مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

الرضا ترك الاختيار

دة.ربيعة سحنون

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

     هو من أسمى المقامات وأرفع المراتب القلبية، إذا تحقق به المؤمن استطاع أن يتلقى نوائب الدهر وأنواع المصائب بإيمان راسخ، ونفس مطمئنة، وقلب ساكن، بل قد يشعر بالسرور والفرح بمُرِّ القضاء، علما منه أن ربّه وحبيبه هو الذي ابتلاه، لأن “الله سبحانه مالك الملك، يتصرف فيه بمقتضى حكمته ومشيئته، وكل تصرف منه إنما يجري وفق مشيئته التي وضعها في الكون وقوانينه المضطردة في الوجود…، وهو سبحانه لا يجب عليه شيء، ولا يتصرف من أجل أحد: ﴿قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب﴾[1].”[2].

     وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراضي بقضاء الله تعالى هو أغنى الناس، لأنه أعظمهم سرورا واطمئنانا، وأبعدهم عن الهم والحزن والسخط والضجر، إذ ليس الغنى بكثرة المال، إنما هو بغنى القلب بالإيمان والرضا، قال عليه السلام: (اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسّم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)[3].

     والرضا سبب عظيم من أسباب سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، كما أن السخط والضجر سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، قال رسول الخلق عليه السلام: (من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له)[4].

     ولنا في سيرة الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وسيرة خلفائه وصحابته الكرام، والتابعين، والصالحين والعارفين بالله تعالى، رضوان الله عليهم أجمعين، الأسوة الحسنة، من خلال عدد من الحوادث التي تدل على تحققهم بأعلى درجات الرضا.

     فقد ضُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف بالحجارة حتى أُدمي عقِبه، فتوجه إلى الله تعالى مخاطبا، فقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[5].

     وكان الصحابة رضوان الله عليهم يُعذّبون في مكة، ويتلقّون ذلك كله بقلوب راضية، ووجوه مبتسمة، وألسنة ذاكرة لاهجة بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، من غير تدخُّل في حكمته جل وعلا، أو مناقشة لمشيئته في خلقه، وفي عطائه وقضائه وقدره.

     سئل الجنيد عن الرضا، فقال: “الرضا رفع الاختيار”[6]. وقال ابن عجيبة: “الرضا تلقي المهالك بوجه ضاحك، أو سرور يجده القلب عند حلول القضاء. أو ترك الاختيار على الله فيما دبّر وأمضى، أو شرح الصدر ورفع الإنكار لما يرد من الواحد القهار”[7].

     وقال ابن عطاء الله السكندري: “الرضا نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط”[8].

     وكيف للخلق الاختيار، والله سبحانه وتعالى هو “الفاعل المختار: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون﴾[9]، لأنه المتصرف المطلق، وما كان لأحد الاختيار معه…، فهو سبحانه يتصرف في ملكه كيفما شاء بمقتضى الحكمة والرحمة”[10].

     ورضا المؤمن الصادق في إيمانه بقضاء الله وقدره وتصريفه وحكمه، يكون جزاؤه رضا الحق سبحانه وتعالى، وعندها يكون الرضا متبادلا، كما أشار إلى ذلك الحق تبارك وتعالى بقوله: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾[11].

     “ورضاء الله تعالى عن العبد هو أسمى منزلة وأرفع رتبة وأعظم منحة، قال تعالى: ﴿ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم﴾[12]. فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة، بل هو غاية مطلب سكان الجنة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، يقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا).[13][14].

     فمن رضي بقضاء الله وقدره، وصبر على تحمل البلاء، ولم يعترض على شيء من حُكْم الله عز وجل فيه، بتسليم مُطْلَق له جل وعلا، فإنه ينال رضوان الله تعالى، ولن يصله سخطه أبدا، وتنزل عليه السكينة، ويملأ قلبه بالشكر الذي هو أعلى مقامات الإيمان، ويعمر صدره بالغنى والأمن والقناعة.

وهذا حال الصديقين والعارفين بالله عز وجل، رضوا عن الله عز وجل فرضي عنهم، وعبّروا عن ذلك بعبارات تنوعت واختلفت حسب المقامات والأحوال:

     * عن الحارث المحاسبي، قال: “لم يزل العارفون يحفرون خنادق الرضا، ويغوصون في أنهار الرجا، ويستخرجون جواهر الصفا، حتى وصلوا إلى الله عز وجل في السر والخفا”[15].

* وقال الإمام الجنيد: “الرضا رؤية البلاء نعمة”[16].

* وقال أبو سليمان الداراني: “الرضا عن الله عز وجل، والشفقة على الخلق، من أخلاق المرسلين”[17].

* وقال أيضا: “إن لله عبادا استحيوا منه أن يعاملوه بالصبر، فعاملوه بالرضا”[18].

* وقال سهل بن عبد الله: “المؤمنون في الكافرين قليل، والصالحون في المؤمنين قليل، والصادقون في الصالحين قليل، والراضون في الصابرين قليل، والعارفون في الراضين قليل”[19].

الهوامش:

[1] سورة آل عمران، الآية 26-27.

[2] العقائد الإسلامية، السيد سابق، ص: 93 .

[3] سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي(209-279هـ)، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1426هـ/2005م، كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، رقم 2305.

[4] المصدر السابق، كتاب القدر، باب ما جاء في الرضا بالقضاء، رقم 2151.

[5] السيرة النبوية المعروفة بسيرة ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت 218هـ)، تحقيق وتخريج وفهرسة: جمال ثابت، محمد محمود، سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، د.ط،1427هـ/2006م، 1/304.

[6] تاج العارفين الجنيد البغدادي، سعاد الحكيم، ص: 124.

[7] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، عبد الله أحمد بن عجيبة (ت1224هـ)، تقديم وتحقيق: عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، ط1، 1425هـ/2004م، ص:31 .

[8] الرسالة القشيرية، القشيري، ص: 196.

[9] سورة القصص، الآية 68.

[10] العقائد الإسلامية، السيد سابق، ص: 94.

[11] سورة البينة، الآية 8.

[12] سورة التوبة، الآية 73.

[13] صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة ، رقم 7518.

[14] حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى،  ص: 241.

[15] تهذيب الأسرار في أصول التصوف مع ملحق بألفاظ الصوفية المتداولة في الكتاب والسنة، أبو سعد عبد الملك بن محمد بن إبراهيم بن يعقوب النيسابوري الخركوشي(ت 407هـ)، اعتنى به ووضع حواشيه: إمام سيد محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1427هـ/ 2006م، ص: 109.

[16] تهذيب الأسرار، ص: 109.

[17] المصدر السابق، ص: 108.

[18] نفسه، ص: 109.

[19] نفسه، ص: 110.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق