مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الترجيح التفسيري وبعض قواعده من خلال التسهيل لابن جزي

دة.فاطمة الزهراء الناصري
باحثة بمركز الدراسات القرآنية

بالرابطة المحمدية للعلماء

الترجيح بين المفسرين والأصوليين والفقهاء

الترجيح في اللغة يدل على الميل والزيادة، جاء في لسان العرب: «الراجح الوازن، ورجح الشيء بيده وزنه ونظر ما ثقله، وأرجح الميزان أي أثقله حتى مال، ورجح الميزان مال…»[1] والترجيح عند الأصوليين هو: «اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها»[2] ، أما عند المفسرين فهو: «تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل أو قاعدة تقويه أو لتضعيف أو رد ما سواه»[3] أما الترجيح في مجال الفقه فهو تقوية أحد الأقوال أو المذاهب في مسألة من المسائل الفقهية الخلافية لدليل يستند إليه.

ونحتاج إلى الترجيح في حالة التعارض بين الأدلة أو الاختلاف بين الأقوال، فالترجيح الأصولي وليد التعارض بين الأمارات أي الأدلة، والترجيح التفسيري وليد اختلاف الأقوال في تفسير الآية، فوسائل الترجيح بين النصوص عند الأصوليين ليست هي وسائل الترجيح بين الأقوال عند المفسرين والفقهاء، فالأولى تقوم على ما تقرر في الأصول من مرجحات تتعلق بالرواية والأقيسة وغيرها[4] ، والثانية تقوم على مدى قوة الدليل سواء من جهة الصحة أو الصراحة.

كما أن أسباب اختلاف المفسرين في التفسير ليست هي أسباب اختلاف الفقهاء في المسائل الفقهية، فالأولى قد تكون هي الاختلاف في الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، أو في قاعدة من قواعد التفسير وغير ذلك[5] ، أما أسباب اختلاف الفقهاء فتتعلق إما برواية النص أو بدرايته أو باللغة…، لهذا تختلف أدوات الترجيح باختلاف دواعي التعارض وأسباب الاختلاف.

أنواع الاختلاف التفسيري:

من المعلوم أن الكثرة الكاثرة من الآيات قد وقع الخلاف في تفسيرها، ومن المعلوم أن طلب أصح الأوجه في تفسير كلام الله تعالى من أهم مقاصد طلب العلم وتحصيله، ودراسة التفسير خاصة، ويمكن إجمال أنواع الخلاف التفسيري كالآتي:

1- أن تكون جميع الأقوال محتملة في الآية وبقوة الاحتمال نفسها أو قريبا منه، ومن نصوص القرآن والسنة ما يشهد لكل واحد منها.

2- أن تكون الأقوال متعارضة مع بعضها يتعذر حمل الآية عليها جميعا.

3- أن تكون الأقوال ليست متعارضة مع بعضها وإنما يكون بعضها معارضا لدلالة آيات قرآنية، أو لنصوص صحيحة من السنة، أو لإجماع الأمة.

4- أن تكون الأقوال المختلفة في الآية ليس بينها تعارض- لا مع بعضها ولا مع آيات أو أحاديث أ وإجماع- وهي محتملة، غير أن بعضها أولى من بعض[6].

قواعد الترجيح عند المفسرين

لقد تأسس علم أصول الفقه لتقوم العملية الاجتهادية على قانون علمي واضح يجعلها بعيدة عن الارتجال والتطفل، وتأسس علم أصول التفسير وقواعده كقانون يحكم العملية التفسيرية ويعصمها من العبث والفوضى، فكل النصوص سواء العلمية أو الأدبية أو غيرها تحتاج إلى آليات تحليلية خاصة وقواعد علمية محكمة للتعامل معها بعيدا عن العفوية، فما بالك لو كنا أمام نص مقدس هو القرآن الكريم؟ نكون حينها أمام حاجة ملحة لاستدعاء الأصول والقواعد للتعاطي مع هذا النص، لهذا بدل العلماء المسلمون والمتخصصون في الدراسات القرآنية بالتحديد جهودا كبيرة للتأسيس لعلم أصول التفسير وقواعد، وبلغوا في ذلك غاية الدقة والإحكام عندما وضعوا قواعد ترجيحية بين أقوال المفسرين، وممن أفرد هذا الموضوع بالتأليف فهد بن عبد الله الحزمي تحت عنوان: «القول المبين في قواعد الترجيح بين المفسرين»، وحسين بن علي بن حسين الحربي في كتابه: “قواعد الترجيح عند المفسرين ” وهو في أصله رسالة ماجستير.

وقواعد الترجيح عند المفسرين:«هي ضوابط وأمور أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى»[7] ، فموضوع القواعد الترجيحية إذن هو أقوال المفسرين المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى، وغايتها معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله، ومن ثم العمل بها اعتقادا إن كانت من آيات الأحكام العملية وسلوكا وأدبا إن كانت من الأخلاق والآداب، وكذلك تنقية كتب التفسير مما قد علق ببعضها من أقوال شاذة أو ضعيفة، أو مدسوسة فيها لمذهب عقدي ونحو ذلك.

قواعد الترجيح من خلال التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي المالكي ت741هـ:

أ‌- الترجيح التفسيري عند المفسرين المالكية:

لقد عرف الغرب الإسلامي مفسرين مرجحين كبار كالإمام القرطبي وابن عطية وأبي حيان والشنقيطي وابن جزي، قد يضاهي ترجيحهم أو يفوق أحيانا ترجيحات أكبر المفسرين كالطبري وابن كثير وغيرهم.

وسنحاول فيما يأتي رصد القواعد الترجيحية عند أحد المفسرين المالكية الذين جعلوا الترجيح نصب أعينهم في العملية التفسيرية وهو ابن جزي الكلبي المالكي، الذي قال عن نفسه في مقدمة تفسيره: «إن الله أنعم علي بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه»[8] ، وقد «نبغ في علوم شتى فكان فقيها مالكيا محدثا أصوليا مقرئا متكلما أديبا نحويا لغويا»[9] ، ويقول المقري في نفح الطيب:«بيت ابن جزي بيت كبير مشهور بالمغرب والأندلس»[10] ، «وشهرته دينا وعلما أغنت عن التعريف به»[11].

 من الأهداف التي رسمها ابن جزي لنفسه في تفسيره تلخيص التفسير وتمحيصه وبيان الراجح من المرجوح، وقد ذكر في مقدمة تفسيره أن من الفوائد التي قصدها من تصنيفه: «تحقيق أقوال المفسرين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح»[12] .

ب‌- القواعد الترجيحية عند ابن جزي المالكي:

• القاعدة الترجيحية الأولى: القول الذي تؤيده قرائن السياق مرجح على ما خالفه :

قال ابن جزي في الوجه السادس من أوجه الترجيح: «أن يشهد بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده»، ومن الأمثلة التي استصحب فيها هذه القاعدة قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾[13] فقال: «هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد، فتمنوا أن يأمروا به، فلما أمروا به كرهوه، لا شكا في دينهم ولكن خوفا من الموت، وقيل هي في المنافقين، وهو أليق في سياق الكلام»[14].

• القاعدة الترجيحية الثانية: يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة:

قال الحافظ ابن عبد البر: «وحمل كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق، لأنه يقص الحق، وقوله الحق تبارك وتعالى علوا كبيرا»[15] ، ومن الأمثلة الترجيحية بهذه القاعدة عند ابن جزي ما جاء في قوله تعالى: ﴿وأنه هو أمات وأحيى﴾[16] ، قال: «يعني الحياة المعروفة والموت المعروف» وقيل أحيى بالإيمان وأمات بالكفر والأول أرجح لأنه الحقيقة»[17]. وفي تفسير قوله تعالى: ﴿رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا﴾[18] ، قال: «قيل بيته المسجد، وقيل السفينة، وقيل شريعته سماها بيتا استعارة وهذا بعيد، وقيل داره وهذا أرجح لأنه حقيقة»[19].

• القاعدة الترجيحية الثالثة: يجب حمل نصوص الوحي على العموم ما لم يرد نص بالتخصيص:

قال ابن جزي: «يجب تقديم العمومي على الخصوصي، فإن العمومي أولى لأنه الأصل، إلا إذا دل دليل على التخصيص» [20]. قال الطبري: «ليس لأحد أن يجعل خبرا جاء الكتاب بعمومه في خاص مما عمه الظاهر بغير برهان منه حجة خبر أو عقل»[21] ، وقال الشافعي: «لا يقال بخاص في كتاب أو سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما»[22] ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا﴾[23]. قال ابن جزي: «معناها إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه، فعسى أ يجعل الله الخير في وجه آخر، وقيل الخير الكثير الولد والأحسن العموم»[24].

 وعند حديثه عن الذين يتبعون الشهوات في قوله تعالى: ﴿والله يريد أن يتوب علكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما﴾[25]، ذكر ابن جزي ثلاثة أقوال ورجح القول بالعموم فقال: «هم هنا الزناة عند مجاهد، وقيل المجوس لنكاحهم ذات المحارم، وقيل عام في كل متبع شهوة، وهو أرجح»[26].

• القاعدة الترجيحية الرابعة: إذا دار الكلام بين أن يكون مقيدا أو مطلقا فإنه يحمل على إطلاقه

قال ابن جزي في الوجه العاشر من وجوه الترجيح: «تقديم الإطلاق على التقييد، إلا أن يدل دليل على التقييد» [27]، من أمثلة ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين﴾[28]،  قال ابن جزي: «﴿وإذا أنزلت سورة﴾ قيل يعني براءة، والأرجح أنه على الإطلاق»[29]. وكذلك في قوله تعالى: ﴿فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى﴾[30] ، قال ابن جزي: «ببعضها مطلقا، وقيل الفخذ، وقيل اللسان، وقيل الذنب»[31] .

القاعدة الترجيحية الخامسة: القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار

قال ابن جزي «تقديم الاستقلال على الإضمار، إلا أن يدل دليل على الإضمار»[32]؛ لأن الأصل في الكلام أن يكون مستقلا غير مفتقر لإضمار محذوف، إلا إذا قامت قرينة على الحذف، ومثال الترجيح بهذه القاعدة عند ابن جزي ما جاء في قوله تعالى: ﴿وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون﴾[33]. ذكر ثلاثة أقوال في المراد بالفرقان في هذا الموضع وضعف القول الثالث اعتمادا على هذه القاعدة الترجيحية فقال: «وقيل: آتينا موسى التوراة، وآتينا محمدا الفرقان، وهذا بعيد، لما فيه من الحذف من غير دليل عليه»[34].

الهوامش:

[1] ابن منظور، مادة: (ر-ج-ح).
[2] – مختصر المنتهى”لابن الحاجب (2/903).
[3] قواعد الترجيح عند المفسرين” لحسن بن علي الحربي (1/ 35).
[4] انظر البحر المحيط (8/156).
[5] انظر «مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية، (ص11 وما بعدها).
[6] انظر قواعد الترجيح (ص42).
[7] قواعد الترجيح عند المفسرين (ص39)
[8] التسهيل (1/10).
[9] الفتح المبين للمراغي(2/154).
[10] (7/282).
[11] نيل الابتهاج (2/50).
[12] التسهيل (1/10).
[13] سورة النساء، آية 77.
[14] التسهيل 1/199
[15] (التمهيد 6/16)
[16] سورة النجم (ص 44).
[17] التسهيل 2/32
[18] سورة نوح، آية 28
[19] التسهيل2/32
[20] التسهيل (1/19)
[21] جامع البيان 9/85
[22] الرسالة (ص 207).
[23] سورة النساء، آية 19
[24] التسهيل 1/19
[25] سورة النساء، آية 27
[26] التسهيل لعلوم التنزيل، (1/188).
[27] التسهيل (1/19).
[28] سورة التوبة، آية 86
[29] التسهيل لعلوم التنزيل، (1/345).
[30] سورة البقرة، آية 73
[31] التسهيل لعلوم التنزيل، (1/87).
[32] التسهيل (1/19).
[33] سورة البقرة، آية 53
[34] التسهيل لعلوم التنزيل، (1/84).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق