ لِحُبِّي خَالِقِي مَلِكِي=*=وَلَمْ أَكُنْ لِلْبَرَايَا أَشْتَكِي ضَرَرِي

قَالُوا سَفِيهٌ لِكَوْنِي لَمْ أَخَفْ أَحَدًا=*=وَمَا رَجَوْتُ سِوَى الرَّحْمَانِ ذِي الْقَدَرِ

قَالُوا سَفِيهٌ لِقَفْوِي نَهْجَ مَلْجَئِنَا=*=الشَّيْخِ سِيدِيَ فَحْلِ الْخَيْرِ فِي الْخَبَرِ

فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي وَاتْرُكُوا عَذَلِي=*=مَا لِي سِوَى طَاعَةِ الرَّحْمَانِ مِنْ وَطَرِ

مَا لِي سِوَى اللَّهِ إِذْ مَا اللَّحْدُ غَيَّبَنِي=*=وَجَاءَنِي الْمَلَكَانِ الدَّهْرَ مِنْ وَزَرِ

مَا لِي غَدًا حِينَ عَزْرَائِيلُ يَقْبِضُنِي=*=رُوحِي نَصِيرٌ سِوَى مَوْلَايَ فِي الْعُصُرِ

مَا لِي غَدًا يَوْمَ حَشْرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمُ=*=رَبٌّ لَطِيفٌ سِوَى مَوْلَايَ ذِي الْبَشَرِ

مَا لِي إِذَا الضُّرُّ أَضْنَانِي وَأَزْمَنَنِي=*=غَوْثٌ رَحِيمٌ سِوَى مَوْلَايَ يَا زُمَرِي

إِن سَفَّهُونِيَ فِي وِرْدٍ أَخَذْتُ بِهِ=*=لِلشَّيْخِ سِيدِيَ شَيْخِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ

فَلَا أَكُونُ رَشِيدًا مِثْلَ رُشْدِهِمُ=*=فَسَوْفَ يَمْتَازُ يَوْمًا أَعْظَمُ السِّيَرِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ كَانَتْ سَفَاهَتُنَا=*=إِدَامَةَ الْوِرْدِ وَالْأَذْكَارِ وَالْفِكَرِ

والأبيات كتبها الشيخ في ميعة شبابه، وهي – كما ترى – طنانة رنانة، استهلها بذكر ما دفع قومه إلى تسفيهه، ولا يعدو زهده في الدنيا وحطامها، وإقباله على مولاه سبحانه وتعالى، وحبه له وتوكّله عليه، وإنابته إليهِ، وسلوكه مسلك الصوفية الأبرار، واشتغاله بالفكرة والأوراد والأذكار، لكنهمْ لم يلبثوا أن «تفطنوا للفارق بين عقل الرشيد وعقل السفيه في المجانبة والمخالفة، فأدركوا أن السفيه يظهر ضعفه في طلب الخير والهرب عن الشرّ، ويلتبس عليه أحدهما من الآخر، ولا يخطر بباله التمييز بين شرّ الشرين وخير الخيرين. ووجدوا هذا الناشئ لا يتردد في سلوك سبيل الخير ولا يدرك جده واجتهاده فيه، ولا يحوم حول الشر فعلموا أن من السفاهة حلما، ومن البلادة ذكاء، ومن البله عقلا، فتبدّل تشاؤمهم تفاؤلا»(9).

4- الوعظُ والإرشادُ:

لشعراء الصوفية اهتمام كبير بالوعظ والإرشاد، ولهم وصايا كثيرة ونصائح وفيرة، جعلوها في قالب شعري، خصبة بما تحمله من معانٍ مستوحاةٍ من الكتاب والسنة، ومن آثار السلف الصالح، فلا تخرج عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الترغيب في مكارم الأخلاق والفضائل، والترهيب من المساوئ والرذائل.

وإنّ للشعر الخديم – رحمه الله تعالى – شعرا كثيرا في هذا الغرض، كان يوجهه إلى أتباعه ومريديه؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومنه هذه الوصية التي وصى بها مريده المختار الديماني الموريتانيّ، يندبه فيها إلى التّشمّر عن ساعد الجدّ، والتّوقُّل في معارج المجد، بأن يرفع همّته إلى رفيع المراتب، ويهوءَ بنفسه إلى شريف المطالب؛ إذ لا سبيل إلى تسوُّرِ شرفات المعالي إلا بتحمل المشقة ومكابدة الليالي. كما يحذّره من الإخلاد إلى اللهو واللعب، ويندبه إلى التماس الرشاد والجدّ في الطلب، وإلى التحلي بالصبر، بأن يكون جَلْداً عند المصائب، رابط الجأش عند النوائب.

وقد وصاه فيها أيضا باتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعضِّ عليها بالنَّواجذ؛ لأَنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، وبمخالطة الصالحين والأبرار ومزايلة الطالحين والأشرار، مختتما بحضِّه على إدمان التَّوكّل، بأن ينيب إلى الله ويفوض أموره إليه، ويتخذه وكيلًا ومَوْلًى وَنصيرًا، مع مجانبة التواكل والالتفات إلى الخلق، لأنهم لا يملكون نَفْعاً ولا ضَرًّا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نُشوراً.

ونص الوصية: 

عَلَيْكَ يَا مُخْتَارُ بِاجْتِهَادِ=*=فِي كُلِّ سَاعَةٍ عَلَى الرَّشَادِ

وَلَازِمِ التَّقْوَى وَرُمْ تَعَلُّمَا=*=وَلَا تُكَثِّرْ لَعِبًا فَتَنْدَمَا

وَاصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ وَالتَّخَدُّدِ=*=وَدُمْ عَلَى السُّكُوتِ وَالتَّجَلُّدِ

إِنْ تَجْتَهِدْ فِي الْعِلْمِ وَقْتَ صِغَرِكْ=*=تَنَلْ مَقَاصِدَكَ وَقْتَ كِبَرِكْ

وَلَسْتَ تَحْتَوِي أَخِي الْـمَزَايَا=*=مَا لَـمْ تُدِمْ صَبْرًا عَلَى الرَّزَايَا

صَبْرًا جَمِيلًا لَا تَكُنْ كَسُولَا=*=إِنَّ الْكَسُولَ لَا يَسُودُ الْجِيلَا

وَنَاءِ كُلَّ مَا نَهَى الْجَلِيلُ=*=وَثِقْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ

وَلَا تُصَاحِبْ غَيْرَ مَنْ يُرْشِدُكَا=*=وَنَاءِ كُلَّ صَاحِبٍ يُهْلِكُكَا

إِذْ رُبَّ غُمْرٍ قَدْ غَدَا نَبِيلَا=*=بِصُحْبَةِ الصَّالِحِ لَا تَمِيلَا

وَرُبَّ صَالِحٍ غَدَا ذَلِيلَا=*=بِصُحْبَةِ الْأَحْمَقِ ذَرْ جَهُولَا

كُنْ مُتَوَكِّلًا عَلَى الرَّحْمَانِ=*=فِي كُلِّ وَقْتٍ يَا فَتَى الدَّيْمَانِي

ومن شعره – رحمه الله – في الوعظ والإرشاد أيضًا رائيته التي يحث فيها على إدمان المراقبة، بالحرص على الوقت، وتعميره بصنوف الطاعات والقربات، مع مجانبة إضاعته في ما لا يغني ولا ينفع، كما يحث فيها على الأخلاق الفاضلة مثل الصدق والإخلاص والتواضع وإدمانِ التوبة، ويحذر فيها من الصفات المهلكة كالكبر والرياء والسمعة والعجب، والالتفات إلى الخلق، يقول فيها(10):

أَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَانُ لَا تُهْمِلُوا الدَّهْرَا=*=وَلَا تَنْسَوُا الدَّيَّانَ سِرًّا وَلَا جَهْرَا

وَلَا تُهْمِلُوا الْأَوْقَاتَ بِالْأَكْلِ وَالْكَرَى=*=وَتَكْثِيرِ مَزْحِ الْقَوْلِ بَلْ كَثِّرُوا الذِّكْرَا

وَمَنْ أَهْمَلَ الْأَوْقَاتَ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ=*=فَسَوْفَ يُلَاقِي اللَّهَ فَاسْتَعْمِلُوا فِكْرَا

وَمَنْ لَقِيَ الرَّحْمَانَ جَلَّ جَلَالُهُ=*=بِغَيْرِ الْهُدَى يَهْلِكْ هَلَاكًا وَلَا ظَفْرَا

وَمَنْ لَقِيَ الْمَوْلَى بِكِبْرٍ مَعَ الرِّيَا=*=يُعَذَّبْ بِعَدْلِ اللَّهِ فَاسْتَبْعِدُوا الْكِبْرَا

وَمَنْ سَاءَهُ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ فِي غَدٍ=*=فَلَا يَعْصِ مَوْلَانَا وَلَا يَكْفُرَنْ كُفْرَا

وَمَنْ سَرَّهُ نَيْلُ الْأَمَانِي بِجَنَّةٍ=*=فَلَا يَلْتَفِتْ لِلنَّاسِ فِي سَعْيِهِ طُرَّا

وَمَنْ كَانَ يَسْعَى لِلْبَرَايَا فَخَائِبٌ=*=لِأَنَّ الْوَرَى لَمْ يَمْلِكُوا نَفْعًا اَوْ ضُرَّا

وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ=*=مُعِينًا لِذِي فَقْرٍ فَأَعْجِبْ بِهِ غُمْرَا

وَمَنْ كَانَ مِعْوَانًا لِذِي الضُّعْفِ وَالْجَوَى=*=وَلَمْ يَكُ ذَا عُجْبٍ فَأَكْرِمْ بِهِ بَرَّا

وَمَنْ كَانَ مِكْثَارًا لِذَنْبٍ وَلَمْ يَكُنْ=*=إِلَى اللَّهِ أَوَّابًا فَقَدْ نَامَ وَاغْتَرَّا

أَيَا قَوْمِ كُونُوا كُلَّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ=*=مُطِيعِينَ لِلرَّحْمَانِ كَيْ تُحْرِزُوا الْأَجْرَا

ثم يدعو إلى ادكار الموت، والتأهب للدار الآخرة، بالاعتزال عن الخلق، وملازمة الجوع، والتفكر في آيات الله، والتقليل من المنام والكلام، إلى إدمان مجاهدة الأعداء التي تتربص بالمريد الدوائر، وهي الشيطان والنفس والهوى، وإلى التمسك بسنة سيد الوجود -صلى الله عليه وسلم –، يقول:  

وَلَا تَغْفُلُوا لَا تَنْسَوُا الْمَوْتَ سَاعَةً=*=وَدُومُوا عَلَى تَذْكَارِهِ وَادْأَبُوا الْبِرَّا

وَآلَاتُهُ خُمْصٌ وَصُمْتٌ وَفِكْرَةٌ=*=وَتَقْلِيلُ نَوْمٍ وَاعْتِزَالٌ وَلَا نُكْرَا

وَلَا تَتْبَعُوا إِبْلِيسَ وَالنَّفْسَ وَالْهَوَى=*=وَرَبِّ الْوَرَى قَدْ خَابَ مَنْ كَانَ مُغْتَرَّا

وَكُونُوا جَمِيعًا مُقْتَفِي سَيِّدِ الْوَرَى=*=عَلَيْهِ سَلَامَا اللَّهِ مَا فَاقَنَا الدَّهْرَا

5- الشعر التعليميّ:

وهو شعر يحتوي بين طواياه على جملة من المعارف والعلوم، وقد اهتم به شعراء الصوفية السنغاليين وأكثروا منه، وألفوا منظومات في مختلف العلوم، مثل العقيدة والفقه والتصوف والنحو والعروض؛ لكون الشعر أسهل حفظاً من المنثور، وأيسر تذكّرا واستحضارًا، فكان في صنيعهم نشر للعلم وإسعاف للشادين والمبتدئين.

وقد اعتنى الشيخ الخديم – رحمه الله تعالى – بالنظم التعليمي، وألّف فيه عشرات المنظومات، كان يتحرى فيها تقريب المادة العلمية إلى أذهان الطلاب، وإسعافهم في فهمها وضبطها وحفظها، وتلكم المقاصد جلية في العناوين التي يضعها على منظوماتها، مثل: «تزود الصغار إلى جنان الله ذي الأنهار» و«تزود الشبان إلى اتباع الملك الديان»، و«زاد ذوي التعلم لربهم وراحة المعلِّم»، و«سعادة الطلابُ وراحةُ طالب الإعراب» كما ينص عليها تارةً في مقدمات منظوماته أو خواتمها، مثل قوله في مقدمة نظمه لرسالة ابن أبي زيد القيروانيّ: [الرجز]

وَأَسْأَلُ اللهَ الْكَرِيمَ بِالنَّبِي=*=صَلَّى عَلَيْهِ بِسَلَامٍ مُطْنَبِ

أَنْ لَا يَزَالَ ذَا النِّظَامُ رَائِقَا=*=مُبَارَكًا وَنَاِفعًا وَفَائِقَا

…وَأَنْ يَكُونَ النُّورَ فِي الْمَكَاتِبِ=*=مُطِيبَ نَفْسَيْ قَارِئٍ وَكَاتِبِ

وَأَنْ يَجُرَّ لِلْجِنَانِ كُلَّ مَنْ=*=لَازَمَهُ وَكَوْنَهُ حِصْنَ الْأَمَنْ

…وَأَنْ يَكُونَ رَاحَةَ الْمُعَلِّمِ=*=وَالْمُتَعَلِّمِ لَدَى التَّعَلُّمِ(11)

وتمتاز منظوماته – رحمه الله تعالى – بجودة السبك وسهولة الأسلوب، ووضوح المعاني، وخلوِّها من الركَّةِ والغموضِ، ولله درّه حين قال في نهاية منظومته «مواهب القدوس» التي عقد بها متن «أم البراهين» للإمام العارف بالله أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (ت:895هـ) – رحمهما الله تعالى-: [الرجز]

اَلْحَمْدُ للهِ عَلَى الْإِكْمَالِ=*=وَغَيْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ

نَظْمًا جَلَا غَوَامِضَ السَّنُوسِي=*=مَعَ الدَّقَائِقِ بِلَا تَلْبِيسِ

مُكَيِّسَ الْبَلِيدِ مُسْمِعَ الْأَصَمْ=*=مُنَبِّهَ الْمُرْتَابِ مِنْ نَوْمِ الْوَهَمْ

مُسَهِّلَ الصِّعَابِ بِالتَّوْضِيحِ=*=مُقَرِّبَ الْأَقْصَى بِلَا تَلْمِيحِ

عَذْرَاءَ لَمْ يَفْتَضَّهَا إِنْسُ الْفِكَرْ=*=أَوْ جِنُّهَا قَطُّ وَلَا فِيَّ فَخَرْ

تَسْبِي فُؤَادَ كُلِّ ذِي ذَكَاءِ=*=وَازْدَرَتِ اللُّؤْلُؤَ فِي الْبَهَاءِ

زَفَفْتُهَا لِمَاهِرٍ عَالِي الْمَرَامْ=*=وَالْمَهْرُ أَنْ يَدْعُو بِأَحْسَنِ الْخِتَامْ

ومنظوماته العلمية التي عثرنا عليها كلها أراجيز، وتدور على أربعة علوم ومعارف، وهي: العقيدة والفقه والتصوف والنحو؛ ففي العقيدة الأشعرية عقد متن «أم البراهين» و«الحفيدة» وهما للإمام السنوسي –رحمهما الله تعالى -، كما عقد مقدمة ابن أبي زيد القيرواني العقدية وسماها «فيض الغني المغني في نظم ما عن السلوك يغني»، ويقول فيها: [من الرجز]

وَاجْعَلْ مِنَ الْوَاجِبِ كَوْنَ صَحْبِ مَنْ=*=لِيَ يَسُوقُ خَيْرَ سُؤْلٍ بِأَمَنْ

خَيْرَ الْقُرُونِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمُ=*=وَمَنْ يَلِيهِمْ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمُ

عَلَى الْجَمِيعِ سَرْمَدًا رِضَى السَّمِيعْ=*=بِجَاهِ مَنْ لِيَ يُسَخِّرُ الْجُمُوعْ

وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْمُتَّبِعَهْ=*=لِذِي الْمَزَايَا الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَهْ

صِدِّيقُهُمْ عُمَرُ ذُو النُّورَيْنِ=*=زَوْجُ الْبَتُولِ مَنْ نَفَى الْعَارَيْنِ

وَوَجَبَ الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَا=*=بَيْنَ الَّذِينَ دَوَّخُواْ مَنْ فَجَرَا

إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَقِّ الْيَقِينْ=*=عَلَيْهِمُ رِضْوَانُ مُرْقِي الْمُتَّقِينْ

وَاذْكُرْ جَمِيعَهُمْ بِخَيْرِ الذِّكْرِ=*=وَلَا تَكُنْ فِي أَبَدٍ ذَا نُكْرِ(12)

وفي الفقه المالكي عقد مختصر الشيخ عبد الرحمن الأخضري – رحمهما الله تعالى -، وسماه «الجوهر النفيس في عقد نثر الأخضري الرئيس»، وله أيضا «سلاح أهل الخوف»، و«نهج الحقيقة في هتك ستر العقيقة» الذي يحتوي بين طواياه على أحكام العقيقة، ويقول فيه: [من الرجز]

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَانَ فَرَدْ=*=وَلَمْ يَلِدْ وَلَا بِمَوْلُودِ أَحَدْ

وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مَنْ قَدْ نَدَبْ=*=عَقِيقَةً لِوَالِدٍ لَهُ انْتَسَبْ

وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الْأَتْبَاعِ=*=وَمَنْ قَفَوْهُمْ بِهُدَى اتِّبَاعِ

وَبَعْدُ فَالْمَقْصُودُ نَظْمٌ يَصِفُ=*=عَقِيقَةَ الْمَوْلُودِ عَمَّنْ سَلَفُوا

يَا سَائِلِي عَنْ صِفَةِ الْعَقِيقَهْ=*=إِنْ كُنْتَ قَاصِدًا لَهَا حَقِيقَهْ

فَلْتَذْبَحَنْ وَاحِدَةً تُجْزِئُ فِي=*=ضَحِيَّةٍ وَذَبْحُ شَاتَيْنِ قُفِي

وَقْتَ النَّهَارِ سَابِعَ الْوِلَادَهْ=*=ضُحًى إِلَى الْغُرُوبِ لِلْعِبَادَهْ

وَحُكْمُهَا سُنِّيَّةٌ وَقِيلَ بَلْ=*=مَنْدُوبَةٌ وَالرَّاجِحُ الثَّانِي أَجَلْ

وَبِالْغُرُوبِ تَسْقُطُ الْعَقِيقَهْ=*=وَتَتَعَدَّدُ بِهِ حَقِيقَهْ(13)

وفي التصوف ألف فيه ما لا يحصى، ومنه نظمه: «منور الصدور لدى المنازل وعند الدور» الذي عقد به «بداية الهداية» لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 555هـ)، و«جالبة البرور ودافعة الغرور» و«مغالق النيران ومفاتح الجنان»، وأجلّه وأنفعه منظومته «مسالك الجنان» التي عقد بها «خاتمة التصوف»، للعلامة الشيخ محمد اليدالي الشنقيطي (ت:1166هـ/1753م) وهي في ألف وخمسمائة بيت ونيّف، ويقول فيها ذاكراً الخلافَ في تعريف لفظة التصوف: [الرجز]

ثُمَّ اشْتِقَاقُ كِلْمَةِ التَّصَوُّفِ=*=مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِأَقْوَالٍ تَفِي

فَقِيلَ صُفَّةٌ، وَقِيلَ صَفُّ=*=وَقِيلَ صُوفٌ، قِيلَ صَفْوٌ فَاقْفُ

وَقِيلَ غَيْرُ ذِي، وَكُلٌّ مِنْهُمُ=*=بُرْهَانُهُ مُسْتَحْسَنٌ عِندَهُمُ

أَقْوَالُهُمْ فِيهِ عَلَى أَلْفٍ تَزِيدْ=*=تَعْدَادُنَا لَهَا هُنَا لَيْسَ يُفِيدْ

وَالْحَاصِلُ الصُّوفِيُّ عَالِمٌ عَمِلْ=*=بِعِلْمِهِ حَقِيقَةً وَلَمْ يَمِلْ

فَصَارَ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ=*=مُمْتَلِئَ الْقَلْبِ مِنَ الْأَفْكَارِ

مُنْقَطِعًا لِرَبِّهِ مِنَ الْبَـشَرْ=*=مُسَوِّيًا دِينَارَ عَيْنٍ بِالْـمَدَرْ

كَالْأَرْضِ يُرْمَى فَوْقَهَا كُلُّ قَبِيحْ=*=وَلَا تُرِي مِنْ بَطْنِهَا إِلَّا مَلِيحْ

يَطَأُهَا الْكَرِيمُ وَاللَّئِيمُ=*=وَالْبَرُّ وَالْعَاصِي وَتَسْتَدِيمُ

وَكَالسَّحَابِ وَكَقَطْرِ الْـمَاءِ=*=فِي الظِّلِّ وَالسَّقْيِ بِلَا اسْتِثْنَاءِ

وَمَنْ يَكُنْ كَذَاكَ فَهْوَ صُوفِي=*=أَوْلَا فَذُو دَعْوَى عَلَى الْمَعْرُوفِ(14)

وله منظومتان عقدهما على غرار «منظومة ابن عاشر»، واحتوتا على مباحث عقدية وفقهية وصوفية، وهما: «تزود الصغار إلى جنان الله ذي الأنهار»، و«تزود الشبان إلى اتباع الملك الديان»، وهما مطبوعان ضمن كتاب «منظومتان في العقيدة والفقه والتصوف» نشرت سنة 1436هـ/2015م.

ومن أجود أنظامهِ منظومته في النحو: «سعادة الطلاب وراحة طالب الإعراب» التي عقد بها المقدمة الآجرومية، عقدا محكما ورصفًا متقناً(15)، وامتاز النظمُ بميزتين اثنتين هما:

الأولى: حُفُولُ النظمِ بالأمثلة التي تعين قارءَهُ على فَهم ما بين طواياهُ من القواعد وضبطها من غير  وكسٍ ولا شططٍ؛ فإن التَّمثيلُ منهج فعَّال، وأسلوبٌ من أفيد الأساليب في التعليم والإيضاح، لأنه يُدني البعيد، ويبين الغامض، ويطرد الملل والسىآمة، كما يقرب المسائل إلى الأذهان، ويساعد على تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد.

الثانية: انتهاجه في التمثيل منهجَ النّاصح الأمين، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ فقد أنصف «عمراً» من «زيدٍ»، وضرب الذكر صفحاً عن الأمثلة النمطية التي شحنت بها الكتب التعليمية والتي تشِطُّ كثيراً عن الواقع، وذلك لاكتناهه أهمية المثال، وأثره البالغ في المتعلِّم، ولاسيما إذا كانَ شادياً حديث السنّ.

ومن أبيات النظم قوله في أقسام الفعل:

يَنْقَسِمُ الْفِعْلُ إِلَى أَفْعَالِ =*= ثَلَاثَةٍ بِقَوْلِ كُلِّ تَالِ

مَاضٍ مُضَارِعٍ وَأَمْرٍ كَاتَّقِ =*= رَبَّ الْوَرَى فَقَدْ نَجَا مَنْ يَتَّقِ

وقوله في باب المتبدأ:

اَلْـمُبْتَدَا الاسْمُ الَّذِي عَرِيَ مِنْ =*= عَوَامِلٍ لَفْظِيَّةٍ حَيْثُ يَعِنْ

مُرْتَفِعًا كَاللهُ رَبُّنَا السَّمِيعْ =*= مُحَمَّدٌ نَبِيُّنا، وَهْوَ الشَّفِيعْ

وقوله في إعراب الأفعال الخمسة:

وَلاَ تَزَالِـي تَسْتُـرِينَ الْبَدَنَا=*=وَلاَ تُخَالِطِي الرِّجَالَ زَمَنَا 

*   *   *

وَلَنْ تَنَالِي الدِّينَ حَتَّى تَسْتُـرِي=*=جِسْمَكِ يَا زَيْنَبُ بِالتَّخَمُّرِ 

وغير ذلك من الأبيات الرقيقة والمعاني الأنيقة التي تدل على علو كعبه، ومقدرته العجيبة في نظم العلوم والمعارف.

*   *   *

وهذه صفحات عن حياة العارف بالله الشيخ الخديم –رضي الله عنه-، وتعريف بما خلفه من تراث علميٍّ وأدب صوفيّ، حقيق بالبحث، وجدير بالدراسة والنظر، فعسى أن تتيسر فرص أخر للتعمّق في الموضوع، مع مزيد من المناقشة والتحليل.

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) الأدب في التراث الصوفي (ص:167)

(2) الأدب الصوفي في المغرب إبان القرنين (12و13هـ) ظواهر وقضايا -، للدكتور عبد الوهاب الفيلالي (ص:245)

(3) الأدب الصوفي في المغرب (ص:245)

(4) انظر: المربي شرح صلاة ربي، للشيخ محمد اليدالي، تحقيق: محمد بن أحمد بن الطالب عيسي الأمسمي الشنقيطي.

(5) للمزيد انظر: البُعْدُ الْفَنِّيُّ في شعر المديح النبوي للشيخ أحمد بامبا مباكي، للأستاذ المفتش عبد الأحد لوح.

(6) منن الباقي القديم (1/119)

(7) ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين (ص:59)

(8) من:  تحليلنا لقصيدة «قالوا لي اركن»

(9) منن الباقي القديم (1/35)

(10) ديوان سلك الجواهر (ص:585)

(11) المغني في شرح فيض الغني المغني (ص:170)

(12) المغني بشرح فيض الغني المغني (ص:177)

(13) انظر المنظومة في: المجموعة الكبرى (ص:647)، ديوان سلك الجواهر (ص:561)، ديوان العلوم الدينية (2/14)

(14) مسالك الجنان (ص:12)

(15) انظر: فتح الوهاب في شرح سعادة الطلاب.

وصلى الله على سيدنا محمد وسلم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. حفظ الله الدكتور أبا مدين شعيب تياو وتولى أمره ومدد في عمره بجاه شيخنا الخديم رضي الله عنه وأرضَاه شاب له همم في نشر التراث الخديمي بأسدصح الوجه وأحسنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق