وحدة الإحياءمفاهيم

السياق وتعليل الأحكام.. أسباب النزول والورود نموذجا

إن تصور العلاقة بين أسباب النـزول والورود من جهة، ومسألة التعليل من جهة أخرى، لم يكن أمرا واردا في نظري. ولعله كذلك في نظر كثير من الباحثين المهتمين بقضايا التعليل. بل قد تبدو محاولة تصور هذه العلاقة مجازفة أكيدة في نظر بعض منهم، على الأقل، إذا علمنا أن الأصوليين، هم يبحثون في العلة وما يتعلق بها من إشكالات، لم ترد عنهم ولو عرضا، حسب ما اطلعت عليه،  أدنى إشارة إلى أهمية أسباب النـزول والورود في هذا الباب. وهذا، في تصوري، سبب كاف يجعل الباحث في هذه المسألة غير مستحضر لهذه العلاقة، ومستبعدا لإمكانية تصورها تصورا علميا.

إلا أن توجيه الاهتمام في دراسة التعليل، على مستوى بعض إشكالاته وقضاياه، إلى النص الشرعي، تتبعا واستقراء، مكنني، عن غير قصد، من الوقوف عند هذه العلاقة. وهي على درجة من الأهمية تجعل الوقوف عندها ضروريا. ليس بيانا وتوضيحا فحسب، بل بحثا و دراسة أيضا.

من هنا حاولت جمع كل ما يتعلق بأسباب النـزول والورود لعلي أقف على مؤلفات في الموضوع أسترشد بها في تلمس وجه هذه العلاقة. فوقفت في “أسباب النـزول” على مؤلفي كل من الإمامين الواحدي النيسابوري[1] والسيوطي[2]. وفي “أسباب الورود” على ما كتبه كذلك الإمام السيوطي[3] وبعده ابن حمزة الحسيني[4]. فوجدت هذه المؤلفات، جميعها، مكتفية بذكر النصوص مرفوقة بالحوادث والوقائع المقترنة بنـزولها أو ورودها، دون أدنى إشارة إلى العلل والأسباب أو الحكم والمصالح التي يمكن لهذه الأسباب أن تكشف عنها أو تساعد في توضيحها.

لهذا رأيت العودة إلى المباحث التي تعنى بالدراسة العلمية لأسباب النـزول والورود، من خلال مصادر علوم القرآن والحديث، أتلمس فيها الصورة الحقيقية أو بعضا من جوانب العلاقة التي تربط هذه الأسباب بمسألة التعليل. فلم أجد شيئا ذا أهمية في الموضوع إلا ما يتعلق بتصريح بعض العلماء كالإمامين الزركشي في “البرهان”[5] والسيوطي في “الإتقان”[6] بفائدة، ضمن جملة فوائد أحصوها لأسباب النـزول، تؤكد هذه العلاقة، وهي فائدة “معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم”.

فكان هذا إذا تأكيدا لوجود علاقة بين أسباب النـزول والورود ومسألة التعليل، وإن اكتفى أصحاب هذا التصريح بهذه العبارة دون بذل أدنى جهد في تفسيرها و بيانها، حتى يمكن تصور أبعادها وحدودها في علاقتها بالتعليل.

وفي غياب اهتمام العلماء بهذه العلاقة، رأيت الانطلاق مما توفر لي من ملاحظات في الموضوع، سجلتها عند تتبعي مسلك القرآن الكريم والسنة النبوية في التعليل. وأقتصر فيها على ما أراه مهما في الكشف عن بعض معالم هذه العلاقة.

وقبل ذلك أبادر إلى توضيح أمرين لهما دخل كبير في تصور هذه العلاقة بشكل أوضح وأسلم. الأول يتعلق بمشكل السند في روايات أسباب النـزول والورود صحة أو ضعفا. والثاني بضرورة التمييز بين نوعين من أسباب النـزول والورود: الأسباب المباشرة والأسباب غير المباشرة وتفاوت النوعين أهمية في ارتباطهما بمسألة التعليل.

السند في روايات أسباب النـزول والورود

رغم ما لأسباب النـزول والورود من أهمية بالغة وفوائد جليلة في فهم النص الشرعي وتقريبه إلى الأذهان، فإن ما وضع فيها من مؤلفات ظل مفتقرا إلى عنصر توثيق النصوص والروايات، بحيث إن غالبها لا يميز الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود. علما أن الوضع قد لحق الكثير من أسانيد الروايات حتى صار هذا الإشكال هاجسا حاضرا في أذهان أهل الاختصاص في الباب، فشددوا في طلبها و تحمل رواياتها.

يقول الإمام الواحدي: “ولا يحل القول في أسباب نـزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنـزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب… وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار، في هذا العلم بالنار…”[7].

وحتى الواحدي نفسه وأمثاله من العلماء الذين ألفوا في علمي أسباب النـزول والورود، لم تسلم كتاباتهم، في هذا الباب، من النقد. فقد لوحظ في مؤلفاتهم غياب عنصر التوثيق في الروايات وتمييز الصحيح من غيره والمقبول من المردود.

فهذا الإمام السيوطي بعد اعترافه بأنه مسبوق في التأليف في هذا الباب، يؤكد بأن سابقيه ممن ألفوا في “أسباب النـزول” تفتقر مؤلفاتهم إلى عناصر ستة جعل ثالثها: “تعريف الرواية وعزو كل حديث إلى من خرجه من أصحاب الكتب المعتبرة من الصحاح والمسانيد التفاسير. ورابعها تفرده بتمييز الصحيح من غيره والمقبول من المردود”[8].

إلا أن غياب عنصر التوثيق في جل المؤلفات الواردة في أسباب النـزول والورود وضعف الرواية فيها، وإن كان حقيقة واقعة، فإن هذا لا يمكن أن يكون حكما مطلقا وعاما؛ فإن من روايات هذه الأسباب ما جاء في الصحاح من كتب الحديث والمعتبر من كتب التفسير. ومن ثم فالوضع أو الضعف الذي لحق الرواية في أسباب النـزول والورود، إذا ما روعي فيها هذا الجانب واعتمد الصحيح منها، لا ينقص شيئا من قيمة وأهمية هذه الأسباب في فهم النصوص الشرعية وضرورتها في الوقوف عند مراد الشارع ومقصده من الأحكام التي نـزلت أو وردت لسبب. فهي إحدى الآليات الضرورية في فهم الخطاب الشرعي وتفسير نصوص الكتاب والسنة.

وتحقيقا للفائدة المرجوة من البحث في أسباب النـزول والورود في علاقتهما بالتعليل خاصة في جانب الأداء فيه، وحرصا على الاستفادة من منهج العلماء في توثيق الروايات وإعمال المقاييس النقدية فيها، سأحرص في هذه المداخلة على عزو كل رواية، في سبب النـزول أو الورود، إلى من خرجه من أصحاب الكتب المعتبرة، مع اختيار الصحيح من الروايات ما أمكنني ذلك.

صور أسباب النـزول و الورود

إذا كانت جميع أسباب نـزول النصوص في القرآن الكريم وورودها في السنة تشترك في أن المقصود بها هو ما نـزل أو ورد النص الشرعي أيام وقوعه[9] فإن هذه الأسباب تختلف في كونها قد تأتي بإحدى صورتين؛ إما أسباب نـزول وورود مباشرة أو أسباب نـزول وورود غير مباشرة.

أما الأولى؛ فتتميز بالعبارة الموجزة والرواية المختصرة، وأما الثانية؛ فتتميز بتفصيل وبسط لجزئيات الواقعة ووصف دقيق لكل ملابساتها وعناصرها.

وهذا الاختلاف في الصورة التي ترد بها أسباب النـزول والورود لا ينفي عن أي من  الصورتين أهميتها في أداء معنى التعليل؛ فلكل من النوعين فائدة في هذا الباب، لكن هذه الفائدة مختلفة نوعية ومتفاوتة أهمية. إذ أن الأسباب المباشرة قد تأتي في صورة علة الحكم الوارد في النص فتكون هي نفسها تعليلا للحكم الشرعي. أما الأسباب غير المباشرة فتساعد في فهم علل الأحكام الواردة في النص أو في بيان أبعاد النص كما يأتي، بعد حين، في النماذج النصية.

   بعد هذا أعود فأقول: إن علاقة أسباب النـزول والورود بتعليل الأحكام يمكن تصورها من جهات أربع لها أهميتها في بيان وجه التعليل في خطاب الشارع.

والجهات الأربع هي:

أ. المفهوم.

ب. معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

ج. بيان المشكل والمجمل من العلل النصية.

د. ترك العمل بالنصوص لارتفاع المصالح المرتبطة بها.

 

علاقة أسباب النـزول والورود بالتعليل من جهة المفهوم

علاقة أسباب النـزول والورود بالتعليل من جانب المفهوم تأتي من جهة المصطلح. وتتجلى عند استحضار علاقة السبب بالعلة، أولا على مستوى الدلالة المعجمية؛ يقول صاحب اللسان: “هذا علة لهذا أي سبب”[10]، وثانيا على مستوى البحث في الإشكالات التي رافقت هذه العلاقة في البحث الأصولي، من جهة اعتبار أو عدم اعتبار كل سبب علة، أو من جهة التسليم أو عدم التسليم بكون السبب أعم من العلة أو تباينهما وعدم وجود أي علاقة بين المصطلحين.

ولعل الاعتبار الأخير بعيد جدا، على الأقل، عند جمهور العلماء بدليل استعمالهم كلا من المصطلحين بمعنى واحد عند خوضهم في الفروع الفقهية. بل من أساطينهم من ساوى بينهما على مستوى التنظير الأصولي كالإمام الغزالي الذي لم يستبعد تسمية السبب علة فقال: “لا يبعد تسمية السبب علة”[11].

وقد تبدو محاولة الربط بين أسباب النـزول والورود من جهة والتعليل من جهة أخرى من هذا الجانب بعيدة جدا، لكنها تحضر وتتأكد بأمرين أثارا انتباهي حين تصفحي ما كتب في أسباب النـزول  والورود رواية وتنظيرا.

الأمر الأول

إن للعلماء القدامى[12] في ترجمة أسباب نـزول أو ورود نص شرعي معين، مع اختلافهم في العبارة المناسبة في التعبير عن ذلك، عبارتين اثنتين: نـزلت الآية وورد الحديث في كذا أو نـزلت الآية وورد الحديث لأجل كذا. بمعنى نـزلت الآية وورد الحديث لسبب كذا.

من هنا قال محمد الطاهر بن عاشور، في تعريفه أسباب النـزول: “هي حوادث يروى أن آيات من القرآن نـزلت لأجلها …”[13].

ولفظ “لأجل”، كما هو مسلم، من الأساليب الدالة على التعليل صراحة وعلى سبيل القطع. بل اعتبره الأصوليون أقوى أسلوب دال على التعليل، بعد لفظ “لعلة كذا” الذي لم يرد، كما هو معلوم، في أي نص شرعي[14]. من هنا اعتمد هذا الأسلوب أداة، من بين أدوات أخرى، تفسيرية وتعبيرية في عملية الكشف عن وجه العلة في نصوص شرعية كثيرة، جاء التعليل فيها بأساليب وصيغ أخرى غير أداة “لأجل”؛ فتقول: معنى قوله تعالى: (لعلكم تتقون)[15]؛ أي لأجل أن تتقوا. ومعنى قوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لذكري(طه: 13)؛ أي لأجل ذكري وهكذا.

واستعمال العلماء لفظ “لأجل” لبيان سبب نـزول أو ورود نص شرعي دون إشكال أو أدنى تحفظ، واستخلاص بعضهم تعريف أسباب النـزول والورود من هذا الاستعمال، فيه دلالة واضحة على العلاقة التي تربط عملية فهم النص ومنها تعليله بأسباب النـزول والورود. ليس على مستوى الدلالة المعجمية فحسب، بل وعلى مستوى المصطلح أيضا. وفي هذا كفاية للتنبيه إلى احتمال وجود سبب نـزول أو ورود نص شرعي؛ بمعنى علة نـزول أو ورود هذا النص.

ورفع هذا الاحتمال إلى مستوى اليقين يتأكد بوجود نصوص لها من أسباب النـزول أو الورود ما هو بمعنى علة النـزول أو الورود؛ أقصد أن سبب النـزول أو الورود في نص شرعي معين هو نفسه علة للحكم الوارد في هذا النص.

ويزداد هذا الأمر تأكيدا بتوضيح الأمر الثاني وبما يصاحبه من نماذج نصية في الموضوع.

الأمر الثاني

سبق أن ذكرت أن من أسباب النـزول والورود ما هو مباشر وما هو غير مباشر. وأن النوع الأول يمتاز بالإيجاز الشديد، في حين يرتكز الثاني على تفصيل وبسط لملابسات النص وظروفه. والذي يعنيني في هذا الجانب من علاقة أسباب النـزول والورود بالتعليل هو النوع الأول؛ فالسبب المباشر الذي أدى إلى نـزول أو ورود نص شرعي يمكن أن يكون نفسه علة للحكم الوارد في هذا النص بحيث لا يمكن تصور علة أخرى أكثر أداء للمعنى وأبلغ في بيان قصد الشارع. ولتوضيح ذلك أقف عند نموذجين اثنين. الأول من الكتاب والثاني من السنة.

النموذج الأول

قال تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبيء إلا أن يوذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه﴾ (الأحزاب: 53).

ذكر ابن العربي[16] في سبب نـزول هذه الآية روايات اعتبرها كلها ضعيفة عدا اثنتين. إحداهما، وهي الرواية السادسة، جاءت في صحيح البخاري[17] عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب قال: “قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن” فنـزلت آية الحجاب.

يفهم من هذه الرواية أن ما استشعره عمر ولاحظه وعبر عنه، وهو دخول البر والفاجر إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ما يحمله ذلك من دلالات وما يترتب عنه من مفاسد وأضرار، كان السبب المباشر في نـزول هذا النص. وهذا السبب المباشر هو نفسه علة النهي الوارد في النص.

فالنظر في قول عمر رضي الله عنه: “يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر”، السبب المباشر في نـزول هذه الآية، كاف لتصور مقام كثر فيه الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أشخاص تتراوح أخلاقهم بين البر والفجور، وسلوكهم بين الحسن والقبح. وبعد طول مراقبة من عمر وتقدير منه لما في المسألة من مفسدة واضحة وضرر كبير، رأى ضرورة تصحيح هذا السلوك. فأجمل وأوجز وذكر للرسول صلى الله عليه وسلم العلة: “إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر”، واقترح الحل: “فلو أمرتهن أن يحتجبن”. فكانت هذه العلة هي نفسها السبب المباشر في نـزول هذه الآية وفي تشريع حكم النهي الوارد في النص. فجعل الشارع العلة التي أدركها عمر سببا للنـزول واجتهاده موافقا لحكم الشرع.

إذن فما أكده عمر علة للحكم الوارد في النص هو نفسه السبب المباشر في نـزول هذا النص.

النموذج الثاني

(نهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر)[18].

اختلف العلماء في توجيه النهي الوارد في هذا النص. وقد تراوحت مواقفهم في تحديد حكم أكل لحوم الحمر الأهلية بين التحليل والتحريم[19]، بناء على اختلافهم في تحديد العلة التي من أجلها ورد هذا النهي. والذي يهمني من هذا الاختلاف، بصرف النظر عن صحيح هذه الآراء وفاسدها، موقف تبنى أصحابه حكم التحريم بناء على علة هي نفسها سبب ورود هذا النص.

بيان ذلك:

يقول ابن العربي في أحكامه[20]: إن “ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية مختلف في تأويله على أربعة أقوال:… الثاني، أنها حرمت بعلة أن جائيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فنيت الحمر، فنيت الحمر. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها لعلة خوف الفناء عليها”[21].

فقد بنى أصحاب هذا القول موقفهم في مسألة أكل لحوم الحمر الإنسية على ما جاء و روي في ملابسات وظروف ورود هذا النص. وجعلوا ذلك علة صريحة وواضحة في تحريم أكل هذه اللحوم.

وهذا واضح من الطريقة التي روى بها ابن العربي عنهم ذلك: “إنها حرمت بعلة أن جائيا…”. فقد استعمل لفظ العلة هنا بمعنى سبب الورود إذ قال: “حرمت بعلة…” ثم حكى سبب الورود: “… أن جائيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم…”.

أما العلة الثانية في نص الرواية فهي بمعنى المصلحة والحكمة المقصودة من حكم النهي: “فقام النبي، صلى الله عليه وسلم، ينادي بتحريمها لعلة خوف الفناء عليها“.

وفي “القبس”[22] جعل ابن العربي هذا السبب نفسه، بلفظ آخر، علة في تحريم الحمر الأهلية في أحد الأقوال. فبعد أن نسب إلى مالك حكم الكراهية في ذلك، وأن العلة فيه أنها كراع في سبيل الله تعالى قال: “وهو أحد الأقوال في تحريم الحمر يوم خيبر لأنه روي في الصحيح أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم فقال له: يا رسول الله أكلت الحمر أفنيت الحمر، فأمر المنادي فنادى ألا إن لحوم الحمر قد حرمت”[23].

فكان التحريم من أجل “أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم فقال له: يا رسول الله أكلت الحمر أفنيت الحمر…” الحديث.

يلاحظ من النموذجين الذين سقتهما أن السبب المباشر في نـزول أو ورود نص شرعي معين يمكن أن يكون العلة المباشرة لتشريع الحكم المضمن في هذا النص؛ فقول عمر: “يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر…” كان السبب المباشر في نـزول قوله تعالى:﴿يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبيء إلا أن يوذن لكم…﴾ الآية. والعلة في تشريع النهي عن دخول بيوت النبي.

كما “… أن جائيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فنيت الحمر…” كان السبب المباشر والعلة المناسبة في ورود وتشريع النهي عن أكل لحوم الحمر الإنسية، تحريما أو كراهة.

إذن فالمباشر من أسباب النـزول والورود يمكن أن يكون بواعث وعللا للأحكام الشرعية التي نـزلت أو وردت وفقه. لهذا كان من المستساغ عند ابن العربي تفسير علة الحكم الشرعي بسبب وروده.

أهمية أسباب النـزول والورود في معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم

ارتباط أسباب النـزول والورود بالتعليل من هذا الجانب لم تخف أهميته، كما أسلفت، على بعض العلماء وإن كانوا قلة. فقد اعتبروا الكشف عن وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، من أهم الفوائد التي لأسباب النـزول والورود. يقول الإمام الزركشي في أهمية سبب النـزول: “وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم”[24].

ورغم تنصيص بعض العلماء على هذه الفائدة، فلا أحد منهم، في حدود ما اطلعت عليه، تناولها بيانا وتحليلا. لهذا يحسن الوقوف عندها من خلال نموذجين نصيين، أولهما في القرآن الكريم  والثاني في السنة النبوية.

النموذج الأول

يقول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا…﴾ من الآية: 103.

محل الشاهد في هذا النص هو قوله تعالى: (لا تقولوا راعنا). ولفظ (راعنا) المنهي عنه في هذه الآية له دلالة حقيقية وأخرى مجازية. أما الدلالة الحقيقية، فهو أمر من راعاه يراعيه. وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف.

وأما الدلالة المجازية فهذا الفعل يطلق على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه. وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية، ومنه “رعاك الله”…

ويرى المفسرون أن القصد من قول المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم: “راعنا” هو: لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا. فلفظ “راعنا” في الآية الكريمة هو فعل طلب من “الرعي” بالمعنى المجازي، استعمل للدلالة على معنى الرفق والمراقبة. فهو إذن فعل مقبول عقلا، محمود معنى.  وإتيانه غير مستنكر عرفا.

من هنا أشكل على المخاطب وجه طلب الكف عنه في قوله تعالى: (لا تقولوا راعنا). وقد يزداد هذا الإشكال قوة والالتباس حدة، حين نقف عند الأمر المقرون بهذا النهي: ﴿لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا؛ فقد نهى تعالى عن قول (راعنا) وأمر بقول (انظرنا). و”نظر” حقيقة حرس ومجازا بمعنى تدبير المصالح. وهي الدلالة نفسها التي للفظ “راعى”، حقيقة ومجازا. فيكون إذن هذا اللفظ قد استبدل به لفظ آخر يساويه حقيقة ومجازا.

لهذا تعين في هذا النص وما يماثله، طلب سبب وملابسات وحيثيات نـزوله، ليظهر المعنى والقصد مما التبس فيه من أمور؛ فإن النهي عن أن يقول المومنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لابد أن يكون لحكمة أو مصلحة رعاها الشارع، وإنما لم تذكر إيجازا واستغناء بعلم المخاطب بها يوم نـزولها، فإذا لم ينقل السبب لمن لم يحضره غاب عنه وجه المصلحة المرادة من تشريع الحكم[25].

ذكر في سبب نـزول هذه الآية روايات كثيرة يقوي بعضها بعضا. وأورد فيما يلي، وبإيجاز شديد، أشهر هذه الروايات. وهي[26]:

أولا؛ الرواية التي تقول: إن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من العلم شريعة وقرآنا، قالوا له: “راعنا يا رسول الله”. يريدون: راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه.

وكان اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سرا، وكانت لهم كلمة بالعبرانية، وقيل بالسريانية، يتسابون بها وهي قريبة من لفظ “راعنا”. وهذه الكلمة هي “راعينا”. وقد قيل إن معناها “لا سمعت دعاء”. وقيل إنها تفيد “السب”.

فلما سمعوا بقول المسلمين: “راعنا يا رسول الله”، افترضوه لما وجدوا الكلمة المناسبة             والذريعة المناسبة. فقال بعضهم لبعض: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن.

ثانيا؛ الرواية التي تقول: إن المسلمين كانوا يقولون: “راعنا” من الرعي، فسمعتهم اليهود فقالوا: يا “راعنا”… فنهى المسلمين عن ذلك لئلا يقتدي بهم اليهود ويقصدوا المعنى الفاسد من اللفظ.

يلاحظ من خلال الروايتين الواردتين في أسباب نـزول هذه الآية، أن لفظ “راعنا” وإن كان مقبولا معنى، وقصد المسلمين في استعماله سليما، إلا أن توظيفه من قبل اليهود في معان تشترك كلها في القبح لغرض إذاية الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان السبب في النهي عن استعماله وقوله. وربما كان هذا النهي لمنع أن يشتهر اللفظ على الألسن بالمعنى الذي يقصد اليهود فيصبح متداولا ينصرف كلما أطلق إلى المعنى الفاسد منه، الذي من شأنه أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

النموذج الثاني

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الشرب من في السقاء)[27].

والسقاء: جلد السخلة إذا أجذع ولا يكون إلا للماء. وقيل: يكون للماء وللبن أيضا. لهذا قيل: السقاء القربة للماء واللبن. وجمعه القليل أسقية وأسقيات والكثير أساق[28].

والنهي عن الشرب من في السقاء، سواء كان هذا السقاء قربة ماء أو قربة لبن أو ما شابه ذلك، فيه من الغرابة والإشكال ما لا يخفى. خاصة إذا علمنا أن ذلك كان من عادات العرب في غالب أحوالهم، ولم يثبت استنكاره أو تقبيحه. وهذا مما يدعو إلى النظر في سبب ورود هذا النص قصد الوقوف عند وجه الحكمة الباعثة على تشريع هذا النهي.

ذكرت لهذا الحديث أسباب كثيرة، أهمها ما جاء في “أسباب ورود الحديث” للإمام السيوطي، أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” عن الزهري عن عبد الله بن أبي سعيد قال: (شرب رجل من في السقا فانساب في بطنه جان، فنهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن اختناث الأسقية)[29].

وفي “فتح الباري” أن من أسباب هذا النهي ما رواه ابن أبي ذئب من أن رجلا قام من الليل إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية[30].

يستفاد من الروايتين أن علة النهي عن الشرب من في السقاء هي عدم أمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء، فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر. وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء  وهو يشاهد الماء يدخل فيه، ثم ربطه ربطا محكما، ثم لما أراد أن يشرب فك الرباط فشرب منه، لا يتناوله النهي[31].

يستخلص من النموذجين السابقين أن لسبب النـزول والورود أهمية بليغة، ليس في فهم معنى النص فحسب، بل وفي الكشف عن أبعاد النص ومقاصده، وذلك من خلال الوقوف عند ما تحمله روايات هذه الأسباب من علل وأوصاف رعاها الشارع وأناط الأحكام المضمنة في النص الشرعي بها.

أهمية أسباب النـزول والورود في بيان المشكل والمجمل من العلل النصية

إن فائدة سبب النـزول والورود في باب التعليل لا تنحصر في بيان وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم في النصوص التي لم تعرف علل الأحكام الواردة فيها، وإنما تتجاوز ذلك إلى فائدة أخرى في نصوص شرعية، الأحكام فيها مقرونة بعلل نصية مصرح بها أو مومأ إليها، ولكن وجه التعليل فيها على درجة من الإشكال يصعب معها فهم النص، معناه والغاية منه.

ووجه هذه الفائدة تتجلى من خلال أمرين:

الأول: بيان ما أشكل من صيغ التعليل في النص الشرعي؛ ذلك أن الإطلاع على تفاصيل وملابسات نـزول أو ورود نص شرعي، كثيرا ما يزيل الإشكال الذي قد يلحق معنى النص نتيجة عدم وضوح وجه المناسبة بين صيغة التعليل والمعنى الظاهر في النص.

الثاني: بيان ما أجمل من صيغ التعليل في النص الشرعي؛ ذلك أن العلل النصية في بعض الآيات والأحاديث قد تبدو عامة في كل المكلفين والحال أنها ليست كذلك. ولأسباب النـزول والورود أهمية في إزالة الغموض الذي لحق بالحكم الشرعي بسبب إجمال وارد في صيغة التعليل.

نموذج الأمر الأول

قوله تعالى: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث  ورباع..﴾ (النساء: 3).

جاء هذا النص بصيغة “ترتيب الجزاء على الشرط”. وهو من الصيغ الدالة على التعليل إيماء عند الأصوليين. إلا أن التعليل بها في هذه الآية غير واضح؛ ذلك أن الأمر بنكاح النساء وعددهن في جواب شرط هو الخوف من عدم العدل في اليتامى، مما يشكل على قارئ النص.

وقد خفي حتى على علماء السلف، لعدم ظهور مناسبة في ملازمة الشرط للجزاء في هذا النص؛ إذ يمكن أن يسأل سائل: لماذا إذا خيف عدم القسط في أموال اليتامى يتعين نكاح ما طاب من النساء وبالعدد المذكور؟ مع العلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء والأمر بنكاح النساء ارتباطا لا محالة وإلا كان الشرط عبثا وهذا يتنـزه عنه القرآن.

والجواب ممكن بما روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب قال: (أخبرني عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ﴿وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن)[32].

يتضح من خلال سبب نـزول هذه الآية أن وجه “ترتيب الجزاء على الشرط” هو موعظة الرجال بأنهم لما لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغب فيهن لهم، فيرغبون عن نكاحهن، فكذلك لا يجعلون القرابة سببا للإجحاف بهن في مهورهن.

يؤكد ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها[33] أن الناس استفتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فنـزل قوله تعالى: ﴿ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا توتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن﴾ (النساء: 126).

فقوله تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن) رغبة أحدكم عن يتيمة حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال[34].

نموذج الأمر الثاني

قوله تعالى: ﴿لا يحسبن[35] الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اَليم﴾ (ءال عمران: 188).

ذهب أكثر العلماء إلى إدراج هذه الآية ضمن نصوص القرآن التي أشكل معناها على بعض الناس وعادوا إلى سبب النـزول فارتفع الإشكال واتضح المعنى. وأرى أن الإشكال الذي لحق بالنص، آت من خفاء في علة الحكم؛ فإناطة الحكم بالأوصاف المذكورة في الآية، هي فعلا صيغة تعليل فيها. لكن هذه الصيغة توهم بأن كل من اتصف بهذه الأوصاف كان مصيره العذاب. من هنا قال مروان بن الحكم بعد أن أشكل عليه فهم الآية الكريمة: “لئن كان كل امرئ فرح بما أتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون”[36].

ولرفع هذا الخفاء والكشف عن حقيقة إناطة الشارع الحكم بالأوصاف المذكورة، أقف عند أسباب نـزول الآية الكريمة من خلال روايتين اثنتين أخرجهما الإمام البخاري في صحيحه.

الرواية الأولى:[37] عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان إذا خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنـزلت: ﴿لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾.

الرواية الثانية:[38] عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذَّبا لنعذَّبَن أجمعون. فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس: ﴿وإذ اَخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ (ءال عمران: 187) كذلك حتى قوله: ﴿يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾.

يفهم من الروايتين معا أن معاني الأوصاف التي أنيط بها الحكم في النص الشرعي، هي معان أخطر بكثير من التي قد تبدو لقارئ النص لأول وهلة. فهي إما مواصفات تميز أهل الكتاب الذين تحدثت الآيات قبل هذه عن بعض أحوالهم المتمثلة في اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، أو هي أوصاف خاصة بالمنافقين الذين يحملون نفس أوصاف أهل الكتاب وزيادة؛ وذلك بتخلفهم عن الغزو واعتذارهم بالمعاذير فيقبل منهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويحبون مع ذلك أن يحمدوا بأن لهم نية المجاهدين.

فالخطاب إذن لكل من كانت هذه أوصافه ولكل من يصلح له الخطاب. ومروان بن الحكم، وغيره ممن يخشى دخوله في الخطاب، بعيد عن هذا الخطاب، فالوعيد ثابت في حق من اتصف بما اتصف به المنافقون واليهود في مقام نـزول هذه الآية.

أسباب النـزول والورود وترك العمل بالنصوص لارتفاع مصالحها

إن أهمية أسباب النـزول والورود في قراءة النص وفهمه وتقصيده يتجاوز كل ما سبق إلى جعل الباحث، بعد النظر في سبب نـزول أو ورود نص معين، يكتشف أن الحكم الشرعي المضمن في هذا النص، إذا ما روعيت فيه ظروف وملابسات تشريعه، ما جاء إلا ليحقق مصلحة معتبرة أو يدرأ مفسدة قائمة في ذلك الوقت وما يماثله من الأوقات دون سائر الأوقات.

ومعنى هذا أن من النصوص ما يدل ظاهر لفظه على حكم قد يبدو ثابتا ودائما ومنطبقا على جميع الحالات، لكن عند استحضار سببه بكل تفاصيله وحيثياته، نجد الحكم مبنيا على علة خاصة مفهومة من الواقع الذي سيق فيه النص. وهذا يعني أمرين:

الأول: وجوب الامتثال لهذا الحكم إذا توفرت أحداث مماثلة أو شبيهة بالأحداث، التي نـزل أو ورد لأجلها النص الشرعي الذي جاء فيه الحكم. فوجود ما يماثل أو يقارب هذه الأحداث، التي من أجلها نـزل أو ورد النص، يعني وجود نفس علة الحكم.

الثاني: إيقاف العمل بهذا الحكم عند انتفاء الحال المماثلة أو الشبيهة بالحال التي نـزل أو ورد فيها النص الشرعي الذي جاء فيه الحكم. فانتفاء الحال الذي نـزل أو ورد فيه النص، أو ما يماثل هذا الحال، يعني انتفاء علة الحكم الذي جاء في النص.

ويبدو أن هذه المسألة مرتبطة بنصوص السنة أكثر من ارتباطها بآيات القرآن الكريم؛ وذلك  لعناية الحديث النبوي الشريف بالجزئيات والتفاصيل والوقائع المتحركة، أكثر من عناية القرآن الكريم بها.

نص نموذج

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما)[39].

يدل ظاهر هذا الحديث على تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم الإقامة في بلاد غير بلاد الإسلام. وقد يبدو من لفظ الحديث أن هذا الحكم عام في كل الحالات وشامل لكل الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يخفى ما يمكن أن يلحق هذا الحكم من الضرر والحرج بالعديد من المسلمين، في أوقات ومراحل تتطلب تحقيق جملة من المصالح الضرورية التي لا يمكن تحصيلها إلا في بلاد غير بلاد الإسلام.

وبالإطلاع على تفاصيل الحادثة التي ورد هذا النص بسببها، يتضح إمكان ترك العمل به حاضرا في ظل الظروف التي نعيشها، وفي الزمن الذي له من الخصوصيات ما لزمننا، ومن المميزات ما للمرحلة التاريخية التي نحياها.

فقد روي عن جرير بن عبد الله أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: (أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين). قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: (لا تتراءى نارهما)[40].

يفهم من هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما حرم على المسلمين الإقامة في بلاد غير بلاد الإسلام، لأن المشركين كانوا في حالة حرب لله والرسول بدليل قول الراوي: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم …”.

ويفهم من هذه الملابسات أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تبرأ ممن يقيم في بلاد المشركين لأمرين:

أولهما: إنهم عرضوا أنفسهم للقتل لإقامتهم بين من يحارب الله والرسول.

ثانيهما: إن إقامتهم في بلاد يحارب أهلها الإسلام، فيه تقصير في واجب النصرة لله. خاصة في الزمن الذي وجبت فيه الهجرة والنصرة لله جل وعلا وللرسول صلى الله عليه وسلم. والله تعالى يقول: ﴿والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير(الأنفال: 73).

ولاشك أن الأمرين معا ومعهما الظروف التي ورد فيها النص طرأ عليها كثير من التغيير، مفهوما ودلالة وبعدا. فتغيرت مع ذلك كله العلة والمصلحة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف إلى تحقيقها عند إيراده هذا النص وتشريعه هذا الحكم.

فالمؤكد الآن، أن العديد من البلدان غير الإسلامية تيسر للكثير من المسلمين تحصيل مصالح يصعب عليهم تحقيقها في بلدانهم؛ كالعمل والتعلم والتطبيب، وحرية التعبير والتجمع وغير ذلك. بل تمثل كثير من هذه البلدان الأرض الخصبة لنشر دعوة الإسلام، لدرجة يمكن معها اعتبار الهجرة إلى بلاد غير بلاد المسلمين ضمن المفهوم الواسع للهجرة إلى الله والرسول.

وبذلك يمكن القول: إنه ينبغي إيقاف العمل بالحكم الذي جاء به نص الحديث لانتفاء العلة أو ما يماثل العلة التي جاءت في سبب وروده وتشريعه. فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

نستنتج من خلال ما سبق

1. إن سبب النـزول أو الورود له أهمية كبيرة في فهم النص والكشف عن الحكم والمصالح المضمنة فيه. فمن هذه الأسباب ما جاء علة مباشرة للحكم ومنها ما جاءت روايته متضمنة لعلة حكم شرعي قد يصعب تحديدها في غياب رواية السبب.

2. إن سبب النـزول والورود معيار مهم وميزان دقيق في إزالة الإشكال، وبيان الإجمال الذي قد يلحق ببعض العلل النصية. فالتنصيص على العلة قد لا يكفي في فهم المراد من النص والمقصود من الحكم.

3. معرفة ما يمكن استثماره من التعليلات وما يمكن تركه إلى حين. فالإطلاع على تفاصيل الحادثة التي من أجلها نـزل أو ورد النص، والعناصر المرتبطة بها، من شأنها، إذا ما صحت روايتها، أن تعطينا صورة حقيقية لوجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومناسبة هذه الحكمة للحكم المشرع لتلك الظروف، ومن ثم مدى مناسبتها أو عدم مناسبتها للحالات المماثلة أو المختلفة.

الهوامش 


1. وهو بعنوان: “أسباب نـزول القرآن”.

2. “لباب النقول في أسباب النـزول”.

3. وهو بعنوان: “أسباب ورود الحديث”  أو “اللمع في أسباب الحديث”.

4. “أسباب ورود الحديث”.

5. أنظر: 1/22.

6. أنظر: 1/29.

7. أسباب نـزول القرآن ص: 10.

8. مقدمة المحقق  ص: 6.

9. يقول السيوطي: “والذي يتحرر في سبب النـزول أنه ما نـزلت الآية أيام وقوعه”. اللباب ص: 14.

10. ابن منظور مادة علل: 11/471. وانظر الصحاح للجوهري: 5/1773.

11. المستصفى:  2/289

12. أنظر مثلا السيوطي في “الإتقان” 1/32 وفي “اللباب” ص: 14.

13. تفسير التحرير والتنوير المقدمة الخامسة في “أسباب النـزول” 1/46.

14. راجع ص75.

15. ختم به الله تعالى آيات كثيرة منها:( يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اَلذين من قبلكم لعلكم تتقون) سورة البقرة/الآية: 183).

16. أحكام القرآن: 3/610-612.

17. جاءت هذه الرواية في صحيح البخاري بلفظ: “قال عمر رضي الله عنه: قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنـزل الله آية الحجاب”. صحيح البخاري  مع فتح الباري 9/483، كتاب التفسير باب قوله: (لا تدخلوا بيوت النبيء إلا أن يوذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه….)، الحديث رقم: 4790.

18. البخاري مع فتح الباري، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، الحديث رقم: 5521-11/86.

19. أنظر القبس لابن العربي: 2/626.

20. أنظر: 2/291-292.

21. روى البخاري هذا النص في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: ( …أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر ثم جاءه جائيا فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديا فنادى في الناس: إن الله و رسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس. فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم ). البخاري مع الفتح 11/87، كتاب الذبائح و الصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، الحديث رقم: 5528.

22. أنظر: 2/627.

23. أنظر البخاري مع الفتح: 11/87، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، الحديث: 5528.

24. البرهان في علوم القرآن: 1/22. وانظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/29.

25. أنظر تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور: 1/650-651…

26. أنظر هاتين الروايتين وغيرهما في الكشاف للزمخشري 1/302 والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: 1/338-339. وأحكام القرآن لابن العربي: 1/49… وانظر أيضا تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور: 1/650-651.

27. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة، باب الشرب من فم السقاء، الحديث رقم: 5629. وانظره بهذه الرواية وروايات أخرى في فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: 11/223.

28. لسان العرب: 14/392 مادة (سقي).

29.  أنظر ص: 212.

30. ابن حجر العسقلاني: 11/234.

31. أنظر المصدر السابق.

32. صحيح البخاري مع فتح الباري: 9/109، كتاب التفسير، باب (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)، الحديث رقم: 4574.

33. المصدر السابق.

34. أنظر: فتح الباري لابن حجر: 9/109، تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور: 4/222-223.

35. وردت الآية بقراءتين: “لا يحسبن” و”لا تحسبن”. أنظر: إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/161-162.

36. صحيح البخاري مع فتح الباري: 9/102، كتاب التفسير، باب (ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)، الحديث رقم: 4568.

37. المصدر السابق، الحديث رقم: 4567.

38. المصدر السابق الحديث رقم: 4568.

39. أخرجه أبو داود في الجهاد، باب ” النهي عن قتل من اعتصم بالسجود”، الحديث رقم: 2645. والترمذي في السير، باب “ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين”. وأنظر شرح السنة للإمام البغوي باب “تحريم قتل المرتد إذا أسلم على أي دين كان” 10/244.

40. أنظر المصادر السابقة.

Science

دة. أمينة سعدي

كلية الآداب/مراكش 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق