مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

التدين والإحداث الشرعي

تتولى هذه السطور إثارة مسألتين على قدر كبير من الأهمية، لما لهما من الصلة الوثيقة بقضية الإحداث عموما، والابتداع خصوصا؛ ولما لهما من الأثر البالغ في استكمال وجوه مقاربة موضوع التدين، إذ تتنزلان منه منزلة سياقه الإشكالي، وأساسه النظري.

وهاتان المسألتان تتعلق أولاهما بالتدين من جهة متعلق الاجتهاد، بينما تختص الثانية بالتدين باعتبار أصل التوجه، إذ مما لا خلاف فيه أنه لا تدين سليم دون اجتهاد سديد، ولا سداد لاجتهاد دون توجه صحيح، وبيان ذلك كما يلي:

1. التدين وسؤال الاجتهاد:

من المعلوم أن التدين هو طلب التحقق بالقيم الدينية المنزلة، وإذا كانت هذه القيم الربانية مبثوثة فيما شرعه الله سبحانه وسنه من أحكام؛ إذ هي وسائلُ التحقيق، ومظاهرُ التشخيص، وكان الاجتهاد يختص بكونه كل فعل استدلالي يراد به ومنه طلب الأحكام الشرعية التي هي متعلق التدين ومقصده، ومناط استحضار قيمه ومعانيه، أدركنا بيسر الصلة القوية بين التدين والاجتهاد، فلا يتصور تدين دون اجتهاد.

ثم إن هذا الاجتهاد إن كان متعلقه هو الأقوال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته تستفاد مدلولات تلك الأقوال تأويلا؛ لأنه ينظر في القول باعتبار ما يؤول إليه من الأحكام والقيم، وإن كان متعلق الاجتهاد هو الأعمال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته تهاد تستنبط كيفيات العمل وهيآته المشخصة تشغيلا؛ إذ المقصد منه هو تحصيل الاشتغال أو العمل بالأحكام والقيم. أما إذا كان متعلق الاجتهاد هو الأحوال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته يتحقق تجديد الأحوال وتجددها تكميلا؛ لأن التحول إنما يكون إلى الأفضل والأكمل.

وعليه فالاجتهاد الذي يتحقق به التدين فعل استدلالي صريح؛ إذ ينطوي على أفعال استدلالية ثلاثة متكاملة وهي:

  • التأويل وله تعلق بالأقوال.
  • والتشغيل وله تعلق بالأعمال.
  • ثم التكميل وله تعلق بالأحوال.

وهذه المراتب الثلاث للاجتهاد لا يمكن بحال تصور فصل بينها أو تضاد، بل هي متلازمة فيما بينها على وجه الاتصال والتكامل، بل إن المرتبة الأقوى تمد التي دونها بأسباب التوجيه والتصحيح؛ فالتأويل دون سند اشتغالي قد يفضي إلى التقويل، وهو التأويل الفاسد، كما أن التشغيل دون مراعاة مقتضيات تحصيل الاتصاف وصلاح الأحوال، قد يفضي إلى نقيضه وهو التعطيل، وهو الحالة التي يفتر فيها الاشتغال أو ينقطع.

وإذا كان التدين -كما أشرت إليه قبل- هو الاجتهاد في طلب التحقق بمعاني الدين وقيمه العليا، فهذا يقتضي منهجيا:

- مراعاة الأبعاد الاستدلالية الثلاثة التي يتحدد بها الاجتهاد المقوم للتدين، حيث يتعين أخذها مأخذ الحقائق المتكاملة التي لا انفصال بين مكوناتها وعناصرها، فلا يستغنى في ذلك بالأقوال أو الأدلة مجردةً عن مضامينها العملية، أو بمعزل عن تمثلاتها السلوكية، وسياقاتها الحالية.

- أن البت في سنية الأعمال أو شرعيتها -وهو من وظائف الاجتهاد-يستوجب استصحاب الأبعاد الاستدلالية الثلاثة المذكورة، فلا ينفع في هذا البت أو الإفتاء الاقتصار على جامد المناهج القولية، أو راسخ المقولات النظرية، بل السبيل الأقوم إلى تبين سنية الفعل التديني، هو الاحتكام إلى معايير العمل وشواهد الحال، أي باختصار تبين نجاعته في تحقيق التدين القويم.

- وإذا كان التدين يقتضي القيام بفعل الاجتهاد، وكان هذا الأخير يقتضي استدلالا مخصوصا، والاستدلال عموما هو طلب الدليل، فإن الدليل المنشود في الممارسة الاجتهادية عند المتدين هو الدليل الحي، ومعناه أن المستدل يجد فيه القيم الدينية ماثلة تمام المثول، حاضرة فيه وعنده تمام الحضور، متشخصة فيه تمام التشخص، بحيث إن المتدين لا يجد تكلفا في استحضار المطلوب وتمثله، ومعلوم أن الدليل الحي لا يطلب إلا بفعل استدلالي حي ألا وهو التوجه، فما هي الصلة بين التدين والتوجه؟

2. التدين وكمالات التوجه:

نرتب كلامنا عن التوجه على المسلمات الثلاث الآتية:

- المسلمة الأولى: ومقتضاها أن كل إنسان لا يحيى إلا بالتدين، إذ لا وجود لإنسان من غير دين، بل الإنسان مخلوق أصلا للتدين، ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات، 56]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾[البينة، 5]، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسلمة في مقدمة الكتاب.

- المسلمة الثانية: وحاصلها أن الدين إنما هو عبارة عن الأحكام الربانية المحققة لمكارم الأخلاق، فيكون جوهر التدين وحقيقته هو السعي في تحصيل الاتصاف بتلك المكارم، أي في التخلق بمعانيها، ويصير التدين والتخلق حينئذ حقيقة واحدة لا اختلاف فيها ولا تفاوت، وهذا واضح ولائح من جعل النبي ﷺ التخلق بمكارم الأخلاق المقصد الأصلي من بعثته، حيث قال عليه السلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([1]).

- وثالث هذه المسلمات يتمثل في كون التخلق لا سبيل إلى تحقيقه من غير توجه، علما بأن التوجه صفة ملازمة للإنسان، مركوزة في طبعه وأصل خلقته، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[البقرة، 147]؛ إذ مقتضى السور الكلي الوارد في هذه الآية: «كل» هو إفادة العموم على وجه الاستغراق، والمعنى هو لزوم التوجه للنوع البشري، فلكلٍّ وجهةٌ أي متخذ وجهة، واتخاذ الوجهة هو التوجه عينه.

وبناء على ما ذكر، جاز لنا تعريف الإنسان بأنه مخلوق متوجه، إذ التوجه بأصله التديني وبمنهجه التخلقي، يعد أدل المعاني على ماهية الإنسان وإنسانيته، كما أن للإنسان في توجهه هذا مقاصد مخصوصة في نفسه، وفي الآفاق من حوله، ولا سبيل إلى تحقيقها إلا باتخاذ وسائل مخصوصة، وانتهاج مسالك معتبرة.

واستنادا إلى هذه الحقيقة، يمكن التمييز في التوجه بين مراتب ثلاث نختصر القول فيها كما يلي:

أ. التوجه الموصول:

ويأتي في أعلى المراتب، ويمتاز صاحبه بكونه حصل صفة التخلق الرباني الذي مبناه على طلب الدليل الحي باعتباره مناط الأخلاق الحية، واستجماع التأييد في المقاصد والتسديد في الوسائل. وللمتوجه بمقتضى هذه المرتبة أوصاف أربعة:

  • وصف اشتغالي: وهو القيام بالطاعات، فروضا ونوافل، وسائر القربات الفردية والجماعية، مع تحصيل الاستقامة في هذا القيام.
  • وصف عرفاني: ويتلخص في تحصيل الصدق والإخلاص في كافة مناحي تجربته الاشتغالية، مع استشعار المحبة والأنس في كل ذلك.
  • وصف تعارفي: وهو لا يتصور تحققه إلا من خلال استشعار المعية الوجودية الواصلة بين المتدين وغيره، والمبنية على الجوامع القيمية المشتركة بين الناس جميعا، وهذا يعني أن المتدين-وقد حقق رتبة التوجه المأصول- يستحضر عناصر القربى الجامعة بينه وبين سائر الموجودات، والمستوجبة لأخلاق البر والإحسان والمعروف.
  • وصف تعريفي: وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، وهداية الخلق، والقيام بالإصلاح.

ب. التوجه المقبول:

وهو أوسط مراتب التوجه، وصاحبه يمتاز بتحصيل التوفيق في الوسائل، مع عدم الاهتداء في المقاصد، والقبول إنما حصل له من جهة كون الوسائل تحمل في طياتها عناصر القبول وأسبابه، ولكن لما قصرت همة المتوجه في هذه المرتبة عن استشراف المعاني الروحية، والدخول في تجربة اشتغالية حية وشاملة، كشأن أرباب التوجه المأصول، كان حظه القبول وحسب، ولكن إن بقي على حال الانفصال والانقطاع عن هذه المعاني، ولم يستدرك عيوبه ونقائصه، كان عرضة للحرمان الكلي، وهو مقتضى المرتبة الثالثة وهي:

ج. التوجه المفصول:

وهو أدنى مراتب التوجه وأخسها، وصاحب هذه المرتبة، يتصف بكونه قد جمع إلى عدم التوفيق في الوسائل، عدم الاهتداء في المقاصد، فهو بغير وجهة، أو باصطلاح القرآن الكريم، عامِهٌ في الضلالة، ومن كان هذا وصفه ونعته، تتلخص أوصافه في ثلاثة وهي:

  • السهو، وهو ضلال في الوجدان.
  • اللهو، وهو ضلال في البرهان.
  • اللغو، وهو ضلال في البيان.

والحاصل أن التوجه ذو مراتب ثلاث:

  • مرتبة التوجه الموصول، وصاحبها موفق في وسائله ومقاصده؛
  • ومرتبة التوجه المقبول، وصاحبها وإن حاز التوفيق في الوسائل، غير أنه حرم الاهتداء في المقاصد؛
  • ثم مرتبة التوجه المفصول، وصاحبها، بضلاله في الوجدان والبرهان والبيان، فاته التوفيق كلية.

وعليه فالمتدين في تجربته التخلقية، مدعو إلى تعهد توجهه بالرعاية والحفظ:

أما الرعاية فتقتضي منه الاجتهاد في طلب الدليل الحي الباعث على التخلق الحي، والمحقق لمقتضيات الإبداع.

 وأما الحفظ فيقتضي منه الاحتراز عن الدليل الميت أو المشتبِه؛ لكونه يورثه الانفصال عن مكارم الأخلاق، ويكسبه الاتصاف بخوارم الأوصاف، أو لكونه في أحسن الأحوال، يلبس عليه في الاتصاف مقصدا ووسيلة، ومن شأن هذا الانفصال وذلك التلبيس الإفضاء إلى مزالق الابتداع.

ثم إن تحصيل التوجه الأكمل، باعتباره أس التدين السليم، ومعيار التخلق القويم، لا يتحقق بالمسالك المقالية والوعظية، بل يقتضي من المتوجه طلب هذا المعنى عند أهله المتحققين به على التمام والكمال، حيث لا مناص من طلب الوجهة الربانية أو القدوة، أي لا بد من الاقتداء.

والوجهة الربانية، تشخصت في تاريخ الإنسانية في سير الأنبياء والرسل وشيوخ التربية ممن اصْطُفِي لوراثة سر الهداية والتوجيه.([2])

وللوجهة الربانية أو القدوة أوصاف نجملها فيما يلي:

أ. التصديق:

فلما كان الاشتغال هو المبدأ والمنتهى عند الوجهة الربانية، فإن هذه اليقظة الاشتغالية تجعل أقواله وأفعاله وأحواله متصادقة، بحيث تترابط على مقتضى التوافق والتلازم، فالفعل شاهد على صدق القول، والقول سند مؤيد للفعل، والحال يمدهما بأسباب الوصل والحياة.

ب. الاستناد:

فالمتوجه الذي بلغ الذروة والنموذجية التي تؤهله للانتصاب لتوجيه الخلق إلى الحق، لا بد وأن يكون هو قد حصل توجهه من طريق موصول السند، أي عبر الوراثة المتواصلة، متوجها عن متوجه، إلى الوجهة العظمى وسيد المتوجهين سيدنا محمد عليه أفضل صلوات الله تعالى وسلامه.

ج. الرسوخ والتمكين في الفهم والاجتهاد:

فمن جهة الفهم، تجد القدوةَ أو الوجهة الربانية قد سلك مسالك مخصوصة في فهم نصوص الشرع، بحيث تكون المدركات عنده من هذه النصوص، عبارة عن قيم عملية حية، هي أكثر قربا إلى قلب المتوجه، وأدعى إلى استشعار الأنس بربه.

وأما الاجتهاد فله صلة بما قبله، ويظهر في عدم الاكتفاء بظواهر النصوص والأشياء فقط، بل يكون النظر في هذه الظواهر والأشياء موجَّها بالتماس الحكمة أو الحِكَم المنطوية فيها، مثلما يكون موجها بمقصد استنهاض الهمة إلى التخلق بها. كما يَظهرُ هذا الاجتهاد في النظر في مآلات الأمور وأحوالها على سبيل الاجتماع، مع اعتبار المآل هو الأولَى من الحال إذا تعارضا، فقد يكون الشيء محمودا باعتبار حاله، لكن له آثارا غير محمودة على سلوك المتوجه باعتبار المآل.

وإذا استجمع المتدين حقائق التوجه في تجربته التخلقية، ظهرت له مزاياه، ولاحت له كمالاته، فمن ذلك:

أ. تحصيل الحرية الحقيقية:

وذلك لأن المتوجه، إذ تحقق كل التحقق بالعبودية لله عز وجل، يكون قد تحرر من سائر التبعيات كيفما كانت أشكالها وصورها وأبعادها، فلا سلطان لشيء عليه سوى الله أحكم الحاكمين، فلا تستعبده سلطة الأهواء ولا الأفكار ولا الأعراف، وغير ذلك من التبعيات التي تقطع الطريق على العطاء الروحي للمتوجه.

ب. تحصيل النظرة الإنسانية الشاملة:

فالمتوجه بموجب حريته تلك، لا يبالي بالفروق بين الأجناس ولا بين الأعراف ولا بين الأقطار، فلا يتردد في نشدان الخير لأهله ووطنه والإنسانية جمعاء، وهذا لا استغراب فيه، فإن المتوجه الأعظم صلوات الله عليه وسلامه كان رحمة للعالمين، وأمته من أرباب التوجه العاملين، هي خير أمة أخرجت للناس.

ج. تحصيل القدرة على الإبداع وترسيخ الذوق الجمالي:

فالتوجه يثمر في صاحبه القدرة على الإبداع، ومجاوزة جامد الفهوم ومألوف الأعمال، بحيث تنفتح له آفاق في الفهم، وتنكشف له مجالات في العمل، ما كانت لتنفتح له أو تنكشف له لو بقي مقيما على حال الغفلة أو السهو عن هذا التوجه الرباني. كما أن الذوق الجمالي لدى المتوجه، يستنير بأنوار التوجه، وبجمال المتوجَّه إليه، حتى لتكاد تقول، إن التوجه عند المتخلق هو التجمل، ألم يستجمع المتوجَّه إليه سائر أوصاف الجمال، وكل نعوت الجلال والكمال.

 

الهوامش:


[1]()رواه البخاري في «الأدب المفرد»، وابن سعد في «الطبقات»، والحاكم، وأحمد. كما روي الحديث بلفظ «صالح الأخلاق».

[2]() تدبر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾. [فاطر: 32].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق