القارئ الحافظ الطاهر العشراوي في ذمة الله
ببالغ الأسى، تنعي الرابطة المحمدية للعلماء إلى أهل القرآن في بلادنا وفي كل مكان، فقدان الميدان القرائي لأحد أكابر الحفاظ المتضلعين في القراءات وعلومها، وأحد أماثِل فحول القراء الراسخين في هذا العلم، والمتحققين به رسما وضبطا وتلاوة وأداء، ممن أفنوا زهرة أعمارهم في خدمة كتاب الله، وتميزوا بالمهارة فيه، والتفرغ له، حتى خالط منهم الشِغاف، وزهدوا في سبيله في لذات العيش ومُتَع الحياة فلم ينالوا منها شَرْوَى نقير.
ذلكم هو القارئ اللبيب المقرئ الواعية الحافظ السيد الطاهر بن الحاج مبارك العبدي الشهير بالعشراوي نسبة إلى حفظ القراءات العشر وتنويها بما له من المنزلة فيها، ولقبه العائلي الحريري، شريف النسب والبيت في بلده.
ولد عام 1944م غربي مدينة آسفي، ونشأ يتيما، فحفظ القرآن برواية ورش على عمه وهو دون البلوغ، وشارط عدة سنوات في التعليم، ثم حملته همته العالية على المنافسة في طلب القراءات، فقرأ بالسبع على شيخه السيد امحمد العبادي بمسجده بزاوية سيدي واصل بآسفي، ثم شد الرحال إلى مدرسة سيدي الزوين بالحوز المراكشي، فقرأ بالقراءات العشر الكبرى على شيخ القراءات بها السيد علاّل القاسمي العشراوي، ثم أتبعها بالعشر الصغرى في الطرق العشر عن نافع، وعرض أيضا على الشيخ الحاج عابد السوسي شيخ مدرسة سيدي الزوين أيضا. وتصدر بعد هذا للإقراء في مدرسة العكارطة بشمال آسفي، ثم أقرأ بمدرسة سيدي الزوين أزيد من عشر سنوات، وبمدرسة ابن البهلول بالسراغنة، ومدرسة المعاشات بنواحي الصويرة، وبمدرسة أبو الذهب بآسفي، فقرأ عليه بالسبع وغيرها جماعة منهم السيد عبد الكريم ابن عمه، والسيد احمد الكسيمي، والسيد أحمد جُمَيْل، وقرأ عليه بالعَشَرَيْن السيد عبد الله العايش بمدرسة المعاشات، والسيد الحسن غرور بمدينة الشماعية، وسواهم كثير.
وكان رحمه الله آية في الحفظ والقدرة على الاستحضار للرموز والنصوص، وُلِّي خطبة الجمعة زمانا بمدرسة سيدي الزوين، فكان يحفظ خطبه عن ظهر قلب، كما كان مولعا بجمع المخطوطات في القراءات، كثير التجوال في مساجد سوس والجنوب المغربي، وكان يتحرّى لقاء طلبة القراءات، ويحرص على حضور مجامعهم في المواسم في دكالة وعبدة والرحامنة وسوس، ويُستدعى لذلك في المناسبات، ويحافظ على قراءة الحزب الراتب بقراءة حمزة بالجمع والإرداف صباحا ومساء، ويكتب كل ما سمعه وسرعان ما يحفظه.
أصيب رحمه الله ببُحّة في صوته أعجزته عن القراءة مع القراء، ثم ألحّ عليه الداء في الأشهر الأخيرة إلى أن لبّى داعي ربّه عز وجل بإثر عملية جراحية بمدينة الدار البيضاء، ودفن بمقبرة الغفران عشية يوم الاثنين 25 ماي 2009م، تغمّد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهمنا وذويه ومحبيه وتلامذته جميل الصبر، وعوّضنا منه جزيل المثوبة والأجر.
وإننا في الرابطة المحمدية للعلماء، إذ نعزّي في فقد هذا العالم الفذّ، والقارئ الفرد أهل القرآن في بلادنا وفي كل مكان، لا نملك بعد التعبير عن حزننا لهذا المصاب الجلَل، إلا أن نتأسى بنبي الرحمة عليه صلوات الله وسلامه، فنقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزَن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا عشراوي لمحزونون.
(وإنا لله وإنا إليه راجعون)