وحدة الإحياءدراسات عامة

السياق وفهم النص الشرعي.. دراسة في الوظيفة والدلالة

تبوأ السياق منـزلة مكينة بين ضوابط فهم النص في الإسلام، وسجل حضورا قويا في فكرنا الإسلامي تنظيرا وتطبيقا، واعتمده علماؤنا أساسا لتصحيح الفهم، والإرشاد إلى المراد، والتضييق من شقة الخلاف.

واليوم تشتد الحاجة إلى العناية بهذه الأداة المنهجية في ثلاثة مستويات:

الأول؛ تحديد مفهومه في البيئات العلمية التي نبت فيها، وأدرك القائمون عليها ماله من أثر في تجلية المعنى، وتوليد الدلالات.

الثاني؛ وظيفته في بيان الملابسات والظروف والأحوال التي صيغ فيها النص، تحقيقا لمصلحة معتبرة، أو درءا لمفسدة متوقعة.

الثالث؛ أثره الإيجابي في التوفيق بين روح النص ولفظه، وبين الهدف الثابت للشارع والوسيلة المتغيرة، وبين قضايا الأعيان المرتبطة بظرف زمني خاص، وما تقتضيه مصلحة الأمة والدين إذا تبدلت تلك الظروف، وبين ما هو من قبيل التشريع والتكليف، وما ليس من باب التشريع والتكليف…

فالنظر إلى السياق في هذه المستويات الثلاثة يساعد على سداد الفهم واستقامته.

والثمرة المرجوة وراء هذا البحث تبتدئ من جهة في حسن فهم النص الشرعي ضمن إطاره القدسي دفعا للفهوم والتفسيرات المتفلتة من ضوابط وقوانين الفهم السليم. ومن جهة ثانية الإسهام في التصدي لدعاة القراءة الجديدة للنص الديني. هذه القراءة المتسلحة بمناهج تنطلق من تطبيق العلوم الإنسانية على النصوص الدينية، نازعة عنها القدسية، وقاتلة فيها المعنى، ومحطمة للسياق، ومفككة للعلاقات القائمة بين العبارات والألفاظ، ومعطية للتأويل مجالا لا حدود له…

وإذا كان النظر إلى السياق مفهوما ومصطلحا ونظرية يعتبر بوابة ضرورية، ومنطلقا أساسيا لكشف معنى هذا المصطلح، فإن الذي يشغل بالي، ويوجه جهدي في هذه المشاركة المتواضعة، هو نقل هذه الأداة المنهجية من التجريد والتنظير إلى أداة حية فاعلة منتجة، وقد كانت في يوم ما كذلك بين يدي علمائنا الأعلام، فأثمرت وأنتجت وحلت معضلات الإشكال والإجمال والاحتمال الذي يعتري ألفاظ النصوص.

ومن هنا توجهت توا إلى النظر إلى وظيفة هذه الأداة تجاه النص الشرعي، فوجدت في مدونات الأصول والتفسير وفقه الحديث وظائف أساسية لهذه الأداة، كما وجدت أيضا نماذج تطبيقية عملية لها، وتبين لي أن بالإمكان اعتماد هذه الوظائف والإرشادات لتيسير فهم النص الشرعي، وتجديد النظر إليه وفق حاجات الأمة ومتطلباتها المعاصرة، سيما وقد ساهمت إلى أبعد حد في ضبط التفقه في النص، وتنـزيله على واقع الناس…

وهذه الوظائف لا أزعم حصرها، وإنما هي إشارات نطق بها إنتاج علمائنا في التفسير والأصول وفقه الحديث. ويمكن أن يضيف إليها البحث الجاد وظائف أخرى تضمن سلامة الفهم، وتقف سدا منيعا أمام من يقتحم النص الشرعي بدون استكمال أداته من جهة، ومن ينظر فيه بخلفيات ثقافية واجتماعية من جهة أخرى.

ولما كانت هذه الوظائف لا تؤدي وظيفتها إلا إذا صاحبها علم وقوة فهم وسعة اطلاع يمكن صاحبَه من إدراك دلالة السياق، وهي دلالة ليس من السهل إدراكُها، وقد استعصت على كثير من قمم العلم قديما وحديثا، ولذا جاء القيد الثالث والأخير؛ وهو دلالة السياق. كيف يهتدى إليها؟ وهل هناك معالم مضيئة أمام المتفقه للوصول إليها؟

ولذلك أتناول موضوع السياق وفق العناصر الآتية:

أولا: وظيفة السياق.

ثانيا: دلالة السياق.

وأشير إلى أن هذه المساهمة قد تضمنت في أصلها مبحثا يتعلق بمفهوم السياق، وقد تم الاستغناء عنه بسبب وضوحه وحضوره ضمن مساهمات أخرى قدمت أثناء الندوة.

 أولا: وظيفة السياق

تنبه علماء الأصول إلى وظيفة القرائن السياقية، وما ترشد إليه من دوال في فهم المراد من النص الشرعي، أو تأكيد المعنى المتبادر منه، أو تقويته، أو منع تأويله، أو ترجيحه،… وفيما كتبوه ودونوه إشارات موحية، وتنبيهات ذكية، تنبئ عن وعي القوم بأهمية السياق، ودوره في فهم الكلام، وترجيح بعض المعاني والمقاصد على بعض، وتبيين معاني الجمل التي يكتنفها غموض، وفي كل ذلك توجيه وتسديد لمعنى النص نحو غايته المقصودة.

فهذا العز بن عبد السلام (توفي 660ﻫ) يشير إلى بعض وجوه فوائد السياق، قال: السياق مرشد إلى تبين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات. وكل ذلك بعرف الاستعمال. فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما و استهزاء و تهكما بعرف الاستعمال1.

ويمثل لذلك بقوله تعالى: (ذق اِنك أنت العزيز الكريم) (الدخان: 46) الذي ورد في سياق الذم، فكان معناه: الذليل المهان. وكذلك قول قوم شعيب: (اِنك لأنت الحليم الرشيد) (هود: 87)؛ أي السفيه الجاهل، لوقوعه في سياق الإنكار عليه. “وأما ما يصلح للأمرين فيدل على المراد به السياق كقوله تعالى: (واِنك لعلى خلق عظيم) (القلم: 4) أراد به عظيما في حسنه وشرفه، لوقوع ذلك في سياق المدح، وقوله: (اِنكم لتقولون قولا عظيما) (الاِسراء: 40) أراد به عظيما في قبحه، لوقوع ذلك في سياق الذم. وكذلك صفات الرب المحتملة للمعاني المتعددة، تحمل في كل سياق على ما يليق به”2.

ويقول ابن دقيق العيد (توفي 702ﻫ): “السياق طريق إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، وتنـزيل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه”3.

ويقول العلامة ابن القيم (توفي 751ﻫ): “السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة. وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فأنظر إلى قوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير”4؟

وفي الموافقات للإمام الشاطبي (ت 790ﻫ) حضور قوي للوعي بمقام النص ومقتضيات أحوال الخطاب والمخاطبين5.

من خلال هذه الإشارات المبثوثة في كتب الفقه والأصول يمكن رصد وظائف السياق الآتية:

1. رفع خفاء النص

يعتري الخفاء بعض ألفاظ النص الشرعي، فلا يدرك معناه بدقة فيحتاج الناظر في النص بغية تفسيره وبيان المراد منه إلى البحث عن القرائن اللفظية والمعنوية والحالية للكشف عن معناه.

وثمة في علم الأصول قرائن وأدلة يلجأ إليها الاجتهاد الفقهي لإزالة الخفاء الواقع في النصوص، يأتي على رأسها الوحي نفسه، فالقرآن يفسر بعضه بعضا، والسنة بيان للقرآن. وكذلك عرفهما الاستعمالي، وهو تحكيم لمنطقهما التشريعي؛ لأن وحدة المصدر تقتضي وحدة المنطق التشريعي. ثم الظروف التاريخية التي احتفت بالوحي قرآنا وسنة؛ أسباب نـزول الآيات، وملابسات ورود السنة.

وقد كانت هذه القرائن والأدلة حاضرة في أبحاث الأصوليين اللفظية وضوحا وخفاء؛ فذكرها الحنفية تحت مسمى غير واضح الدلالة؛ كالخفي والمشكل والمجمل والمتشابه، والجمهور تحت مسمى المبهم؛ كالمجمل والمتشابه.

ومثال رفع خفاء النص بالقرائن السياقية ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى في تفسير كلمة (أنى) في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم) (البقرة: 221)؛ بمعنى “كيف” فيكون المعنى: إباحة إتيان النساء من أي وجه شئتم إذا كان الوطء في موضع الحرث6. مع أنى عامة في”كيف” و”أين” إلا أن عمومها في جهات المسلك الواحد، لا في المسالك المتعددة7. إلا أن دلالة السياق المقالي المتمثل في قوله (حرث) يدل على أن الإتيان في غير موضع المأتى محرم؛ لأنه لا يتناسب وجعل النساء حرثا لأزواجهن.

و”الحرث” في الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولا لفعل: (فاتوا حرثكم)، وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه8.

وإذا كان كذلك فإن لفظ “الحرث” يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المحروث9.

يساعد على هذا ما يتبادر من موقع الآية، ومعاني ألفاظها، وما سبق من النهي عن قربان النساء في حالة الحيض، وكذلك فإن في قوله تعالى: (فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله) (البقرة: 220) مع قوله: (فاتوا حرثكم) ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد10.

وفي ذلك يقول الشافعي: “وبيِّن أن موضع الحرث موضع الولد، وأن الله عز وجل أباح الإتيان فيه إلا في وقت الحيض”. قال: وإباحة الإتيان في موضع الحرث يشبه أن يكون تحريمَ إتيان في غيره11.

ويؤيد هذا التوجيه السياق المقامي للآية؛ وﻫو سبب نـزولها، فقد أخرج مسلم بسنده عن جابر -رضي الله عنه-: “كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد أحول، فنـزلت، (نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم)12.

فالحديث نص في الرد على اليهود فيما قالت، وبيَّن أن الوطء في الفرج مباح من جهات متعددة، فثبت التعميم في صور الحرث وهيئاته لا في موضعه13. وهذا هو الغرض الذي سيق الحديث لإفادته.

2. الترجيح بين الاحتمالات والوجوه

إذا كان المراد بالسياق هو كافة القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للنص، بغية توجيهه، وتيسير فهمه، وبيان المراد منه، فإن هذه القرائن تبدو قوانين14 يستعان بها في الترجيح عند ما تتعدد محتملات النصوص ووجوهها.

وعلماء أصول الفقه ينظرون إلى هذه القرائن المصاحبة على أنها مرجحات، وإن كانت مثارات الظنون التي يحصل بها الرجحان كثيرة لا تكاد تتناهى، فاحتاج الأمر إلى ضابط يضبط المسألة. ويتمثل هذا الضابط فيما إذا كان مع أحد الوجوه قرينة عقلية، أو لفظية، أو حالية، وأفادت فيه زيادة ظن، وقع الترجيح بها15.

فمن وظائف القرائن المرافقة للنصوص الترجيح بين الاحتمالات المتعددة للفظ، فيقدم ما سيق الخطاب لأجله، وما هو أوفق بسياق الكلام. وكلما أغفل الناظر في النص مساق الكلام، وما احتف به من قرائن، كلما استعصى عليه إدراك المعنى المراد. يقول العز بن عبد السلام: “قد يتردد المعنى بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، ويترجح بعضها على بعض، وأولى الأقوال ما دل عليه الكتاب في موضع آخر، أو السنة، أو إجماع الأمة، أو سياق الكلام. وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق، كان الحمل عليه أولى”16.

ويقول صاحب تفسير المنار: “إن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته”17.

على أن مدونات علم الأصول توحي بأن هناك اتجاهين متغايرين فيما يتعلق بمعالجة الاحتمالات الدلالية المتعارضة في النص الشرعي الواحد:

اتجاه يرى ضرورة الجمع بين احتمالات الألفاظ؛ لأن ذلك أمكن في التفسير، وأوعب لمرامي النص ومقاصده، وأوغل في استيعاب طاقاته الدلالية. ولعل الإمام الشافعي ممن يتزعم هذا الاتجاه قديما، وتبعه جماعة من الأصوليين والبلاغيين، ودعا إليه الشيخ ابن عاشور حديثا. وكانت مسائل عموم اللفظ المشترك، وتعميم اللفظ حقيقة ومجازا، من أكثر القضايا المعبرة عن هذا الاتجاه في كتابات الأصوليين.

فقد اشتهر عن الشافعي استعمال اللفظ المشترك في حقيقته ومجازه، وحمله عند الإطلاق عليهما18، فحمل الملامسة في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) (المائدة: 7) على نقض الطهارة بالمس باليد، والجماع19. وحمل لفظة (إلى) في قوله تعالى (إلى المرافق) على الاشتراك بين إدخال الغاية وعدمه20.

ويقرر العلامة ابن عاشور أن ما تسمح به تراكيب النص القرآني من المعاني على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي مظنون بأنه مراد لمنـزله، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية21.

ويزيد الأمر بيانا بقوله: “ولا تجعل الحمل على بعضها “المعاني” منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك. فمختلِف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته، من اشتراك وحقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وبديع، ووصل، ووقف، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق، يجب حمل الكلام على جميعها…”22.

وهناك اتجاه آخر مخالف للأول يرى أصحابه أن الترجيح بين محتملات اللفظ أمر لا مناص منه عند النظر في النص، تحديدا لمعناه، وتيسيرا لتنفيذ ما يحمله من تكليف وإلزام. ويميل إلى هذا الاتجاه البدر الزركشي الذي نوه بصنيع الزمخشري في تفسيره “الكشاف” يقول: “ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز؛ ولهذا ترى صاحب “الكشاف” يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا، حتى كأن غيره مطروح”23.

وتبناه الفقيه المالكي أبو محمد ابن الفرس نظرا وممارسة في مصنفه النفيس “أحكام القرآن”، فقد قرر أن من اتصف بصفات المجتهدين، وأراد تعرف أحكام أفعال المكلفين من القرآن: “وجد من الأحكام ما تتعارض فيه أدلة الكتاب واحتمالاته، ووجد من السنة الواردة عن النبي عليه السلام ما يعارض معاني الكتاب أيضا، فيجب أن ينظر في أقوى الأدلة وأظهر الاحتمالات، فإذا سلك هذا السبيل أمكن أن يسدد ويوفق”24.

ومما يعينه على التوفيق والتسديد مراعاة السياق؛ إذ هو الكفيل بتسليط الضوء على الظروف التاريخية والاجتماعية المحتفة بالنص.

والاتجاهان معا متفقان على أن النص لا يمكن تفسيره بما يأباه السياق، ولا يحمل على معنى، أو حكم، أو دلالة، إذا كان السياق مستعصيا على ذلك. ومما لاشك فيه أن المعنى المعضد بالسياق أولى وأقوى وأوفق للمراد.

ومن الشواهد على الترجيح بالقرينة السياقية الخلاف الدائر بين الفقهاء في المراد بالخصوصية المشار إليها في قوله تعالى: (وامرأة مومنة اِن وهبت نفسها للنبيء اِن اَراد النبيء أن يستنكحها خالصة لك من دون المومنين) (الأحزاب: 50) حيث يرى الحنفية وبعض المالكية جواز النكاح بلفظ الهبة25؛ لأن الله أباح لنبيه عليه السلام النكاح بلفظ الهبة، فجاز انعقاد أنكحة أمته به قياسا”. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المراد جواز النكاح بلا مهر، وأنه لا يصح انعقاد النكاح إلا بلفظ الإنكاح والتزويج26.

وقد قرر الشريف التلمساني أثناء بيانه للقرائن المرجحة لأحد الاحتمالين، أن القرينة السياقية أساسية في ترجيح المعنى المراد. يقول مبينا ذلك: “فيقول أصحاب الشافعي: لما قال الله تعالى: ﴿خالصة لك من دون المومنين﴾ دل ذلك على اختصاصه عليه السلام بشيء دون المؤمنين، فيحتمل أن يكون ذلك الشيء هو جواز النكاح بلا مهر، ويحتمل أن يكون ذلك جواز انعقاد نكاحه بلفظ الهبة، وإذا كان اللفظ محتملا للمعنيين لم يصح القياس حتى يترجح أن المراد بالاختصاص هو ملك البضع من غير عوض، لا جواز النكاح بلفظ الهبة.

فيقول الأولون الحنفية وبعض المالكية: سياق الآية يرجح أن المراد ملك البضع وذلك: أن الآية سيقت لبيان شرفه عليه السلام على أمته ونفي الحرج عنه، ولذلك قال تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت اَيمانهم لكيلا يكون عليك حرج) (الاَحزاب: 50). ولاشك أن الشرف لا يحصل بإباحة لفظ له وحجره على غيره، إذ ليس في ذلك شرف، بل إنما يحصل الشرف بإسقاط العوض عنه حتى يكون تعالى ذكر لنبيه عليه السلام ثلاثة أنواع من الإحلالات: إحلال نكاح بمهر،… وإحلال بملك اليمين،… وإحلال بلا مهر بل بتمليك مجرد…

وأيضا، فالحرج المقصود نفيه من الآية إنما يكون بإيجاب العوض عليه لا بحجر لفظ عليه يؤدي المعنى المطلوب دونه ألفاظ كثيرة أسهل منه. فهذا السياق كله يدل على أن المراد بالخلوص هو: ملك البضع من غير مهر، لا اللفظ”27.

3. الوصول إلى المعنى القطعي للنص

وغير بعيد عن الوظيفة الترجيحية للسياق، يظهر السياق أيضا أداة ضرورية للوصول إلى المعنى القطعي للنص.

أكد المحققون من الأصوليين أهمية القرائن السياقية في رفع احتمالات النصوص، واستقلالها بإفادة المعاني القطعية منها. يقول الفخر الرازي: “… الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من هذه الدلائل اللفظية، إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين، سواء كانت تلك القرائن مشاهدة، أو كانت منقولة إلينا بالتواتر”28.

فالاحتمال واقع في الألفاظ لا محالة؛ لأن هذا شأن كل اللغات، لكن الذي لا يستساغ هو مغالاة بعض المتكلمين في ذلك حتى ادعى أن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين29، وأن مجرد الاحتمال الذي لا يستند إلى دليل ينقل درجة النص من القطع إلى الظن. وقد ضعف الرازي تعريف المتكلمين للنص بأنه: ما يفيد معنى على القطع، قائلا: “النص: كل كلمة أو كلام يستقل بإفهام مراد المتكلم منه بنفسه. هذا حده. وقيل: إنه الذي يفيد معنى على القطع، بحيث لا يقبل تأويلا. والأول أولى، بل هو الصحيح. فإنه ما من لفظ موضوع لمعنى إلا ويصح التجوز فيه، فيراد به غير ما وضع له…”30.

غير أن هذا الفهم الذي يجرد الألفاظ من معاني القطع واليقين لم ينل استحسان العلماء. فهذا إمام الحرمين ينحو باللائمة على من اعتقد من الأصوليين عزة النص31 في الكتاب، وندرته في السنة، قائلا في حق هؤلاء: “وهذا قول من لا يحيط بالغرض من ذلك، والمقصود من النصوص الاستقلال بإفادة المعاني على قطع، مع انحسام جهات التأويلات، وانقطاع مسالك الاحتمالات، وهذا وإن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ ردا إلى اللغة، فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية والمقالية!”32.

وهذا يعني أن المعنى الدقيق للنص مرهون بسياقه، وما يحتويه من قرائن وإفادات، فكما يقول الشريف التلمساني: “واعلم أنه قد يتعين المعنى ويكون اللفظ نصا فيه بالقرائن والسياق، لا من جهة الوضع”33.

ولاشك أن الاتكاء على السياق في إفادة المعنى القطعي من النص أمر تتدخل في بلورته جملة عناصر؛ من الخطاب ذاته، والأسلوب الذي جرى عليه التخاطب، وثقافة المتكلم والسامع، والظروف التي تم فيها التخاطب. فهذه وغيرها لها دخل في تحديد المعنى. ومن هنا قدم الفقهاء رواية الصحابي الذي سمع من النبي عليه السلام على رواية من كتب إليه، فقدموا حديث ابن عباس في الانتفاع بإهاب الميتة34، على حديث عبد الله بن عكيم في عدم الانتفاع من الميتة بإهاب ولا عصَب35، فقال الباجي معللا ذلك: “فقدمنا خبر ابن عباس لأنه سماع؛ لأن السماع أبعد من الغلط، والمكتوب إليه أقرب إلى الغلط والتصحيف”36؛ فالمكتوب أدنى من السماع لفقده دلالة السياق وملامح المتكلم والمبلغ…

ومع هذه القرائن السياقية يقطع بأن المراد من اللفظ كذا، وهذا ما قرره القرافي بقوله: “إن الوضع بما هو وضع تتطرق إليه هذه الاحتمالات، ومع القرائن يقطع بأن المراد ظاهر اللفظ، ثم القرائن تكون بتكرر تلك الألفاظ إلى حد يقبل القطع، أو سياق الكلام، أو بحال المخبر الذي هو رسول الله عليه السلام. والقرائن لا تفي بها العبارات، ولا تنحصر تحت ضابط، ولذلك قطعنا بقواعد الشرائع، وقواعد الوعد والوعيد، وغيرها بقرائن الأحوال والمقام، وهو كثير في الكتاب والسنة. فلو قال قائل في قوله تعالى:  (محمد رسول الله) (الفتح: 29) أو ﴿شهر رمضان﴾ (البقرة: 184) أو (يا بني إسرآءيل) (البقرة: 39): المراد غير محمد بن عبد الله، أو غير الشهر المخصوص، أو غير إسرائيل الذي هو يعقوب، لم يعرج أحد على ذلك وقطع ببطلانه، بسبب قرائن التكرار وقرائن الأحوال، وكذلك بقية القواعد الدينية”37.

وهذا الذي أصله علماؤنا القدامى لم تتوصل إليه الدراسات اللغوية إلا في العصر الحديث. إذ قررت أن المبنى متعدد المعنى والاحتمال وهو خارج السياق. “أما إذا تحقق المبنى بعلامة في سياق، فإن العلامة لا تفيد إلا معنى واحدا تحدده القرائن اللفظية والمعنوية والحالية”38.

ومن الأمثلة على ذلك استدلال عائشة على وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرائن السياق المقالية والمقامية. فقد أخرج البخاري بسنده عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اِعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة: 157).

فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنـزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله، عليه السلام، عن ذلك قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنـزل الله تعالى: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ الآية. قالت عائشة، رضي الله عنها: وقد سن رسول الله، عليه السلام، الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

وقد استعانت عائشة، رضي الله عنها، على قطعية وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرينة مقالية وقرينتين مقاميتين. فالمقالية هي أنه لو كان المراد إباحة الطواف لا وجوبه، لكان النص” “فلا جناح عليه أن لا يتطوف بهما”. والقرينتان المقاليتان هما: سبب نـزول الآية الدال على تحرج الأنصار من الطواف بهما. والأخرى هي عمل الرسول، عليه السلام، ولاشك أن عمل الرسول تفسير لإرادة المشرع وبيان له.

4. منع التأويل39 البعيد

ألفاظ نصوص الشرع قد تدل على معان قطعية، كما تدل على معان ظنية، وكل ذلك من مشمولات اللفظ ومسماه. إذ لكل لفظ حد ومطلع لا يمكن تجاوزهما، فتأتي معانيه في إطار من الاحتمالات والوجوه.

ففي هذه الحدود يقبل النص الاجتهاد والتأويل؛ فلا يتوسع في تأويله حتى يتجاوز طاقته الدلالية، كما لا ينـزل به عن معناه الأدنى. فتفسير النص وتأويله بما لا يدور في فلك ما يحتمله من المعاني هو التأويل البعيد الذي حذر منه العلماء، ونعتوا صاحبه بأنه من أهل الرأي المذموم.

وعلماؤنا القدامى حسموا، أو كادوا، أمر احتمالات النصوص ووجوه دلالتها حين وضعوا منظومة متكاملة من المباحث والقواعد والدلالات، تنتظم المنافذ الممكنة للنظر في النصوص، والطرق الموصلة إلى إدراك أسرار التشريع وعلله وحكمه ومقاصده، والقواعد الكفيلة باستثمار كافة طاقات النص الدلالية في إطار من الشمول والسبق والدقة والموضوعية والابتكار.

فخطاب الشرع قد يكون له مفهوم محدد لا يمكن الاجتهاد على خلافه، ويكون نصا قطعيا في نفي ما لا يحتمله. فقطعية النص تعني عند الأصوليين عدم قبوله للتأويل ولو من وجه، فيكون قطعيا في ذلك الوجه، وإن كان ظنيا في معان أخر. وهذا ما قرره الباجي بقوله: “ليس من شرط النص ألا يحتمل التأويل من جميع الوجوه، وإنما من شرطه ألا يحتمل التأويل من وجه ما، فيكون نصا من ذلك الوجه، وإن كان عاما أو ظاهرا أو مجملا من وجه آخر. وذلك نحو قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) (البقرة: 232) فهذا نص في الأربعة الأشهر وفي العشر، وعام في الأزواج”40.

ومن أجل مراعاة إمكان تطرق الاحتمال إلى النص من غير الجهة التي هو نص (قاطع) فيها، صاغ الشريف التلمساني تعريف النص بما ينسجم مع ذلك فقال: “وهو مالا يقبل الاعتراض إلا من غير جهة دلالته على ما هو نص فيه”41.

وإذا كان التفسير المقبول مرهونا بشروط يأتي على رأسها: عدم رد المعنى الظاهر المفهوم من اللفظ وفق قواعد اللسان وما تعارف عليه العرب في التخاطب، ثم عدم مناقضة نص شرعي أو قاعدة شرعية مجمع عليها، ثم وجوه مراعاة الغرض المسوق له النص،… قلت: إذا كان هذا وغيره مطلوبا في التفسير، فإن التأويل أشد احتياطا، وأكثر حذرا؛ لأنه مزلة قدم ومضلة فهم، ومن هنا وضع علماؤنا ضوابط دقيقة42، لا يعتبر التأويل مقبولا إلا بتوافرها، نشير هنا إلى أهمها:

  1. أن يكون اللفظ المراد تأويله قابلا للتأويل43. وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أولا، فإن لم يقبله، فاللفظ نص لا احتمال فيه، فلا يقبل التأويل44…
  2. أن يكون موافقا لقواعد اللسان، أو عرف الاستعمال أو قاعدة صاحب الشرع45.
  3. أن يقوم على التأويل دليل يدل على صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره، “وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحا على ظهور اللفظ في مدلوله، ليتحقق صرفه عنه إلى غيره46. يقول ابن القيم -وهو يصف أنواع التأويل الباطل: “تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه. فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس. فإن الله أنـزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى”47.
  4. أن يكون الناظر المؤول أهلا للتأويل48.

ولاشك أن هذه الضوابط وغيرها تعصم المؤول من الوقوع في فهوم بعيدة لا تمت إلى النص بصلة. ومما يعين على تسديد التأويل وملاءمته لمرامي النص مراعاة السياق بشقيه المقالي والمقامي؛ إذ ينقل الناظر في النص إلى الجو العام الذي يكتنف النص من أنس باللسان الذي نـزل به الوحي وبخطاب الشارع وعاداته وظروف وأحوال من نـزل بهم الخطاب… ومن هنا كانت دلالة السياق أساسا لرد كثير من التأويلات البعيدة؛ لأن فيها مجافاة للسياق وقرائنه. ومن الشواهد على ذلك:

أولا: قوله عليه السلام: “أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل. فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له”49.

فقد طرَّق إليه أصحاب أبي حنيفة من التأويلات: احتمال أنه أراد بها الأمَة50. إلا أن هذا التأويل يدرؤه السياق المقالي في قوله –عليه السلام-: “فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها”. وفي لفظ: “فالمهر لها بما أصاب منها”51. ومن المعلوم أن مهر الأمة ليس لها بل لسيدها52.

ثانيا: ما ورد من أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فقال له الرسول عليه السلام: “أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن”53.

فقد حمل الحنفية الأمر بالإمساك على ابتداء النكاح، وقالوا: إنه أراد بذلك أن يمسك أربعا فينكحهن، وأن يفارق سائرهن، بأن ينقطع عنهن ولا ينكحهن54.

ولاشك، كما يقول الغزالي، أن ظاهر لفظ الإمساك استصحاب النكاح واستدامته. إذ له أن يختار أربعا منهن، سواء الأوائل أو الأواخر، ويبقيهن في عصمته بلا تجديد نكاح.

وما ذكره الحنفية وإن كان واردا ومنقدحا، فإن ما اقترن بلفظ الإمساك من القرائن دارئة له. ومن هذه القرائن55:

أ. المتبادر إلى الفهم من لفظ “الإمساك” إنما هو الاستدامة دون التجديد. وهو السابق إلى أفهام الصحابة في زمانه، ولو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا.

ب. تفويض النبي، عليه السلام، الإمساك والفراق إلى خيرة غيلان، والفراق واقع بالإسلام، أما النكاح فيتوقف على رضا الزوجة.

ج. أنه لو أراد ابتداء النكاح لبين له شرائطه، سيما والحاجة ماسة إلى معرفة ذلك لقرب عهده بالإسلام.

د. أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر النبي، عليه السلام، بالإمساك، ولم ينقل أحد من الرواة أنه حدد النكاح، ولو كان ذلك لنقل.

فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده.

5. التخصيص بالسياق

درج الأصوليون على تخصيص اللفظ العام بقرائن متنوعة: لفظية وغير لفظية، متصلة وغير متصلة، مستقلة وغير مستقلة، مما يدل على عنايتهم ببحث مخصصات العام، وإدراكهم لعناصر السياق الموجهة للكلام.

غير أن السؤال المطروح هنا هو: هل يترك العموم لأجل السياق؟ قال الشافعية: إن كلام الإمام الشافعي في الرسالة يقتضي جواز التخصيص بالسياق، بل بوب على ذلك بقوله: باب الصنف الذي يبين سياقه معناه. وذكر قوله تعالى: ﴿وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر﴾ (الأعراف: 163) فلما قال: ﴿إذ يعدون في السبت﴾ دل هذا السياق أنه إنما أراد أهلها؛ لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره56.

وأطلق أبو بكر الصيرفي (توفي 330ﻫ) جواز التخصيص بالسياق، ومثل له بقوله تعالى: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم﴾ (ءال عمران: 173) فلفظ (الناس) في الآية عام ومعناه خاص57. أرشد إلى ذلك السياق بشقيه: المقالي والمقامي. أما المقالي، فلأن الناس المخبرين (قال لهم الناس) هم غير الناس الجامعين: ﴿إن الناس قد جمعوا لكم﴾58. وأما السياق المقامي، فهو أن من كان مع الرسول ناس غير الناس الجامعين، وغير الناس المخبرين. فدلالة الحال تقتضي بأن هناك ناسا آخرين في بلدانهم لا صلة لهم بالحادث، فلا هم في جماعة الرسول، ولا هم في الناس الجامعين، ولا هم في الجماعة المخبرين. قال الشافعي: “وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين، ولا المجموع لهم، ولا المخبرين”59.

ونقل الزركشي عن الشيخ ابن دقيق العيد قوله: نص بعض أكابر الأصوليين على أن العموم يخص بالقرائن. قال: ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضا، حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة، والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم60.

وهنا نبه الأصوليون إلى ما قد يشتبه على كثير من الناس، ففرقوا بين التخصيص بالقرائن، والتخصيص بالسبب، فبينوا أن قرينة السبب لا تقضي على عموم اللفظ، ولا تنهض مجردة لرفع هذا العموم، بخلاف السياق الذي يقع به التبيين والتعيين. أما التبيين؛ ففي الألفاظ المجملة الذي لا يفهم معناها إلا ببيان من المجمل. وأما التعيين، ففي تحديد المراد من اللفظ عند احتماله لأكثر من معنى على السواء61.

ويظهر أن الأصوليين يريدون بالتخصيص بالسياق، التخصيص بمجرد ما يدل عليه سوق النص، وما تشير إليه الإيحاءات المعنوية، والإشارات البيانية. ولاشك أن النص إذا سيق لبيان غرض مقصود، فإن دلالة النص تتوجه إلى هذا المعنى دون المعاني الأخرى التي تغايره.

وفي كتب الأصول إشارات إلى هذا. يقول القرافي: “إن الكلام إذا سيق لمعنى، لا يستدل به في غير ذلك المعنى؛ لأن المتكلم لا يتوجه إليه”62.

ونقل الزركشي عن القاضي حسين قوله: “الآية إذا سيقت لبيان مقصود فإنما يوجب التعميم في محل المقصود، فأما في محل غير المقصود والغرض بالخطاب فلا يقصد بالخطاب، بل يعرض عنه صفحا”63.

وذكر القرافي أن القاضي عبد الوهاب جعل المسألة مستقلة في كتابه (الملخص) وفهرسها ب: وقف العموم على المقصود من الكلام. وحكى عن متقدمي المالكية وبعض الشافعية، منهم القفال، أن معنى النص يتوقف على ما سيق الكلام لأجله. وحكى عن متأخري المالكية القول بإجراء النص على عمومه64.

ومن الأمثلة على تخصيص العموم بالسياق قول الله تعالى: ﴿يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم﴾ (المائدة: 39) يوحي ظاهر الآية أن من دخل النار لا يخرج منها، وقد ذكر الإمام الطبري أن نافع بن الأزرق تمسك بهذا الظاهر، وفهم أن كل من دخل النار لم يخرج منها، وقد صحح له الحبر ابن عباس هذا الفهم، ورده إلى سياق الآية، وبين له أن الخلود في النار خاص بالكفار. يروي الطبري بسنده عن عكرمة أن نافع بن الأزرق فال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله عز وجل: (وما هم بخارجين منها) فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها، هذه للكفار65. أراد ابن عباس بقوله: “ما فوقها” سياق الآيات: وهو قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو اَن لهم ما في الاَرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب اَليم) (المائدة: 38).

ومما تفرع على وظيفة السياق في تخصيص العام: الخلاف الفقهي الدائر بين الجمهور والحنفية في حمل عموم قوله، عليه السلام، فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر”66 على وجوب الزكاة في كل ما يسقى من زروع وخضراوات وهو مذهب أبي حنيفة. لكن الجمهور خصصه بالمعنى الذي سيق لأجله؛ وهو بيان لمقدار المخرج في الزكاة67، فلا زكاة عندهم في الخضراوات. فقرينة كون الكلام سيق لبيان الجزء الواجب في الزكاة دليل على إعراض المتكلم عن بيان المخرج منه68.

6. التقييد بالسياق

كما يرشد السياق إلى تخصيص العام يرشد كذلك إلى تقييد المطلق. فالصيغ المطلقة لابد لها من قرائن لازمة تحف بها، لتدل على المراد، سواء كانت متعلقة بالمتكلم، أو بالألفاظ نفسها، أو بما يحيط بهما من ظروف وملابسات. ولذلك نبه الأصوليون إلى ضرورة الالتفات إلى القرائن، وامتناع انفكاك الألفاظ عنها، بل لا يتصور وجود الألفاظ المطلقة في الخارج، وإنما هو محض تقدير الذهن وفرضه69. يقول إمام الحرمين: إن الصيغة التي تسمى مطلقة لا تكون إلا مقترنة بأحوال تدل على أن مطلقها ليس يبغي بإطلاقها حكاية، وليس هاذيا بها، فإذاً لا تلقى صيغة على حق الإطلاق… فإذا كانت الصيغة المطلقة مقصودة للمتكلم، فلابد من قرائن التقييد، وهي تنقسم إلى قرائن مقال وإلى قرائن أحوال70.

واعتبر ابن القيم ذكر الصيغ المطلقة دون قرائن السياق بمنـزلة الأصوات التي يُنعَقُ بها، فلا تفيد إلا إذا اقترن بها ما يبين المراد71.

فلفظ (تسعا) في قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) (الكهف: 25) لفظ خاص مطلق، ولذلك قالوا: سنين، أم شهور، أم جُمَع، أم أيام، لكن السياق المقالي قيد هذا الإطلاق، وأرشد إلى أن المراد تسع سنين لوروده بعد قوله: (ثلاثمائة سنين). قال العلامة القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين72.

ومن أمثلته في السنة ما روي عن أبي قتادة من أن قوما ذكروا تفريطهم في النوم. قال: ناموا حتى طلعت الشمس، فقال الرسول عليه السلام: “ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد”73.

فقوله عليه السلام: “فليصلها” أمر مطلق، وقد حمله بعضهم على الفور، فقال: يجب قضاء الفائتة بعد الذكرى، وذهب الشافعي إلى جواز تأخيرها مشيرا إلى أن هذا المطلق قيد بدلالة السياق في قوله عليه السلام: “إذا ذكرها ولوقتها من الغد”. فدل السياق على أن الأمر محمول على الاستحباب. إذ يجوز تأخير قضاء الفائتة بعذر على الصحيح كما يقول الإمام النووي74.

هذا، وقد ذكر القرافي، رحمه الله، قاعدة تتعلق بالعموم في الأشخاص، فقال: “العام في الأشخاص مطلق في أربعة: الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات. فإذا قال الله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ كان عاما في قتل كل مشرك، بحيث لا يبقى مشرك. ولا يدل على أنهم يقتلون في حالة الجوع أو العطش، ولا في هيئة ركوب أو جلوس، ولا يدل على زمان معين، أو بلد خاص. فإن الدلالة إن انتفت عن أصل الوجود انتفت عن تعيين زمان الوجود ومكانه من باب أولى. وكذلك المتعلقات؛ وهي ما به أشركوا75…

وبناء على هذه القاعدة يكون كل من لفظ (الطيبات) ولفظ (الخبائث) مطلقا في الأحوال والأزمان والبقاع والمتعلقات. إلا أن الإمام الشافعي قد قيد هذا الإطلاق بمقام الخطاب، فقال في تفسير قوله تعالى: }ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث{ (الأعراف: 157) “يحل لهم الطيبات عندهم، ويحرم عليهم الخبائث عندهم”76 فقد قيد إطلاق اللفظتين بوصف (عندهم) أي عند الآدميين زمانا ومكانا ومتعلقات.

وزاد الأمر وضوحا في موضع آخر، فقال: “وإنما تكون الطيبات والخبائث عند الآكلين كانوا لها، وهم العرب الذين سألوا عن هذا، ونـزلت فيهم الأحكام، وكانوا يكرهون من خبيث المأكل مالا يكرهها غيرهم… إلى أن قال: فكل ما سئلت عنه مما ليس فيه نص تحريم ولا تحليل من ذوات الأرواح. فأنظر هل كانت العرب تأكله؟ فإذا كانت تأكله ولم يكن فيه نص تحريم، فأحِلَّه، فإنه داخل في جملة الحلال والطيبات عندهم… وما لم تكن تأكله تحريما له باستقذاره فحَرِّمه؛ لأنه داخل في معنى الخبائث77.

ومما هو متروك الظاهر أيضا بدلالة السياق قوله عليه السلام: “من بدل دينه فاقتلوه”78. فقد تمسك به بعض الشافعية في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر، ورد عليهم بعض الحنفية بأن العموم في الحديث في المبدل لا في التبديل، فأما التبديل فهو مطلق لا عموم فيه. فكشف الغرض الذي سيق النص لأجله أن المراد: “من بدل دين الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام79. قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الاِ سلام) (ءال عمران: 19).

7. الكشف عن تنوع دلالة الألفاظ

ألفاظ النص الشرعى غنية بالمعانى والدلالات، جديرة بالإعطاء والإنماء والإمداد؛ لأنها تنتظم في أصل يحمل من الخصائص الذاتية ما يجعله معطاء خالدا على الدوام، مستجيبا لسنة التطور في الحياة والأحياء.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن مما يرشد إلى غزارة معاني الألفاظ، وتنوع دلالتها مراعاة السياق. إذ هو من أعظم الأدوات المنهجية الهادية إلى الحق، الموصلة إلى إرادة المشرع من النص. فمن أهملها غلط فى نظره وتفسيره، وغالط في مناظرته وحجاجه.

لذا كان من الواجب ربط النص بالسياق الذي ورد فيه، فلا يقطع عما قبله وما بعده، ولا يعزل بعيدا عن سياقه ليفيد معنى، أو يؤيد حكما، يقصده قاصد. ومن ثم فلا عبرة بما يروى من أسباب النـزول، وأسباب الورود، إذا كان ينبو عنها السباق والسياق، كما لا عبرة أيضا ببعض الفهوم التي يذهب إليها بعض المفسرين إذا كان السياق لا يؤيدها.

من ذلك مثلا قول بعضهم: إن قوله تعالى: ﴿وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم﴾ (يوسف: 53) من كلام يوسف عليه السلام؛ يقول ذلك ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب80. مع أن الأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام أنه من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك. تقول: اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، إنما وقعت المراودة من نفسي، ووقع الإباء من يوسف. ولست أبرىء نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى. فكلام يوسف قد انقطع، وبدأ كلام امرأة العزيز حين قالت أمام الملك: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) (يوسف: 51-53).

فهذه الجمل متصلة بما قبلها من كلام امرأة العزيز اتصالا وثيقا، ولا أدل على ذلك من أن يوسف لم يكن في ذلك الوقت بحضرة الملك، وإنما استدعاه بعد ذلك كما حكى القرآن: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي).

وقد أشار ابن كثير إلى أن ابن تيمية انتصر لهذا القول، وأفرده بتصنيف على حدة81.

وتتجلى أهمية السياق كذلك في الكشف عن مدلولات ألفاظ النص، وتحديد المراد بها، هذا المراد الذي يختلف باختلاف موقعها في السياق. أنظر مثلا كلمة: (الكتاب) التي وردت في القرآن على معان متعددة، ومساقات متنوعة، لا يميزها إلا السياق. فقد وردت:

  1. بمعنى (القرآن) كما في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (البقرة: 1) وقوله: (ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء{ (النحل: 89).
  2. بمعنى (التوراة) كما في قوله تعالى: (وءاتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسراءيل) (الإسراء: 2).
  3. بمعنى التوراة والإنجيل معا كما في قوله عز وجل: (أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (الأنعام: 157).
  4. بمعنى اللوح المحفوظ كما في قوله تعالى: (كان ذلك في الكتاب مسطورا) (الأحزاب: 6) وقوله: (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس اِلا في كتاب مبين) (الأنعام: 60).
  5. بمعنى السجل الذي دونت فيه أعمال الإنسان كما في قوله تعالى: (اِقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)(الإسراء: 14) وقوله: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) (الكهف: 48).
  6. وردت بمعنى (ما يكتب)؛ أي ما تكتبه الأيدي والأقلام، كما في قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) (البقرة: 78).
  7. 7. وردت مصدرا معرفا من كاتب يكتب مكاتبة كما في قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت اَيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) (النور: 33).

ومثل لفظ (الكتاب) في تنوع الدلالة لفظة (آية) التي وردت في القرآن بمعنى: الآية التنـزيلية المتلوة، والآية التكوينية المشهودة، والمعجزة. والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد82.

هذا، وإن علماء أصول الفقه الذين أدركوا أهمية القرائن المقالية والمقامية في الكشف عن دلالات اللفظ المتنوعة، أدركوا كذلك أن هذه الدلالات تابعة لقصد المتكلم وإرادته، ولا تتم الإبانة عن قصد المتكلم من كلامه في غياب الجو التاريخي والاجتماعي وكافة الملابسات المحيطة بالنص المراد تفسيره. ومن ثم أسسوا بحوثهم اللغوية والشرعية على هذا الأساس.

وإن النظر في بحوث الأصوليين في مقام الألفاظ والدلالات ليصل بسرعة إلى أن فكرة السياق حاضرة بقوة في تحديد المراد، وفي الترجيح بين الدلالات المتعارضة. فالمعنى الذي سيق النص لإفادته أولى بالتقديم من المعنى الذي لم يتمحض السياق لبيانه، ولم يتجرد لتقريره. وعليه، فإنهم يقدمون ما هو أقوى دلالة في السياق على ما ليس كذلك. فقدموا النص على الظاهر؛ لأن المعنى في النص مقصود أصالة. وقدموا دلالة العبارة على الإشارة؛ لأن العبارة مقصودة بالسوق أصالة أو تبعا. وقدم الجمهور المفهوم المخالف (دلالة النص) على دلالة الإشارة؛ لأن المفهوم الموافق ثابت بسياق النص ومقصوده، وإشارة النص معنى لازم للنظم خارج عن الغرض الذي سيق النص لأجله83.

وهكذا كلما كان المعنى ألصق بلفظ النص ومنطوقه، وأشد ارتباطا بسياقه وغرض إفادته كان استقاؤه من ذلك النص أولى من غيره84.

ثانيا: دلالة السياق

تطرح دلالة السياق إشكالا يتعلق بتحديد موقعها في النص، وطريق الوصول إليها، ومعالم اهتداء الناظر أو المفسر لها. فالألفاظ يستدل على معانيها بما تقدمها من الكلام، وبما تأخر عنها، وأحيانا يتمرد اللفظ على الأسلوب، فلا يسلم قياده للسياق في تحديد معناه85…

والأصوليون كما لم يعرفوا السياق، لم يحددوا أيضا موضع الدلالة منه، فترى منهم من يحيل على ذوق المفسر في إدراك دلالة السياق، ومنهم من قيد ذلك بوجود شاهد معتبر من اللغة، أو من مقاصد الشارع.

يقول ابن دقيق العيد: إن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب: أحدها: ما ظهر فيه قرينة تدل على عدم قصد التعميم… الثاني: ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب، لقصد تأسيس القواعد. والثالث: ما لم تظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم، ولا قرينة تدل على عدم التعميم.

وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم، فطالب بعضهم بالدليل على ذلك. وهذا الطلب ليس بجيد؛ لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام. ودلالة السياق لا يقام عليها دليل. وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر. فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه86.

ويعلق الصنعاني على قول ابن دقيق “ودلالة السياق لا يقام عليها دليل” بقوله: وذلك لأن دلالة السياق ذوقية، والأذواق تختلف فرب شخص يدرك دلالة السياق على معنى لا يدركه غيره، وكل مخاطب بما أدرك وفهم. ولذلك اختلفت الاستنباطات واستخراج الأدلة والنكات87.

ولاشك أن ذوق الناظر، وتكوينه العلمي المتين، أساسيان في فهم المراد من النص، غير أن الاكتفاء بالذوق التفسيري وإن كان يوقف على الغرض الذي جاء النص لإفادته، إلا أنه لا يفيد في السياق بمعنى الألفاظ والعبارات المكونة للنظم، وما يتعلق بها من سوابق ولواحق وقرائن. ولذلك كان العلامة الزركشي دقيقا حين قال: “تنبيه في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق”88. وأراد أن مراتب الكلام وأغراضه لا تدرك إلا بالذوق.

ويقسم ابن القيم دلالة النصوص إلى حقيقية وإضافية. “فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف. والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها. وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك”89.

والسؤال الملح هنا هو: ما السبيل الأمثل لإدراك دلالة السياق؟ وهل يكفي الناظر في النص جودة ذوقه في الوصول إليها؟

ثمة منظومة أصيلة من القواعد والضوابط وضعت أساسا لضبط مسار الاجتهاد في فهم النص وتفسيره في إطار من أصول العربية وشواهد الشرع90، وهي بمثابة صمام أمان لضبط الفهوم والتفسيرات والاستنباطات.

وإذا كان السياق طريقا يرشد إلى البيان، وتنـزيل الكلام على المقصود منه91، فإنه يفتقر إلى معالم توضحه، وقرائن تكشف سره.

وفي هذه الفقرات إشارات ومعالم تضيء الطريق أمام الناظر المتأمل في نصوص الشرع، وتقرب له الشارد والمستعصي من ملامح دلالة السياق، وإيحاءاتها القريبة والبعيدة، تاركا ما يتعلق بالسياق اللغوي، وما يقترن بالخطاب من إعراب، ومطابقة، وتقديم وتأخير، وربط، وتضام92، لظهوره وسهولة الوصول إليه، صارفا العناية إلى المقام وما يطرحه من تنوع وإشكال.

1. القرائن المقامية المقترنة بالخطاب

إن ما يرافق خطاب الشرع عادة من ظروف وأحوال وملابسات لما يستضاء به في تفهم معناه، وإدراك أسراره ودلالاته. ويتفاوت رواة السنن في انتقاء ما يكتنف الخطاب من قرائن مقالية ومقامية تحيط السامع بما يقتضيه الخطاب، بتفاوت علمهم وفقههم، ولذلك قبل العلماء من الراوي الفقيه ما لم يقبلوه من غيره، ورجحوا خبره على خبر غيره93. يقول الإمام الشافعي: “تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل معناه، أو ينطق بها بغير لفظة المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه. فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، كان غير عاقل للحديث، فلم نقبل حديثه، إذا كان يحمل ما لا يعقل، إن كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى”94.

فقد يسجل الراوي من مقام الخطاب، وحال المتكلم، وحال المخاطبين، ما تتضح به دلالة النص، وتترسخ به أبعاده التشريعية، وآثاره التكليفية. أخرج البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال النبي عليه السلام: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا)؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”95.

نقل الراوي أحوالا تقوي دلالة السياق؛ منها أنه كرر عبارة (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) ثلاث مرات، تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه. وأنه كان متكئا فجلس مما يشعر بخطورة الأمر، وإفادة تأكيد تحريمه، وعظم قبحه. وأخيرا ترديده عبارة (ألا وقول الزور) حتى تمنى المخاطبون أن يسكت شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه96.

ومراعاة ألفاظ الرواة في معرفة مقام الخطاب هو الأصل ما لم تتعارض النصوص، فإذا تعارضت بحث الأصوليون عن قرائن أخرى لرفع التعارض. وهذا ما أشار إليه الغزالي بقوله:”فالقرائن قد تحمل الألفاظ على ما يعد نادرا بالإضافة إلى مطلقه، فتأثير القرائن عظيم ظاهر، حتى قد نُبعِد في تصوير القرائن، فإذا ورد حديثان متضادان في ظاهرهما، وافتقرنا في الجمع إلى تقدير قرينة لم تنقل، فعلنا ذلك، وإن كنا لا نتجاسر على مثله بمحض القياس”97.

ومما يمثلون به لهذا التعارض ما رواه أسامة بن زي، رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام: “إنما الربا في النسيئة”98. مع ما رواه عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: “نهى النبي عليه السلام عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا”99.

ظاهر حديث أسامة الحصر ونفي ربا الفضل، وحديث أبي بكرة ظاهر في أن الفضل ربا، فتعارضا100. ولا دليل على النسخ، ولا يكذب الراوي، ولكن يجمع بينهما على نحو قول الشافعي: يحتمل أن يكون أسامة قد سمع رسول الله عليه السلام يسأل عن الربا في صنفين مختلفين؛ ذهب بفضة، وتمر بحنطة، فقال: “إنما الربا في النسيئة” فحفظه، فأدى قول النبي عليه السلام ولم يؤد مسألة السائل”101.

قال الغزالي تعقيبا: “وهذا وإن كان تقدير قرينة لم تنقل، ولكنه محتمل. وإغفال الراوي لسبب الجواب واقتصاره في النقل على كلامه عليه السلام ممكن وإن كان بعيدا، فهو أولى من تكذيب العدل، أو نسخ ما هو ثابت في الشرع من غير ثبت…”102.

وقد ذكر الإمام الشافعي أسباب تعارض الحديث، وذكر منها الجهل بالمقام أو الحال الذي ورد فيه النص103.

2. الاعتبار بمناسبات النـزول والورود

أكد علماؤنا ضرورة العناية بمناسبات نـزول النص القرآني، وأسباب ورود النص النبوي، لإدراكهم ارتباط معنى النص روحا ومقصدا بتلك المناسبات، وأن استحضارها ينقل الناظر إلى الجو الذي ورد فيه النص، وما يكتنفه من الظروف والأحوال والملابسات القائمة وقت وروده، مما يمكنه من إدراك الأبعاد القريبة والبعيدة التي يرسمها، وفهمه فهما أقرب إلى المراد، وأكثر اتساما بالواقعية والوضوح. ومن هنا قرر علماؤنا أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب104، وأن معرفة أسباب النـزول والورود لازمة لمن أراد علم الكتاب والسنة، وأن الجهل بها يوقع في الشبه والإشكالات105، ويفتح باب الخلاف والنـزاع في المدارك والفهوم.

يقول الشاطبي منوها بمعرفة السبب، ومحذرا من عاقبة جهله: “وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد. ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال. وينشأ عن هذا الوجه… أن الجهل بأسباب التنـزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النـزاع”106.

وإذا كان الإلمام بمناسبات النـزول والورود على هذا القدر من الأهمية، فإن العلماء حذروا من التعويل على أسباب لا تثبت بسند صحيح، ولا تصور ما ينطبق عليه النص من الأحداث والمعاني، ولا تنسجم مع سياقه ودلالاته الواضحة. ومن ثم قالوا: لا عبرة بما يروي من أسباب النـزول إذا كان ينبو عنها السباق والسياق107. وكذلك الشأن في أسباب ورود الحديث النبوي.

ويتأكد أمر العناية بأسباب النـزول والورود حين يتعلق الأمر بالنصوص المجملة التي تفتقر إلى بيان، والنصوص المشكلة التي لا يدرك المراد منها إلا بمعرفة قصتها. ذلك أن الخطاب الذي اقترن بسبب لا يمكن في بعض الحالات فهمه، ولا إدراك معناه إلا من معرفة الواقعة، أو السؤال الذي تسبب في وروده. ففائدة معرفة السبب الذي ورد عليه الخطاب أنه يعين على فهمه. فمن قرأ قوله تعالى: ﴿ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين﴾ (المائدة: 95) ولم يطلع على سبب نـزوله، فقد يحل ما حرم الله، كما تأولها من استحل شرب الخمر في زمن عمر، فلما ثبت عليه السكر، وعزم عمر أن يجلده قال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله. فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه: (ليس على الذين ءامنوا) إلى آخر الآية، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله، عليه السلام بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنـزلن عذرا للماضين، وحجة على الباقين؛ فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: (يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر) (المائدة: 92) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت108.

ففي القصة بيان أن الغفلة عن أسباب التنـزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات109.

ولا تَبعُد السنة عن القرآن في الحاجة إلى معرفة أسباب الورود، إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب، ولا يحصل فهمها إلا بالوقوف عليها110. وربما تكون السنة أحوج إلى ذلك من القرآن؛ لأن القرآن بطبيعته عام لكل الأحوال والأزمنة والأمكنة. أما السنة فكثيرا ما تأتي لعلاج قضايا خاصة، وأوضاع معينة، يتغير الحكم بتغيرها111.

من ذلك أنه -عليه السلام- نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، “فلما كان بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويحملون منها الودك. فقال رسول الله عليه السلام: “وما ذاك؟” قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة112 التي دفت. فكلوا وادخروا وتصدقوا113.

فبين عليه السلام أن النهي كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع الحكم114. ويؤيد هذا ما جاء في حديث سلمة بن الأكوع، وقد سألوه، عليه السلام، عن ذلك، فقال: “إن ذلك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشو115 فيهم”116 وقول عائشة لما سئلت: “أحرَّم رسول الله عليه السلام؟ قالت: “لا، ولكنه لم يكن ضحى منهم إلا قليل117، ففعل ذلك ليطعم من ضحى من لم يضح”.

فالنهي إذن، كان لسبب خاص إذا لم يوجد جاز الأكل والتصدق والادخار كما جاء في الحديث.

ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة: “لقد هممت أن آمر رجلا118 يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرِّقوا عليهم بحُزَم الحطب بيوتهم”. فهو ظاهر العموم في كل متخلف عن الجماعة. وحمله الجمهور على المنافقين خاصة؛ لحديث ابن مسعود: “لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض”119. وفي رواية:”ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق”120.

قال عياض: ويحمل هذا عندنا على أنهم منافقون، لقوله عليه السلام: “لو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها” الحديث121؛ أي المنافق لجهله بما أعد الله على شهود الصلاة في الجماعة، ولقلة رغبته في أعمال الخير فلو عن له حظ يسير من الدنيا، لبادر إليه، وأتى المسجد في أي وقت كان، إذا كان ذلك الحظ في المسجد122.

وقال عياض في موضع آخر: “ويشهد أن المراد به المنافقون قوله في بعض الأحاديث في الأم: “ثم أحرق بيوتا على من فيها”123.

وهكذا تساهم أسباب النـزول والورود في التعريف بمعاني النص، والحيلولة دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات إليه124. وتضمن للناظر حسن فهم النص وتطبيقه، وتوفر له معرفة تامة بمقتضى الحال، وأحوال المخاطبين، وعاداتهم في الأقوال والأفعال، مما يسمح بالتطلع إلى مقاصد الشرع، ومحال التشريع، وما يوائم مصالح العباد، فلا يسقط فيما سقط فيه الخوارج قديما ومن نحا نحوهم حديثا حين أخذوا النصوص التي نـزلت في المشركين وطبقوها على المسلمين125، فأساءوا الفهم والتأويل، وزلوا في الممارسة والتطبيق.

فأسباب النـزول والورود أشبه ما تكون بوسائل إيضاح في الفهم والتسديد، وأدوات منهجية معينة على التصور والتنـزيل. فليست قيودا تجمد طاقة النص في نطاق المناسبة، وإنما تدفع به إلى علاج الوضع القائم والآتي خارج حدود الزمان والمكان والأشخاص؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن النص خالد حاكم معطاء.

3. تنـزيل الخطاب المتأخر على الخطاب المتقدم

النص الشرعي موحد المصدر والبناء والشمول والهدف، روعي في بنائه التدرج في التشريع والتكليف، فكان الخطاب المتأخر منـزلا على الخطاب المتقدم، مبنيا عليه في الفهم والبيان، كما كان هذا الأخير أساسا ومقاما للخطاب اللاحق، ينطلق من أصله، ويحلق في آفاقه، ويضيف إضافات يجمل بها البناء، ويكتمل بها بيان التشريعات والأحكام. ويتجلى هذا التلاحم والتكامل بين النصوص السابقة والنصوص اللاحقة في العلاقة بين القرآن المكي والقرآن المدني. ومن ثم نبه العلماء إلى ضرورة استحضار الخطاب المتقدم في فهم دلالات وإشارات الخطاب المتأخر. يقول الإمام الشاطبي: “المدني من السور ينبغي أن يكون منـزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنـزيل، وإلا لم يصح. والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه. دل على ذلك الاستقراء. وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله”126.

وساق للدلالة على ما قرر شاهدين: الأول: هذه الشريعة المحمدية التي جاءت مبنية على ما سبقها من شريعة إبراهيم، مصححة لما غير منها، ومكملة لها. فليكن هذا نفسه في التنسيق بين النصوص بعضها مع بعض، يكون المتأخر منها مكملا لسابقه، ومبنيا عليه. والثاني: نـزول سورة الأنعام التي هي من أوائل السور المكية، فإنك تجدها معنية بالأصول والقواعد، ثم جاءت سورة البقرة مفصلة لتلك القواعد، مبينة أقسام أفعال المكلفين،…

وأكد أن مراعاة هذه المنحى في تفسير النص من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل المعرفة بكلام الله سبحانه وتعالى.

والسنة النبوية بيان للقرآن، والبيان لا يقع إلا على وفق المبين. فكما يحتاج المبين إلى معرفة ترتيبه في النـزول، تحتاج السنة كذلك إلى معرفة التقديم والتأخير، إذ بحسب ذلك يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث.

وإذا كان الخطاب المتقدم أقعد بالأصول والقواعد والكليات، فإن الخطاب المتأخر كاشف أو مكمل أو مبين أو مؤكد127: حيث إن الخطاب السابق باعتباره مقاما لا ينفك عن تفسير الخطاب، وإلغاء الأضواء الكاشفة على دلالته.

وبهذا عالج الأصوليون الاعتراض الوارد على قولهم: العام يتناول السبب تناولا قطعيا. حيث قوبل هذا القول بأن التشريع لا يكون له أثر رجعي على ما مضى من الوقائع والأحداث، وإنما يتناول من وجد منه السبب بعد البلاغ والإنذار. فأجابوا بأن تحريم أصول بعض الأفعال كالزنى والقذف والسرقة كان متقدما في الآيات المكية، وأن العرب كانت تعلم من بقايا شريعة إبراهيم أنها محرمة شرعا128.

ومما يمثل لهذا عند المعتنين بالنص الشرعي تفسيرا وبيانا أن قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (النساء: 3) إنما سيق لبيان وجوب الاقتصار في الزواج على أربع؛ لأنه قصد العدد بالسوق فازداد الكلام قوة وضوح، أما نكاح ما يستطيبه المرء من النساء فقد شرع بالتقرير للإباحة الأصلية، وبقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (النساء: 24) ولذلك قدم الفقهاء المعنى المستفاد من الآية الأولى، على المعنى المستفاد من الآية الثانية129.

وكذلك الأمر في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (البقرة: 274) الذي سيق لنفي المماثلة المزعومة بين البيع والربا. أفاد ذلك قرينة نطقية تنضم إليه سباقا وسياقا تدل على أن قصد المتكلم ذلك المعنى بالسوق؛ وهو قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) (البقرة: 274)؛ فكان التقدير: وأحل الله البيع وحرم الربا فأنى يتماثلان130.

وهكذا يتبين مدى اعتماد الفقهاء بناء المتأخر من الخطاب على المتقدم في الكشف عن مراد الشارع، وتحديد الغرض الذي سيق النص لإفادته. وهنا وازن الفقهاء بين خطاب التأسيس وخطاب التوكيد، فما سبق تشريعه، أو علمت صفته الشرعية للمخاطب حمل ذكره على قصد التوكيد، وإن كان حمل الخطاب على التأسيس أولى من حمله على التوكيد ما لم يمنع من ذلك مانع131.

4. الإجماع

قد يقوي الإجماع المعنى المستفاد من النص، ويغني في قوته عن نقل القرائن المقالية المحتفة به. لذلك متى وجد الناظر الإجماع يؤيد ما فهمه من النص، كفاه ذلك مؤونة البحث عن القرائن المقامية التي قد لا تنقل. وإذا تجاهل ذلك واكتفى بمقال الخطاب أضاع على نفسه القرائن المطوية في بساط الإجماع، ووقع فيما حذر منه الإمام الشاطبي بقوله: “وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه“132.

والإجماع الأصولي يستمد قوته من اتحاد رأي علماء الأمة، وتوافقهم على حكم شرعي في عصر، مع اختلاف أجناسهم، وتباعد ديارهم وأوطانهم، فيكون هذا الرأي الذي عقدوه، والقول الذي قالوه، قد توفر له من الأدلة والمستندات، واجتمع له من القرائن المقالية والمقامية، ما جعل الأمة تجتمع عليه دون نـزاع.

فهذا الإجماع له من القوة ما جعل الأصوليين يقولون: “إنه عصام الشريعة، وعمادها، وإليه استنادها“133 وأن علماء العصر عند ما يقطعون، بعد التوافر والاتفاق، بالحكم، فإننا “نعلم قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم، ولا يبعد سقوط النقل فيه“134.

ومن هنا اتفق العلماء على أن المسائل التي أجمع الصحابة على فهم لها، غير قابلة للمراجعة البشرية اللاحقة؛ لأن الصحابة بما يتوفر لهم من شهود الوحي، وحضور ظروفه وملابساته، ومعايشة أسبابه وملابساته، مع قوة البديهة، وصفاء السريرة، وسيلان الذهن، وسليقة اللسان… في هذا كله ما جعل فهمهم يرقى إلى درجة القطع واليقين فإذا أجمعوا على تفسير معنى فإنه لا يكون إلا عن مستند135.

ومن المسائل التي أغنى الإجماع فيها عن نقل القرائن قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فقد روى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذ سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه. فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكان رخصة”136.

قال الشافعي: “والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته“137.

وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث138.

5. قول الصحابي

ومما له صلة بالكشف عن دلالة السياق قول الصحابي أو فتواه أو مذهبه، فإن ما صدر عن الصحابي من قول أو رأي أو عمل، إذا لم ينقل عن الرسول ما يوافقه أو يخالفه، فإنه يعد كالسنة، يقتدى بهم فيه، ولا سيما إذا انتشر ولم يظهر له مخالف139.

وإذا كان بعض الأصوليين قد اختاروا أنه ليس بحجة، فإن نوعا منه: وهو ما احتاج إلى القرائن الحالية يكون الصحابة أعرف بها من غيرهم، وكذا ما يحتاج إلى القوة في معرفة لغة العرب، لا شك أنه حجة140.

ولهذا قال الشاطبي: “سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل بها، ويرجع إليها141 ويترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:

أحدهما؛ معرفتهم باللسان العربي،… فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم. فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان، صح اعتماده من هذه الجهة.

الثاني؛ مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنـزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنـزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك والشاهد يرى ما لا يرى الغائب”142.

ومن هنا، فإن من ينكر حجة قول الصحابي يحتاج أن يثبت أن كل القرائن المحتفة بخطاب الشارع نقلها الصحابي بألفاظ يرفعونها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أمر في غاية البعد، ومنتهى الصعوبة؛ لأن نقل قرائن الأحوال، كما يقول الشاطبي، على ما هي عليه كالمتعذر. فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير، وجب الحكم بإعماله لما ذكر143.

ومن القرائن التي نقلها مذهب الصحابي، حديث سهل بن سعد الصحيح: “لا يزال الناس بخير  ما عجلوا الفطر“144.

فالحديث أطلق تعجيل الفطر، وهذا التعجيل يحتمل أن يراد به إيقاع الفطور قبل الصلاة، ويحتمل أن لا يراد به ذلك، لكن مالكا روى أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، كانا يصليان قبل أن يفطرا، ثم يفطران بعد الصلاة145. فكان عملهما بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة، بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا، ولذلك ذهب مالك وأصحابه إلى أن التأخير المنهي عنه، هو ما يدخل في التعمق، والتكلف، وفعل خلاف السنة146.

6. استشعار هيبة النص الشرعي

وهو ما عبر عنه أحد الباحثين بـ “البعد المصدري للنص”147.

يحتاج كل من يروم فهم النص الشرعي، واستقاء الأحكام والتكاليف منه، إلى أن يعرف مصدر النص؛ أي الجهة المصدرة للنص. ويعد هذا مكونا أساسا من مكونات الخطاب، إلى جانب مكونات أخرى كلغة الخطاب، ومضمونه، ومن استهدفه في التوجيه.

فإذا استشعر الناظر في النص أنه أمام خطاب إلهي، صادر من الحق جل وعلا، فإنه يسهل عليه حينئذ إدراك أمرين أساسيين: يتجسد أحدهما؛ في عصمة هذا الخطاب وقدسيته وتعاليه. والثاني؛ في استحضار الصفات التي يتصف بها الملقي المخاطب (صاحب النص).

وهذا يوفر للناظر توطين نفسه على أنه أمام نص موحى من عند الله، متمثل في كتاب الله وسنة رسوله، ومتمتع بخصائص ذاتية، تكسبه العصمة، والخلو على وجه الإطلاق من كل نقص وخلل.

وعصمة صاحب النص يعني بالضرورة عصمة النص نفسه. فإنه بعد التأكد من صحته وثبوته نص مقدس، خال من عيوب الخطأ والنسيان، والسهو والغفلة، وكل ما يعتري خطابات النص من زلة أو هفوة.

وقد تكلم علماؤنا في عصمة دستور الشريعة المحمدية، ورجع الإمام الشاطبي ذلك إلى وجهين:

الوجه الأول: وجود أدلة كثيرة دلت تصريحا وتلويحا على هذه العصمة، كقوله تعالى: (إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9). فهذا ضمان من منـزل الوحي يؤكد أنه يحفظ آيات كتابه، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل. والسنة داخلة في هذا الضمان؛ لأنها مبينة للكتاب، ودائرة حوله، فهي منه وإليه ترجع في معانيها.

الوجه الثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله عليه السلام إلى الآن، وذلك أن الله، عز وجل، وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة، والمناضلة عنها، وقيض لكتابه حفظة لا يحصون، ولشريعته رجالا لا يتوانون، حفظوها رواية ودراية، وخدموها درسا وفهما وتأليفا، وناضلوا عنها حجة وبرهانا148.

فكان من المفيد لمن تصدى لفهم النص الشرعي، وتوخي الدقة والأمانة في الوصول إلى المراد، أن يستشعر ما يتمتع به النص الإلهي من خاصية العموم زمانا ومكانا وأشخاصا، وصلاحيته لكل الناس في جميع الأزمان والأمكنة والأصقاع، مما يوحي بما يملكه هذا النص من قوة وفاعلية وقدرة على التأثير، وما ينطوي عليه من المبادئ والأسس والنظم الصالحة له لتنظيم حياة أفضل، والضامنة لتوفق التشريع المناسب لكل مستجد على الدوام.

وهذه الميزة (عصمة النص الشرعي) تشكل بحد ذاتها فيصلا بين النص الشرعي وما عداه من النصوص والخطابات. فالأول خطاب صادر من الله تعالى، العليم بحقائق الأشياء كما هي، الخبير بأمور العباد، وما يصلح شأنهم دنيا وأخرى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14). وغيره خطاب صادر من بشر مخلوق، محدود بالزمان والمكان، متأثر بالخلقية الثقافية والاجتماعية التي تصوغ شخصيته العلمية، وبالعادات والتقاليد التي نشأ عليها.

ولا مرية في أن استحضار عظمة المتكلم صاحب النص الشرعي مما ينبغي أن يستصحب في عملية التفقه في النص، وبيان مقاصده. فإدراك عظمة مصدر النص الذي يتعامل معه المتفقه، مع إدراك عصمته، وما يتطلب ذلك من إيمان، من الأبعاد والدلالات الخاصة بالنص الشرعي، ولا يشارك فيها أي نص لغوي أو قانوني آخر.

وهذا بعد قد يكون غائبا عن بعض الدراسات والدارسين في مجال تفقه النص الشرعي، فيتيه أصحابها في أمور بعيدة عن مراد صاحب النص.

وقد يلقي هذا على كاهل الناظر المتأمل في النص مسؤولية جسيمة. ذلك أن التعامل مع النص (الوحي) الذي مصدره الخالق يتطلب خصائص وصفات ومؤهلات رفيعة في الناظر، كما يتطلب أدوات ووسائل متميزة في كيفية التفقه به، وتفسيره وفهمه، وبيان مراد الله منه، وما يترتب على ذلك من التكاليف والإلزام للعباد. ومن هنا لا مناص له من التحلي بصفات أساسية من الأمانة، وسلامة النية، وحسن القصد، وطلب التسديد، والعون من صاحب النص.

إن استشعار المسؤولية، واستفراغ الوسع، وبذل الجهد، واستكمال الأدوات، والإحاطة بالموضوع من كل جانب، والدقة في تناوله، واستقصاء معانيه، واستقراء الاجتهادات والتفسيرات السابقة، والانطلاق من البيان النبوي، والإحساس بالمسؤولية الدينية الكبرى عن الموضوع، يعتبر من المقدمات الواجب توفرها قبل الإقدام على فقه النص.

وهذا الاستشعار ينعكس إيجابا على المتعامل مع النص، ويجعله يستحضر ما يتصف به مصدر النص من العدل والحكمة والرحمة والصدق والرقابة، الأمر الذي يجعله يتعامل مع النص من الداخل، فيدرك بعض المعاني والمقاصد التي قد تخفى على كثير ممن يواجه النص من الخارج، بعيدا عن الإيمان ومصدره، مما يفقده الموضوعية والأمانة والاتزان.

ففي كتابات علماء من أمثال العز بن عبد السلام، والشاطبي، وابن تيمية، وابن القيم، ما يؤكد هذا البعد، وضرورة حضوره لدى الناظر في النص الشرعي؛ لأنه يعصمه الوقوع في الشطط والغلط.

7. الاهتداء بالعمل المستمر من السلف

لقد كان من خوطبوا بالقرآن والسنة من أشد الناس حرصا على فهم الدين، والالتزام بتعاليمه سلوكا وممارسة، فكانوا هداة مهتدين، سار على نهجهم بقية أهل القرون الثلاثة المفضلة من السلف الصالح، مما أكسب صنيعهم من الصفاء والمتانة والرسوخ والالتزام أهلية وقوة للاقتداء.

فعمل السلف المستمر، الدائم أو الأكثر من القرائن المعينة على فهم النص، وتقريب مراميه القريبة والبعيدة، فإذا عملوا على أمر، وداوموا عليه، دل على أن هذا الأمر مرغوب فيه شرعا، وقد تكون فيه سنة لم تنقل. “فلهذا كله وجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل”149.

ومن هذا المنطلق عول مالك على أقوال أهل المدينة، وجعلها حجة فيما طريقه النقل، واتصال العمل بها على وجه لا يخفى مثله؛ كمسألة الآذان، ونقل الصاع، وزكاة الخضروات والأحباس وغيرها150.

فالعمل المستمر من الوسائل التي يستعان بها في معرفة القرائن المقامية التي تكشف جوانب الأخذ بالدليل، وطرق توظيفه وأدائه، ووجه العمل به، ومن أهم الإفادات التي استثمرها منه الشاطبي ما يأتي:

أ. تقوية التمسك بظاهر الخطاب إذا كان العمل موافقا له، فإن موافقته شاهد للدليل، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع، فإنه نوع من الإجماع الفعلي، فالعمل الموافق يخلص الدليل من شوائب الاحتمالات التي تكتنفه، فتوهنه وتضعف دلالته؛ “لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها، والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها، ومعين لناسخها من منسوخها، ومبين لمجملها”151 وذلك كالعمل الذي جرت عليه الأمة في صلاتها وزكاتها وحجها وزواجها وطلاقها وما إلى ذلك…

ب. معرفة مقاصد الخطاب. ذلك أن العمل يشير إلى دلالات الخطاب الحقيقية. أما مجرد الظواهر التي لا يلتفت فيها إلى العمل فلطالما كانت متمسّك الفرق الضالة، تستدل بها على انحرافها وخروجها، وعلى مروقها وفسقها، كما كانت أيضا سبب التعارض والاختلاف”152. وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه، مما لم يجر له ذكر، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين.

وإذا اعتمدت أعمال الأولين ارتفع كثير من استدلالات المارقين عن الدين، وعادت الظواهر المتعارضة إلى الانسجام، وبدا التوافق بينها ظاهرا لائحا153.

ج. إن الالتفات إلى العمل المستمر عند فهم النص، يمكن المجتهد من معرفة الناسخ من المنسوخ، والمتأخر من المتقدم. ذلك أن المتقدمين كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام. ومعرفة الناسخ من المنسوخ أعيت الفقهاء وأعجزتهم، ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه، انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر154.

د. ضبط ما ورد من الخطاب النبوي لأسباب عينية أو زمنية خاصة. وهو ما يسميه الأصوليون بـ”قضايا الأعيان ووقائع الأحوال” ويقولون بأنها لا عموم لها. فقد أعيا ضبط هذه القضايا وتمييزها كثيرا من العلماء، لكن لو خضعت لمعيار العمل لظهر أمرها للعيان، ومن أمثلتها عدم استمرار عمل السلف على ما حكم به النبي، عليه السلام، من منع التقاط ضوال الإبل155، وترك التسعير156، ومنع ادخار لحوم الأضاحي157. فإن عمل السلف في الأزمنة اللاحقة على خلاف ما حكم به النبي عليه السلام في زمانه دليل واضح على أن تلك القضايا كانت لأسباب خاصة، وفي وقائع معينة، وأن الأمر الملزم فيها هو تحقيق المصلحة والعدل والتكافل الاجتماعي لا غير.

ﻫ. ترجيح الاحتمال الذي يوافقه العمل على الاحتمال الذي لا يوافقه، مثل قيام الرجل للرجل إكراما له وتعظيما، الذي دل عليه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام لأخيه من الرضاعة158. وقوله عليه السلام لما نـزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ: “قوموا إلى سيدكم”159 فإن العمل المتصل على خلافه، فإن الصحابة كانوا لا يقومون لرسول الله إذا أقبل عليهم، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر، ولو كان لنقل.

فدل استمرار العمل على ترك القيام على أن ذلك هو الحكم الدائم، وأن قصة سعد بن معاذ، تحتمل أن يكون القيام والأمر به لعارض من شوق، أو فسح مكان في المجلس، أو إعانة160…

وبهذا يظهر أن إهمال قرينة العمل المستمر يؤدي إلى إهمال قرائن مفيدة في مضمون الخطاب، وأن العمل المستمر يعكس للمجتهد الصورة التي كان عليها الخطاب زمن الرسول عليه الصلاة والسلام.

الهوامش

  1. الإمام في بيان أدلة الأحكام ص: 159.
  2. نفسه: 160.
  3. إحكام الأحكام م: 2 /4/83.
  4. بدائع الفوائد 4/9-10 وأنظر النص نفسه في البرهان للزركشي: 3/213.
  5. أنظر: الموافقات: 3/419، 4/21،146.
  6. أنظر الجامع لأحكام القرآن: 3/93.
  7. أنظر تفسير مشكل القرآن لإبن قتيبة ص: 525، المفهم 4/ 158.
  8. أنظر التحرير والتنوير: 2/371.
  9. أنظر الجامع لأحكام القرآن: 3/93.
  10. نفسه: 3/ 94.
  11. أحكام القرآن للشافعي: 1/ 194.
  12. أخرجه مسلم في كتاب النكاح – باب جواز جماعه امرأة في قبلها. ح: 1435.
  13. أنظر: إكمال المعلم: 4/612.
  14. أنظر الضروري في أصول الفقه ص: 146.
  15. أنظر: مختصر الروضة: 3/726.
  16. الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز ص:237.
  17. تفسير المنار: 1/22.
  18. ونسبه الشوكاني في إرشاد الفحول، 1/106 إلى الجمهور.
  19. أنظر أحكام القرآن للشافعي: 1/46، والمنخول ص: 219، والإبهاج: 1/ 257.
  20. أنظر: أحكام القرآن للشافعي: 1 /43، والإبهاج: 1/255.
  21. التحرير والتنوير: 1/94.
  22. نفسه: 1/97.
  23. البرهان في علوم القرآن: 1/317.
  24. أحكام القرآن لإبن الفرس ورقة: 1.
  25. أنظر: بداية المجتهد: 3/13، الجامع للقرطبي: 13/ 272.
  26. أنظر: أحكام القرآن للشافعي: 1/ 180-181، المغني لابن قدامة: 9/ 460-461.
  27. مفتاح الوصول ص: 455-456.
  28. المحصول: 1/408.
  29. أنظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص: 143.
  30. الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ص: 34.
  31. أي النص بمعناه الأصولي كما تقدم.
  32. البرهان: 1/278.
  33. مفتاح الوصول ص: 433.
  34. أخرجه البخاري في الذبائح والصيد – باب جلود الميتة ح: 5531.
  35. أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة، وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. أنظر: فتح الباري 9/576.
  36. إحكام الفصول ص: 739 – 740.
  37. نفائس الأصول: 3/1081-1082.
  38. اللغة العربية معناها ومبناها ص: 165.
  39. استعمل التأويل في عرف السلف بمعنيين: أحدهما: المرجع والمآل والعاقبة والمصير. وهو ما نطقت به معاجم اللغة، وتكرر في آيات القرآن. الثاني: التفسير والبيان وحسن تقدير الأمور. وهو ما دعا به الرسول عليه السلام لإبن عباس، وما كان يتخاطب به الصحابة. ثم استعمل في عرف المتأخرين من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين بمعنى: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله لدليل دل على ذلك. أنظر: مناهج الاجتهاد بالرأي ص: 163 وما بعدها، تفسير النصوص: 1/366، الإمام ابن تيمية وقضية التأويل ص: 33 وما بعدها.
  40. إحكام الفصول ص: 189- 190.
  41. مفتاح الوصول: 429.
  42. دلهم على هذه الضوابط الاستقراء، وما عليه روح الشريعة، والحفاظ على سلامة الخطاب كما يدركه أهل اللسان وأئمة الاستنباط.
  43. الإحكام للآمدي: 3/75.
  44. الموافقات: 3/330.
  45. أنظر: فصل المقال لابن رشد ص: 19- 20، إرشاد الفحول 2/51.
  46. الإحكام للآمدي: 3/75.
  47. مختصر الصواعق المرسلة ص: 20.
  48. الإحكام للآمدي 3/75.
  49. أخرجه الترمذي في كتاب النكاح – باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ح 1102.
  50. أنظر: أحكام القرآن للجصاص 1/402، المبسوط 5/ 12، بدائع الصنائع 2/ 247.
  51. أخرجه أبو داود في كتاب النكاح – باب الولي. ح 2083.
  52. الإحكام للآمدي 3/82.
  53. أخرجه الترمذي في النكاح – باب ما جاء في الرجل يسلم وله عشر نسوة، ح 1128، وابن ماجه في النكاح – باب الرجل يسلم. ح 1953، والحاكم في المستدرك 2/209 – 210، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 6/294.
  54. أنظر: المستصفى: 2/719، تيسير التحرير 1/145، الإحكام للآمدي: 3/76 – 77.
  55. أنظر: المستصفى: 2/719- 721، الإحكام للآمدي: 3/77 – 78.
  56. الرسالة ص:62-63.
  57. أنظر: الرسالة ص: 58، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/279.
  58. أنظر معاني القرآن للنحاس 1 /510، الجامع للقرطبي 4/279.
  59. الرسالة ص: 60.
  60. البحر المحيط: 3/380، وقد اختصر الشوكاني كلامه في إرشاد الفحول: 2/576 – 577.
  61. أنظر: البحر المحيط: 3/380- 381.
  62. العقد المنظوم: 2/386.
  63. البحر المحيط: 4/266.
  64. العقد المنظوم: 2/387.
  65. جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 6/228.
  66. أخرجه البخاري في الزكاة – باب العشر فيما يسقى من ماء السماء. ح 1483.(فتح الباري: 3/407).
  67. أنظر: إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام مج: 1 ح: 2 ص: 187، فتح الباري 3/409.
  68. العقد المنظوم 2 /386، مفتاح الوصول ص: 551- 552.
  69. أنظر التحقيق والبيان 2/322، 2/470، بدائع الفوائد 4/204.
  70. البرهان:1/185.
  71. أنظر مختصر الصواعق ص: 253.
  72. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 10/387.
  73. سنن ابن ماجه – كتاب الصلاة – باب من نام عن الصلاة. حديث، 698.
  74. شرح صحيح مسلم: 5/183.
  75. العقد المنظوم: 2/187 – 189 – بتصرف.
  76. الأم: 3/632.
  77. نفسه: 3/640 –641.
  78. أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين – باب حكم المرتد والمرتدة. ح: 6922.
  79. أنظر: فتح الباري: 12/284.
  80. المحرر الوجيز: 9/320، ونسبه ابن كثير 2/463 إلى ابن جرير وابن أبي حاتم.
  81. أنظر تفسير ابن كثير 2/462- 463.
  82. أنظر: كيف نتعامل مع القرآن ص: 276 – 283.
  83. للوقوف على جهود الأصوليين في هذا المضمار بتوسع، يراجع: المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي للشيخ فتحي الدريني، وتفسير النصوص في الفقه الإسلامي للدكتور محمد أديب صالح.
  84. أنظر: إحكام الفصول 2/755.
  85. أنظر ظاهرة التأويل وصلتها باللغة ص: 139/140.
  86. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام أبو الفتح تقي الدين ابن دقيق العيد( ت 702)، ط دار الكتب العلمية- بيروت، مج 1، ج 2، ص: 187.
  87. إحكام الأحكام، مج 1، ج 2، ص: 187.
  88. البرهان في علوم القرآن 2/124.
  89. إعلام الموقعين 1/299
  90. أنظر: الموافقات 4/266 وما بعدها.
  91. أنظر: إحكام الأحكام مج 2، 4/83.
  92. راجع: اللغة العربية: معناها ومبناها وخاصة فصول: النظام الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي.
  93. أنظر: الإلماع ص: 178، شرح تنقيح الفصول ص: 380/381، الضياء اللامع 2/214، الرسالة ص: 374.
  94. الرسالة ص: 380/381.
  95. أخرجه البخاري في كتاب الشهادات- باب ما قيل في شهادة الزور ح 2654، فتح الباري 5/309.
  96. أنظر فتح الباري: 5/311.
  97. شفاء الغليل ص: 89.
  98. أخرجه مسلم في المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل. ح (1596).
  99. أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع الذهب بالورق يدا بيد. ح (2182)ـ فتح الباري 4/448.
  100. أنظر أوجه الجمع بين الحديثين في المفهم 4/484ـ485، فتح الباري: 5/447.
  101. أنظر: صحيح مسلم 3/1218 هامش رقم: 1.
  102. شفاء الغليل ص: 91.
  103. أنظر الرسالة ص: 215ـ213.
  104. مقدمة أصول التفسير لابن تيمية ص:47.
  105. أنظر: الموافقات 4/146.
  106. نفسه: 4/146.
  107. أنظر: قواعد التدبر الأمثل ص 205، كيف نتعامل مع القرآن ص 222.
  108. المتأول هو قدامة بن مظعون الذي استعمله عمر على البحرين. أخرجه البخاري في كتاب المغازي مختصرا برقم: (4011) فتح الباري 7/371، وأخرجه مطولا عبد الرزاق في المصنف 9/240ـ242 برقم (17076). ونقله الشاطبي في الموافقات 4/150ـ151.
  109. الموافقات 4/151.
  110. نفسه: 4/155.
  111. أنظر: الاجتهاد في الشريعة ص: 58 وما بعدها.
  112. الدافة: قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا. ودافة الأعراب: من برد منهم المصر. والمراد هنا: من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة.
  113. أخرجه مسلم في الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي. حديث (1971).
  114. أنظر: إكمال المعلم 6/424 المفهم 5/378.
  115. أي يشيع لحم الأضاحي في الناس، وينتفع به المتحاجون.
  116. أخرجه مسلم في الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي. حديث (1974).
  117. أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب ما جاء في الرخصة في أكلها بعد ثلاث. حديث (1511)
  118. أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، حديث (651).
  119. مسلم في المساجد، باب فضل صلاة الجماعة، حديث (654).
  120. نفسه.
  121. إكمال المعلم: 2/622.
  122. أنظر المفهم: 2/278.
  123. إكمال المعلم: 2/623.
  124. أنظر الموافقات: 4/152.
  125. نفسه: 4/149.
  126. نفسه: 4/256.
  127. نفسه: 3/236.
  128. أنظر البحر المحيط: 3/218-219، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب: 3/134-135.
  129. أنظر كشف الأسرار:1/127، التحرير والتنوير: 4/224، المناهج الأصولية ص: 44-45.
  130. أنظر: كشف الأسرار: 1/126.
  131. أنظر: قواعد التدبر الأمثل ص: 69.
  132. أنظر: الموافقات 4/146.
  133. الرهان: 1/436.
  134. نفسه: 1/437.
  135. أنظر التحرير والتنوير: 1/25.
  136. رواه أبو داوود في كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر برقم (4484) ورقم (4485) والترمذي في الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه (1444)، وابن ماجة (2573)، وصححه ابن حبان (4447)، والحاكم 4/371، والألباني في الصحيحة 3/348.
  137. الأم: 7/365.
  138. أنظر فتح الباري: 12/81.
  139. أنظر الموافقات 4/446 وما بعدها، وقد حرر ابن القيم كون مذهب الصحابي حجة تحريرا شافيا، وأقام ستة وأربعين دليلا على ذلك (إذا لم يخالفه غيره) أنظر إعلام الموقعين 4/95 وما بعدها.
  140. وهو مشهور مذهب مالك، وأكثر المالكية، والحنفية، والحنابلة، وبعض الشافعية، أنظر: شرح تنقيح الفصول ص: 445، مفتاح الوصول ص: 753، بيان المختصر 3/274، جمع الجوامع 2/354، نشر البنود 2/264.
  141. الموافقات 4/446.
  142. نفسه: 4/128.
  143. نفسه: 4/132.
  144. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار ح (1957) ومسلم في الصيام، باب فضل السحور ح (1098)
  145. الموطأ 1/289.
  146. أنظر الموافقات 4/129-130، فتح الباري 4/234-235.
  147. أنظر: كتاب الأمة، العدد: 113، جمادى الأولى 1427ﻫ.
  148. أنظر: الموافقات الجزء الثاني: 91-95.
  149. الموافقات: 3/289.
  150. راجع: عمل أهل المدينة في: إحكام الفصول ص: 480 وما بعدها، المدارك 1/69-73. مجموع الفتاوى 20/309-311، منهج الاستدلال بالسنة في المذهب المالكي 1/279 وما بعدها.
  151. الموافقات: 3/288.
  152. نفسه: 3/282.
  153. أنظر الموافقات: 3/288.
  154. نفسه: 3/288 – 289.
  155. أخرجه البخاري في كتاب العلم، حديث 91 فتح الباري 1/225.
  156. أخرجه أبو داوود في كتاب البيوع، ح 3451، وابن ماجة في كتاب التجارات ح 2200، والترمذي في البيوع ح 1314، وقال حديث حسن صحيح.
  157. سبق تخريجه.
  158. أخرجه أبو داوود في سننه برقم: 5145، وهو ضعيف الإسناد.
  159. أخرجه البخاري في الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ”قوموا إلى سيدكم“ حديث 6262.
  160. أنظر: الموافقات 3/267 – 269.
Science
الوسوم

الدكتور مولاي الحسين ألحيان

• أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الشريعة بأكادير.
• رئيس المجلس العلمي المحلي بعمالة إنزكان – أيت ملول.
• عضو مؤسس لدائرة الرباط العلمية للبحث في الدراسات الإسلامية بالرباط.
• عضو مؤسس لمجموعة البحث في الدراسات الإسلامية – كلية الآداب – جامعة ابن زهر – أكادير.
• عضو مؤسس لجمعية قدماء ثانوية محمد الخامس بتارودانت.
• عضو المجلس الأعلى للتعليم – الرباط.
• منسق ماستر المذهب المالكي: تراثه وأصوله وآفاق الاجتهاد فيه – كلية الشريعة – أكادير.
• عضو استشارة وتحكيم في بعض المراكز ودور البحث العلمي وطنيا ودوليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق