مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

الشعرُ العربي وأخلاقُ الشُّكر

عقَد أبو القاسِم الراغبُ الأصفهانيّ في كتابه “مُحاضَرات الأدباء ومُحاوَرات الشعراء والبُلَغاء” فصلاً في الشكر والمَدح والحَمد والذّمّ والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية والمَرَض، وضمَّنَه أشعاراً تحملُ قيماً أخلاقية في الشكر والمَدح، وسنتوقفُ عندَ أخلاق الشكر وما جاء فيه من أشعار المُتقدّمينَ، لنتعرفَ على قيمة الشكر والإقرار بالجَميل وكيفَ تَغنى بذلكَ الشُّعَراءُ:

قيل: الشكر ثلاثة: شكر لمن فوقَك بالطاعة؛ قال الله تعالى: “اعْمَلوا آل داودَ شكراً”. ولمن فَوقَك بالأفْضال؛ قال الله تعالى: ” إن تُقْرِضوا الله قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْه لَكُم ويَغْفِرْ لكُم والله شَكورٌ حَليمٌ”. ولنَظيركَ بالمكافأة؛ قال الله تعالى: “وإذا حُيّيتُم بتَحيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ منها أو رُدّوها”. وقيل: الشُّكر ثَلاثُ مَنازِلَ: ضَميرُ القَلْب، وثَناءُ اللِّسانِ، والمكافَأة بالفِعْل. وقالَ عُمَرُ بنُ عَبدالعَزيز: ذِكْرُ النِّعَمِ شُكْرٌ.

إيجابُ الشُّكر:

قالَ النبي صلى الله عليه وسلم في الحَديث الذي رَواه الزهري عن عُروةَ عن عائشةَ رضي الله عنها، قالَت قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أُولِيَ مَعروفاً فليُكافِىءْ به فإن لم يَستطعْ فليَذْكُرْه فإنّ ذِكْرَه شُكْرُه، والمتشبعُ بما لم يَنَلْ كَلابسِ ثَوْبَيْ زورٍ) [1]. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: “مَنْ أُعْطِيَ” بصيغة المبني لما لم يُسمَّ فاعلُه، “عَطاءً” أو “عَطِيَّةً” مفعول مطلق، وفي روايةٍ “شَيئاً” فهو مَفعولٌ ثانٍ، “فوَجَدَ” أيْ وَجَدَ سَعةً ماليةً فَلْيجْزِ بسُكون الجيم، أي فَلْيُكافىءْ بالعطاء، “ومَن لم يجدْ” سعةً من المال “فليُثْنِ” بضَمّ الياءِ، “عليه”، أو فليُثْنِ به، أيْ فلْيَمْدَحْه أو فلْيَدْعُ لَه؛ فإنّ مَن أثنى به فَقد شَكَر، وأيْ شَكَره وجازاه في الجملة، ومَن كَتَمَ أي النِّعمةَ بعَدمِ المكافأة بالعَطاء أو المجازاة بالثّناء فقَد كَفَر النّعمةَ، مِن الكُفْران أي الجُحود وتَرْك أداءِ حَقّه. [2]

وقيلَ: إذا قَصُرَتْ يدُك بالمكافأة فليَطُلْ لسانُك بالشُّكر.

قال الشاعرُ، جامعاً مَعنيين من مَعاني كَرَم النفوس:

وذي نعمةٍ تمّمتُها وشَكرتُها /// وخَصمٍ يكادُ يغلبُ الحقَّ باطِلُه [3]

أيّ نعمَةٍ لي عَلى غَيري تَمَّمْتُها ونِعْمة عَلَيَّ شكرتها.

ذم الكفران:

عَن عِكرمَةَ عن ابن عَبّاسٍ قالَ: رَسولُ الله صَلى الله عَلَيه وسَلَّم: “مَنْ أنْعَمَ عَلى قَومٍ نعمةً فلَم يَشْكُروه فَدَعا عَلَيهم اسْتُجيبَ لَه”، قالَ: وقال نَصرُ بنُ سيار: “اللّهمَّ إنّي قَد أنعَمْتُ إلى آل سامٍ فلم يَشْكُروا، اللّهمّ فأذِقْهُم حَدَّ السلاحِ! قال: فما ماتَ منهُم واحدٌ إلا بالسَّيف [4]. وقال الله تَعالى: “ولا يَرْضى لعِبادِه الكُفْرَ وإن تَشْكُروا يَرْضَهُ لَكُم “.

الحث على استزادة النعمة وارتباطها بالشكر:

قالَ الله تَعالى: “لَئِنْ شَكَرتُم لأزيدَنَّكُم” . وقالَ عمرُ رضي الله عنه: أهلُ الشُّكر في مَزيد مِن الله تعالى لهذه الآية، قيل: لا زوالَ للنعمة إذا شكرت ولا بقاءَ لها إذا كُفِرَت. الشكرُ نسيمُ النعم. النعمةُ وحشيةٌ فأشكِلوها بالشُّكر. وقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: أوْطَدُ الناسِ نعمةً أشدُّهم شكراً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اُشكُرْ لمن أنْعَمَ عليكَ وأنْعِمْ عَلى مَن شَكرَكَ، فإنه لا زوالَ للنعمةِ إذا شُكِرَت، ولا بَقاءَ لها إذا كُفِرَت، وإذا كانتِ النعمةُ وسيمةً فاجعلْ الشكرَ لها تَميمةً.[5] وقال ابن المقفع: استَوثِقوا عِزَّ النِّعَم بالشُّكرِ. وقيلَ: النِّعَمُ إذا شُكِرَت قَرَّت، وإذا كُفِرَت فَرَّت. قالَ ابنُ سقلاب: رأيتُ البُحتريَّ فقلتُ ما خَبرُك؟ فأنشد بديهةً:

يَزيدُ تَفضُّلاً وأزيدُ شُكْراً /// وذلكَ دَأبُه أبَداً ودَأْبي!

ومما قيلَ في الإعراضِ عَمَّن لا يَشكُر:

عمرو بن مسعدة، قيل: لا تَصْحَبْ مَن اسْتِمْتاعُه بمالِكَ وجاهِكَ أكثرُ مِن إمْتاعِه لَكَ بشُكرِ لسانِه وفَوائدِ عَملِه. وقيلَ: اصنعِ المعروفَ إلى مَن يَشكُره ويَذكُره، واطْلُبْه ممَّن يَنساه.

ومما قيلَ فيمَن تَكفَّلَ لمسْتَرْفِدِه بشُكرِه:

قالَ دعبل الخُزاعيّ:

لأشكُرَنَّ لِنُوحٍ فَضلَ نعمته /// شُكراً تَصادَر َعنه ألسُنُ العَرَب

وقال البُحتريّ:

فإنْ أنا لمْ أشْكُرْكَ نُعْماكَ جاهِدا /// فلا نِلْتُ نُعْمَى بَعدَها توجِبُ الشُّكرا

وقالَ عمارَةُ بنُ عقيل:

فلأشكُرَنَّك بالذي أوْلَيْتَني /// ما بَلَّ ريقي للكَلام لِساني

وقالَ أبو تمام:

لئن جَحَدْتُك ما أوليتَ مِن حَسَنٍ /// إني لَفي اللُّؤمِ أحْظَى مِنكَ في الكَرمِ

وممّا قيلَ فيمَن يُبْدي عَجْزَه عَن شُكْرِ المنعِم عليه:

ولَو أنّ لي في كُلِّ مَنْبِتٍ شَعْرَةً /// لِساناً يَبُثُّ الشُّكرَ فيك، لقَصَّرا

وهذا من أبلَغ ما قيلَ في التقصير عن أدجاءِ حَقِّ الشُّكْرِ على النِّعَم

وقالَ بعضُهم: شُكْري لا يَقَعُ مِن نِعَمِه المتَظاهِرَةِ مَوقِعَ النُّقْطةِ مِن الدّائرة.

وقالَ شاعرٌ آخر:

أيادي مِنهُم ليسَ يَبلُغُها الشُّكرُ

وقالَ آخر:

فإنْ يَكُ أرْبَى عَفْو شُكرِ كَ عَن يَدي ///  أناسٌ فَقَد أرْبى نَداه عَلى شُكْري

ومِنْ أبلَغِ ما قيل في استنكافِ آلاءِ المُعطي عَجْزاً عن شُكرِه قولُ ابي الطّيّب:

ولَم نَمللْ تَفَقُّدَكَ الموالي /// ولَمْ نَذْممْ أياديكَ الجِساما

ولكنَّ الغُيُوثَ إذا تَوالَت /// بِأرضِ مُسافرٍ كَرِهَ الغَماما

وقدْ أجادَ أبو نُواس في هذا المعنى:

أنتَ امرؤٌ جلَّلتني نِعَماً /// أوْهَت قُوى شُكْري فَقدْ ضَعُفا

لا تُسْدِيَنَّ إليَّ عارِفَةً /// حَتّى أقومَ بشُكرِ ما سَلَفَا

وقد أبدعَ البحتريّ أيضاً في هذا المعنى حيثُ قالَ:

أخْجَلْتني بِنَدى يَدَيَّ وسَوَّدَت /// ما بيْنَنا تلكَ اليَدُ البَيْضاءُ

وقَطَعْتَني بالجودِ حَتّى أنَّني /// مُتَخَوِّفٌ أنْ لا يكونَ لقاءُ !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] الجامع لشُعَب الإيمان، الحافظ أبو بَكر البيهقي (ت.458هـ)، تحقيق مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، ناشرون، الرياض، ط.1، 1423/2003. ج:11، ص:371.

[ٍ2] مرقاة المَفاتيح شرح مشكاة المصابيح، الملّا علي القاري و تُحفَة الأحوذي لأبي العلا المباركفوري، باب ما جاء في المتشبع بما لَم يُعْطَه

[3] كتاب المعاني الكبير في معاني الشعر، لابن قُتيبة، ص: 1266

[4] الجامع لشُعَب الإيمان، البيهقي، ج:11، ص:392-393

[5] مُحاضرات الأدباء ومُحاوَرَات البُلَغاء والشُّعَراء، الراغب الأصفهاني أبو القاسِم (ت.502هـ) تحقيق سجيع الجبيلي، دار الكُتب العلمية، بيروت، ج:2، ص:4، في الحَثّ على استِزادةِ النّعمَةِ وارتباطِها بالشُّكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق