التصوف بين دعوى التقية وبلاغة الخطابية
يعد التصوف -إلى جانب العقيدة الأشعرية والفقه المالكي- ثابتا من ثوابت الهوية الدينية عند المغاربة منذ العصر المريني[1]؛ «فقد شهد المغرب خلال هذا العصر حصاد قرنين من الوقائع والتراكمات الفكرية مرت في عصور الأدارسة والمرابطين والموحدين، وما إن جاء المرينيون حتى انطلقت الحركة الفكرية في عصرهم إلى آفاق أرحب وأوسع...، ولعل ما يميز هذا العصر هو استمرار تطور الحركة الصوفية التي أسهمت، إلى جانب العلوم الأخرى، في ازدهار ونمو الحركة الفكرية آنذاك، فقد ظهر عدد كبير من أقطاب التصوف وشيوخه الذين ساهموا بقسط وافر في بلورة الحركة وتطورها، وهكذا اتسمت الحركة الدينية في عصر بني مرين بمظاهر جديدة بسبب الحركة الصوفية، وذلك في مدن المغرب وقراه» [2]،فقد كان لملوك بني مرين «جنوح للخير، ومحبة في العلم وأهله، تشهد بذلك آثارهم الباقية إلى الآن، في مدارسهم العلمية وغيرها، فإنهم استكثروا من بنائها وبناء الزوايا والربط، ووقفوا عليها الأوقاف، وأجروا على الطلبة الجرايات الكافية، فأمسكوا بذلك من رمق العلم، وأحيوا مراسمه»[3].
وقد شكل -التصوف- اللبنة الأساس في تحصيل الفرد للأخلاق الإسلامية تحصيلا فعليا يلامس كل جوانب حياته، وتمنيعه في مواجهة شتى الخطابات والأفكار المتشددة التي يمكن أن تشهدها الساحة الدينية في صفوف الأفراد والجماعات.
لكن رغم ذلك كله فقد شهد التصوف وما يزال هجمات من جهات شتى لطمس بريقه وإخماده، تمثلت في شبهة تتردد على الألسنة وهي جعلهم التصوف وأهله صنوا للتشيع وتقيته، فهل أخذُ بعض أهل التصوف بهذا المنهج واختلافهم مع بعضهم في تبنيه من عدمه راجع إلى مراتب في الذوق والنظر؟ أم هو موقف تربوي من أجل المبتدئ، ثم بعد ذلك يفتح الله بما يشاء؟ أم هي «تقية» منهم؛ مع استبعادنا لهذا الاحتمال الأخير، ويمكن أن نتسامح في استعماله لكن ليس بالمعنى الرائج في التداول الشيعي بل من جهة اللغة فقط؟.
إن من النصوص التي دعت لهذه الاعتراضات والاتهامات وقول الإمام النوري للجنيد: "يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني في المزابل" [4] .
وقول الإمام الجنيد: "أنا تكلمت بهذا العلم في السراديب والبيوت خفية، ولما جاء الشبلي تكلم بهذا العلم على المنابر وأظهره على الخلائق" [5] ، كما خاطب الجنيد الشبلي يعاتبه في ذلك قائلا: "نحن حبرنا هذا العلم تحبيرا ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ" [6] .
فالاعتراضات على مثل هذه الأقوال كانت تنحوا منحى واحدا وهو تشبيه المخالف منهج التصوف وأهله بمنهج التقية عند الشيعة، يستتبع ذلك اتهامهم بالنفاق والكذب على الخلق.
ولعل هذا تسرعٌ من جهة المخالف، وتجنٍّ منه على من نُعتوا بأهل التحقيق في مسائل الدين كما وصفهم الإمام الشعراني، وأهل التحقيق لا يصدر عنهم قول أو فعل إلا وتجد له مستندا من الشرع الحكيم حاضرا؛ فقد وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم دعت بصريحها وبمفهومها إلى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ومداهنة أهل النفاق وسوء العشيرة والأخلاق بأقوال لاتقاء شرهم، أو لترطيب خاطرهم وتثبيتهم، من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله عز وجل فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى" [7] ، وهو علم الوراثة المحمدية الذي ورثه الأولياء من باطنية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأسانيد الإلهام، ونقلة الكشف التام، وصفاء السريرة وصدق المعاملة مع الله تعالى دون غيرهم.
وقد روى القسطلاني في (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) قوله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج المؤكد للمعنى السابق: "... وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي- بلا تكييف ولا تحديد- فوجدت بردها بين ثديي، فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوما شتى، فعلم أُخِذ علي كتمانه؛ إذْ عَلم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري، وعلم خيرني فيه، وعلمني القرآن؛ فكان جبريل- عليه السّلام- يذكرني به، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى..." [8] ، فتبين من هذا الحديث أن وراء العلم الذي أُمر بتبليغه إلى الخاص والعام، الذي هو علم الشرائع والأحكام، عِلمين آخرين بل علوما شتى كلها حق، أما العلم المأمور بكتمانه فهو علم النبوة؛ إذ لا يعلمه ولا يقدر على حمله غير النبي ولا نبي بعده، وأما العلم الذي خُير فيه صلى الله عليه وسلم فهو علم الولاية؛ وهو علم باطن الشريعة وحقيقتها وأسرارها المخزونة المكنونة التي أسرها النبي صلى الله عليه وسلم لخواص أصحابه، كما خص بأعلام المنافقين حذيفة رضي الله عنه، وهم أسروها إلى خواص أصحابهم وهلم جرا، لأنها إنما تُؤخذ وتُتلقى بالأحوال الصادقة، والعقيدة الراسخة، والأعمال الصالحة المصحوبة بالإخلاص والنية الخالصة، وملازمة الذكر، ومداومة الفكر، ومراقبة الحضور مع الله تعالى، كما قال الشيخ عبد الغني النابلسي [9] .
وفي هذا المعنى أيضا عن أبي هريرة قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"[10].
قال أهل التصوف: المراد بالأول: علم الأحكام والأخلاق. وبالثاني: علم الأسرار، المصون عن الأغيار، المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان. وقال آخرون منهم: العلم المكنون والسر المصون علمنا، وهو نتيجة الخدمة وثمرة الحكمة، لا يظفر بها إلا الغواصون في بحار المجاهدات، ولا يسعد بها إلا المصطفون بأنوار المجاهدات والمشاهدات، إذ هي أسرار متمكنة في القلوب لا تظهر إلا بالرياضة وأنوار لامعة في الغيوب لا تنكشف إلا للأنفس المرتاضة. قلت: نعم ما قال، لكن بشرط أن لا تدفعه القواعد الإسلامية ولا تنفيه القوانين الإيمانية إذ ما بعد الحق إلا الضلال. فإن قلت: قد وقع في مسند أبي هريرة: "حفظت ثلاثة أجربة، فبثثت منها جرابين"، وهذا مخالف لحديث الباب؟ قلت: يُحمل على أن الجرابين منها كانا من نوع واحد وهو الأحكام، وما يتعلق بظواهر الشرع، والجراب الآخر الأحاديث التي لو نشرها لقطع بلعومه، ولا شك أن النوع الأول كان أكثر من النوع الثاني، فلذلك عبر عنه بالجرابين، والنوع الثاني بجراب واحد فبهذا حصل التوفيق بين الحديثين. ولقد أبعد بعضهم في قوله: يحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين، وما في الصغير في واحد [11] .
أو المراد به علم الأسرار المصون عن الأغيار المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان والمشاهدات والاتقان التي هي نتيجة علم الشرائع والعمل بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والوقوف عند ما حدّه، وهذا لا يظفر به إلا الغوّاصون في بحر المجاهدات، ولا يسعد به إلا المصطفون بأنوار المشاهدات، لكن في كون هذا هو المراد نظر من حيث إنه لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه مع ذكره من الآية الدالّة على ذم كتمان العلم لا سيما هذا الشأن الذي هو لبّ ثمرة العلم وأيضًا فإنه نفى بثّه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك؟ وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم، فمن أين علم أن الذي كتمه هو هذا فمن ادّعى ذلك فعليه البيان فقد ظهر أن الاستدلال بذلك لطريق القوم فيه ما فيه على أنهم في غنية عن الاستدلال إذ الشريعة ناطقة بأدلتهم، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار مع التأمّل والاستنارة بنور الله ظهر له ما قلته والله يهدينا إلى سواء السبيل [12] .
وهذا بالذات ما وقع للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي حين أظهر بعض أسرار معاملة الدين فرموه بالزندقة، فلابد من كتمانه لغير أهله إلى أن يجيء وقت ظهوره، إذ الأمور مرهونة بأوقاته؛
وللمرء أحوال وللحال فرصة وللدهر أوقات وللوقت حادث
وما رواه الإمام البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فحاشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» [13] وقد استشكل فعله -صلى الله عليه وسلم- مع الرجل بعد ذلك القول. وأجيب: بأنه لم يمدحه ولا أثنى عليه في وجهه فلا مخالفة بينهما، وقد قال الخطابي رحمه الله: ليس قوله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بالأمور التي يضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض اهـ.
وهذا ينبغي تقييده بما إذا لم يكن لغرض شرعي وإلا فلا يكون غيبة -قلت: ولا تقية- بل ينبغي ذكره على ما سبق [14].
فليس كل ما أخفاه أرباب التصوف من مكنون علمهم على الناس والتعبير على ذلك بألفاظ قريبة للأفهام حتى تقبل يعتبر تقية منهم، أو مداهنة ونفاقا خوفا من تبديعهم وتضليلهم، بل ذلك سير على المنهج النبوي الأصيل واقتداء بفعل السلف، وإن كان ذلك خوفا فليس على أنفسهم أو نيل حظوة من أحد؛ بل خوفا من أن يكذب الله ورسوله، قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله" [15]، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" [16]
ولعل اختلاف أرباب التصوف في بذل هذا العلم للغير راجع لمراتب في الذوق والنظر لا محالة، يراعي حالة كل مكلف على حدة فهو إذا موقف تربوي أصيل من أجل المبتدئ في طريق السلوك، حتى تطمئن نفسه ويترقى في مراتب المعرفة بملازمة المجاهدات، ثم بعد ذلك يفتح الله بما يشاء.
الهوامش :
[1] من الثابت أن أمر التصوف كان قبل هذا العصر بكثير، ولعل اختيار العصر المريني بالذات راجع إلى كثرة الاهتمام به وحصاد التراكمات التي خلفها العلماء، وإعطاء العطايا وتوقيف الأوقاف لأجل إبرازه وإعادة إشعاع بريقه.
[2] مجلة دعوة الحق، العدد:322/1996م: "جوانب من الدور الفكري لمتصوفة فاس إبان العصر المريني" السعيد لمليح، نقلا عن محمد مفتاح، "التيار الصوفي والمجتمع في الأندلس والمغرب أثناء القرن 8 هـ/14م". أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمد الخامس – الرباط – 1981 – ص :193.
[3] أنظر: الناصري "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، ج2/15.
[4] "التعرف لمذهب أهل التصوف" للكلاباذي، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت-2001م، ص:164.
[5] "نفحات الأنس من حضرات القدس" للجامي، ص:73.
[6] "التعرف لمذهب أهل التصوف" للكلاباذي، ص:162.
[7] "الأربعون في التصوف" للسلمي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بيحيدر آباد الدكن – الهند، ط: 2، 1981م باب: إباحة الكلام في باطن العلم وحقيقته، ص:13.
[8]"المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين (ت: 923هـ) الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة- مصر 2/483
[9] معرب المكتوبات الشريفة الموسوم بـ: "الدرر المكنونات النفيسة" للشيخ محمد مراد المترلوي تولدا، مكتبة الحقيقة شارع دار الشفقة بفاتح 58 استانبول-تركيا 2002م، ج1/ص:4
[10] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: حفظ العلم، رقم الحديث: 120، 1/120
[11] "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، باب: حفظ العلم، 2/185
[12] "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري"، أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين (المتوفى: 923هـ) الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر الطبعة: السابعة، 1323 هـ باب: حفظ العلم، رقم الحديث:120، 1/212.
[13] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، رقم الحديث:6032، ج8/13.
[14] "إرشاد الساري" 9/31.
[15] "صحيح البخاري" كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، رقم الحديث:127، 1/37.
[16] "صحيح مسلم" باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، 1/11.