وحدة الإحياءدراسات محكمة

السيرة النبوية وأثرها في إبراز القدوة الحسنة

قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124)، وقال جل ذكره: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ (الحج: 75)، وقال عن إبراهيم وممن اصطفى من ذريته (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)، وجاء في صحيح مسلم من حديث وائلة ابن الأسقع أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"[1].

وثبت في الصحيح قوله، صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"[2]، وجاء في مسند الإمام أحمد "... وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى"[3].

فهذا الاختيار والاصطفاء الإلهي يدل على رتبة كمال إنساني حظي به محمد بن عبد الله خاتم رسل الله إلى خلقه، ولا شك أن هذا ينحصر في درجة النبوة المقترنة بالرسالة الخالدة إلى الثقلين، كما ينحصر في الحكمتين العلمية والعملية اللتين بلغ فيهما، صلى الله عليه وسلم، الأوج والذروة، ومنزلة القدوة والإسوة وهو ما أشار إليه بقوله في الحديث الشريف: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وفي رواية لأبي نعيم "وأعلمكم بالله لأنا" بزيادة لام التوكيد، وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي "والله إن أبركم وأتقاكم أنا"[4].

وهو يشهد له القرآن الكريم شهادة تنويه وتشريف، وعلو شأن وتوجيه، وذلك حين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا. وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ (الأحزاب: 45-48).

ومن كانت هذه منزلته ومكانته عند ربه، ما كان للبشرية الحائرة في السبل إلا أن تهتدي بهديه وتَسْتَن بسنته وتستنير في حياتها بحياته وسيرته، وما كان لها أن تجد في غيرها بديلا ومخرجا، لأن القدوة رسول الله مزود بمدد الله وهدايته وهديه نحو الحق المطلق المتجلي في الوحي الإلهي الذي لا يخلق ولا يبلى، فسيرته نبراس يهدي السراة في ظلام الحيرة، ويقودهم إلى أنوار رحاب الإيمان الفسيحة وظلاله الوارفة، فما السيرة النبوية إذن؟

1. السيرة النبوية: مفهوم واستمداد

تشمل السيرة النبوية من حيث مفهومها ما وصل إلينا موثقا من نسبه الشريف، ومولده، وطفولته، وشبابه، وما صحب ذلك من إرهاصات ممهدة لبعثته، ثم ما يتعلق بظاهرة الوحي الإلهي وما أجرى الله على يديه من المعجزات ودلائل النبوة مما يرجع إلى أمر دعوته وهديه وأخلاقه، ثم ما عرفته دعوته من سلم ومسالمة، ودفاع وجهاد للمعاندين والمناوئين وما صاحب ذلك مما يرجع إلى العقيدة والشريعة، وإرساء دولة الإسلام ووضع الأسس لنهج الأمة وسيرها في مدراج الرقي الحضاري المفضي إلى إنقاذ البشرية من ظلمات الجهل إلى نور العلم والعرفان.

إن السيرة النبوية مصدر الإسوة الحسنة التي يقتفيها المسلم ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين الله تعالى بها[5]، كما أنها تمثل فترة نابضة بالحياة والقوة، ومصدرا لتنمية الإيمان وتزكية الأخلاق وإذكاء روح التضحية في سبيل نصرة الدين، وإصلاح شأن المسلمين حتى يكونوا على التصاق بالقدوة الحسنة في معاشهم ومعادهم وعلمهم وعملهم وعاداتهم وعباداتهم وحلهم وترحالهم وحربهم وسلمهم ومتقلبهم ومثواهم... والمسلم الذي لا يعيش الرسول، صلى الله عليه وسلم، في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة[6].

ولا شك أن سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، تستمد من القرآن الكريم باعتباره رسالة الإسلام الخالدة في الناس، فقد تعرض كتاب الله لشخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، في عدة مواطن ومواقف، كما تعرض للعديد من الوقائع والأحداث، وذلك بأسلوب القرآن التأصيلي المتميز، فالقرآن هو "المعتمد الأول في معرفة الملامح العامة لحياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي الإطلاع على المراحل الإجمالية لسيرته الشريفة"[7].

كما تستمد من كتب السنة النبوية مثل موطأ الإمام مالك والكتب الستة، والمسانيد وغيرها، فضلا عن الكتب الأولى التي أفردها أصحابها في وقت مبكر لأحداث السيرة مثل كتاب "المبدأ والمبعث والمغازي" لابن إسحاق (ت 151 هـ) الملقب بـ"أمير المؤمنين" في تاريخ السيرة النبوية ومغازي موسى بن عقبة (ت 141 هـ) وغيرها[8].

2. مكانة السيرة النبوية في الإسلام

تستمد السيرة النبوية مكانتها في الإسلام من كونها تهتم بالمرويات عن حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة وبعدها وأثناءها إذ ما من مشهد من المشاهد وما من موقف من المواقف لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا واهتم به من كان مع رسول الله من الصحابة اهتمام استيعاب وترو من أجل الفهم والعلم وتبليغ من لم يبلغه، ولما حان وقت التدوين الكتابي المعضد للرواية الشفوية التي هي من ميزات النقل عند المسلمين، بلغ الاهتمام أوجه في ضبط وجمع المرويات فكانت مرويات السيرة النبوية تهتم بالمبدأ والمبعث والمغازي[9]، مطبقة منهج المسلمين في ضبط السند والمتن والتحري في ذلك وفقا لقواعد المصطلح الحديثي وقواعد الجرح والتعديل.

كما أن السيرة النبوية تستمد مكانتها مما ألمعنا إليه من تعرض القرآن الكريم للعديد من وقائعها وأحداثها وما يتعلق بشخصية الرسول وصفاته وأخلاقه وشمائله ومكانته السامقة في كل ذلك. ولها التصاق بالسنة النبوية التي ما هي إلا أقواله، صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخَلْقية والخُلُقية.

ومن ثم فإن مرويات السيرة النبوية تندرج ضمن مادة الاستنباط الفقهي والأصولي والمقاصدي فهي مجال خصب للإسلام العملي التطبيقي الذي يعتبر الناس أحوج ما يكونون إليه في كافة مجالات حياتهم.

إذ ليست السيرة النبوية مجرد سرد لوقائع وأحداث وقعت في غابر الزمان الغرض منها التسلي ومعرفة ما مضى لمجرد المعرفة لا غير كما قد يتوهم بعضهم، وإما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته، صلى الله عليه وسلم، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن، أي أن دراسة السيرة النبوية، ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلى محمد، صلى الله عليه وسلم[10].

3. الرسول، صلى الله عليه وسلم، مبعوث رحمة للعالمين

إن من أكبر وأجل ما من الله به تعالى على أمة الإسلام، وعلى العالمين والناس أجمعين، بعثة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، نبيا ورسولا واختياره واصطفاءه داعيا إلى الله بإذنه، ومخرجا الناس من الظلمات إلى النور وهاديهم إلى الصراط المستقيم، وتمتاز بعثته بالعموم والدوام على مر العصور والأزمان، وهذا اختيار إلهي لهذه الدعوة الإسلامية، ولو شاء لبعث في كل قرية نذيرا مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 51)، ولكنه وقع اكتفاء إلهي واستعاضة عن ذلك كله ببني الرحمة المهداة إلى العالمين، فكانت بعثته "عوضا كاملا ووافيا عن إرسال جيش من النبيئين، يتوزع على الأعصار والأمصار، بل إنها بعثة قد سدت مسد إرسال ملك كريم إلى كل إنسان تدب على الأرض قدماه، ما بقيت على الأرض حياة، وما تطلعت عين الهدى والنجاة"[11].

وليس من غرضنا هنا استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في بعثته، صلى الله عليه وسلم، للكافة، وإن كان ذلك من تمام شرفه وعظمته فالنصوص في ذلك أكثر من أن تحصى، وذلك لأن هذا الأمر مما يسميه العلماء من المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، أي أنه رسول الله إلى الناس كلهم، وهذا من خصائص نبوته إذ لم يحز أحد من الأنبياء والمرسلين من قبله هذه الدرجة، نعم قد أحرزوا على درجات عالية نوه بها القرآن الكريم، ولكنهم لم يحظوا بما حظي به، صلى الله عليه وسلم، من كونه مبعوثا إلى الإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان وإلى الأحمر والأسود، وخاتم النبيئين، والرحمة المهداة إلى العالمين.

فقد خصه الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، فالآية من سورة الأنبياء معطوفة على ما تقدمها من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وكرامة تؤكد منزلتهم ومكانتهم في النبوة والصلاح "فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد، صلى الله عليه وسلم، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها وذلك كونها رحمة للعالمين"[12].

ومعنى كونه، صلى الله عليه وسلم،  رحمة للعالمين يظهر في مظهرين اثنين:

الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة.

الثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.

فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس "زين الله محمدا، صلى الله عليه وسلم، بزينة الرحمة فكان كونه رحمة، وجميع شمائله رحمة، وصفاته رحمة على الخلق"[13].

وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما شج وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد شق ذلك على أصحابه، فقالوا يا رسول الله ادع على المشركين قال: "إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة"[14]. وفي حديث آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة"[15]، فهو، صلى الله عليه وسلم، قد "فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة أيضا"[16].

وفي قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد النبوي وقام إليه الصحابة بقصد زجره وقطعه عن إتمام بوله، فتدخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: "لا تزرموه"؛ أي لا تقطعوا عنه عملية التبول حتى يتمها، ولما أتمها أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدلو من ماء فصب في مكان بوله، فما كان من الأعرابي إلا أن قال: "اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا"، فلما سلم النبي، صلى الله عليه وسلم، من صلاته قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعا، يريد رحمة الله"[17].

ولهذا وأمثاله قالت أمنا عائشة، رضي الله عنها "كان خلقه القرآن". وقد خص الله سبحانه وتعالى محمدا، صلى الله عليه وسلم، من بين من بعث من الأنبياء والمرسلين بوصف "الرحمة" ولم يصف به غيره من الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، لكنه قال عنه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128)، وقال عنه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: 159)؛ "أي برحمة جبلك عليها وفطرك لها فكنت لهم لينا"[18].

ومن المعلوم أنه، صلى الله عليه وسلم، ما نزل قط في سائر أحواله الاستمدادية عن مقام النبوة والرسولية، فصار وجوده رحمة وبعثته رحمة وشريعته رحمة وسائر أحواله رحمة للناس أجمعين، ولذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ قال: (من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف)[19].

وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته التي هي أوسع الشرائع رحمة بالناس، وأن الرحمة ملازمة للناس في ظل الشريعة الإسلامية المباركة، حتى تعم سائر أحوالهم، فهي شريعة أقيمت على الرحمة والرفق واليسر، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج: 78) وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185).

"وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود، فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.

وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني بها رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة، ورحمته بهم عدم إكرامهم على مفارقة أديانهم، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة"[20].

وقد وضعت الشريعة الإسلامية "الإصر" وهو الثقل على عن الناس، وكان فيما سبق من الشرائع تكاليف كثيرة فيها مشاق عظيمة فخففت تلك المشاق لمحمد، صلى الله عليه وسلم[21]، والحال أن شريعته عامة وليست خاصة كباقي الشرائع السابقة عنها، وقد قال تعالى في الشريعة الموسوية مشيرا إلى العقوبات التي فرضت على أتباعها وتسببت لهم في فرض أعمال شاقة ومستمرة ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ (النساء: 160)، وقد قال:  ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...﴾ (البقرة: 54).

4. الرسول، صلى الله عليه وسلم، قدوة وإسوة حسنة

هذا أمر مؤكد بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21)، وهذه الآية "أصل كبير في التأسي برسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب في صيره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل..."[22].

وقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 63)، فهذا تحذير واضح وصريح للمخالفين عن أمر رسول الله  وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"[23]؛ أي مردود عليه.

ويروى عن سعيد بن المسيب أنه نبه أحد المصلين بأن لا نوافل بعد ركعتي صلاة الفجر في انتظار صلاة الصبح، فرد عليه ذلك المصلي قائلا: وهل سيعذبني الله، عز وجل، إذا أنا صليت؟ قال: لا، ولكن يعذبك إذا خالفت أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتلا عليه قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 63).

وقال جل ذكره: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: 80)، ومعناه بالمفهوم المخالف أن "من عصى الرسول فقد عصى الله، ومن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به"[24]. لأن القصد من طاعة الرسول هو حصول طاعة الله على الوجه المطلوب شرعا، ومن المعلوم بالضرورة أنه لا يمكن معرفة كيفية عبادة الله وطاعته إلا باتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهو أعلمنا بالله وأتقانا له، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب: 36).

وأما من زعم بأن ما أنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، ليس من عند الله فقد أشرك بالله، وفي ذلك يقول "الزجاج": "فإن قال قائل من أين يقال لمن كفر بالنبي، صلى الله عليه وسلم، مشرك، وإن قال إن الله عز وجل واحد؟ فالجواب في ذلك أنه إذا كفر بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير الله، جل ثناؤه، والقرآن إنما هو من عند الله، عز وجل، لأنه يعجز المخلوقين أن يأتوا بمثله، فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إلا الله، عز وجل، فقد أشرك به غيره"[25].

ولا يخفى أن الشرك بالله قمة الجحود والنكران والجهل به عز وجل وعدم قدره حق قدره، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 91)، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: 110).

وفي هذا برهان تلازم بأن محمد، صلى الله عليه وسلم، اصطنعه الله واصطفاه ليكون له رسولا هاديا ومنقذا مثاليا للعالمين من البشر والجن. وتحققت فيه آية الصنع الإلهي وصنع الله الذي أتقن كل شيء، فجاء مبرأ من العيوب كأنه خلق كما يشاء على حد قول القائل:

خلقت مبرأ من كل عيب           كأنك قد خلقت كما تشاء.

وفي صنع الله تعالى ما يدل على وحدة الصانع الموجد للأكوان ومن فيها وما فيها والمتصرف بإرادته المطلقة التي اقتضت حكمته أن يكون كل شيء بقدر ومقصد وهدف، ففي مجال المحسوسات ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ (يونس: 5).

وقال لباقي الكواكب والمجرات استمدي نورك من ضوئها، فلك منها اكتفاء واستمداد، ولن تحتاجي لغيرها في استنارتك التي بها قوام وجودك في هذه الأكوان.

وفي مجال المعنويات والمحسوسات معا قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ (الأحزاب 45-46)، فالرسول سراج يستضاء به في ظلمات الجهل والجاهلية والشرك، والشمس سراج تستضاء بها مجاهيل الأكوان، فأدرك العلاقة وتأمل تطابق الكون المرئي بالكون المقروء الذي هو القرآن الكريم.

ومن حق أي واحد أن يتساءل عن مدى قدرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكفاءته في النهوض بما عهد إليه من حمل رسالة رب العالمين إلى العالمين؟ وبتقدير وإعجاب نقول: من ذا الذي يستطيع لحاقه في مقدرته الفذة على الإنجاز ليس في زمن بعثته، صلى الله عليه وسلم، المعروف بالصعوبات وضعف الوسائل، بل في عصرنا الحالي الذي توافرت فيه كافة الوسائل وتعددت وتقاربت المسافات وتمهدت السبل للاتصال والتواصل بين كل أمم الأرض على حد سواء، كلنا يسلم أن لا أحد يستطيع أن ينشئ ويخلق في فترة وجيزة من حساب الزمن ما أنشأه رسول الإسلام لصالح البشرية جمعاء، فقد كون مدرسة لتخريج الكفاءات المقتدرة من الرجال ما عرف التاريخ البشري لهم نظيرا، وأوجد أمة ذات عقيدة صحيحة ودين متين وتشريع محكم وعادل، وقيادة حازمة محنكة أحرزت في مجال السياسة الشرعية على وسام الخلق العظيم.

وبذلك أنقذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البشرية المعذبة على وجه الأرض وهدى الله تعالى به وعلى يديه شعوبا وقبائل إلى الحق والخير وإلى طريق مستقيم، فمن ذا الذي يستطيع فعل مثل هذا الإنجاز الخالد في الصالحات، وإن وضعت أمامه كافة وسائل الدنيا وأسبابها ومنحته من الزمان ما يكفي؟ فالأمم اليوم تلهث وتجري وراء بناء لاقتصاد ونست أو تناست أن بناء النفوس يسبق بناء ما يسمى بالبنية التحتية، فإصلاح البنية الإيمانية الداخلية للإنسان هو ما ركز عليه رسول الإسلام، ولكن كيف فعل صلوات الله وسلامه عليه؟ فلنضرب لذلك مثلين من حال موجهين اثنين لك وأنت مار في مسالك وسبل متلفة وغير آمنة.

"فيقول لك الناصح الأمين: أغمض عينيك واتبعني، أو لا تسلني عن شيء يستثيرك؟ وربما تكون السلامة في طاعته إذا مشيت وراءه حتى تبلغ مأمنك. إنه في هذه الحالة رائدك المعين، الذي يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك. فإن هلك هلكتَ معه.

أما لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم خط السير، وحذرك مواطن الخطر، وشرح لك في إفاضة ما يطوي لك المراحل ويهوّن المتاعب. وسار معك قليلا ليدربك على العمل بما علمت، فأنت في هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك.

إن الوضع الأول أليق بالأطفال والسذج، وأما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولي الرأي من الناس[26]".

وهذا هو ما سلكه التشريع الإسلامي كتابا وسنة وسيرة نبوية وسار عليه أهل السنة والجماعة من السلف والخلف، إذ اهتموا بالتبليغ وإيصال دعوة التوحيد خالصة من كل شائبة إلى الناس كافة وضحوا من أجل هذا الهدف بالنفس والنفيس، ودربوا الناس على العلم والعمل، معا وحذروهم مواطن الخطر والخلل، وكتب الله لهم العزة والمنعة ووقاهم من الذل والهوان جزاء على إخلاصهم وصدق عزمهم ونواياهم، ومن جهة أخرى من منا لا يعلم بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يتوفر على ترسانة من الأسلحة والعتاد الحربي، ولا على أموال ولا قناطير من الذهب والفضة، ولا على مواد أولية معدنية وغيرها من الخيرات التي تتوفر عليها شعوب الأرض وتتسابق من أجلها دول العالم اليوم وتتكئ عليها لضمان مركزها وثقلها ولحمل الناس على اعتبارها والخضوع لقراراتها ورغباتها.

إن نبي الرحمة ورسول الكافة والعالمين لم يكن يملك من حطام الدنيا شيئا، وإنما يملك قولا وفعلا، الإيمان الراسخ الذي تضعف أمام تأثيره قوة الحديد والنار، ومع ذلك كان لا يتخلف عن الأخذ بالأسباب وضمان نجاح المساعي والاستعانة على ذلك بالعبادة والطاعة وجوامع الدعاء المستمد من مشكاة الوحي الإلهي.

وما من شك أن رسول الله قد كان يفضل حياة الزهد والقناعة إيثارا لحقوق الله وحقوق الخلق، لأنه مطوق بمسؤوليات جسام أمام الله وأمام البشرية جمعاء، وفي ظل زهده وقناعته نجده أجود الناس ويزداد جوده ويعظم في المناسبات كرمضان وعند مدارسة القرآن[27]، الذي يعلي من شأن الروح والنفس، فتسموا في المدارج العليا فتترفع عن حطام الدنيا، وتزهد فيه ويكثر جودها بما ملكت.

وتعرضت خصلة الزهد النبوية لاختبار من مجتمعه المادي الذي يقدس المادة والمكانة الاجتماعية، فساوموه بذلك حين عرضوا عليه المال والملك في حال عسره وفاقته، مقابل أن يتخلى عن دينه والدعوة إلى هذا الدين، فاختار ما عند الله وسجلت قولته في ذلك لعمه أبي طالب: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه"[28].

لقد كان رسول الله موقنا تمام اليقين بأن ما عند الله خير وأبقى، لا يقول لا لك لسانه حتى يمتلئ به قلبه وتحصل به قناعته، لأنه على يقين بأن الله، عز وجل، يعلم السر وأخفى، فلا داعي لإظهار عكس ما تخفي سريرته، ومن أسر سريرة ألبسه الله لباسها، وقد أضمر رسول الله في سريرته تقوى الله وحب الله وخشية الله فألبسه الله لباسها ما أضمرت طويته الطاهرة، صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان معلم البشرية ومنقذها متحللا من حطام الدنيا ورغباتها وشهواتها، فهذا أمن وأمان وأكبر حجة وبرهان على أنه لا يستطيع أحد كيفما كان أن يخدش في نزاهته في هذه الجوانب الدنيوية التي تكون مدعاة للسقوط البشري من أعين الناس، فهو قد كفاه الله عز وجل ذلك بتوجيهه إلى القناعة، أو ليس هو القائل، صلى الله عليه وسلم: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها، ولو أنها أبقيت لك"[29].

وهذا الحديث قال عنه أبو ادريس الخولاني: هو في الأحاديث كمثل الإبريز في الذهب.

ومثله ما أجاب به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرجل الذي جاء يسأله قائلا: "يا رسول الله دلني على عمل، إذا أنا عملته، أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبونك"[30].

وحديثه الذي يرويه زيد بن ثابت قال: "سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"[31].

إن رسول البشرية جمعاء عاش الدنيا، ولكن ليس للدنيا كما يريد أن يعيشها إنسان اليوم الذي يزعم لنفسه الرقي والتحضر، وإنما عاش الدنيا للآخرة، وهذا جانب مهم من أجله كد رسول الله واجتهد، وما ضيع لحظة واحدة من عمره منذ هداه الله إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، كل ذلك ابتغاء مرضاة الله، وطمعا في جنته واتقاء لسخطه وغضبه، لأن الله تعالى يقول: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه: 81-82).

كما أن الأحداث المروعة والمفزعة كانت لا تحرك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ساكنا، ولا تثنيه عن عزمه وإرادته، فكان إذا عزم على أمر فإنه يمضي فيه متوكلا على الله "وكفى بالله وكيلا".

ولم يستكن الرسول الرحمة المهداة للعالمين للباطل قط، بل أرغمه وأزهقه وأقام الحق مقامه، وكافح من أجل الأخلاق الحميدة، وتخلص الناس على يديه من كل ما يحط من قدر الإنسان وينزل به عن درجة الكرامة والتكريم، فقطع دابر الشرك والإلحاد والفواحش والخبائث والرذائل والربا وكافة الموبقات.

واستطاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يتدرج في مدارج المعالي والكمال البشري يوما بعد يوم، وأن يجسد المثل الأعلى في كل ميدان من الميادين التي تتوقف عليها الدعوة الإسلامية التي هي دعوة رب العالمين إلى العالمين. ولم يتخل عن حقه ودوره في الدعوة السليمة أولا، فكانت المرحلة المكية من سيرته النبوية تمثل مرحلة الجهاد السلمي، والدعوة سرا وجهرا إلى الإسلام مع التخطيط للمستقبل وللغد الأفضل من أجل إنشاء خير أمة أخرجت للناس.

وقد فاجأ هذا الرسول الأعزل من الأسلحة والجيوش النظامية بحكمته وحنكته البغاة والعتاة من ملوك زمانه من ساسانيين وقياصرة الروم وغيرهم من الذين يمثلون القوى العظمى في زمانهم، وخاطبهم الخطاب الذي ما عهدوه قط في حياتهم وتقلباتهم السياسية سواء من حيث إيجار العبارة وإيضاح المقصد أو من حيث التجرد الذاتي وطلب الخضوع لأمر الله تعالى، وخير مثال لذلك كتابه لهرقل عظيم الروم. فقد جاء هذا الكتاب قمة في صيغته، وإيجازه وإعجازه، وحتى في كيفية إيصاله إلى هرقل، واختيار الظرف المناسب لذلك، ثم ما كان له من أثر إيجابي المتجلى في السمعة الحسنة التي أحدثها هذا الكتاب واشتهاره، وما أحدثه من خضد وردع شوكة مشركي قريش وتدهور حالتهم النفسية وهو ما عكسه تصريح أبي سفيان بعد خروجه من استجواب هرقل له في شأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في محفل عظيم من حاشيته وعلية قومه بمدينة القدس[32].

فإذا أخذنا هذا الكتاب النبوي إلى عظيم الروم وغيره من الكتب الأخرى إلى أمثاله، لن نتردد لحظة واحدة في أن محمدا رسول الله حقا، ولن يكون أبدا إلا رسول الله إلى الكافة، أحب من أحب وكره من كره، أدركه من أدركه وجهله من جهله.

ونص كتاب رسول الله إلى هرقل كما أورده الإمام البخاري في جامعه الصحيح "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64)".

وكان نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم، يدو للمشركين بالهدى ليتألفهم. وقد بوب لذلك الإمام البخاري قائلا: "باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، وساق بسنده حديث أبي هريرة عن قدوم طفيل بن عمرو الدويسي وأصحابه على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن جوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: اللهم اهد دوسا وائت بهم"[33].

وهذا كان من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يؤمن شر الأعداء ويرجى تألفهم، وأما حين تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم فكان يدعو عليهم بالهزيمة والزلزلة، كما فعل يوم الأحزاب حيث دعا عليهم بقوله: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، شغلونا عن صلاة الوسطى حين غابت الشمس"[34]، وقوله في حديث ابن أبي أوفى "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"، وفي هذا مشروعية الدعاء على المشركين ولو خشي الداعي أنهم يدعون عليهم لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا"[35]، وكل هذا يتفق ومنهج الإسلام حتى مع أهل الكتاب حيث قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46). وقال تعالى في حق عموم المسيئين الظالمين لغيرهم: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ (النساء: 148)، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى المسلم أن يذود عن حوضه ويضحي من أجل كرامته خصوصا إذا ظلم أو أهين أو اعتدي عليه بغير حق.

5. القدوة والعصمة

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: 59).

والذي نقصده استدلال عليه من الآية هو الرد إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، أي إنهاء الأمور إليه بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وتقريراته، والاحتذاء بسنته وسيرته العطرة؛ لأنه، صلى الله عليه وسلم، منفذ أوامر الله بنفسه، فطاعته طاعة تلق وطاعة امتثال، لأنه مبلغ ومنفذ، وغيره من أولي الأمر يعتبر منفذا لما بلغه الرسول، صلى الله عليه وسلم، ورسمه للمسلمين من دين العلم والعمل التطبيقي.

وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 71). فالفوز العظيم في طاعة الله ورسوله أي في اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، ولا سبيل لنا لمعرفة الله تعالى كما يجب معرفته وطاعته على أساس مما شرع إلا بواسطة رسول الله والتزام هديه وإرشاده إذ أن خير الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وسلم، وخير الهدى هدى الله، ومن ثم يطلب المسلم في كل صلواته هداية الله له إلى الصراط المستقيم.

وقد شهد الله عز وجل على نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم[36]، وأشهد عليها الأنبياء والرسل كلهم بأخذ الميثاق عليهم[37]، كما أشهد سبحانه خلقه على وحدانيته وربوبيته في الأزل[38].

وإذا كان الله عز وجل قد اختار محمدا، صلى الله عليه وسلم، ليكون قدوة للعالمين فإن من شأن من أراده الله لأن يكون مثلا أعلى وقدوة وإسوة حسنة للناس للملك الديان، أن يكون مختارا ومجتبى ومصطفى، ومن هنا تأتي العلاقة الضرورية بين الاصطفاء والقدوة، فالقدوة هنا مصطفى اصطفاء مطلقا ومزكى تزكية ربانية سرمدية لا اعتراض عليها، فعلاقة الاصطفاء بالقدوة كعلاقة النبوة بالعصمة، فإذا كان القدوة قد زكاه الله تعالى واصطفاه لأمر تجتمع عليه كلمة المسلمين، وينتظم به أمر الدنيا والدين، فهذا يستلزم عصمته، والعصمة تستلزم النموذج البشري الكامل الذي يتساوى صلاح مظهره وصلاح مخبره، ويستحيل في حقه الوقوع فيما حرم الله والتهاون والاستهانة بما أنزل الله.

كما أنه لا معنى للقدوة والإسوة أساسا في مجال الشرع وما يتقرب به إلى الله إذا لم تكن العصمة متوفرة أصلا، ومن هنا يعلم أن القدوة التي تأسس عليها أمر الدين عند المسلمين هي قدوة النبوة والعصمة.

ولا يخفى أن المسلمين اليوم وقبل اليوم من عصور ضعف العقيدة وانحطاط الفهم في الدين قد بحثوا عن قدوة أو قدوات أخرى غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلهم من ذلك ضرر كبير وتقاطعوا وتدابروا وتنابزوا وتباغضوا وتنافروا من أجل ذلك، وكأن القدوة المعصوم، صلى الله عليه وسلم، وقدره عند ربه ثم عند أنبيائه وصالح المؤمنين لا يشبعهم ولا يكفيهم، ولا يسد خلتهم في الاقتداء. فكيف يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

والله تعالى يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 31-32).

وجاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"[39].

وما من شك أن قدوته، صلى الله عليه وسلم، هي قدوة مستوعبة وكافية ومستندة إلى العصمة النبوية وإلى عموم الرسالة الإسلامية ليس للعرب وحدهم ولا للعجم وحدهم، وإنما هي رسالة للعرب والعجم والأحمر والأسود، وهو قدوة وإسوة حسنة لجميع البشر، وما نراه من تقارب العالم اليوم إلا مؤشر على أنه يسير نحو وعي الرسالة الإلهية الخالدة، رسالة الإسلام المستندة إلى هدي خير الأنام، والتي لا خلاص للبشر من المحنة في هذا الكون إلا بالدخول تحت مظلتها، والأخذ بما جاء فيها وما ذلك على الله بعزيز.

خلاصة وتقويم

وبعد، فإن سيرة محمد، صلى الله عليه وسلم، لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حقا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته، صلى الله عليه وسلم، لكفى، وما على المسلمين اليوم إن أرادوا إصلاح أحوالهم إلا الرجوع إلى التمسك بعقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وسيرهم على هدي سيرته، صلى الله عليه وسلم، وهذا مرهون بفقه رسالة الإسلام من قبل المسلمين أولا وتفهيمها علما وعملا لأمم الأرض المفتقرين إليها والمتلهفين إلى المخرج مما هم فيه وعليه.

إن الإدراك الحق لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام الدقيق بما جاء به يعتبر هو العلاج الوحيد لكل أدواء المسلمين إذا أحسنوا الفهم وعرفوا كيفية تنزيل ذلك على واقعهم ومراحل تطور هذا الواقع.

وإنني أرى أن حال المسلمين اليوم جدير بأن يستفيد من منهج السيرة النبوية في المرحلة المكية، وهي مرحلة تشتمل على التضحية الكاملة من أجل إيصال الدعوة إلى الناس وفق خطة سليمة تدريجية تستهدف بلوغ الغايات والأهداف عن طريق بناء الإيمان ومقتضياته بناء محكما يعتمد البرهان والإقناع، والثبات على المبدأ والدعوة إليه وحفظه وتبليغه لمن لم يبلغه.

كما يمكنه أن يستفيد من مواقف الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكيفية معالجته للطوارئ والمستجدات في المرحلة المدنية، وكيف كان يقف شامخا لا تتغير نفسه لحطام الدنيا، ولا لشؤونها إذا هي أبقت عليه دينه وعرضه، لأنه يوثر عليها الدار الآخرة ومرضاة ربه ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

ونسأله تعالى أن يهدينا فيمن هدى ويلهمنا مراشدنا ويوفقنا لمرضاته وإتباع هدى رسوله، صلى الله عليه وسلم، إتباعا يقودنا إلى النجاة في الدنيا والآخرة. آمين.

(انظر العدد 14 من مجلة الإحياء)

الهوامش

  1.  مسلم، فضائل 1، الترمذي، مناقب 1، أحمد 4: 107.
  2.  البخاري، أنبياء 3، مسلم-إيمان 338-337، فضائل 3، الترمذي قيامة 10، تفسير سورة 17، الدارمي مقدمة 8، أحمد ج1، ج2، ج3.
  3. المسند: 6، 25.
  4. فتح الباري شرح صحيح البخاري 70: 1 وما بعدها.
  5. محمد الغزالي، فقه السيرة، دار الكتب الحديثة، ط. 5 يناير 1965، ص4.
  6. المرجع نفسه، ص 6.
  7. فقه السيرة للبوطي، دار الفكر د. ت، ص22.
  8. للمزيد ينظر الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 105 وما بعدها.
  9. وهي العناصر التي تناولها ابن إسحاق في سيرته التي كتبها في النصف الأول من ق. 2هـ.
  10. فقه السيرة للبوطي، ص17.
  11. فقه السيرة للغزالي، ص20.
  12. ابن عاشور، التحرير والتنوير 165: 17.
  13. نقله عنه عياض في الشفاء، انظر نسيم الرياض للخفاجي في شرح الشفاء 101: 1، ط دار الكتاب د.ت.
  14. صحيح مسلم كتاب البر 87.
  15. ساقه ابن كثير في تفسيره 201: 3 وناقش طرقه ولم يوصف فيه بالضعف.
  16. التحرير، 167: 17.
  17. الفتح، 438: 10.
  18. التحرير والتنوير 167: 17.
  19. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 202: 3.
  20. التحرير، 169: 17.
  21. أحكام القرآن لابن العربي، 795: 2.
  22. تفسير ابن كثير 447: 5. ط2. دار الفكر بيروت، 1389-1970.
  23. تفسير ابن كثير 5: 131.
  24.  التفسير لابن القيم ص 9.
  25. معاني القرآن وإعرابه،295: 1، بيروت عالم الكتب، ط1، 1408 هـ: 1988 م.
  26. محمد الغزالي، فقه السيرة، ص 20-21.
  27. انظر الحديث في صحيح البخاري شرح فتح الباري 30: 1، ونصه "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة".
  28. ابن كثير، السيرة النبوية 227: 1.
  29. سنن ابن باجة، كتاب الزهد الحديث الأول منه 1373: 2.
  30. نفس المرجع.
  31. نفس المرجع 1375: 2.
  32. لقد لخص أبو سفيان حالة المشركين إثر ذلك بقوله: "لقد أمر ابن أبي كبشة، أنه يخاف ملك بني الأصفر..." فتح الباري، 31: 1.
  33. صحيح البخاري، الفتح 32: 1.
  34. الفتح، 107: 6.
  35. المرجع نفسه، 105: 6.
  36. قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ (الفتح: 29)، ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 41).
  37. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: 81).
  38. 38. ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (الأعراف: 172).
  39. صحيح مسلم، كتاب الإيمان 40: 240.
Science
الوسوم

د. إبراهيم الوافي

أستاذ التعليم العالي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر-أكادير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق