مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

الشعرُ العَرَبيُّ ومَكارمُ الأخلاق (حلقة4)

لَم يَغبْ عَن الشعراءِ “أمرُ المَنون” و”رَيْبُ المَنون” و”مُصيبَةُ المَوت”، فقَد أفاضَ في إنشادِه الأعشى الكَبيرُ مَيْمونُ بنُ قيسٍ، وشُعَراء الجاهليّةِ والإسلامِ والمُخضرَمون، والفُقَهاءُ، والأدباءُ والنُّقّادُ، والشعراءُ الموَّلدونَ والشعراءُ المتَأخِّرونَ، وكلٌّ أنشدَ من زاويته، فهذا الأعشى مَيمونُ بنُ قيس يُحذّرُ من مُلاقاةِ الموتِ قبلَ التّزوُّدِ بالتّقوى وترك المُحرَّمات:    

إِذا أَنتَ لَم تَرحَل بِزادٍ مِنَ التُقى    ///   وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدا

نَدِمتَ عَلى أَن لا تَكونَ كَمِثلِهِ   ///    وَأَنَّكَ لَم تُرصِد لِما كانَ أَرصَدا

وهي القصيدةُ التي خَرَج الأعشى يُريدُ بها الإسلامَ ومُلاقاةَ نبيِّ الله صلّى الله عليه وسلّمَ بُعيدَ صُلح الحُديبيةِ وقُبيلَ فتح مكّةَ، فحالَ بينَه وبين الوصولِ إليه كُفّارُ قُريشٍ فقَفَل راجعاً إلى اليَمامَةِ، ثُم لم يَلبَثْ أن ماتَ بعدَ ذلكَ من غيرِ أن يَلقاه، ومَطلَعُ القصيدةِ:

أَلَم تَغتَمِضْ عَيناكَ لَيلَةَ أَرمَدا   ///    وَعادَكَ ما عادَ السَّليمَ المُسَهَّدا (1)

وهذا أبو العَتاهيّةِ يُذكِّرُ قالَ أبو العَتاهيّةِ:

هَل عَلى نَفسِهِ امْرُؤٌ مَحزونُ    ///   موقِنٌ أَنَّهُ غَداً مَدفونُ

فَهْوَ لِلمَوتِ مُستَعِدٌّ مُعَدٌّ     ///  لا يَصونُ الحُطامَ فيما يَصونُ

يا كَثيرَ الكُنوزِ إِنَّ الَّذي يَكـْـــ    ///   ــــــفيكَ مِمّا اكْتنزْتَ مِنها لَدونُ

كُلُّنا يُكثِرُ المَذَمَّةَ لِلدُنْـــــــ   ///    ـــــــيا وَكُلٌّ بِحُبِّها مَفتونُ

أَيُّ حَيٍّ إِلّا سَيَصرَعُهُ المَو   ///    تُ وَإِلّا سَتَستَبيهِ المَنونُ (2)

وأُنْشِدَ لعَدِيّ بنِ الرِّقاعِ العامليّ:

كلُّ حَيّ تَقُودُهُ كَفُّ هَادٍ /// جِنَّ عَيْنٍ تُعْشيهِ ما هو لاَقِي

قال ابن الأعرابي: قال: جِنَّ عينٍ، أي ما جُنَّ من العَين فلم تَره (3). والهادي ههنا القَدَرُ؛ يقولُ: المَنيَّةُ مَستورةٌ عَنه حَتّى يَقَعَ فيها، قالَ الأَزهريُّ: الهادي القَدَرُ ههُنا جَعَلَه هادياً لأَنّه تَقَدَّمَ المنيَّةَ وسَبَقَها، ونَصَبَ جِنَّ عَيْنٍ بفِعْله أَوْقَعَه عليه، أيْ هو مَنصوبٌ [باسمِ الفاعِلِ هادٍ] والمَعنى: يَهديهِ القَدَرُ إلى ما غابَ عَنه ممّا قُدِّرَ له.

 وقالَ طَرَفةُ:

للفَتى عَقلٌ يَعيشُ به /// حَيثُ تَهدي ساقَه قَدَمُه

وقال أُفنونُ التَّغلبيُّ:

فَطَأْ مُعْرِضاً إنّ الحُتوفَ كَثيرةٌ ///  وإنّكَ لا تُبْقي لِنَفسِكَ باقيا

يقولُ” إنّكَ إنْ أبْقَيتَ نَفسَكَ لم تَبْقَ لَكَ. وقالَ زُهيرٌ:

الجَدُّ مِن خَيرِ ما أعانَكَ أو /// صُلَّتْ بِه والجُدودُ تُهْتَصَرُ

أي رُبّما كانَ لكَ إذا تَوَلّى عَن آخَر، وتُهْتَصَرُ تُفْتَعَلُ من هُصِرَتْ إذا [أُميلَتْ] وثُنِيَتْ، أي تُمالُ، وبَيَّنَ ذلكَ قَولُه بعدَ هذا البيتِ:

قدْ يَقتَني المرءُ بعدَ عيلَتِه /// يَعيلُ بَعدَ الغِنى ويَفتَقرُ

وقالَ أيضاً:

إذا أنتَ لم تُعرِضْ عَن الجَهلِ والخَنى /// أصَبْتَ حَليماً أو أصابَكَ جاهلُ (4)

يقولُ: إذا أنتَ لم تَحْلمْ وَقَعْتَ بينَ أمْرَيْنِ رَديئَينِ إمّا أصَبْتَ حَليماً فسَفهتَ عَليه فَأسَأتَ أو أصابَكَ جاهلٌ فَسَفهَ عَليكَ وأساءَ إليكَ.

وقالَ النَّمرُ بنُ تَولب:

وإنْ أنتَ لاقَيتَ في نَجْدةٍ /// فَلا تَتَهَيَّبْكَ أنْ تُقْدِما

فإنّ المنيّةَ مَنْ يَخْشَها /// فَسوفَ تُصادِفُه أيْنَما

في نَجْدَةٍ أي في قِتالٍ وشدَّة، فلا تَتَهيَّبْكَ أي لا تَتَهَيَّبْها وهذا من المقلوبِ.

وقالَ ابنُ مُقبل:

ولا تَهَيَّبُني المَوْماةُ أرْكَبُها /// إذا تَجاوَبَت الأصْداءُ بالسَّحَرِ

فَسوفَ تُصادِفُه أيْنَما ذَهَبَ، وإنْ كانَ مَحذوفاً وكان يحذف اختصارا.

قال الجَرْمِيُّ: لا تَهَيَّبُني المَوْماةُ أَي لا تَمْلأُني مَهابةً، وقالَ ابنُ سِيدَه في المُحكم والمُحيط الأعظَم: نَقَلَ الفعلَ إليها، وقال البَطَليَوْسي في “الحُلل في شرح الجُمَل”: أرادَ: ولا أتهيَّبُ. وقالَ ابنُ هشام في المُغْني: عَكَسَ التَّشبيهَ مُبالَغَةً،

أمّا تَجاوُبُ الأصداءِ فقالَ عنه الجاحِظُ في “الحَيَوان”: فَجَعَلَها تتَجاوَبُ. وقال ابنُ الشَّجَري في “ديوانِ مُختارات شُعَراء العَرَب”: أي لا أتَهَيّبُ الموماةَ. والأصداءُ: جمعُ صدًى، وهو ذكرُ البوم.

فإنَّ المنيةَ منْ يَخْشَها /// فَسوفَ تُصادِفُهُ أيْنَما

يريد: أينما ذهبَ. فاقتصَرَ على مَعرفةِ ذلكَ، وتَركَ اللفظَ به. والتقديرُ: مَن يَخْشَ المَنيّةَ فسوفَ تُصادفُه أيْنَما حلَّ وارْتحَلَ.

وإنْ تَتخاطاكَ أسبابُها /// فإنَّ قُصاراكَ أن تَهرما

قصاراكَ: غايتُك.

وقالَ النَّمرُ بنُ تَولب:

يَلومُ أخي عَلى إهْلاكِ مالي /// وما إنْ غالَه ظَهْري وبَطْني

يقولُ: لَم يَكنْ هَلاكُه في لِباسٍ ولا طَعامٍ ولكنّه كانَ في العَطايا.

وقالَ:

وَلا أُسقى وَلا يُسقى شَريبي  ///     وَأمْنَعُهُ إِذا أَورَدتُ مائي

يُعِلُّ وَبَعضُ ما أُسقى نِهالٌ    ///   وَأُشرِبُهُ عَلى إِبِلي الظِماءِ

وقال قبلَهُما:

لَعَمرُ أَبيكَ ما لَحْمي بِرُبٍّ  ///     وَلا لِبَني عَلَيَّ وَلا سَلائي

وَلا رَحلي بِمَخْزونٍ عَلَيهِ    ///   إِذا جاري اسْتَعارَ وَلا رِدائي

شَريبُه الذي يَشْرَبُ مَعَه، والمعْنى: لا أُسْقى حَتّى يُسْقى شَريبي كَما تَقولُ لا آكُلُ ولا يأكلُ أخي، أيْ لا آكُلُ حَتّى يأكُلَ أخي، وأمْنَعُه أرادَ: ولا أمْنَعُه.  فمِن مَذاهبِ العَرَب في كَلامِها أنّها قَد تَستعمِلُ حرفَ النفيِ في موضعِ “حَتّى” الدّالّةِ على مَعْنى الاسْتثناءِ، وهذا قليلٌ جداً، وتَدُلُّ بالإثباتِ على النّفيِ، وقدْ جَمَعَهما النَّمرُ بنُ تَولبٍ في بيتٍ واحدٍ مُفتخراً:

وَلا أُسقى وَلا يُسقى شَريبي /// وَأمْنَعُهُ إِذا أَورَدتُ مائي

أرادَ: ولا أُسْقى حَتّى يُسقى شَريبي، وأمنعُه أي لا أمنعُه

ومثلُه للفَرزدَق:

بِأيْدي رِجالٍ لَم يَشيموا سُيوفَهم /// ولم يَكثُر القَتلى بها حينَ سُلَّتْ

أي لم يَغْمِدوها حَتّى كَثُرَت القَتلى بها، يُعَلُّ أي يُسْقَى مَرةً بعدَ مَرّةٍ، وبَعضُ ما أريدُ سَقْيَه مِن إبِلي نِهالٌ أي عِطاشٌ لإيثاري إيّاه.

وقال:

اِعْلَمي أنْ كُلُّ مُؤتَمِرٍ /// مُخْطيءٌ في الرّأيِ أحْيانا

فَإذا ما لَمْ يُصِبْ رُشْداً /// كانَ بَعضُ اللَّومِ ثُنْيانا

المؤتمِرُ الذي يَركَبُ رَأسَه، يُقالُ للرَّجُلِ: بئسَ ما ائْتَمَرْتَ لنَفسِكَ، فإذا لم يُصِبْ رُشْداً لامَه النّاسُ لَوْماً بَعدَ لَوْمٍ، الأولُ لرُكوبِه هَواه بغَير مُشاوَرَة، والثّاني عَلى خَطَئِه.

والخُلاصةُ أنّ الشعرَ العرَبيّ عُنيَ بمَكارم الأخلاق على مَرِّ التاريخ، وجعلَها من مَعانيه المُقدَّمَة :

–     فقَد حَذَّر  من مُلاقاةِ الموتِ قبلَ التّزوُّدِ بالتّقوى وترك المُحرَّمات، ثم مَن يَخْشَ المَنيّةَ فسوفَ تُصادفُه أيْنَما حلَّ وارْتحَلَ.

–      وحذَّر من فُقدانِ الحِلْمِ؛ فإذا لم يَحْلم المرءُ وَقَعَ بينَ أمْرَيْنِ رَديئَينِ إمّا أصابَ حَليماً فسَفهَ عَليه فَأساءَ، أو أصابَه جاهلٌ فَسَفهَ عَليه وأساءَ إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 (1) ديوان الأعشى الكَبير مَيْمون بن قَيْس، شرح وتعليق: محمد حسين، نشر مَكتبة الآداب، المطبعة النموذجية، القاهرة، ص: 135.

  (2) ديوان أبي العَتاهيّة، ار بيروت للطباعة والنشر، 1406ه– 1986م،ص: 422-423

(3)  تهذيب اللغة للأزهري، مادّة (جنن)

(4)  كتاب المَعاني الكَبير في أبيات المَعاني، لابن قُتيبةَ الدّينوري، :مج:3 ، ص: 1263-1264

ومن المُفيد الإشارَةُ إلى أنّ مُصطلحَ “أبيات المَعاني” ضربٌ من التَّأليفِ يَجْمَعُ أبياتاً فيها إشكالٌ يَحتاجُ إلى تَفسير، كالالتباس أو غَرابة المَعنى أو تَراكُب الصور وتَداخُلها أو لِما في الأبياتِ من إشارَة إلى أحداثٍ بَعيدةٍ يَجهلُها الناسُ، أو ما يَعتري الأبياتَ من تَعقيد لفظيّ بسبب تقديم ما لا يُقدَّمُ وتأخير ما لا يُؤخَّر، أو للفصل الطويل بين أول الكلام وآخره.

 ومن أهل اللغةِ مَن سَمّاه ألْغازاً، ومنهم مَن اصطَلَحَ عليه بــــ “أبيات المَعاني” لأنها تَحتاجُ إلى أن يُسألَ عن مَعانيها – كَما قال السيوطي في المُزهِر- لخَفاءِ الغَرَضِ وغَرابةِ الأسلوبِ وبُعدِ الاستعارَة، وأشهرُ مَن كَتَبَ في “أبياتِ المَعاني” ابنُ قُتيبةَ وأبو عُثمانَ الأشنادانيُّ صاحبُ كتاب “مَعاني الشعر” بروايَة أبي بَكر ابنِ دُرَيْد، وأبو المُرشد سُليمان بن عَليّ المعرّي (ت.492ه) صاحب كتاب “تَفسير أبْياتِ المعاني مِنْ شِعرِ أبي الطَّيّبِ المتَنَبّي” الذي سَمّاه اختصاراً. (انظر تفسير أبيات المَعاني من شعر أبي الطيب المتنبي، تحقيق: مجاهد الصواف ومحسن عجيل، دار المأمون للتراث، 1399ه-1979م)

وقَد أشارَ ابنُ سنان الخَفاجي إلى تعدُّد قراءات الشعر واختلافِها، وهو يَتَحدَّثُ عن تَفسير مُشكل أبيات أبي الطيب المتنبي: « والناسُ إلى اليومِ مُختَلفونَ في مَعاني بَعْضِها، وكُلٌّ يَذهَبُ إلى فَنّ، ويَسبقُ خاطرُه إلى غَرَض »

(سر الفَصاحَة ابن سنان الخفاجي (ت.466هـ) تحقيق: عبد المتعال الصعيدي، مط. عبد الواحد علي صبيح، القاهرة، 1372هـ-1952م، ص: 268)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق