الشريف الإدريسي هو من أعلام الجغرافيين المغاربة الذين كان للرحلات شأن عظيم في آثارهم العلمية، ويعتبر من كبار الجغرافيين في التاريخ، رسم الإدريسي أكثر من 70 خريطة للعالم، بحيث كونت الخرائط السبعين في مجموعها خريطة العالم عرفت بخريطة الإدريسي، وصنع كرة فضية نقش عليها خريطة الأرض بتفاصيلها الكاملة والمعروفة حتى ذاك الوقت، فاعتمد أولًا على كتب الجغرافيين القدامى من اليونان مثل بطليموس، وعلى المسلمين مثل اليعقوبي والأصطهري والسعودي وابن حوقل والعذري وغيرهم، وقد قام الإدريسي برحلات متعددة، والتي زودته بالكثير من المعلومات واكتسب معارفه الجغرافية والعلمية، كما كانت له إسهامات في مجالات مختلفة كالأدب والشعر والنبات والفلسفة والطب والنجوم في قرطبة.
نسبه ومولده:
هو ابن إدريس بن يحيى بن علي بن حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله ابن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الشريف الإدريسي[1].
ولد محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس المعروف بالشريف الإدريسي، والحمودي، والصقلي، والقرطبي في مدينة سبتة في المغرب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة للهجرة 1100 م، ومنها كان منطلقه إلى بلدان المغرب حيث نشأته الأولى بها بحثا عن العلم والمعرفة هناك، تماما كما كانت قرطبة- فيما بعد- نقطة انطلاق لجولات كثيرة في الأندلس إلى أن قدر له الارتحال إلى المشرق العربي لزيارة مصر وغيرها. [2]
ونشأته وتعلمه"
وقد ربي تربية عالية ونشئ على ما تقضي به تقاليد بيته الكريم من التعليق بمعالي الأمور والتمرس بأسباب الرياسة كالشجاعة والعلم والنظر في أوضاع البلاد وسياسة الناس، مما ظهر أثره بعد في سلوكه وأفكاره والغالب أنه تلقى دروسه ببلده سبتة، فقد كانت حافلة بالأعلام في كل فن، ...وقام بقرطبة على الخصوص حيث ازداد تمكنا في العلم[3]. .
ويميل الأستاذ ميلر الألماني، أحد العلماء الذين عنوا بآثار الإدريسي عناية خاصة، إلى أنه قد يكون أنهى دراسته بقرطبة، آخذا من وصفه الكامل لهذه العاصمة، في كتابه "نزهة المشتاق"، ذلك الوصف الذي لا يصدر إلا عن معرفة تامة بها، وإقامة طويلة فيها[4].
رحلاته:
وقد بدأ الإدريسي سياحته وهو ابن ستة عشر عاما، مما يدل على نضجه المبكر، شأن النوابغ أمثاله وأبناء البيوتات العريقة، فتجول في شمالي إفريقيا، وغرف مدنه وقراه، وكذا بلاد الأندلس، وزار بعض مدن فرنسا وشاطئها الواقع على المحيط الإطلنطيقي، وكذا بعض مدن الشاطئ الإنجليزي، وفي الشرق زار مصر والشام، وتجول في سائر بلاد آسيا الصغرى[5].
وأقام بقرطبة منها على الخصوص، حيث ازداد تمكنا في العلم، ولكن شكواه المشار إليها من قبل تجعلنا نرجح أنه لما عاد إلى المغرب، كان مملوء الوطاب بالمعارف، فليس به من حاجة إلى دراسة زائدة ومنذ عام 510 الذي قلنا إن الإدريسي كان خلاله يتجول في بلاد الشرق، لم نعرف من أخبار مترجمنا شيئا حتى رأيناه في بلاط روجار الثاني ملك صقلية سنة 548، وقد أتم تأليف كتابه نزهة المشتاق[6].
أعظم إنجازاته:
فقد رسم الإدريسي خريطة كروية شاملة للعالم- معتمدا فيها على خريطة "بطلميوس"، بعد تصحيحها- مقسما محيط الكرة الأرضية طولا إلى عشرة أجزاء متساوية، بخطوط تبدأ من قطب الكرة الأعلى، وتنتهي عند قطبها الأسفل، جاعلا الخط الرئيس فيها هو الخط المار بالجزائر الخالدات في المحيط الأطلسي، ثم عمد إلى تقسيمها إلى سبعة أحزمة عرضية فوق خط الاستواء ، وتنقسم في داخلها إلى تسعين قسما أو درجة، منحصرة فيما بين خط الاستواء والقطب الشمالي ، وبذلك انقسمت خريطته إلى سبعين جزءا، نقلها إلى مستطيلات[7].
ولما وصل إلى هذه النتيجة أراد أن يخلدها بوضع خريطة جامعة يرسمها على صفيحة من الورق لا على صحيفة من الورق فتكون بمنجاة من عوامل التلف إن شاء الله ذلك، وقد أمر الملك أن تفرغ له دائرة من الفضة الخالصة عظيمة الجرم ضخمة الجسم، على تعبيره، " في وزن أربعمائة رطل بالرومي في كل رطل منها مائة درهم وإثنا عشر درهما، فلما كملت أمر الفعلة أن ينقشوا فيها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها، ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها وما بين كل بلدين منها وبين غيرها من الطرقات المطروقة والأميال المحدودة والمسافات المشهورة والمراسي المعروفة على نص ما يخرج إليهم ممثلا في لوح الترسيم ولا يغادروا منه شيئا ويأتوا به على هيئته وشكله كما يرسم لهم فيه وكان هذا بلا ريب هو الإصلاح العظيم الذي أدخله الإدريسي على خريطة العالم، فجعلها تقرب من وضعها العلمي الصحيح الذي هي عليه اليوم[8]..
مؤلفاته:
لم يكن الإدريسي جغرافيا، خرائطيا فقط، وإنما كان مع ذلك عالما متعدد المعارف والمهارات، تذكر له مشاركة في كثير من فروع العلم الأخرى، كالصيدلة، والطب، والنباتات، كما كان أديبا جيد الأدب، شاعرا و يبدو أنه ترك في كل مؤلفات متعددة، وإن لم يبق منها أو من ذكراها سوى:
- الجامع لأشتات النبات، ويعرف كذلك باسمي"المفردات" و"الأدوية المفردة".
- روض الأنس ونزهة النفس، أو المسالك والممالك.
- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. [9]
فقد انصرف الإدريسي إلى إنجاز كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، الذي كان تأليفه هو الباعث على بذل هذه الجهود كلها، والذي جاء بمثابة التفسير والشرح لخريطة العالم الجديدة[10]..
عمد إلى شرحها والتعريف بها طبيعيا وبشريا في"النزهة" ، مقسما كتابه إلى مقدمة مقتضبة، أتبعت بسبعة أبواب، ضمت في داخلها سبعين فصلا أما المقدمة، فقد اشتملت على ذكر هيئة الأرض، وقسمتها بأقاليمها، وذكر البحار بمبادئها وانتهاءاتها وأحوازها، وما يلي سواحلها من البلاد والأمم، وقد انبنت- في معظمها- على مفهومات علمية صحيحة عن كروية الأرض، والأرض في ذاتها مستديرة، لكنها غير صادقة الاستدارة ، وخط الاستواء، والأرض مقسومة بقسمين، بينهما خط الاستواء ، والأقاليم المناخية المتدرجة شمالا وجنوبا من خط الاستواء، واستطراق البحار بعضها إلى بعض، وتعادل منسوب الماء [11].
وتلك مفهومات علمية يؤكد ثباتها في فكر موردها عدم تعارضها لديه بنظريات أخرى يترك لقارئ كتابه الموازنة فيما بينها في سبيل الحكم عليها أو الاختيار منها، كما فعل سابقوه من الجغرافيين والرحالة المسلمين في مؤلفاتهم ودافعه إلى تأليف كتابه هذا، وهو رغبة "رجار الثاني" ملك صقلية- في الوقوف على حقيقة العالم، بكتاب مطابقي للخريطة الكروية المصورة له، غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأراضين في خلقها وبقاعها، وأماكنها، وصورها، وبحارها، وجبالها، ومسافاتها، ومزارعها، وغلاتها، وأجناس بنائها، وخواصها، والاستعمالات التي تستعمل بها، والصناعات التي تنفق بها، والتجارات التي تجلب إليها وتحمل منها، والعجائب التي تذكر عنها وتنسب إليها، وحيث هي من الأقاليم السبعة، مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم[12].
و ينتظيم الكتاب إلى أبواب سبعة، ينقسم كل منها في داخله إلى أجزاء عشرة النهايتين اللتين إحداهما نهاية المعمورة من جهة الجنوب، وأكثرها خلاء لشدة الحر وقلة المياه، والنهاية الثانية نهاية المعمورة في جهة الشمال، وأكثرها خلاء لشدة البرد، وأيضا بان مع ما ذكرناه وقدمنا وصفه أن الناظر إذا نظر إلى هذه الصفات المصورة والبلاد المذكورة رأى منها وضعا صحيحا وشكلا صبيحا، لكن يبقى عليه بعد ذلك أن يعلم صفات الممالك وهيئات الأمم وحلاها وزيها وطرقاتها المسلوكة بأميالها وفراسخها وعجائب بلادها[13].
وأما الأبواب السبعة المتتالية، فقد خصص كل باب منها للتعريف بإقليم من هذه الأقاليم السبعة المتعارف عليها في الجغرافية القديمة لدى "بطلميوس" ومن تابعه، مع توزيعها في داخلها على عشرة أجزاء، يسير في وصفها من الغرب إلى الشرق، ابتداء بالمحيط الأعظم الأطلسي عند الجزائر الخالدات، وانتهاء ببحر الصين، معتمدا في هذه الطريقة الوصفية على المدن كنقط ارتكاز للوصف، وكأنه يسير في رحلة في نواحي الجزء الذي يصفه.
وبهذا نجد أن "النزهة" قد امتازت عن غيرها من المؤلفات الجغرافية التراثية السالفة عليها بأنها تحمل تصورا عاما يشمل الكرة الأرضية كلها على أنها كل واحد، جدير بالوصف والتحقيق، المبني على المشاهدة، والقياس، والمقارنة، والربط بين الأجزاء، مع مراعاة النسب فيما بينها، وإن أدى تقسيمها إلى أبواب وفصول إلى تقطيع البلد الواحد في أجزاء متناثرة في الأقاليم، يتطلب جمعها مجهودا خاصا. [14].
وبعد حياة كلها رحلات وإنجازات علمية وعطاء، توفي الشريف الإدريسي- رحمه الله - في جزيرة صقلية، وكان ذلك عام 560 هـ 1166م.
[1] - الوافي بالوفيات (1/138) دار إحياء التراث بيروت طبعة 2000م.
[2] - مقدمة نزهة المشتاق في خبر الآفاق الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[3] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/207) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[4] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/207) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[5] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/206) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[6] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/207) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[7] - نزهة المشتاق في خبر الآفاق (1/2) الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[8] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/207) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[9] - مقدمة نزهة المشتاق في خبر الآفاق الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[10] - ذكريات مشاهير رجال المغرب (1/219) الطبعة الأولى 2010م دار ابن حزم.
[11] - نزهة المشتاق في خبر الآفاق (1/2) الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[12] - نزهة المشتاق في خبر الآفاق (1/2) الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[13] - نزهة المشتاق في خبر الآفاق (1/2) الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.
[14] - نزهة المشتاق في خبر الآفاق (1/3) الطبعة الأولى 1409هـ بيروت لبنان.