البعد التربوي لألفية ابن مالك الطائي الجياني (الحلقة السادسة)
5- الحمد على النعم:
قال الناظم – رحمه الله تعالى -:
مَعْ تِلْوِ فَا الْجَزَا وَذَا يَطَّرِدُ /// فِي نَحْوِ: خَيْرُ الْقَوْلِ إِنِّي أَحْمَدُ
* * *
يحثُّ ابن مالك – رحمه الله تعالى – في هذا البيتِ على أدبٍ من آداب العبودية، وهو حمد الله - سبحانه وتعالى – على نِعمه الجسام، وشكره على أياديه العظام، فهو سبب الفتح والزيادة، وباب الفلاح والسّعادة.
معنى الحمد والشكر:
يرادُ بالحمد "الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل (1)"، قال الشاطبي – رحمه الله تعالى - هو:"الثناء على الله تعالى بصفات الكمال والإنعام والإفضال، وهو أعمّ من المدح والشكر؛ لأن المدحَ ثناء على ما هو عليه من أوصاف الكمال والجمال، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإنعام والإفضال، فالحمد يَشملها (2)".
هذا، ولا يُراد بالحمد قول القائل الحمد لله، بل " هو فعل يشعر بتعظيم المنعِم بسبب كونه منعِماً، وذلك الفعل إما فعل القلب أعني الاعتقاد، باتصافه بصفات الكمال والجلال، أو فعل اللسان أعني: ذكر ما يدل عليه، أو فعل الجوارح وهو الإتيان بأفعال دالةٍ على ذلك (3)"، وكذلك فلا يراد بالشكر قوله الشكر لله، وإنما المراد:"صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خلق له وأعطاه لأجله كصرفه النظرَ إلى مطالعة مصنوعاته والسمعَ إلى تلقي ما ينبئُ عن مرضاته والاجتناب عن منهياته (4)".
وقد دعا الله تعالى عباده على حمده وشكره، وقال:(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)[النمل:59]، وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة:172]. وكان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -:«اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (5)»، وذلك أن الحمد والشكر سبب لأمرين اثنين (6):
الأول: دوام النعمة؛ لأن الشكر قيد النعم، فبه تدوم وتبقى، وبتركه تزول وتحول، قال تعالى:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112]، وقال ابن عطاء الله السكندري – رحمه الله تعالى -«مَنْ لَمْ يَشكر النّعمةَ فقد تعرّض لزوالها، وَمَن شَكرها فقد قيَّدها بعِقالها»، وقالوا: الشُّكْر قيدٌ للموجود، وصَيدٌ للمفقود، وقالوا: النِّعمةُ إذا شُكِرَتْ قَرَّتْ، وإذا كُفِرَت فَرَّتْ.
الثاني: حصول الزيادة، فلما كان الشكرُ هو قيد النعمة، فهو يثمر الزيادة، قال الله تعالى:(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم:7]، وقال الشيخ الخديم رضي الله عنه:[من الرجز]
كُنْ شَاكِرًا لِنِعَمِ الْجَمِيلِ /// فَالشُّكرُ بَابُ الزَّيْدِ والمَأْمُولِ
ومن أجل ذلك فعلى العبد أن يُبادر إلى حمد الله تعالى وشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية (7)، وذلك (8):
1- بقلبه، بأن يعلم أن النعم كلها من الله تعالى، قال تعالى:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:53]، ومن هذا النوع قول الناظم:«كَاللهُ بَرٌّ وَالأَيَادِي شَاهِدَهْ».
2- ولسانه، بالثناء على الله تعالى، وكثرة الحمد والمدح له، كما في قول الناظم:«خَيْرُ الْقَوْلِ إِنِّي أَحْمَدُ»، ويندرج في هذا أيضا التحدث بالنعم وإظهارها ونشرها، لقوله تعالى:(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11]، ومن هذا قول الناظم:«كَاعْرِفْ بِنَا فَإنَّنَا نِلْنَا الْمِنَحْ».
3- بسائر جوارحه، بتوطينها في سائر الأحوال، على الطاعة وصالح الأعمال، لقوله تعالى:(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)[سبأ:13]، أو بعبارة أخرى ألَّا يُعصَى الله بِنعمه، وهو الشكر حقًّا كما قال الإمام الجنيد - رحمه الله تعالى - (9).
ــــــــــــــ
الهوامش:
1. شرح المطالع، 1/16.
2. المقاصد الشافية، 1/7.
3. شرح المطالع، 1/17-18.
4. شرح المطالع، 1/18، الدر الثمين، ص:11.
5. المستدرك على الصحيحين، 1/407.
6. من: منهاج العابدين، ص:318.
7. وقد فصل ذلك الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – في منهاجه، انظر: منهاج العابدين، ص:318.
8. انظر: غيث المواهب العلية، ص:76.
9. المرجع السابق، ص:77.