مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

“الحقد” آفة من آفات القلوب المهلكة… أسبابه وآثاره وطرق التخلص منه

يعتبر الحقد من الآفات القلبية المدمومة والمهلكة، التي تحجب القلوب عن معرفة الله، وعن مواصلة السير إلى حضرته، وهو آفة يحملها الإنسان ويستبطنها في قلبه، لا يقتصر ضررها على الشخص الحاقد فحسب، بل تتعداه لتؤذي المجتمع أيضاً، فتورث العداوة والبغضاء بين أفراده، وسوء الضن بهم، ومعاشرتهم بالنفاق واستصغارهم، وعدم محبتهم محبة أخ لأخ في الاسلام، والتكلم عنهم في غيبتهم وفضح أسرارهم وعيوبهم وقطع الأرحام عنهم وهجرانهم. وقد ذكر الامام أبو حامد الغزالي أن كل هذه الأفعال تنقص درجة السالك لطريق أهل التصوف في دينه، وفي طريقه إلى حضرة الله بقوله: (فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل، وإن كان لا يعرضك لعقاب الله)[1]. ويستدل الامام الغزالي[2] بقصة حلف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح -وكان قريبه- لكونه تكلم في واقعة الإفك ونزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ) إلى قوله: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، فقال أبو بكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه)[3] .

   فلا غرو أنّ مصدر الأمراض الباطنية التي تسيطر على قلوب عامة الناس، وتجعلها تضعف أحياناً وتستسلم لمزالقها، هو البعد عن الله، والغفلة عن ذكره وعبادته، وخاصة آفة الحقد التي هي سبب للتعرض لغضب الله وسخطه، كما أن نورانية قلبه تضعف وتضمحل، ولا يبقى لها أثر، بفعل سيطرت شهوات الدنيا، وملذاتها الفانية، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت فذلك قول الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين، الآية: 14] [4].

  ولا مناص أن هذه الآفة مرتبطة بالصفات الغريزية الداخلية للإنسان، وإن أضمرت في القلب فهي تظهر على جوارح الانسان، قال عثمان رضي الله عنه: (ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه)[5]، فالتربية الصوفية هي الدواء التي تربي الانسان على قيم المحبة والتأخي في القلوب بفعل الذكر الكثير والصحبة الصالحة التي تعمل على منهج التخلي التدريجي عن كل الصفاة المحمومة وتعويضها بالصفات الأخلاقية المحمودة، وكل هذه الصفات لامحالة تعزز قوة المجتمع، وتشد من تماسكه وتعاطفه، وقد مدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين الصادقين الذين صفت قلوبهم وتطهرت من الحقد فلا تحمل غلاً لأحد، ولا عداوة ولا كراهية، بقوله جلت قدرته: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة الحشر، الآيات: 8- 11].

   ونسوق في هذا المضمار حديث أبي دجانة الذي صفت سريرته وتطهر قلبه وتلألأ وجهه نورا وحبة فعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أنه قال: (دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا)[6].

   أما الصفات السلبية الظلمانية، كلّها تؤدي إلى تفشي الكراهية والحقد والحسد في أوساط المجتمع مما يؤدي إلى فساده وشتاته، قال جلت قدرته: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [سورة البقرة، الآية: 204-205].

مفهوم الحقد وحقيقته

الحقد لغةً: قال ابن منظور: (الحقد إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها) [7].

واصطلاحاً كما عرفه الشريف الجرجاني بقوله: (هو طلب الانتقام، وتحقيقه: أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطل واحتقن فيه فصار حقداً. والحقد: سوء الظن في القلب على الخلائق لأجل العداوة) [8].

وقال الامام الغزالي: (ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، وأن يدوم ذلك ويبقى)[9].

أدلة تحريمه من الكتاب والسنة

 أولا: ذم الحقد في القرآن الكريم:

لم يرد لفظ الحـقد في كتـاب الله تعالى، وإنما ورد بمعنى الغل، ومن ذلك قوله تعالى جلت قدرته: (وَالَّذِينَ جَآؤوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَـانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ربنا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [سورة الحشر: الآية 10].  قال الزمخشري: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ) عطف أيضاً على المهاجرين: وهم الذين هاجروا من بعد. وقيل: التابعون بإحسان. "غِلاًّ" وقرئ: "غمراً" وهما الحقد) [10]. وقال عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [سورة الحجر، الآية: 47-48]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعداوة، كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم، وفضله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة)[11]. وقال الإمام القرطبي: (ذكر الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة؛ نزع الغل من صدورهم، والنزع: الاستخراج والغل: الحقد الكامن في الصدر. والجمع غلال)[12]. وقال جلت قدرته: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة: 204-205]. وقال سبحانه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاَنْهَارُ) [سورة الأعراف، الآية:  43]. وقال جلت قدرته: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [سورة النساء، الآية: 32].

أولا: ذم الحقد في السنة النبوية:

   تناولت الكثير من النصوص الشرعية ذم آفة الحقد وأهمية التخلص منه قصد نيل مرضاة الله، وتحقيق الألفة والمحبة بين الناس، ومن هذه النصوص أذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

   قال البخاري رحمه الله تعالى: (الشحناء هي العداوة إذ امتلأت منها النفس والبغض والحقد)[13]، قال رسول الله ﷺ: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا)[14].

   قال ابن رجب رحمه الله في شرح لفظة: (لا تباغضوا نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون). [15].

  وقال النبي ﷺ: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)[16].

  وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ)[17].

أسباب الحقد وآثاره

أسباب الحقد:

  لآفة الحقد أسباب ودوافع غريزية تسكن في قلب الانسان، وينتج عنها مجموعة من التصرفات العدائية تجاه الأخرين، ومن هذه الأسباب ما ذكره علماء التربية الصوفية، ومنهم ابن حجر الهيثمي الذي جعل سبب الحقد هو الغضب بقوله: (الحقد من نتائج الغضب)[18].

    أما الإمام الغزالي فقد ذكر مجموعة من الأسباب الباعثة على ظهور أفة الحقد لدى الإنسان، التشفي والانتقام والمخالفة في الرأي وفي القول والعمل لذلك قال رحمه الله: (إن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرضه بوجه من الوجوه، أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في قلبه الحقد عليه، والحقد يقتضي التشفي والانتقام، وقد يحدث الحقد بسبب خبث النفس وشحها بالخير لِعِبادِ الله)[19].

   ويؤكد الإمام أبو حامد الغزالي بأن (أشدُّ الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة، فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التقاطع يقع أولًا بالآراء، ثم بالأقوال ثم بالأبدان)[20]. والمماراة، هي الجدال والمناقشة المفضية للتعصب والحقد.

    وتعتبر كثرة المزاح من أسباب الحقد قال الأبشيهي: (المزاح يخرق الهيبة، ويذهب بماء الوجه، ويعقب الحقد، ويذهب بحلاوة الإيمان والود )[21].

  كما أنّ الخصومة والشجار والترترة والتهكم والاستهزاء كلها تصرفات تولد آفة الحق في القلوب وهذا ما ذهب إليه الامام النووي عند قوله: (والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه) [22].

   ومن أسباب الحقد كذلك يذكر العلماء الكراهية الشديدة التي تؤدي إلى المراء والجدال قال المناوي: (الحقد من البلايا التي ابتلى بها المتناظرون، قال الغزالي: (لا يكاد المناظر ينفك عنه، إذ لا تكاد ترى مناظرا يقدر على ألا يضمر حقدا على من يحرك رأسه عند كلام خصمه، ويتوقف في كلامه، فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضمر الحقد، ويرتبه في النفس) [23].

   ويعد الحرمان كذلك من أسباب الحقد، فالله سبحانه وتعالى قد يعطي بعض الناس متاع الدنيا وخيرتها، ويحرم بعضا من عباده من هذا المتاع الدنيوي الفاني والانسان لا ينبغي أن يقف أمام هذا الأمر والاختيار الالهي دون أن يفهم بأن الله جلت قدرته يوزع نعمه حسب علمه وحسب مصلحة كل عبد من عباده، قال جلت قدرته: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الاَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [سورة الشورى، الآية: 27]، أي: ولكن يرزقهم من الرزق مما يختاره لهم، ويعرف مصلحتهم، مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي وورد في الحديث: القدسي: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه)[24].

آثار الحقد:

   يترك الحقد آثاراً سيئةً في نفسية الحاقد الذي يستبطن في باطنه العداوة والكراهية لأفراد المجتمع بسبب سواد قلبه فهو يحمل هذه الأفة المهلكة طوال حياته، ويكره النعمة التي أنعم الله بها غيره، وتشده الغيرة والحسد مما رزقه الله الناس وبالتالي يتمنى زوال وذهاب تلك النعمة عنه، وفي هذا الإطار يقول الامام الغزالي: (الحقد يثمر الحسد وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به.

الشماتة بما أصابه من البلاء؛

الهجران والمقاطعة؛

الإعراض عنه استصغارا له؛

التكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره؛

محاكاته استهزاء به وسخرية منه؛

إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه؛

منعه من حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة؛

الحقد من مظاهر دنو الهمة فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء؛

الحقد ينبت سوء الظن، وتتبع العورات، والهمز واللمز، والغيبة والنميمة؛

ومن مضار الحقد أيضاً أنه يقتضي التشفي والانتقام؛

جحد الحق وعدم اتباعه.[25].

في بيان الدواء الذي يطهر القلب منه

    وضع علماء التربية الصوفية مجموعة من الوصفات الربانية التي تطهر القلوب من آفة الحقد المستعصية التي تزعزع القيم الاخلاقية وتزرع الكراهية والتفرقة بين أفراد المجتمع، ووضعوا على رأس هذه الوصفات، ذكر الله سبحانه وتعالى، خاصة الذكر المؤدون المأخوذ عن شيخ التربية الواصل الموصل إلى حضرة الله. قال ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: (وينبغي لمن عزم على الاسترشاد، وسلوك طريق الرشاد، أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق، سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه فإذا وجده فليمتثل ما أمر، ولينْتهِ عما نهى عنه وزجر)[26].

وقال أيضاً: (ليس شيخك مَنْ سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك الذي سَرَتْ فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك الذي رَفَع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله (...) شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى، ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك، حتى تَجَلَّتْ فيها أنوار ربك، أنهضك إلى الله فنهضتَ إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، وما زال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه، فزجَّ بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك)[27].

 ويقول الغزالي: (إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخْفَ عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فعليه: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلعٍ على خفايا الآفات، ويحكّمه في نفسه، ويتبع إشاراته في مجاهداته، وهذا شأن المريد مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه، فيعرّفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه، ويعرّفه طريق علاجها... الخ) [28].

   وقيل كذلك صحبة الشيخ المربي ترقي وتربي، أي ترقي المريد في مدارج السلوك العرفاني بعد أن تطهر من كل الأمراض القلبية، وبالتالي كان لازما على المرء صحبة الصالحين الطاهرين لكي يتحقق بصفاتهم وأخلاقهم التي استمدوها من الحضرة الربانية.

   وذكر علماء التربية الصوفية أنّه بعد خوض غمار التجربة الصوفية سيتحقق المريد باليقين التام بأن الله سبحانه وتعالى وإن لم يرزقه بالرزق الوفير كما رزق أقرانه أو جيرانه أو أصحابه، فإن في ذلك حكمة منه جلت قدرته لا يعلمها إلا هو، وبالتالي يحصل له الرضا والتسليم لقدرة الله ومشيئته.

   وبفضل المجاهدة القلبية سيتحقق المريد بقيم المحبة ويمتثل لقوله صلى الله عليه وسلم: في الحديث الذي رواه اب وهريرة رضي الله عنه: (تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدَيَّةَ تُذْهِبُ وَحْرَ الصَّدْرِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَإِنْ كَانَ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ) [29].

وسيتحقق المريد كذلك بقيم المساواة في المعاملة سواء مع إخوانه أو أولاده فهو لا يفضل بعضهم على بعض بل يعطي لكل دي حق حقه وهو الطريق نحو اقتلاع جذور الحقد والانحياز لطرف على حساب الطرف الأخر.

وفضلا عن ذلك سيتحقق المريد من مقام العبودية وترك الغرور والمباهاة والتكبر فكل هذه الأمراض هي سبب في آفة الحقد وسيرانها في قلب المريد.

التعامل مع الأصدقاء وخاصة الجار ففي مسند الإمام أحمد مرفوعا: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وأما حد الجوار، فأربعون داراً) [30].

فالتحقق من مقامات الصادقين يورث المحبة والتعاون والتسامح مع الجار ورعاية حقوقه وعدن الاعتداء عليه بأي شكل من الأشكال.

  والتربية الصوفية هي الدواء الشافي ضد كل الأمراض القلبية التي تنتج جملة من الثمرات الطاهرة كسلامة الصدر التي تعد نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها سالمين طاهرين وقد قال في حقهم الله جل تقدرته: (وَنَزَعنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّن غِلٍّ إِخوَاناً عَلَى سُرُرٍ مٌّتَقَابِلِينَ) [سورة الحجر، الآية: 47]، وسلامة الصدر هي التي عبر عنها الحديث الدي رواه  الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه حينما قال: (كنا جلوساً مع الرسول النبي  صلى الله عليه وسلم، فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم  مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت فقال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاَ غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله  عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن أوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق)[31].

الله نسأل أن يصلح أحوالنا، وأن يطهر قلوبنا.

 

----------------------------------------

  1. إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505هـ)، الناشر: دار المعرفة – بيروت، ربع المهلكات، كتاب ذم الغضب والحقد والحسد، ج: 3، ص: 181.
  2. إحياء علوم الدين، ربع المهلكات، كتاب ذم الغضب والحقد والحسد، ج: 3، ص: 181.
  3. 3. مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد – وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م، ج: 40، ص: 372، رقم الحديث: 24317.
  4. الآداب للبيهقي، المؤلف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (ت 458هـ)، اعتنى به وعلق عليه: أبو عبد الله السعيد المندوه، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988م. باب من اجترأ على ارتكاب الذنوب ثم لم يختمها بالتوبة، ص: 337 رقم الحديث: 837.
  5. الإيمان الأوسط، لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، دراسة وتحقيق: الدكتور علي بن بخيت الزهراني، أصل التحقيق: أطروحة دكتوراه - قسم الدراسات العليا الشرعية فرع العقيدة بجامعة أم القرى، الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1423هـ، ص: 575.
  6. الطبقات الكبرى، لابن سعد، المحقق: الدكتور علي محمد عمر، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1412 هـ - 2001م، ج: 3، ص: 516 رقم الحديث: 274.
  7. لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي، الحواشي: لليازجي وجماعة من اللغويين، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ. د فصل الحاء المهملة، ج: 3، ص: 154.
  8. التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (ت 816هـ)، حققه ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م. المجلد الأول، باب: الحاء، ص: 91.
  9. إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ربع المهلكات كتاب ذم الغضب والحقد والحسد، ج: 3، ص: 181.
  10. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لمحمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، ضبطه وصححه ورتّبه: مصطفى حسين أحمد، الناشر: دار الريان للتراث بالقاهرة - دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة: الثالثة 1407 هـ - 1987م. سورة الحشر (59)، الآيات [11 إلى 12] ج: 4، ص: 506.
  11. تفسير الطبري- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع: مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر - د عبد السند حسن يمامة، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان - القاهرة، مصر، الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001م، تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف ذكر من قال ذلك، ج: 10، ص: 198.
  12. الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964م، تفسير سورة الأعراف [سورة الأعراف (7): آية 43]، ج: 7، ص: 208.
  13. الأدب المفرد، لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: المطبعة السلفية ومكتبتها – القاهرة، الطبعة: الثانية 1379 هـ باب الشحناء، ص: 147.
  14. الأدب المفرد، للبخاري، باب الشحناء، ص: 147، رقم الحديث: 408.
  15. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب (736 - 795 هـ)، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1429 هـ -2008 م. الحديث الخامس والثلاثون، ص: 716. رقم: 35.
  16. الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي (ت 235 هـ) تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، الناشر: (دار التاج - لبنان)، الطبعة: الأولى، 1409 هـ - 1898م، كتاب الأدب، ما قالوا في إفشاء السلام، ج: 5، ص: 248، رقم الحديث: 25742.
  17. سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، طبع في القاهرة 1952م، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، ج: 2 ،ص: 409، رقم الحديث: 4216.
  18. الزواجر عن اقتراف الكبائر، لأحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس (ت 974هـ) الناشر: دار الفكر، الطبعة: الأولى، 1407هـ - 1987م، الباب الأول في الكبائر الباطنة وما يتبعها الكبيرة الثالثة الغضب بالباطل، ج: 1، ص:83.
  19. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، ربع المهلكات، كتاب ذم الغضب والحقد والحسد، ج: 3، ص: 192.
  20. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، ربع العادات كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق، ج: 2، ص: 179.
  21. المستطرف في كل فنّ مستظرف، لشهاب الدين، محمد بن أحمد بن أبي الفتح الأبشيهي، تحقيق: سعيد محمد اللحام، الناشر: عالم الكتب – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419 هـ، الباب الحادي والعشرون في بيان الشروط التي تؤخذ على العمال وسيرة السلطان في استجباء الخراج وأحكام أهل الذمة الفصل الثاني في أحكام أهل الذمة، ص: 133.
  22. الأذكار النووية أو «حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبة في الليل والنهار، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 672 هـ) تحقيق: محيي الدين مستو (ت 1442 هـ) الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الثانية،1410 هـ - 1990م. كتاب حفظ اللسان، باب في ألفاظ يكره استعمالها، ص: 572. رقم الحديث: 967.
  23. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشروط إباحتها، بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق، ج: 1، ص: 46.
  24. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: حكمت بن بشير بن ياسين، اختصر عمل الشيخ أبي إسحاق الحويني، الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع – السعودية، الطبعة: الأولى، 1431هـ، سورة الشورى وهي مكية، ج: 6، ص: 553.
  25. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، ربع المهلكات كتاب ذم الغضب والحقد والحسد، ج: 3، ص: 181.
  26. مفتاح الفلاح، لابن عطاء الله السكندري، الطبعة الأولى بدون تاريخ، مطبعة السعادة مصر، على نفقة الشيخ مصطفى سيد أحمد تاج وولده إبراهيم تاج الكتبي بطنطا، ص: 30.
  27. عدة المريد الصادق، للشيخ زروق، تحقيق: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني، الناشر: دار ابن حزم، الطبعة: الأولى، 1427هـ-2006م، فصل في العلامة التي يستدل بها المريد على حاله من الشيخ الذي قصده، أو فتح له به أنه ينتفع به. ص: 157.
  28. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، ربع المهلكات كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب، ج: 3، ص: 64.
  29. مكارم الأخلاق، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: مجدي السيد إبراهيم، الناشر: مكتبة القرآن - القاهرة دار أطلس الخضراء – الرياض، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012م، باب ما جاء في المكافأة بالصنائع، ص: 109، رقم الحديث: 359.
  30. صحيح البخاري، النسخة السلطانية، مع رفع الالتباس عن رموزها، الناشر: دار التأصيل – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1433 هـ - 2012م، كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، ج: 8، ص: 29. رقم الحديث: 6019.
  31. مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ج: 20، ص: 124. رقم الحديث: 12697.
Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق