مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التربية الصوفية وأثرها في تزكية النفوس

تداولت معظم الكتابات التي اشتغلت بدراسة الفكر الإسلامي الحديث عن مصطلح التصوف في مجموعة من جوانبه المعرفية والموضوعية، وتولت بذلك مهمة البحث عن جذوره التاريخية العريقة في الأصول الإسلامية خاصة وفروعها عامة، وعملت بذلك على كشف حقائق عرفانية زادت التصوف الإسلامي في العصر الحاضر عمقا وثراء، وكرست جهودها من أجل وضع هذا المصطلح داخل إطاره الشرعي بعد أن عرف جدلا وتهافتا كبيرين بين المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين، حول مفهومه، ومصطلحاته، ومصادره، وأبعاده المنهجية والمرجعية. وإن كان في حقيقته وجوهره من صميم الإسلام، محاولة منها للتأكيد بأن الجذور التاريخية لهذا المصطلح ترجع إلى البيئة الإسلامية أصالة ومضمونا.

     وتجدر الإشارة ابتداء إلى أن هذه الكتابات قد اختلفت في تحديد الدلالة المعرفية والموضوعية لهذا المصطلح، لتنوع معانيه وأهدافه ومقاصده، وإن كانت هذه الاختلافات لا تعدو أن تكون من قبيل التنوع وليس من قبيل التضاد، تشترك في ذات المتصور، وهو مراعاة حدود الشريعة الإسلامية السمحة، مع التفاني في ذكر الله عز وجل والتوجه لحضرته الربانية. وقد تحدث الإمام الصادق عرجون عن هذه الاختلافات الواقعة في تحديد معنى هذا المصطلح بقوله: “اختلف الناس منذ القدم في تعريف التصوف واشتقاقه؛ فقد أحصى بعض الباحثين أنه درس أكثر من خمسة وستين تعريفا للتصوف”[1].

     وعلى الرغم من شيوع مصطلح “التصوف” في عصرنا الحاضر؛ إلا أنه لم يكن مُستخدماً وشائعاً، ولم يكن معروفاً في كتابات المتقدمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما سبق ذكره في المقالات السابقة؛ بحيث لم تكن الحاجة ماسة إلى تدوينه وجعله علما مستقلا بذاته في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع وأرباب مجاهدة، يستشعرون معاني التصوف بحكم قربهم واتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، مربي القلوب ومعلمها.

     أورد صاحب “كشف الظنون” في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام القشيري جاء فيه: “اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة”[2].

     وتأتي عملية إفراد علم التصوف بالتصنيف والتأليف والكتابة فيه من قبل جمهور غفير من العلماء والفقهاء والمفكرين بعد أن هيمنت المادة على الإنسان، وانحطت القيم الأخلاقية، وانتشرت الأهواء والصراعات، وتهافت الناس على الدنيا تهافتا كبيرا، وبالتالي لم يجد الإنسان اليوم أمامه من حل سوى الدخول في أحضان التصوف قصد الحصول على طمأنينة القلب، واستشعار معاني الإيمان الصادق الخالص، التي يحس يوما بعد يوم أنها تغيب عنه.

     وفيما يلي محاولةٌ لتسليط الضوء على مصطلح التصوف ومصطلح التربية أو التزكية، وبيان لمعناهما لغة واصطلاحا، وتحديد أبعادهما المنهجية، ومضمونهما التربوي، وحمولتهما الشعورية.

     تعددت معاني مصطلح التصوف الإسلامي واتسعت، ولم يعد ينطبق عليه حدّ واحد”[3]؛ له معان خاصة ومطالب مخصوصة، فلا يدرك أبعادها ومقاصدها، ولا يفهم معانيها وتوجهاتها، إلا من كان له معرفة وإلمام بهذا العلم القلبي الباطني. وقد حاول نيكلسون جمع تعريفات التصوّف فألفى ما يربو عن التسعين تعريفا[4]. فهناك من يعطيه معنى أخلاقيا ذوقيا، كما ذكر الإمام الهروي الصوفي بقوله: “واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم أي علم التصوف أنه هو الخلق، وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد، وهو بذل المعروف وكف الأذى”[5]. وبمفهوم الآداب والسلوك إلى حضرة ملك الملوك، يذكر الإمام محمد بن أحمد المقرئ رحمه الله تعالى بقوله: “التصوف هو استقامة الأحوال مع الحق”[6]. وقيل بأن التصوف “هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل”[7]. وبمفهوم رفع الهمة والتوجه إلى حضرة ملك الملوك يقول أبو نعيم في الحلية: “التصوف هو وقف الهمم على مولى النعم”[8]. وبمفهوم التجرد من العلائق وإخلاص النية يقول السراج الطوسي في اللمع بأن الجنيد لما سئل عن التصوف قال: “أن تكون مع الله بلا علاقة”[9].

     من خلال هذا التعريفات المتنوعة لمصطلح التصوف الإسلامي، يمكن القول إن التعريفات السابقة رغم تنوعها تؤكد جميعاً على أن مصطلح التصوف هو العلم بتزكية النفوس وطهارة القلوب، حتى ترتقي إلى حضرة ملك الملوك ومعرفة خواطر النفس وأمارتها ودقائق تلوناتها وفطامها عن شهواتها، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: “مبدأ التكليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب…، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد ولنفع العباد في الأجل والمعاد…، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب”[10]. فوظيفة التصوف هو جعل كل الأعمال والتكاليف خالصة لوجه الله، والاهتمام بطهارة القلوب وتخليصها من قيود الغفلة.

     وبهذا المعنى يكون التصوف هو الملاذ الحصين الذي يضمن للإنسان النجاة من آفة النفوس؛ لما يحمله من نفائس نورانية تجعله يتجاوز عقبات النفس وأماراتها المهلكة، وبالتالي يكون التصوف بهذا المعنى هو علم الإخلاص الباطني الذي يهتم بإعداد الإنسان؛ أي صناعة إنسان وإعداده إعداداً متكاملاً دينياً و دُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، ووفق منظور التحقق بمقامات أولياء الله الصادقين في مقامات القرب. وقد أنشد بعضهم:

علم التصوف علـــــم لا نفاد له      علــــــــم سنيّ سمــــــــاوي ربوبيّ

فيه الفوائد لأربــــــــاب يعرفها      أهل الجزالة والصنع الخصوصي[11]

الهوامش

[1] التصوف الإسلامي تاريخه ومدارسه وطبيعته، أحمد التوفيق، ص: 5.

[2] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، 1 /414.

[3] شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون، ص: 54.

[4] في التصوف الإسلامي وتاريخه، نيكلسون، ترجمة: أبو العلاء عفيفي، المجلة الآسيوية، 1906، ص ص: 203-247.

[5] موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والصوفية، للإمام عبد الحفيظ بن مالك عبد المكي، ص: 33.

[6] كشف المحجوب للهجويري، ص: 236.

[7] مصطلحات التصوف من واقع كتابات معراج التشوف إلى حقائق التصوف، عبد الحميد صالح حمدان، ص: 3.

[8] حلية الأولياء وطبقة الأصفياء لأبي نعيم الصفهاني، 1 /32.

[9] اللمع، أبو نصر السراج الطوسي، ص: 45.

[10] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز  بن عبد السلام، دار الكتب العلمية، 1 /198.

[11] التعرف لمذهب أهل التصوف، لأبي بكر محمد الكلاباذي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1980م، ص: 106.

الصفحة السابقة 1 2 3 4
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق