مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء -6- محمد بن يوسف الترغي

الحمد لله رب الناس، مذهب البأس، والصلاة والسلام على محمد خير الناس، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة، التي قد يفقد فيها المرء أحدا من عائلته أو جيرانه أو أصدقائه، يبقى الصبر مؤنسا للمسلم في مصيبته، قال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ ١٥٤ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ ١٥٥ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَ»، ومما يؤنسه أيضا ما جاء في فضل من مات بالطاعون، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»، وورد فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وقد استشهد جماعة من أخيار القراء على مر التاريخ بالطاعون، وسأحاول في هذه السلسلة جمعَهم، والتعريفَ بهم من خلال هذه المقالات، وسميتها: 

«السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء»

-6- محمد بن يوسف الترغي(1)

محمد بن يوسف المساري الترغي أصلا، نسبة إلى بني ترغة من قبائل الريف، الفاسي مولدا، المراكشي دارا، أبو عبد الله، الفقيه، الأستاذ، النحوى، فقيه مشارك، له سند ورواية فى الحديث.

قال ابن القاضي: « وُلد فيما حدَّثنى به، أبقاه الله تعالى، سنة 943 هـ، وهو حى من أهل العصر، ولما ودّعته عند إرادتى السَّفرَ قرأ: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ» [النساء: 130]  إلى آخر الآية، وقال لى: إن بعضَ المحققين كان إذا ودّع شخصا يقول له: إن المسافر فى ضمان الله ما لم يعصه، فإذا عصاه خرج من ضمانه».

قال الحضيكي: «كان، رضي الله عنه، أستاذا جليلا، وعالما كبيرا، ماهرا باهرا في علوم القرآن والتفسير، تُشدُّ إليه الرحال من كل جهة لأخذ علوم القرآن طول عمره، وعنه انتشرت في البلاد المغربية القراءة بسائر طرقها».

وقال الكتاني: «وكان أستاذا مجودا، عارفا بالمقارئ السبعة، محققا فيها، مع المشاركة في غيرها من الفنون، والحفظ التام، واستحضار المسائل. وهو مؤدب أولاد الملوك».

قال ابن القاضي: «أخذ عن أبى القاسم بن إبراهيم المشترائى، وأجاز له فى القراءات السبع، وفى كلّ ما يجوز له، وروى عن أبى النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي، وعن أبى عبد الله الخروبى. وله حفظ غزير، ذاكر للمسائل. أجاز لى جميعَ مروياته.

وما رويته عنه وأخذته فهو فى جزء مسموعاتى عنه الذى كتب فيه خطه لنا بذلك، أبقاه الله تعالى بمنه.

وكان ذلك بباب منزله بدرب عبيد الله، قرب مسجد الشّرفاء من مرّاكش المحروسة، فى يوم السبت غرّة ذى القعدة الحرام سنة 998هـ، وامتدّت القراءة عليه إلى المحرّم من السنة التى بعدها». ثم قال بعدما ذكر طرفا من إنشاداتِه وإفاداتِه: «وإنشاداتُه وإفاداتُه أكثر من هذا كلِّه، تركناها اختصارا، وبالجملة فهو حافظ زمانه».

أخذ عنه: أبو العباس أحمد المنصور الذهبي،  وإبراهيمُ بن سليمان الهشتوكيّ، ومحمد بن علي الجزولي الكفيف؛ هذا الأخير، كان حسن النية في التعليم، صادقا في التعلم والطلب والعمل، حريصا على الإقراء والإرشاد، قال رحمه الله: كنت أختلف إليه (أي: إلى الترغي) سنة كاملة في القراءة عليه، فيردني ويدفعني عنه، وربما خرج ووجدني ببابه فيقول: يا أعمى، ما زلت لم تقنط، فيطردني حتى مضت سنة وأنا ملازم لِبابِه، ولما أراد الله أن يفتح علي جئته يوما في مطر وبرد شديد، وطين ووحل، وقد تلوثت به، فقعدت ببابه، فلما رآني على تلك الحال رحمني وأدخلني، وبكى بكاء شديدا، ثم قال: اقرأ، فقرأت عليه بالسبع، ثم أذن لي في التصدير للتجويد، وكتب لي الإجازة.

وممن أخذ عنه أيضا: محمد بن يوسف التملي، كان ماهرا في فن القراءات.

ومنهم: موسى بن إبراهيم الوسكاري، الأستاذ القارئ شيخ القراء.

ومنهم: محمد بن أحمد المرابط البعقيلي، وأبو العباس أحمد بن علي بن شعيب صاحب كتاب إتقان الصنعة، وغيرهم.

من آثاره: أجوبة على أسئلة قرآنية وجهها إليه محمد بن أحمد المرابط البعقيلي، أَوَّلُها في قوله تعالى في قصة بلقيس: «وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ» بالوقوف على «عَظِيمٌ»، وهناك من يقف على «عَرْشٌ»، خوفَ أن يوصف العرش بالعظمة أمام ما لملك سليمان، ثم يكون «عَظِيمٌ» وصفا لأمر محذوف، وهو خبر لمبتدإ محذوف أيضا، ولكن ذلك مردود.

قال د. عبد الهادي حميتو: «لعل أبلغ أثر له في المدرسة المغربية، بعد ما ذكره المترجمون له من كونه عنه انتشرت القراءة بالمغرب بسائر طرقها، هو اقتران اسمه بالوقف المغربي الذي يحمل اسم «تقييد وقف القرآن الكريم» للإمام الهبطي .. فإن صلَته بإبراز هذا الوقف إلى الوجود في صورة «تقييد» يشتمل على أعيان الكلمات الموقوفة أصبح عندنا أمرا يقينا لا يقبل الشك بعدما وقفنا عليه من الوثائق المكتوبة الناطقة بذلك».

توفي شهيدا بالطاعون، رحمه الله، سنة أربع عشرة وألف بمراكش. وقيل سنة تسع وألف.

  1.  درة الحجال 2/ 164-18، طبقات الحضيكي ص290، سلوة الأنفاس 3/ 359-360، خلال جزولة 2/178، قراءة الإمام نافع عند المغاربة 4/ 268-279.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق