الضعيف مما ورد في نسخ الآجال في ليلة النصف من شعبان

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وبعد:
يعد شهر شعبان من الأشهر المباركة، والمواسم العظيمة، التي يستحب استغلالها بالطاعات والقربات؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر من صيامه كما ورد ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان"([1]).وفيه ليلة النصف، التي اشتهر فضلها قديما عند بعض السلف من التابعين، فكانوا يجتهدون في إحيائها قال ابن رجب الحنبلي: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ومكحول، و لقمان بن عامر ، و غيرهم ، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، و عنهم أخذ الناس فضلها، وتعظيمها، وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك؛ فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، و أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز؛ منهم :عطاء ،وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، و هو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا : ذلك كله بدعة "([2])، كما ورد عن بعض أهل العلم أن هذه الليلة مما تنسخ فيها آجال العباد ،وذلك في تفسير قول الله تعالى في سورة الدخان (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم)([3])، مستدلين ببعض الآثار الواردة في هذا الموضوع وأسانيدها ضعيفة، وبعضها أشد ضعفا، وقد رد بعض أهل العلم القول بنسخ الآجال ليلة النصف من شعبان،مؤكدين أن الليلة المقصودة في الآية المذكورة هي ليلة القدر المباركة.قال القرطبي: "وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها، ولا في نسخ الآجال فيها ، فلا تلتفتوا إليه"([4])،وقال ابن كثير:"ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان - كما روي عن عكرمة - فقد أبعد النجعة فإن نص القرآن أنها في رمضان".([5])، وهو قول الجمهور وهو الصحيح كما قال ابن رجب([6]).
ومن باب التذكير بضعيف ما ورد في نسخ الآجال في هذه الليلة جاء هذا المقال ؛ الذي سأقتصر فيه على ذكر أربعة منها ، مع تخريجها، وذكر أقوال العلماء في الموضوع؛ وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
- الحديث الأول :
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن عائشة رضي الله عنها حدثتهم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شعبان كله،قالت : قلت يارسول الله أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال : " إن الله يكتب على كل نفس منية تلك السنة ، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم ".
- تخريجه:
أخرجه أبو يعلى في مسنده بهذا اللفظ([7])، والعقيلي في ضعفائه([8]) ، وفي إسناده علتان وهما: مسلم بن خالد الزنجي،قال الهيثمي في المجمع: " وفيه كلام ، وقد وثق "([9])، وتلميذه طريف قال العقيلي: "روى عنه مسلم بن خالد لا يعرف إلا به، لا يتابع عليه"([10]).
وله وجه آخر بنحوه أخرجه الخطيب في تاريخه وفيه: أبي بلال الأشعري وهو ضعيف، وكذا شيخه: عامر بن يساف اليماني([11])الذي قال عنه ابن عدي: منكر الحديث عن الثقات ؛ ومع ضعفه يكتب حديثه([12]).
أما شقه الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "كان يصوم شعبان كله " ثابت من طرق صحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الصوم ، باب: صوم شعبان ([13])، ومسلم في صحيحه، في كتاب: الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان ([14]).
- الحديث الثاني:
حديث عثمان بن المغيرة بن الأخنس: "يقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له،ولقد خرج اسمه في الموتى".
- تخريجه:
أخرجه بهذا اللفظ، الخلال في المجالس العشرة([15])، وابن سمعون في أماليه ([16]) ، والبيهقي في شعبه، في باب: ما جاء في ليلة النصف من شعبان([17])،كلهم من طريق عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وقد كانت له أوهام قال ابن حجر:"صدوق له أوهام"([18])، وهو من الطبقة السادسة لم يرو عن أي صحابي، فروايته معضلة.
وله طريق أخرى موصوله بنحوه عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه ابن زنجويه كما عزاه إليه السيوطي في جمع الجوامع([19])، وابن حجر في الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس ([20])،قال ابن المديني في العلل مشيرا إلى نكارته بعدما أورد علل حديث:"من جعل على القضاء": " وروى عثمان هذا أحاديث مناكير عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة"([21]).
- الحديث الثالث:
عن راشد بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في ليلة النصف من شعبان يحيى الله إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة".
- تخريجه:
أخرجه الدينوري في المجالسة([22])من طريق بكير بن عبد الله عن راشد بن سعد ، وعزاه السيوطي إليه في الجامع الصغير ([23])، وهذا الإسناد ضعيف لوجود علتين وهما:ضعف بكير بن عبد الله بن أبي مريم، قال ابن حجر ملخصا قول الأئمة فيه:"ضعيف ، وكان قد سرق بيته فاختلط".([24])، وراشد بن سعد لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم،قال ابن حجر:"ثقة كثير الإرسال"([25]). فهو مرسل.
- الحديث الرابع:
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هل تدرين ما في هذه الليلة؟ قالت: ما فيها يا رسول الله؟ فقال: " فيها يكتب كل مولود من بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة، وفيها ترفع أعمالهم، وفيها وتنزل أرزاقهم ..".
- تخريجه:
أخرجه البيهقي في فضائل الأوقات([26])،وفي الدعوات الكبير([27])،من طريق النضرابن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها ،وذكر الذهبي من هذا الطريق طرفا منه في الميزان في منكرات النضر ابن كثير ([28]).
وهذا الإسناد ضعيف جدا ؛ لأن فيه خلف بن محمد بن إسماعيل البخاري قال الذهبي نقلا عن الخليلي: "خلط وهو ضعيف جدا ، روى متونا لا تعرف"[29])، وفيه كذلك النضر بن كثير، قال ابن حجر ملخصا أمره: "ضعيف من الثامنة"[30]).
الخاتمة:
وخلاصة القول فإن أحاديث نسخ الآجال في شهر شعبان ضعيفة،وأن الليلة المقصودة في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم)([31])، هي ليلة القدر المباركة كما ذهب إليه الجمهور ، لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله تعالى أجملها في آية سورة الدخان، وبينها في سورة القدر بقوله تعالى : (إنا أنزلناه في ليلة القدر)([32])، فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي الاشتباه كما قال العلامة الشوكاني ([33]).
********************
هوامش المقال:
([1])أخرجه البخاري في صحيحه (2 /50)، في كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، برقم: (1969).
([3]) سورة الدخان الآيتان: (2- 3).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (16 /128).
([5]) تفسير ابن كثير (7 /246).
([7]) مسند أبي يعلى (4 /161)، برقم: (4923).
([8]) الضعفاء الكبير (2 /621).
([10]) الضعفاء الكبير (2 /621).
([11]) تاريخ بغداد (6 /125-126).
([12]) الكامل في ضعفاء الرجال(5 /1739).
([13]) صحيح البخاري (2 /50)، برقم: (1970).
([14]) صحيح مسلم (1 /513) برقم:[(176) (1156)].
([15]) الأمالي (المجالس العشرة)(ص: 19-20).
([16]) الأمالي(ص: 177-178) ، برقم: (154).
([17]) شعب الإيمان (5/ 365)، برقم (3558).
([18]) تقريب التهذيب (ص: 668).
([19]) جمع الجوامع (4 /416)، برقم : (12863).
([20]) الغرائب الملتقطة (ص: 577-578)، برقم: (1227).
([22]) المجالسة وجواهر العلم (3 /315).
([23]) ضعيف الجامع الصغير (ص: 585)، برقم: (4019).
([26])فضائل الأوقات (ص: 127-128).
([27])الدعوات الكبير(2/ 145-146).
([29]) ميزان الاعتدال (1 /662).
**********************
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
أمالي ابن سمعون. لأبي الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي. دراسة وتحقيق: د عامر حسن صبري. دار البشائر بيروت. ط1/ 1423 هـ-2002 مـ.
الأمالي. للحسن بن محمد الخلال. دراسة وتحقيق: مجدي فتحي السيد. دار الصحابة للتراث بطنطا. ط1/ 1411 هـ- 1990 مـ.
تاريخ مدينة السلام وأخبارمحدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها. لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. حققه وضبط نصه وعلق عليه: د. بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي . بيروت ط1/ 1422 هـ- 2001 مـ.
تفسير القرآن العظيم. لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. تحقيق: سمي بن محمد السلامة. دار طيبة السعودية. ط2/ 1420 هـ - 1999 مـ.
تقريب التهذيب. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. حققه وعلق عليه: أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني. تقديم: بكر بن عبد الله أبو زيد. دار العاصمة الرياض. ط2/ 1423 هـ.
الجامع لأحكام القرآن .لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. اعتنى به وصححه: الشيخ هشام سمير البخاري. دار عالم الكتب الرياض. ط 1423 هـ- 2003 مـ.
الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية القاهرة، ط1/1400هـ.
الجامع لشعب الإيمان. لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. حققه وراجع نصوصه: د عبد العلي عبد الحميد حامد. مكتبة الرشد السعودية. ط1/ 1423 هـ- 2003 مـ.
جمع الجوامع المعروف بالجامع الكبير. لجلال الدين السيوطي. دار السعادة للطباعة. ط 1426 هـ- 2005 مـ.
الدعوات الكبير. لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي. بعناية بدر بن عبد الله البدر. غراس للنشر والتوزيع الكويت. ط1/1429 هـ- 2009 مـ.
صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006 مـ.
ضعيف الجامع الصغير وزيادته. لمحمد ناصر الدين الألباني. أشرف على طبعه: زهير الشاويش. المكتب الإسلامي بيروت. ط 1410 هـ- 1990 مـ.
العلل. لعلي بن عبد الله بن جعفر المديني. تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي. المكتب الإسلامي بيروت. ط2 (د.ت) .
الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس المسمى زهر الفردوس. لأحمد بن علي بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني. حققه: خيري حسيني جميل. اعتنى به د أبو بكر أحمد جالو. جمعية دار البر الإمارات المتحدة. ط1/1439 هـ- 2018 مـ.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. لمحمد بن علي ابن محمد الشوكاني. حققه وخرج أحاديثه: عبد الرحمن عميرة. دار الوفاء (د. ت).
فضائل الأوقات. لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. دراسة وتحقيق: عدنان عبد الرحمن مجيد القيسي. مكتبة المنار مكة المكرمة. ط1/1410 هـ- 1990 مـ.
الكامل في ضعفاء الرجال. لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني. تحقيق: لجنة من المختصين دار الفكر بيروت. ط1/ 1404 هـ - 1984 مـ.
كتاب الضعفاء. لأبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. دار الصميعي السعودية. ط1/ 1420 هـ- 2000 مـ .
لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير دمشق - بيروت. ط5/ 1420هـ - 1999مـ .
المجالسة وجواهر العلم. لأبي بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري. خرج أحاديثه وآثاره ووثق نصوصه وعلق عليه: أبو عبيدة مشهور حسن آل سلمان. جمعية التربية الإسلامية دار ابن حزم بيروت. ط1/ 1419 هـ- 1998 مـ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي . دار الكتاب العربي بيروت. (د.ت).
مسند أبي يعلى. لأحمد بن علي بن المثنى التميمي. تحقيق ودراسة: مركز البحوث وتقنية المعلومات دار التأصيل القاهرة. ط1/ 1438 هـ- 2017 مـ.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال. لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق: علي محمد البجاوي. دار المعرفة بيروت (د.ت).
*راجع المقال: الباحث محمد إليولو، والباحث: يوسف ازهار