مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات وأبحاث

الحرف القرائي بين مقتضيات الرواية ودواعي الاختيار

شريعة أكابر القراء والمجودين على أن الأصل في القراءة: السماع والأخذ من أفواه المشايخ المتقدمين، وأنه لا ملجأ من الرواية والمعارضة في التحمل والتلقي إلا إليهما، فهما العروة الوثقى والوزَر الأحمى؛ ولأن المعول عليه في هذا الباب؛ حفظ الصدر والسطر جميعا، لا اقتصارا على أحدهما.

فلم يزل الأمر كذلك – على تعاقب الحُقُب وتناسخ الأجيال – إطارا مرجعيا وضابطا منهجيا وقائيا، مقصده الأسمى وغايته المُغياة: صون الحرف القرآني من التحريف والانتحال والتأويل.

في هدْي هذه المعطيات وغيرها ننظر: مدى إمكان المفاضلة بين الروايات وأوجه الأداء في الحرف القرآني.

فقد تقرر – عند أئمة هذا الفن المعتبرين- لزوم سَنن الرواية والسماع في التحمل والتلقي، مع الضرب صفحا  والطي كشحا عن القياس والقسمة العقلية، كما قال الحافظ أبو عمرو الداني (ت 444 ه‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ـ) في الأرجوزة المنبِّهة 1/24:

فَلاَ طَرِيقَ لِلْقِيَاسِ والنَّظَرْ       

 

  فِيمَا أَتَى بِهِ أَدَاءٌ وَأَثَر

 

وكما أُثر  عن العلامة أبي الحسن السخاوي (ت 643ه‍)  قوله: “والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار، القدوة في جميع الأمصار، من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية؛ توقير القرآن واجتناب الشاذ، واتباع القراءة المشهورة، ولزوم الطرق المعروفة” [جمال القراء: 1/234].

أولا: من دواعي اقتصار ابن مجاهد (ت 324 ه‍)‍‍ على سبعة من القراء.

1-    سئل الإمام مكي بن أبي طالب القيسي ( ت 437‍‍‍‍ ه‍) عن العلة في شهرة السبعة دون سواهم، فأجاب:

“إن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرا في الاختلاف؛ فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العمل، واشتهر أمره وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرئ به، ولم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان رضي الله عنه مصحفا إماما، هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر” [المرشد الوجيز: 123].

2-   قال الحافظ أبو شامة المقدسي (ت 665 هـ): “كان غرض ابنِ مجاهد أن يأتي بسبعة من القراء من الأمصار التي نفدت إليها المصاحف، ولم يمكنه ذلك في البحرين واليمن؛ لإعواز أئمة القراءة منهما، فأخذ بدلهما من الكوفة لكثرة القراءة بها، وإذا كان هذا غرضه فلم يكن له بد من ذكر إمام من أهل الشام، ولم يكن فيهم من انتصب لذلك من التابعين مثل ابن عامر” [المرشد الوجيز: 12].

وبناء على ما سبق نفهم معنى المفاضلة المقصودة في هذا الباب، وأن كلام الله كله واحد لا يفضل بعضه بعضا في الذات.

قال الإمام أبو العباس المهدوي (ت 430 هـ): ” إذ كان ذلك – أي التفضيل في الذات – إنما يجوز في المخلوقات، لكن لما كان الأجر يزيد بزيادة القراءات، واتساع اللغات، أطلق التفضيل في الأجر لا الذات” [بيان السبب الموجب لاختلاف القراءات ص، 37].

ويورد البدر الزركشي (ت 794 هـ) قول أبي جعفر النحاس (ت 338 هـ) وقد حكى اختلاف القراء في ترجيح قوله تعالى: (فكَّ رقبةً) بالمصدرية والفعلية، فقال: ” السلامة عند أهل الدين؛ أنه إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال: أحدهما أجود؛ لأنهما جميعا عن النبي د ، فيأثم من قال ذلك” [البرهان في علوم القرآن: 1/161].

وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا مُسقطا للقراءة الأخرى، غيرُ مرضيِّ؛ لأن كلتيهما متواترة مثل: (مَلِكِ) و(مَالِكِ) بحذف الألف وإثباتها.

ثانيا: المفاضلة بين الروايات وأوجه الأداء في الحرف القرآني.

مبنى المفاضلة في هذا الباب على الاختيار؛ أَي اِنتحاءُ سَمْتِ خصائصَ بنائيةٍ ومقومات أدائية معينة في الحرف القرائي، يرتضيها ويختارها من بين مروياته مُكتمِلُ الأهلية في وجوه القراءات المأثورة، على سبيل الترجيح والموازنة، دونما غض من أي منها، وقد يخلص له من ذلك مذهب في القراءة برأسه، وقد يقتصر فيه على أحرف معلومة مما لا يخرج في أصل مادته عن مأثور من تقدم من أهل الأداء، ومروي من سلف من أئمة القراء)[1].

وهذا الاجتهاد في الاختيار يخضع لضوابط ومقاييس علمية متفق عليها عند أئمة هذا الفن، من صورها:

 أن الإمام نافع المدني (ت 169 هـ)، ذكر عنه أصحاب الطبقات أنه: (قرأ على سبعين من التابعين واختار مما قرأه ورواه عنهم ما اتفق عليه اثنان وترك ما سواه مما يشك في مخالفته لسواد المصحف).

وروي عنه أيضا أنه: كان يقرئ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له:” نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت”.

وعند التأمل، نجد أن هذه الضوابط والمقاييس ترجع في مجموعها إلى:

  – مستوى وثاقة السند

  – قوة الوجه في العربية

  – موافقة رسم المصحف

قال الإمام القرطبي (ت 671 هـ): (وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روى وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزمه طريقة ورواه وأقرأ به واشتهر عنه وعرف به، ونسب إليه، فقيل: حرف نافع وحرف ابن كثير وحرف حمزة مثلا) [الجامع لأحكام القرآن: 13/40].

ولا اعتبار بمدلول لفظتي “الاجتهاد” و”الاختيار” وغيرهما من الكلم التي تفيد النظر والقياس في بادئ النظر، وملاك الأمر في ذلك كَلٌّ على مزاج الشخص المتقن وذوقه الخاص، كلاَّ ! بل إن اجتهاد القراء لم يكن في وضع القراءة رأسا، وإنما كان في اختيار الحرف في حدود دائرة المروي، وفرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية والاجتهاد في وضع القراءة، فليُتنبه لذلك.

وهذا المنحى اللطيف هو عين ما أشار إليه الحافظ أبو عمرو الداني (ت 444 هـ) في تبيين وجهِ نسبةِ القراءة إلى القارئ بها وإضافتها له أنها ” إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد”.

ثالثا: ضوابط ومعايير الاختيار

فالاختيار في القراءات يقوم على جملة معايير وضوابط، أهمها:

1-  موافقة العربية ولو بوجه:

لأن القرآن وإن كان لا يشترط في كل فرد منه الأفصح، فلابد من اشتراط الفصيح، فالوجه الذي قبله بعض العلماء ورده بعضهم غير ذي ضرر، وإنما الضرر على المخالف إذا رد ما علم أنه عند غيره من الأئمة شاع وذاع وتلقي بالإسناد الصحيح.

2-   موافقة أحد المصاحف ولو احتمالا:

قال المحقق ابن الجزري (ت 833 هـ): ” أي ما كان ثابتا في بعضها دون بعض، كقراءة ابن عامر (قَالوا اتَّخذَ اللهُ ولدا) في البقرة بغير واو، وقراءة (وبالزُّبُرِ وبالكتاب المنير) بزيادة الباء في الاسمين ونحو ذلك، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي، وكقراءة ابن كثير (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار) في الموضع الأخير من سورة (براءة) بزيادة (من)، فإن ذلك ثابت في المصحف المكي … إلى غير ذلك من مواضع كثيرة في القرآن اختلفت المصاحف فيها، فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم؛ فلو لم يكن ذلك كذلك في شيء من المصاحف العثمانية لكانت القراءة بذلك شاذة؛ لمخالفتها الرسم المجمع عليه) [النشر: 1/11].

ونعني بقولنا “ولو احتمالا” لأن الموافقة نوعان: صريحة واحتمالية، قال المحقق ابن الجزري (ت 833 هـ).

” وقد تُوافق بعض القراءات الرسم تحقيقا، ويوافقه بعضها تقديرا نحو (مَلِك يوم الدين) فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف؛ فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب (مَلِكِ الناس) وقراءة الألف محتملة تقديرا كما كتب (مالكَ المُلك) فتكون الألف حذفت اختصارا … ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل، وحذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة رضي الله عنهم في علم الهجاء خاصة، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم …” [النشر: 1/11-12].

3-   صحة السند ووثاقته:

وهو أن يروي تلك القراءةَ العدلُ الضابطُ عن مثله كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم.

رابعا: نماذج لبعض الاختيارات المرفوضة

فقد كثر الحديث عن بعض الأعلام القرائية الذين اشتهروا ببعض الاختيارات الشاذة الضعيفة، التي لم تتلقها الأمة بالقبول؛ لإخلالها ببعض أركان القراءة الصحيحة.

وطلبا للبيان والإيضاح، نذكر طائفة يسيرة منها على سبيل الإيجاز والاختصار:

  – ابن محيصن (ت 123 هـ) بمكة

وقد عده الذهبي من الثقات، وقال: [ولابن محيصن رواية شاذة] [معرفة القراء الكبار: 1/99].

قال ابن الجزري: [قراءته في كتاب المبهج، والروضة، وقد قرأت بها القرآن ولولا ما فيها من مخالفة المصحف لألحقت بالقراءات المشهورة…].

وقال ابن مجاهد (ت 324 هـ):” لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه].

قال الطبري (ت 310 هـ): [وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عيه لبدا] يقول: يكونون على محمد جماعات بعضها فوق بعض وفيها لغتان:

  • كسر اللام (لِبْدَة) ومن كسرها جمعها (لِبَدٌ).
  • ومن ضمها جمعها (لُبد) بضم اللام، أو (لابد)؛ ومن جمع لابد، قال: لُبَّدا … قال: وقراء الأمصار على كسر اللام من (لُبد) غير ابن محيصن، فإنه كان يضمها، وهما بمعنى واحد غير أن القراءة التي عليها قراء الأمصار أحب إلي [جامع البيان: 29/124].

    – عيسى بن عمر الثقفي (ت 149 هـ).

قال الذهبي: [هو عيسى بن عمر أبو عمر الثقفي النحوي البصري معلم النحو، ومؤلف الجامع والإكمال، روى عن ابن كثير وابن محيصن حروفا، وله اختيارات في القراءات على قياس العربية…

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان من قراء البصرة عيسى بن عمر الثقفي، وكان عالما بالنحو غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية، يفارق قراءة العامة، ويستنكره الناس، وكان الغالب عليه حب النصب إذا وجد لذلك سبيلا] [طبقات القراء: 1/613].

ومن اختياراته:

  • ﴿حمالةَ اَلْحَطَب﴾ [المسد: 04].
  • ﴿اَلزَّانيةَ والزَّاني﴾ [النور: 02].
  • ﴿وَالسَّارِقَ والسَّارِقَةَ﴾ [المائدة: 40].
  • ﴿هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ﴾ [هود: 77].

   – ابن شنبوذ (ت 328 هـ).

هو محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ، الإمام أبو الحسن البغدادي شيخ الإقراء بالعراق، أستاذ كبير أحد من جال في البلاد في طلب القراءات مع الثقة والخير، والصلاح والعلم.

كان ابن شنبوذ يرى جواز القراءة بالشاذ، وهو ما خالف رسم المصحف الإمام، … وقد عقد له مجلس بحضرة الوزير أبي علي بن مقلة، وبحضور ابن مجاهد، وجماعة من العلماء والقضاة، وكتب عليه به المحضر، واستتيب عنه بعد اعترافه به هو أنه كان يقرؤه، وهو:

  • ﴿فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: 09]
  • ﴿وَتَجْعَلُونَ شِرْكَكَمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون ﴾ [الواقعة: 85]
  • ﴿كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف: 78]
  • ﴿كَالصُّوفِ اَلْمَنْفُوش﴾ [القارعة: 04]
  • ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِنِدَائِكَ﴾ [يونس: 92]
  • ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبْ﴾ [المسد: 01]
  • ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا حَوْلاً فِي الْعَذَابِ الْمُهِين﴾ [سبأ: 14]
  • ﴿والذكر والأنثى﴾ [الليل: 03]
  • ﴿فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ [الفرقان: 77]
  • ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُوا الله عَلَى مَا أَصَابَهُم﴾ [آل عمران: 104]
  • ﴿فَسَادٌ عَرِيض﴾ [الأنفال: 74]

وكان رحمه الله يُسئل عن كل ذلك؛ فيعترف ولا ينكر. [معرفة القراء للذهبي، رقم الترجمة: 276].

وإلى الله عناية المقصود 

الهامش


[1]  تنظر: مقدمة منح الفريدة الحمصية لابن عظيمة الإشبيلي (ت‍ 543 ه‍). دراسة وتحقيق أ.د توفيق العبقري

– حفظه الله –

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق