التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (14)
ذ. عبد الرحيم السوني.
باحث بمركز دراس بن إسماعيل.
مما نلاحظه أيضا، أن القشيري يسوق في تفسيره للآية، مراتب و مقامات الدين فيعطي لكل واحد من المتلقين، فهما أو تفسيرا بحسب ما يعيشه ويناسبه، فينطلق من البداية الأولى وهي الإسلام، مرورا بالإيمان، وصولا إلى الإحسان، وداخل الإحسان هناك مراتب ومدارج، يفصل فيها القشيري من خلال تفسيره لبعض الآيات، فنجده مثلا في قوله تعالى: ﴿الصابرين والصادقين والقانتين والمستغفرين بالأسحار﴾[1]، يقول: «الصبر حبس النفس، وذلك على ثلاث مراتب: صبر على ما أمر به العبد، وصبر عما نهي عنه، وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد ... ويقال: الصابرين على ما أمر الله، والصادقين فيما عاهدوا الله، والقانتين بنفوسهم بالاستقامة في محبة الله، والمستغفرين عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم في الله. ويقال: الصابرين بقلوبهم، والصادقين بأرواحهم، والقانتين بنفوسهم، والمستغفرين بألسنتهم، ويقال: الصابرين على صدق القصود، والصادقين في العهود، والقانتين بحفظ الحدود، والمستغفرين عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد. ويقال: الصابرين كالذين صبروا على الطلب، ولم يتعللوا بالهرب، ولم يحتشموا من التعب، وهجروا كل راحة وطلب، وصبروا على البلوى، ورفضوا الشكوى، حتى وصلوا إلى المولى، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى، والصادقين: الذين صدقوا في الطلب فقصدوا، ثم صدقوا حتى وردوا، ثم قصدوا حتى شهدوا، ثم صدقوا حتى وجدوا، ثم صدقوا حتى فقدوا، فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود. والقانتين: الذين لازموا الباب، وداوموا على تجرع الاكتئاب، وتركوا المحاب، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب. والمنفقين: الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، ثم جادوا بترك كل حظ لهم في العاجل و الآجل، استهلاكا عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال. والمستغفرين عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأصحاب يعني ظهور الإسفار، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار»[2].
وهكذا يتبين كيف أن القشيري ينتقل من مستوى، أو من مقام بحسب ما هو معروف عند الصوفية، إلى مقام أو مستوى أعمق أو أعلى منه، وكأنه يقول لك أيها القارئ، هذا هو المعنى، وهو معنى بسيط ومقبول ومفهوم عند الجميع، فإذا أردت التعمق، وكان بمقدورك الفهم، فهناك معنى آخر أعمق من الأول، فإذا فهمت الثاني، يورد لك آخر أعمق وأدق منه وهكذا. وتأمل قوله أيضا في الآية: ﴿ويفرون للأذقان يبكون﴾[3]، حيث يقول: «تأثيره في قلوب قوم يختلف، فتأثير السماع في قلوب العلماء بالتبصُّر، وتأثير السماع في أنوار الموحدين بالتحير، تبصر العلماء بصحة الاستدلال، وتحير الموحدين في شهود الجمال والجلال وبكاء كل واحد على حسب حاله: فالتائب يبكي لخوف عقوبته لما أسلفه من زلته وحوبته، والمطيع يبكي لتقصيره في طاعته، ولكي لا يفوته ما يأمله من منته. وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم. وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسرا على ما يفوتهم من الحق. والبكاء عند الأكابر معلول، وهو في الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفي معناه أنشدوا:
خلقنا رجالا للتجلد والأسى وتلك الغواني للبكا والمأثم»[4].
[1] ـ سورة آل عمران، الآية: 17.
[2] ـ اللطائف، ج1، ص: 236ـ237.
[3] ـ سورة الإسراء، الآية: 109.
[4] ـ اللطائف، ج4، ص: 46.