مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

التربية بالقدوة في السيرة النبوية «مواقف ونماذج»

بسم الله الرحمن الرحيم

 تمهيد

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

     فإن القدوة في التربية من أنجع الوسائل المؤثرة في ترسيخ المبادئ وإعداد تربية الأجيال، وهي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في إصلاح البشرية وهدايتها إلى الخير فإذا أمر بشيء عمل به أولا، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه، فكان صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والترجمة العملية لمبادئ الإسلام قال الله تعالى: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾([1]).

قال ابن كثير في تفسيره للآية: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم »([2]).

وقال ابن حزم: «من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأَخْلاَق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الإتساء به بمنّه آمين»([3]).

فالسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف التي يظهر من خلالها مدى تأثير القدوة العملية في النفوس، ولهذا جاء هذا المقال ليبين بعضا من هذه المواقف، فاخترت الحديث عن نموذجين اثنين من سيرته في هذا المجال فأقول وبالله التوفيق:

التربية بالقدوة في السيرة النبوية

للقدوة أثرها البالغ في النفوس، ولم يكن المربي الأول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يغيب عنه هذا الأمر فقد كان من هديه في التربية أنه كان يبدأ بنفسه في فعل ما يأمر الناس به، وقد حفظت لنا سيرته صلى الله عليه وسلم العديد من المواقف التي يظهر من خلالها مدى تأثير القدوة العملية في النفوس وحسبي أن أذكر نموذجين اثنين: الأول منهما في غزوة الأحزاب والثاني في عمرة  الحديبية.

في غزوة الأحزاب:

ففي هذه الغزوة أعطى رسول الله القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، فقد تولى بنفسه الكريمة مهمة حفر الخندق؛ وقد كان لمشاركته لهذه المهمة الأثر البالغ في نفوس الصحابة، وعبروا عن ذلك بإنشادهم:

                        نحن الذين بايعوا محمدا ***على الجهاد ما حيينا أبدا

فعن أنس رضي الله عنه قال: «كانت الأنصار يوم الخندق تقول:

نحن الذين بايعوا محمدا **على الجهاد ما حيينا أبدا.

فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخره *** فأكرم الأنصار والمهاجره »([4])

وفي ذلك تعليم للقادة والدعاة والمربيين أن يعطوا القدوة بأفعالهم مع أقوالهم.

 في عمرة الحديبية:

لما صد المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح كان وقع ذلك عليهم شديدا، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بنحر ما معهم من الهدي وحلق شَعَرهم، ترددوا مع شدة حرصهم على طاعتهم، وهنا يتبين الأثر البالغ للقدوة العملية حين أشارت عليه زوجه أم سلمة رضي الله عنها أن يقوم هو أولا فينحر ويحلق شعره ليقتدوا به.عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما في حديث طويل ذكرا فيه: (أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «يا أيها الناس انحروا واحلقوا»، قال: «فما قام أحد»، قال: «ثم عاد بمثلها فما قام رجل حتى عاد بمثلها فما قام رجل» فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل على أم سلمة فقال: «يا أم سلمة ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره،  ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون) ([5]).

ففي هذا الموقف دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛  فحين لم يتغلب القول على هموم الصحابة مما حدث فلم ينصاعوا للأمر، نجدهم بادروا إلى الفعل اقتداءا به صلى الله عليه وسلم حين تحول أمره القولي إلى تطبيق عملي.

الخاتمة:

      وفي الختام أحمد الله  تعالى الذي وفقني في هذا المقال للحديث عن «التربية بالقدوة في السيرة النبوية»، من خلال عرض نموذجين اثنين منها على وجه الإيجاز والاختصار؛ ولم أرم في ذلك الاستقصاء والتتبع ، وإنما قصدت الإشارة اللطيفة عسى أن تكون مفتاحا لمن يهمه التوسع في الموضوع.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

**************

هوامش المقال:

([1]) سورة الأحزاب الآية: (21).

([2])  تفسير القرآن العظيم (6 /391).

([3])  رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل  (ص: 345) برقم: (34).

([4])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /348) كتاب: الجهاد والسير، باب: البيعة في الحرب أن لا يفروا برقم: (2961).

([5])  أخرجه أحمد في مسنده  (31 /220) برقم: (18910).

*****************

لائحة المراجع المعتمدة:

-تفسير القرآن العظيم. أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي. تحقيق: سامي بن محمد سلامة. دار طيبة للنشر والتوزيع. ط2/ 1420-1999.

-الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

-رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل . ابن حزم الظاهري. ضمن رسائل ابن حزم: «طوق الحمامة- رسالة في الغناء الملهي- فصل في معرفة النفس بغيرها». تحقيق: د/ إحسان عباس. المؤسسة العربية بيروت. ط2/ 1987.

-المسند. أحمد بن حنبل. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون. مؤسسة الرسالة. ط2/ 1420-1999.

راجع المقال: الباحث يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق